لا أذكر كم كان عمري إذ ذاك، ولكني أذكر أنني مررت يوما أمام بيته؛ فقال لي: «هذه الطريق خصوصية يا بني.» ... وأذكر أنني لم أعلم يومئذ ما معنى كلمة «خصوصية»، واستفهمت أبي عنها. •••
نحن في أواخر سنة 1945، وقد ارتفع عنا في «الفيلبين» ستار الحصار، الذي شطرنا عن الدنيا خلال الحرب ثلاث سنوات ونصف، وإذا بالبريد يحمل إلي من نيويورك نبأ من قريبنا، أمين أبو حمزة يقول فيه: إن عمي الدكتور رشيد تقي الدين فوجئ بشلل، وكان معدما، وأن الدروز في الولايات المتحدة تعاونوا على تطبيبه وإعاشته، وذكر أسماء المتبرعين والمبالغ التي دفعوها، وكان بين الأسماء اسم فرحان الطويل، واقترح أمين أبو حمزة في رسالته أن أوجه كتب شكر إلى المتبرعين.
وأيقظ اسم «الطويل» في مخيلتي الشمسية العدائية، وكبر علي أن أشكر عدوا على إحسان؛ فآثرت - ولم يكن من اللياقة أن أرد المال للمحسنين - أن أستعيد كرامة العائلة بتبرع ضخم لجمعية درزية، ولسواها، وأعتقد أن ما أرسلته إلى نيويورك بلغ نحو الثمانية آلاف دولار، وكان من السهل أن يفتدى هذا المبلغ برسالة شكر.
يقولون لك: إن الإحسان فيض من القلب. لحد ما هذا صحيح، ولحد كبير إنه خيلاء ودعاية، وفي هذه الحادثة أعتقد أنه كان نكاية.
وعدت إلى لبنان سنة 1948، ووجدت قريتي بعقلين تقريبا كما تركتها منذ ثلاث وعشرين سنة، وكان في المعسكر المعادي حسن الطويل بن محمود الطويل، ولكنه لم يكن في «المعسكر» المعادي على الطريقة التقليدية، بل قيل لي: إنه في شيء اسمه «الحزب».
وكنت بعد ذلك أسمع ضجة عن الحزب القومي، ولكني لم أكن أقرأ شيئا من كتابات الزعيم سعادة أو أقرأ عنه، وصحيح القول أني لم أكن أقرأ في الصحف، ما عدا الأخبار، إلا المقالات التي أكتبها أنا.
وفي مستهل سنة 1949 رشحت نفسي لرئاسة جمعية متخرجي الجامعة الأميركية، وقيل لي يومئذ: إن أنطون سعادة أصدر أمرا بتأييدي عن غير معرفة، وكان منافسي الأستاذ إلياس المر، وأخوه كان حينئذ وكيل رئيس الوزارة في يوم الانتخاب، وتوجهت بعد الانتخاب أشكر، في زيارة تقليدية، رئيس الحزب الذي أيدني، ورد لي الزيارة في سهرة طويلة استمع بها إلي، ولم أستمع بها إليه، ولقد أخبروني بعد ذلك أنه كان من عادته أنه يصغي، ويصغي، ويتلقف الكلمات قبل أن يدخل في نقاش.
وأعدم سعادة سنة 1949، وتمكنت أن ألمحه خلال دقائق في قاعة المحكمة العسكرية، في فترة الاستراحة.
وفي اليوم الثاني كتبت مقالا في عشرين سطر نشرته «كل شيء» مهملة، أو أن الرقابة حذفت، ثلاثة سطور منه، عنوان المقال «الرصاصة الثالثة عشر».
وفي صيف 1949 ألفت مسرحية ذات فصل واحد، اسمها «المليون الضائع»، ورحت أقرأ هذه الرواية على بعض أصدقائي الأدباء، وأقرأها على نفسي، وكنت أحس أن فيها نقصا تلمسته فما التقطته؛ فهي تعرض مشكلة ولا تحلها. وبقيت هذه الرواية بين يدي نحوا من سنتين لا أجد لها الخاتمة الفنية الصالحة، ولا أدري إن كانت هي في حقيقة الأمر فصلا أو لا من مسرحية ذات ثلاثة فصول، إلى أن جاءتني يوما رسالة من سجين، وهو من أعضاء الحزب، يقول لي فيها «قرأت مقدمة كتابك «غابة الكافور»، وفيها تقول: «إن أكبر همي في الحياة أن أقنع أمي أني لم أعد طفلا.» وزاد السجين معلقا «ليس من الصعب على المرء أن يقنع أمه أنه لم يعد طفلا، بل إن الصعوبة العظمى هي في أن يقنع أمته أنه صار رجلا.»
Неизвестная страница