من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه، وذلك أنَّ الله جلّتْ نعمه خَلَقَ الإنسان حرًّا، قائده العقل، فكفَرَ وأبى إلا أنْ يكون عبدًا قائده الجهل. خَلَقَه وسخَّر له أمًَّا وأبًا يقومان بأوده إلى أن يبلغ أشدّه، ثمَّ جعل له الأرض أمًّا والعمل أبًا، فَكَفَر وما رضي إلا أن تكون أمَّتُه أمّه وحاكمه أباه. خَلَقَ له إدراكًا ليهتدي إلى معاشه ويتّقي مهلكه، وعيْنَيْن ليبصر، ورجليْن ليسعى، ويديْن ليعمل، ولسانًا ليكون ترجمانًا عن ضميره، فكَفَرَ وما أحبَّ إلا أنْ يكون كالأبله الأعمى، المقعد، الأشلّ، الكذوب، ينتظر كُلَّ شيْ من غيره، وقلَّما يطبق لسانه جنانه. خَلَقَهُ منفردًا غير متَّصل بغيره ليملك اختياره في حركته وسكونه، فكَفَرَ وما استطاب إلا الارتباط في أرض محدودة سمَّاها الوطن، وتشابك بالنّاس ما استطاع اشتباك تظالُم لا اشتباك تعاون ... خَلَقَه ليشكره على جعله عنصرًا حيًّا بعد أن كان ترابًا، وليلجأ إليه عند الفزع تثبيتاُ للجنان، وليستند عليه عند العزم دفعًا للتردُّد، وليثق بمكافأته أو مجازاته على الأعمال، فكَفَرَ وأبى شُكْرَه وخَلَطَ في دين الفطرة الصّحيح بالباطل ليغالط نفسه وغيره. خَلَقَه يطلب منفعته جاعلًا رائده الوجدان، فكَفَرَ، واستحلَّ المنفعة بأي وجه كان، فلا يتعفّف عن محظور صغير إلا توصُّلًا لمُحرَّم كبير. خلقه وبذل له مواد الحياة، من نور ونسيم ونبات وحيوان ومعادن وعناصر مكنوزة في خزائن الطّبيعة، بمقادير ناطقة بلسان الحال، بأنَّ واهب الحياة حكيم خبير جعل مواد الحياة أكثر لزومًا في ذاته، أكثر وجودًا وابتذالًا، فكَفَرَ الإنسانُ نعمةَ
1 / 23