Влияние арабской культуры на греческую культуру
تأثر الثقافة العربية بالثقافة اليونانية
Жанры
تمهيد
1 - العرب قبل الإسلام
2 - مسالك الحضارة اليونانية إلى العرب1
3 - دستور البحث العلمي والفلسفي عند العرب
4 - علم الأحياء
5 - علم الرياضيات
6 - علم الفلك
7 - علم الطب
8 - بيت الحكمة
تمهيد
Неизвестная страница
1 - العرب قبل الإسلام
2 - مسالك الحضارة اليونانية إلى العرب1
3 - دستور البحث العلمي والفلسفي عند العرب
4 - علم الأحياء
5 - علم الرياضيات
6 - علم الفلك
7 - علم الطب
8 - بيت الحكمة
تأثر الثقافة العربية بالثقافة اليونانية
تأثر الثقافة العربية بالثقافة اليونانية
Неизвестная страница
تأليف
إسماعيل مظهر
تمهيد
إن بين الدين والثقافة تشابها من حيث الطبيعة، ومن حيث الأثر، فمن الأديان ما هو عالمي يخرج من البيئة التي نشأ فيها وينتشر في بيئات أخر، فتعتنقه شعوب مختلفة وتؤمن به أمم متفرقة، ومنها ما هو موضعي ينشأ ويشب ويكتمل، ثم يهرم ويموت في نفس البيئة وفي عين المكان، فلا يخلف من ورائه آثارا عامة بين فئات مختلفة من الناس، ومثل الثقافة من هذه الناحية كمثل الدين؛ منها ما هو عالمي، ومنها ما هو موضعي، والثقافة اليونانية أولى الثقافات العالمية في تاريخ الإنسان، نشأت وربت في بقعة فريدة من بقاع الأرض، سيالة العيون، متدفقة الأنهر، مخضوضرة الجبال والسهول، حسنة المناخ، بعد أن نشأ وفني من قبلها حضارات موضعية عديدة، كحضارة الكلدان وأشوريا ومصر، وحضارة جزر بحر الروم، فكانت الحضارة اليونانية عصارة تلك الحضارات ولبها، انتحلها شعب فيه استعداد للابتكار ونزعة إلى البحث، فرببها وصبغها بالصبغة التي وصلت إلينا مصبوغة بها.
وفي الثقافة العربية نفس هذه الصفات، ظهرت فيها كاملة وتجلت شاملة وافية، ولا ريبة في أن صفة «العالمية» التي عرفت في الثقافة العربية ترجع إلى أصلين جامعين؛ الأول: أنها ثقافة إسلامية استمدت من روح الدين الإسلامي ما فيه من صفات أنه دين «عالمي»، والثاني: أنها ثقافة استمدت عناصرها الأجنبية من الثقافة اليونانية وهي ثقافة عالمية أيضا، «فالعالمية» في الثقافة العربية تستمد أصالتها من الإسلام، وتستمد فروعها من أعظم حضارة ظهرت في العالم القديم، ومن هذا المزيج الفذ تكونت ثاني الحضارات العالمية في تاريخ البشرية، وعندي أن أعظم ميراث انحدر إلى الثقافة العربية من الثقافة اليونانية هو هذا التراث العظيم الذي جعل مما خلف العرب لأعقابهم صفات القوة والخلود، يزداد بها ما في ثقافتهم الخاصة من قدرة على البقاء والاستمرار.
إن النزعة «العالمية» التي أسلمها العرب إلى أوروبا في القرون الوسطى، كانت بدورها أعظم تراث حمله العرب على أعناقهم ليؤدوه إلى أهل الحضارة الحديثة، ولو لم يكن للعرب من فضل غير هذا الفضل لكفى به دليلا على ضخامة الأساس الذي وضعوا قواعده للحضارة وللمدنية.
وإني لعلى يقين من أن فهم الثقافة العربية فهما وثيقا لا يتأتى إلا بالاستعماق في درس ناحيتين منفصلتين من نواحي المعرفة الإنسانية؛ الناحية الأولى: ناحية الدين الإسلامي وتفهم روحه واستيعاب طبيعته استيعابا إنسانيا لا استيعابا غيبيا، والناحية الثانية: ناحية الثقافة اليونانية وأثرها في تلوين الفكر البشري بذلك اللون الهليني الصرف البعيد عن تزوير العقائد القديمة.
ولا يتسع لي الفراغ حتى أطنب في شرح ما في الدين الإسلامي من صفات «العالمية»، كما أنه لا يتسع لي حتى أتكلم باستفاضة في روح الثقافة اليونانية مظهرا ما فيها من تلك الصفات، وإن كانت الموازنة بين الدين الإسلامي وبين الثقافة اليونانية من حيث إنهما «عالميين» بحث لا ينبغي أن يفوت القادرين من كتابنا، وإنما أكتفي هنا بالقول بأن تقوية ما ورث العرب من صفات العالمية عن الدين الإسلامي، بما انتحلوا من ضروب الثقافة اليونانية، هو الأثر الأول الذي يلمحه الباحث المتريث بينا جليا في الصورة التي تكيفت بها الثقافة العربية في عصورها الذهبية. •••
إن نظرة جامعة في الأصول التي قامت عليها الثقافة اليونانية تظهرنا على أنها قد قامت على قليل من الأصول، تولدت منها فروع عديدة، أما هذه الأصول فمن المستطاع إحصاؤها وعدها، أما الفروع التي تفرعت منها والشعب التي تشعبت عنها، فمن العسير أن يلم بها الباحث لكثرتها واختلاف منازعها وتباين مشاربها، حتى قيل، وقيل بحق: إنه لا يوجد تحت الشمس من منزع فكري حديث لا يمت إلى الفكر اليوناني بسبب من الأسباب، قريب العلاقة أو بعيدها.
إن الأصول التي قام عليها الفكر اليوناني في عصر ازدهاره تنحصر إجمالا في الدين والفلسفة والرياضيات والعلم الطبيعي وعلم الأحياء والطب والأدب والتاريخ والنظام السياسي وهندسة العمارة، ومن كل أصل من هذه الأصول نشأت فروع عديدة، وتلونت الفروع بألوان وفيرة، واتخذ كل لون من تلك الألوان ظلالا وتدرجات، فتضخم بذلك ميراث الإنسانية عن الفكر اليوناني حتى شمل نواحي الفكر والعقائد والعلوم والآداب، فكان من مجموع ذلك ما سماه المؤرخون الحضارة الهلينية.
Неизвестная страница
وأنت إذا نظرت في الثقافة العربية ألفيت لأول وهلة أن علاقتها بالأصول التي قامت عليها الثقافة اليونانية قد تشتد وتتوثق ببعض تلك الأصول، وقد تفتر وتنأى عن البعض الآخر، على قدر ما يكون في كل أصل منها من القرب أو البعد عن القواعد الأساسية في الإسلام، فما كان من تلك الأصول ملائما لأسس الإسلام اشتدت آصرته بالثقافة العربية، وما كان منها منابذا لأسس الإسلام ضعفت آصرته بها، والسبب الأول في هذه الظاهرة جلي واضح، فإنه ما كان لعربي أو بالحري لمسلم أن يتبدل من عقائد اليونان وآدابهم بشيء يحل محل عقيدة أو فكرة تقوم على أصل الإسلام، لهذا نفت أصول الإسلام عن الثقافة العربية كل ما كان في ثقافة اليونان منابذا لها أو معاندا لطبيعتها.
مثل ذلك أن العرب لم يعنوا يوما بالنظر في العقائد «الأرفية»
1 - وهي عقائد تمت إلى الفلسفة وإلى الدين - وهي من ناحية أخرى عقائد كان لها أثر بالغ فيما علم «فيثاغورس» في النفس، في حين أن معرفة العرب بنواح أخرى من فلسفة «فيثاغورس» كان شاملا، وإن جاء في كتبهم منثورا غير منظوم في وحدة فكرية، كذلك كان لهذه العقائد علاقات جمة بما خلف شعراء الحكمة عند اليونان من الآثار، وإنك لترى أن العرب لم يعرفوا شاعرا واحدا منهم، ولا أتى في مخلفاتهم ذكر لشيء من آثارهم ولا آدابهم، وعلى هذا يقاس جميع ما أخذ العرب عن الثقافة اليونانية.
الفصل الأول
العرب قبل الإسلام
لم يكن العرب قبل الإسلام أمة منعزلة عن العالم المتمدين، بل إنها أمة يدل تاريخها على نشاط تجاري ونشاط علمي، فقد كان لهم اتصال بالبلاد الواقعة شمالي الجزيرة وهي بلاد ذاعت فيها ضروب من الثقافة اليونانية وضروب من الثقافة الرومانية، وكان لهم علاقة بالإسكندرية قبل أن يفتحوا مصر بقرون عديدة، فقد ذكر المؤرخ «أرثر ويجل» الإنكليزي أن «إقليوفطرا» كان لها علم بلغة العرب، وذكر أنه كان لها اتصال بأمير عربي
1
من شرقي الأردن ذكر له اسما يونانيا،
2
ولعله اسم أطلق عليه لعلاقة سياسية ما، وذكر اسم قبيلته، ولعلها عنيزة، وأن انصراف أميرة من بيت بطلميوس إلى تعلم العربية دليل على أن شأنا ما كان للعرب في تلك الأيام، وفي الإسكندرية خاصة، فإذا صح هذا، مضافا إليه أن الإسكندرية كانت منذ عهد بطلميوس الأول نواة كبرى لنشر الثقافة الهلينية في شرقي البحر المتوسط، أي في بحر الروم جميعه، كان لنا أن نلمح شيئا من علاقة العرب قبل الإسلام بثقافة الأغارقة.
Неизвестная страница
كذلك قد انحدر إلينا من أخبارهم أنهم عرفوا مدرسة «جنديسابور» من أعمال «خوزستان» التي أسسها «كسرى أنو شروان»، وكان حكم كسرى بين 531-578م، فاتصل أثناء حروبه في سورية (تلقاء إمبراطورية بوزنطية) بتعاليم اليونان، فضيف فئة من فلاسفتهم، عقيب الأمر الذي أصدره الإمبراطور «يوستنيانوس» بغلق المدارس والمعابد في أثينا.
وفي الفهرست لابن النديم (ص242) أن الذين وفدوا على «كسرى» من فلاسفة اليونان سبعة، فأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية، فنقلوا المنطق والطب وألفوا كتبا طالعها هو ورغب الناس فيها، ومن الدلالات البالغة على أن عناية كسرى بمن استوفد من فلاسفة اليونان كانت كبيرة، أنه وضع في المعاهدة التي عقدها مع إمبراطورية بوزنطية نصا خاصا بهم ضمن لهم به حريتهم المدنية والدينية، وأنهم أحرار في أن يعودوا إلى بلادهم فيما لو أرادوا العودة.
وكان هؤلاء الفلاسفة من معتنقي مذهب «الأفلاطونية الجديدة»
Neo-Platonism
ولعل لهم أثرا في الصبغة التي اصطبغ بها مذهب «التأله»
Mysticism
في فارس قبيل انتشار الإسلام، فقد كتب المستشرق «نيكلسون» في كتاب «أشعار منتخبة من الديوان» طبع كمبردج (1898) شيئا يكشف عن العلاقة التي تربط «الأفلاطونية الجديدة» بمذهب «التأله» كما أخذ به في فارس، وذكر الأستاذ «أوليري » في الفصل السابع من كتابه في «الفكر العربي» ما يوضح شيئا من العلاقة بين الأفلاطونية الجديدة والتأله كما عرف في بلاد فارس في العصر الوثني، وما كان من أثر ذلك في مذاهب التصوف التي عرفت في فارس، بل وفي العالم الإسلامي من بعد.
وممن اشتهر في مدرسة جنديسابور من العرب قبل الإسلام طبيبان هما الحارث ابن كلدة وابنه «النضر» الذي ذكره الرئيس ابن سينا، وكان مع الذين هزموا يوم «بدر» فأسر وقتل، وقيل: إن الذي قتله هو «علي بن أبي طالب» (راجع أبا إسحاق الحصري الكيرواني في زهر الآداب ص27 ج1)، وكلاهما من ذوي قرابة النبي
صلى الله عليه وسلم
فهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، فنسبه يلتقي ونسب النبي في الجد الثالث.
Неизвестная страница
كذلك كان للعرب معرفة بعلم النجوم قبل الإسلام، قال المرحوم الأستاذ «نلينو» في كتابه المعروف «تاريخ الفلك عند العرب في القرون الوسطى»، ص105-108 ما يلي:
إن قدماء أهل بابل قد تصوروا السماء كأنها سبع طبقات
3
منضدة، وجعلوا في كل طبقة أحد النيرين والكواكب الخمسة المتحيرة حسب قدر أبعادها عن الأرض، وهو في طبقته كأنه ساكنها وربها، فانتشر هذا الرأي عند أمم أخرى مثل اليونان والسريان، وراج عند عوامهم أيضا حتى أخذته أهل الحضر من عرب الجاهلية كما يظهر من ورود ذكره في جملة من النصوص القرآنية:
تسبح له السماوات السبع والأرض (سورة الإسراء 44).
الله الذي خلق سبع سماوات (سورة الطلاق 12).
ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (سورة المؤمنون 17).
فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها (سورة فصلت 12).
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (سورة نوح 15).
ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (سورة نوح 15).
Неизвестная страница
وبنينا فوقكم سبعا شدادا (سورة النبأ 12).
قال: والمحتمل أن العرب كانوا يسمون سماء كوكب فلكه كما ورد في الآية:
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (سورة الأنبياء 33):
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (سورة يس 40).
ولفظ الفلك مأخوذ أيضا على المحتمل من كلمة بابلية
، ولكن لا نعرف شيئا مما كانت العرب يفتكرون في طبيعة تلك السموات.
ثم قال: كانت العرب قد ميزوا الكواكب الخمسة المتحيرة من النجوم الثابتة وسموها بأسماء مخصوصة قديمة الأصل، مجهولة الاشتقاق، لم يزل استعمالها إلى الآن، إني لا أجهل أنه فيما وصل إلينا من أشعار الجاهلية لا يوجد ذكر الكواكب الخمسة المتحيرة غير الزهرة وعطارد، ولكني لا أشك في قدم أسماء زحل والمشتري والمريخ أيضا؛ لأنها مذكورة عند المؤلفين المسلمين قبل أن نقلت إليهم العلوم الدخيلة
4 - ولأن عدم معرفة اشتقاقها مع عدم مشابهة ظاهرة بينها وبين أسمائها باللغات الأخرى السامية والفارسية، يدل على أنها قديمة الأصل عند العرب، أما عطارد فقيل: إن عرب تميم كانوا يعبدونه،
5
أما الزهرة فمن المؤلفين السريان واليونانيين من القرن الخامس والسادس للمسيح نستفيد أن بعض العرب المجاورين للشام والعراق، كانوا يعبدونها عند ظهورها في الغدوات فكانوا يسمونها إذ ذاك العزى.
Неизвестная страница
6
ثم قال: كانت أهل البادية من أحوج الناس إلى معرفة الكواكب الثابتة الكبرى ومواقع طلوعها وغروبها؛ لأنهم كثيرا ما اضطروا إلى قطع الفيافي والقفار ليلا مهتدين برؤية الدراري، فلولاها لضلت جيوشهم وهلكت قوافلهم في الكثبان والبراري، كما ورد في سورة الأنعام (الآية 97):
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر .
فلا غرو أنهم عرفوا عدة من الكواكب الثابتة وسموها بأسماء مخصوصة، يذكر جزء منها في أشعارهم مثل الفرقدين والدبران والعيوق والثريا والسماكين والشعريين وغيرهما، ولكن لا يتوصل إلى فهم سعة معرفتهم بالكواكب الثابتة إلا من اطلع على كتاب أبي الحسين عبد الرحمن بن عمر الصوفي (المتوفى سنة 376ه/986م) في الكواكب والصور؛ فإنه عند وصف كل صورة على طريقة الفلكيين، جمع أسماء الكواكب المستعملة عند عرب البادية، فبلغت هذه الأسماء عدد نحو مائتين وخمسين أو أكثر، فمن كتاب عبد الرحمن الصوفي ومن أقوالهم في منازل القمر، ترى أيضا أنهم في إثبات الصور النجومية، سلكوا طريقة فلكيي اليونان، حتى لا نجد في الأكثر موافقة بين صورهم وصور اليونان.
هذا طرف مما وصل إلينا من علم العرب قبل الإسلام، على أن التدقيق في أشعارهم يدل دلالة واضحة على أنهم كانوا ذوي نظر نافذ وقريحة وضاءة يستدل بها على استعدادهم الفطري لاستيعاب المعارف، على أنه لا ينبغي أن نغفل عن أن ما ضاع من آثار الأقدمين، وبخاصة علومهم التي لم يقيدوا إلا طرفا منها، يحول دون الحكم الصحيح على مقدار ما حصلوا من المعارف والفنون المختلفة، ولا يخرج العرب عن حكم ذلك فإنهم في جاهليتهم تجري عليهم الأحكام التي جرت على غيرهم من أهل الحضارات القديمة، وهم في إسلامهم قد نزلت بهم من النكبات والكوارث ما لا يقاس به ما نزل بالأمم الأخرى، إلا أن يكون القياس مع الفارق البعيد.
الفصل الثاني
مسالك الحضارة اليونانية إلى العرب1
كان الخلاف على طبيعة المسيح مبدأ مناقشات تناولتها الشيع الكنسية في القرون الأولى من انتشار المسيحية، وكان لاختلاف المذاهب في تلك المسألة أثر كبير في أن ينزع العقل إلى النظر والتأمل الفلسفي.
اشتهرت «أنطاكية» بأنها من أولى مدن المسيحية التي قام زعماء الدين فيها بأول حركة من تلك الحركات الفكرية التي كانت ذات أثر كبير في شيوع الفلسفة، وفروع الفلسفة اليونانية خاصة، ذلك عقيب مناظرات دينية طويلة لا محل لذكرها، وقام بالحركة في أنطاكية معلمان، أحدهما: «ديودورس»، والآخر: «تيودورس المصيصي»، وكانا شديدي الاعتقاد في كمال ناسوتية المسيح عليه السلام.
كان من أكبر المؤيدين لهذا المذهب راهب من رهبان أنطاكية يقال له: «نسطوريوس»، انتقل إلى القسطنطينية أسقفا لها سنة 428م، وتبع تأييد «نسطوريوس» لهذه الفكرة مناقشات حادة، انتهى أمرها بعقد مجلس ديني في مدينة «إفسوس» سنة 431م فانتصر حزب الإسكندرية، وهو الحزب المنابذ للمذهب النسطوري، واعتبر «نسطوريوس» وأتباعه هراطقة، غير أنهم بالرغم من ذلك جمعوا أمرهم بعد مضي عامين من حكم مجلس «إفسوس» ونزلوا مصر واتخذوها مقرا لبث تعاليمهم.
Неизвестная страница
قبيل ذلك العهد أغلقت مدرسة «نصيبين»
Nisibis ، أو بالحري انتقلت إلى الرها
Edessa ، وفي سنة 363م سلمت مدينة نصيبين إلى الفرس، تنفيذا للمعاهدة التي عقدت عقيب انتهاء الحرب التي أشعل نارها العاهل «يوليانوس»، وكان رجال مدرستها منتشرين في الممالك المسيحية إذ ذاك، فعادوا إلى الاجتماع في الرها وأسسوا مدرسة سنة 373م، وبذلك أصبحت تلك المدينة، بالرغم من أنها في أرض تابعة للعاهلية البوزنطية، مركزا للكنيسة التي ينطق زعماؤها باللسان السرياني.
أصبحت مدرسة «الرها» موطنا لأفراد من زعماء النساطرة الذين لم يقبلوا حكم مجلس «أفسوس» غير أن العاهل «زينون» الروماني أغلقها سنة 439م، بحجة أن صبغتها نسطورية متطرفة، فلم يجد أهلها من موئل إلا الهجرة إلى بلاد فارس، فهاجروا إليها برياسة كبيرهم «بارسوما» سنة 457م.
نجح «بارسوما» في أن يقنع «فيروز»، ملك الفرس في ولاء النساطرة له ولأهل فارس، وظلوا، بعد أن قطعوا على أنفسهم هذا العهد، عاكفين عليه في خلال الحروب التي وقعت من بعد ذلك، وبعد ذلك أسس النساطرة مدرسة أخرى في «نصيبين» فأصبحت مركزا للتعاليم النسطورية، وهي تعاليم أنشأت صورة جديدة من المسيحية، صبغتها شرقية بحتة.
من ثم انتشر النساطرة في غربي آسيا، وفي بلاد العرب، ينشرون تعاليم المسيحية على مذهبهم، فأخذوا يستعينون على بث أفكارهم بأقوال ومذاهب منتزعة من الفلسفة اليونانية، فأصبح كل مبشر نسطوري بحكم الضرورة معلما في الفلسفة اليونانية، إلى جانب أنه مبشر نصراني.
ترجم النساطرة كتب زعمائهم، وبخاصة كتب «تيودوروس المصيصي» إلى السريانية ليستعينوا بها على بث أفكارهم، وترويج مذهبهم، ولكنهم لم يقتصروا على هذا، بل ترجموا كثيرا من كتب «أرسطوطاليس» والذين علقوا عليها، ذلك بأنهم قد وقعوا فيها على ما يشد أزرهم في فهم المسائل اللاهوتية العويصة التي كانوا يبشرون بها، بين أمم بعيدة عنها بعدا يجعل نشر هذه التعاليم متعذرا، ما لم يستعن عليها بمبادئ من الفلسفة، ومباحث في التأمل.
غير أن كثيرا من تلك الترجمات قد أفرغ في قالب لم يراع فيه نقل الفلسفة اليونانية لذاتها بل اتخذت ذريعة لبث مذهب ديني، هو مذهب النساطرة، والطعن في قياصرة الروم والكنيسة الرومانية، فضعفت الثقة بالنقل من هذه الناحية؛ حيث قضت الضرورة على النقلة أن يخلطوا قليلا من الفلسفة بكثير من تعاليم المذهب النسطوري، أو بالعكس.
تلك هي النواة الأولى التي نقلت من الفلسفة اليونانية إلى الشرق، وبخاصة فلسفة أرسطوطاليس والأفلاطونية الجديدة، وكذلك كان من حظ جماعة من مترجمي النساطرة أن يكونوا أول من نقل تلك الفلسفة من السريانية إلى العربية.
أما «نسطوريوس» فإنه إن كان قد اتهم وصدر حكم مجمع «إفسوس» عليه؛ فإنه ترك الكنيسة أمام مشكلة من مشاكلها الكبرى التي احتدم من حولها الجدل، حتى انتهى الأمر بعقد مجمع بمدينة «خلقدونية» سنة 448م، وكان من نتائجه أن طردت فئة أخرى من الكنيسة الرئيسية، هم المعتقدون بالطبيعة الواحدة للمسيح
Неизвестная страница
Monophysites .
وأكثر المؤرخين على أن الكنيسة المصرية قد تبعت القائلين بالطبيعة الواحدة، ففي القرن السادس الميلادي قام يعقوب السروجي وأنشأ شيعة اليعاقبة، فاضطهدتهم إمبراطورية بوزنطية، ولكنهم لم يخرجوا عن حدود الإمبراطورية، بل بقوا فيها يمثلون قسما مستقلا من القائلين بالطبيعة الواحدة، ثم أرسلوا طائفة منهم خارج الإمبراطورية تبث تعاليمهم، فاتبعوا نفس الطريقة التي اتبعها النساطرة في استعمال اللغة القبطية واللغة السريانية، وفي الواقع أن عصر السريانية الذهبي، لا يبدأ إلا برجوع اليعاقبة عن استعمال اللغة اللاطينية، إلى اللغة السريانية، غير أن أهل الاختصاص في اللغات يقولون: إن هنالك خلافا بين السريانية كما استعملها النساطرة في الشرق، والسريانية كما استعملها اليعاقبة في الغرب، ذلك بأن اليعاقبة انتحلوا لهجات جديدة، يغلب أن يكون السبب فيها راجعا إلى استيطانهم. •••
كان العصر الواقع بين بدء المجادلات الدينية في الكنيسة المسيحية وظهور الرغبة عند المسلمين في درس الفلسفة، عصر ترجمة وإنتاج ذهني، ولم يعن الناقلون في ذلك العصر بالفلسفة وحدها، بل عمدوا إلى الطب وعلم الكيمياء والفلك، فترجموا أكثر ما ترجموا في تلك العلوم؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن بين الطب والكيمياء والفلك آصرة قريبة ونسبا أدنى، وكان اعتقادهم أن لعلم الفلك، من الناحية الطبيعية، علاقة بنشوء الأمراض، وحالات الحياة والموت، والصحة والمرض.
اشتهرت مدرسة الإسكندرية بالبحوث الطبية، أما الفلسفة بمعناها الحقيقي فكانت علاقتها باللاهوت، حتى اضطر دارسو العلوم إلى الفصل بين مباحثهم والفلسفة جهد المستطاع.
كان «يوحنا فيلوبونس»
John Philoponus «أو يوحنا النحوي كما يدعوه العرب خطأ» من متأخري الذين علقوا على أرسطوطاليس، كما كان من أوائل الذين درسوا الطب في مدرسة الإسكندرية، والمحقق من أمره أنه كان يدرس في مدرسة الإسكندرية في الوقت الذي أغلق فيه الإمبراطور «يوستنيانوس» مدارس أثينا سنة 529م.
ومن مشهوري فلاسفة الإسكندرية «بولس الأجانيطي»
، وكان يدرس في الوقت الذ وقع فيه الفتح العربي، وظلت كتبه زمانا طويلا تدرس في الإسكندرية كمتون ذات قيمة كبيرة في علم الطب.
وكان أعلام المدرسة قد رسموا برنامجا، لعله الأول من نوعه في تاريخ الدرس والتحصيل لتدريس الطب، يحصله كل من يريد أن يزاول هذه الصناعة، فانتخبوا ست عشرة مقالة من مقالات «جالينوس» وترجموها لتكون برنامج الطب في المدرسة، ثم اختصروا بعضها واتخذت المختصرات رءوس موضوعات تلقى على نسقها المحاضرات مشروحة مفصلة، والغالب أنهم لم ينزعوا هذه النزعة إلا لما أنسوا في أنفسهم من القدرة على الابتكار والتعمق في الدرس إلى حدود لم يبلغها «جالينوس» في مقالاته، وفي ذلك العصر كانت الإسكندرية منبع البحوث المبتكرة في كثير من فروع المعرفة، لا في مادة الطب وحدها، بل في الكيمياء والرياضيات وصنوف العلوم الطبيعية. •••
كانت الإسكندرية هي المباءة الأولى التي عرف العرب منها شيئا من الثقافة اليونانية، كذلك كان وراثتهم منها أقرب من وراثتهم عن سورية، لهذا ذاع عندهم التنجيم حتى دلف العرب في مفاوزه الوعرة، ذلك بأن نجم الإسكندرية في العلم كاد يطفئ أنوار السريانية، وتحت تأثير هذه العوامل أكب العرب على مأثورات العقل في الإسكندرية، دون ما تضمنت السريانية من مباحث العلم والفلسفة، وهنالك ظهرت مؤلفات «بولس الأجانيطي» الذي مر ذكره، وقد ظلت كتبه طوال العصر العربي والعصر اللاتيني في القرون الوسطى، مادة التعاليم الطبية.
Неизвестная страница
كذلك نبت علم الكيمياء في مدرسة الإسكندرية، وفيها تكونت النواة الأولى التي استمد العرب منها، وفي ذلك يقول برتلو
Berthelot
في كتابه «الكيمياء في القرون الوسطى» (طبع باريس سنة 1893):
إن المادة العربية في الكيمياء تنقسم قسمين: قسما مترجما عن كتب اليونان التي عرفت في الإسكندرية، وقسما يمثل مدرسة عربية ثانية مستقلة البحوث عن الأولى.
وفي الوقت الذي غرقت فيه الإسكندرية في بحوث الطب، كانت كنائس آسيا وأديرتها ومدارسها، ممعنة في المباحث المنطقية والفلسفية والتأملية.
كان من الطبيعي أن يأخذ اليعاقبة عن تعليقات «يوحنا فيلوبونس» في تدريس علم المنطق لعلاقتهم بمصر ولأن «فيلوبونس» من شيوخهم، غير أنهم لم يفعلوا، بل رجعوا والنساطرة إلى مختصر «فرفوريوس الصوري» في المنطق المسمى «إيساغوجي» واتخذوه مدخلا للمنطق. •••
مر بنا من قبل ذكر «بارسوما» الذي قاد الهجرة النسطورية إلى بلاد فارس وافتتح مدرسة نصيبين، كان لهذا الرجل معلم يدعى «إيباس» هو القوة المحركة والعقل المدبر في مدرسة «الرها» في أواخر أيامها، يستدل من بعض المقارنات التاريخية أنه أول من نقل «إيساغوجي»: مختصر «فرفوريوس» في المنطق، إلى السريانية، وفي ذلك الوقت ظهر «فروبوس»
فعلق على «إيساغوجي» وعلى بعض كتب «أرسطوطاليس» مثل كتاب «أرمانوطيقا»: أي العبارة، أو كما يقولون: «باري أرمنياس» و«سوفسطيقا»، و«أنالوطيقا الأولى»، أي القياس، فاتخذت تعليقاته بمنزلة شروح يرجع إليها طلاب المنطق في العالم السرياني.
ومن الوصف الذي وصلنا عن التراجم السريانية عن «أرسطو» نعرف أن العرب لم يقتصروا على النقل عنهم إلى العربية، بل اتبعوا نفس الأسلوب الذي تبعه المترجمون إلى السريانية عن اليونانية، فقد كان من عادة المعلقين على «أرسطو» قبل العصر العربي أن ينقلوا مقطعا قصيرا من المتن المترجم إلى السريانية، وقد لا يزيد على بضعة أسطر أو بضع كلمات، ثم يعلقون عليه بإطناب قد يبلغ بضع صفحات، كما قد يقتصر على إشارات قصيرة، على مقتضى الحال، وقد اتبع العرب هذه الطريقة عينها حتى في تفسير القرآن.
كان «سرجيس الرأس عيني» (المتوفى سنة 536م) أعظم كتاب اليعاقبة، وكان مترجما، كما كان مؤلفا، في الفلسفة والطب والهيئة والفلك، وكان اشتغاله بالطب عمله الرئيسي، وقد ترجم الجزء الأعظم من مؤلفات «جالينوس»، وأمضى زمنا بالإسكندرية أتقن في خلاله اللغة اليونانية ودرس الكيمياء والطب في مدرستها الطبية عند أول عهدها بتدريس ذلك العلم، أما نشأته فكانت «برأس العين» بالعراق، ولا تزال بعض ترجماته عن جالينوس محفوظة حتى اليوم في المتحف البريطاني، وكتب مقالة في المنطق في سبعة مجلدات، ومنها جزء في «المقولات» «قاطيغورياس» محفوظ في المتحف البريطاني، ومقالة أخرى في تعليل الكون بحسب مذهب «أرسطو»، وعددا من المقالات القصيرة تناولت موضوعات مختلفة، وقد انتشرت مؤلفات «سرجيس» بين النساطرة واليعاقبة معا، فكأنه بذلك قد اعتبر مرجعا عندهم في الطب والفلسفة، ويقال: إنه أسس مدرسة سريانية في الطب أصبحت فيما بعد النبع المنبثق بما استسقى منه العرب، والراجح أنه لم يكن مؤسسها، وإنما كان له أثر كبير في تأسيسها.
Неизвестная страница
في ذلك الوقت - القرن السادس الميلادي - عاش «أخوديما»، وسيم أسقفا في «تغريط» سنة 559م. فأدخل تعليقات «يوحنا فيلوبونس» لتكون الكتاب المدرسي الذي يدرسه اليعاقبة الذين يتكلمون اللسان السرياني، ويذكر بعض الرواة أنه ألف مقالات في تعريفات المنطق، وفي الروح، وفي الإنسان باعتباره عالما أصغر
microcosm ، ومقالات أخرى في تركيب الإنسان على أنه مكون من جسد وروح. •••
من مؤلفي النساطرة الذين عاشوا خلال القرن السادس الميلادي «بولس الفارسي» الذي كتب مقالة في المنطق أهداها إلى الملك كسرى أنوشروان، وكان هذا فجر الفتح العربي، في سنة 638م فتح العرب سورية ثم بلاد الرافدين، وبعد أربع سنوات فتحوا بلاد فارس، وفي سنة 661م استقر الملك لبني أمية في دمشق، غير أن هذا الفتح العظيم لم تضطرب له حياة النصارى المشتغلين بالعلوم، بل عاشوا في ظل الحكم العربي ممتعين بكل حريتهم السياسية والدينية.
حوالي سنة 650م كتب «حنا نيشو» مقالة في المنطق وعلق على «يوحنا فيلوبونس» ولم يكن لليعاقبة مدارس ظاهرة الأثر كما كان للنساطرة، ولكنهم استعاضوا عن ذلك بدير لهم في «قنسرين» على ضفة الفرات اليسرى، كان مقرا لدرس منتجات العقل اليوناني.
إن أعظم من ظهر من العلماء في ذلك العهد «سويرس سيبوقط» الذي عاش قبيل الفتح العربي وألف تعليقا على «أرمانوطيقا» لأرسطو لم يصلنا منه غير نتف قليلة، ومقالة أخرى في القياس تعليقا على «أنالوطيقا» الأولى، وشرح بعض المعضلات التي عرضت في «ريطوريقا» أي الخطابة، «لأرسطو »، أما في الفلك فقد كتب مقالة في «صور منطقة البروج»، وأخرى في «الإسطرلاب».
كان «أثناسيوس بلد» أسقفا يعقوبيا سنة 684م، والمأثور عنه أنه ترجم «إيساغوجي» إلى السريانية، كذلك كان «يعقوب الرهاوي» تلميذا «لسيبوقط»، ثم صار أسقفا للرها سنة 684م، وكان معلما في اللغة اليونانية أحيا مواتها بعد أن كادت تموت في الشرق بالإغفال، ومن تلاميذه «جورجيس» الذي سيم أسقفا للعرب، سنة 686م، وقد ترجم كل كتاب «أرسطو» في المنطق الأورغانون
Logical Organon ، ولايزال في المتحف البريطاني منه كتاب قاطيغورياس وأنالوطيقا الأولى، وكل منها مفتتح بتصدير.
إلى هنا نستدل على السبل التي سلكتها الثقافة اليونانية إلى المشرق منذ أن انفصل النساطرة واليعاقبة عن الكنيسة الكبرى حتى الفتح العربي. •••
كانت سنة 740م/333ه، بدء عهد جديد في تاريخ العربية، فقد شرع أبناء العرب يبدون حظا غير قليل في تلقي الفلسفة والعلوم، وبدأت التراجم والتعليقات تظهر في اللغة العربية، على أن الدرس باللغة السريانية لم يفقد مقامه فجاءة، بل إن هذه اللغة ظلت أداة للعلم والفلسفة حتى زمان «أبي الفرج بن العبري» في القرن الثالث عشر المسيحي (1286م) وهو الزمن الذي ينتهي فيه تاريخ الآداب السريانية.
تألف أول معهد للترجمة والنقل في العالم العربي من حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي، مع غيرهم من المترجمين، وقد أسس هذا المعهد الخليفة المأمون لنقل المتون اليونانية في الفلسفة والعلوم العربية، وكان حنين مسيحيا نسطوريا اشتغل زمانا بالترجمة من اليونانية إلى السريانية، واشتغل بنقل إيساغوجي لفرفوريوس الصوري وأرمانوطيقا لأرسطوطاليس، وجزء من أنالوطيقا، ومقالة أرسطو في الروح المسماة «ده أنيما» وجزء من الميتافزيقا، وتلخيصات نيقولاوس الدمشقي وديوسقوريدس وبولس الأجانيطي وأبقراط، ويقال: إنه لم يترجم مقالة الروح لأرسطو ولكنه راجعها بعد أن ترجمها ابنه إسحاق، ومن عجيب الاتفاق أن تصبح ترجمة إسحاق لهذه المقالة وتعليق الإسكندر الأفروديسي عليها، مرجعا من أهم المراجع لدرس الفلسفة حتى عصرنا هذا، ذلك بأن الفكر قد اتجه إلى درس علم النفس، ورجع عن درس المنطق.
Неизвестная страница
في القرن التاسع الميلادي (857م) ألف الطبيب يوحنا بن ماسويه كتبا في الطب باللغتين السريانية والعربية، وكان أحد الذين قربهم العباسيون وأحلوهم محلا رفيعا من الاحترام والإجلال، وفي ذلك العصر عاش فئة من الكتاب السريانيين كتبوا تعليقات على منطق «أرسطوطاليس»، وفي القرن الثاني عشر المسيحي علق «ديونسيوس بارصليبي» على كتاب «إيساغوجي» و«قاطيغورياس» وأرمانوطيقا وأنالوطيقا، وفي أوائل القرن الثالث عشر كتب «يعقوب بارشقاقو» في الفلسفة والمنطق والطبيعة والرياضيات وما بعد الطبيعة.
ويعتبر القرن الثالث عشر المسيحي نهاية عصر الآداب السريانية، التي ختمت بأعمال «غريغوري بار إرباوس» المعروف «بأبي الفرج بن العبري»، وقد لخص في كتاب له اسمه «إنسان العين» كثيرا في المنطق وإيساغوجي لفرفوريوس، ولخص عن أرسطو المقولات أي قاطيغورياس وأرمانوطيقا أي العبارة وأنالوطيقا أي القياس، وطوبيقا أي الجدل وسوفوسطيقا أي السفسطة، وله كتاب آخر أذكر أن اسمه «عيون الحكمة» لخص فيه مقدمات المنطق وما بعد الطبيعة واللاهوت، وقد ترجم عن السريانية مؤلف «ديوسقوريدس» في «البسائط» وألف في الطب مقالة أجاب بها على مسائل «حنين بن إسحاق»، كما كتب في الجغرافية.
الفصل الثالث
دستور البحث العلمي والفلسفي عند العرب
اتبع العرب في البحث العلمي دستورا محكم الأساس، يوجه البحث في الناحية التي يحتملها كل سؤال قد ينشأ عن وجوه البحث، غير أن هذا الدستور على إحكامه من ناحية الحصر والدقة، لا يقيد العقل بحسب البحوث التي يتجه إليها، فإن حكما من أحكام هذا الدستور قد ينتهي ببحث في الفلسفة لا مجال له إلا في العلم، وقد ينتهي في العلم ببحث لا مجال له إلا في الفلسفة، وعلى الجملة نقول: إن هذا الدستور يحصر اتجاهات العقل، ولكن لا يقرر المتجه الذي ينبغي أن يتجه فيه العقل إزاء كل بحث بعينه، وقد انحصر هذا الدستور عندهم في تسعة أحكام، قالوا:
1
إن السؤالات الفلسفية تسعة أنواع، مثل تسعة آحاد: وهي: (1) «هل هو»: سؤال يبحث عن وجدان شيء أو عن عدمه، والجواب نعم أو لا. (2) «ما هو»: سؤال يبحث عن حقيقة الشيء. (3) «كم هو»: سؤال يبحث عن مقدار الشيء. (4) «كيف هو»: سؤال يبحث عن صفة الشيء. (5) «أي شيء هو»: سؤال يبحث عن واحد من الجملة أو عن بعض من الكل. (6) «أين هو»: سؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن رتبته. (7) «متى هو»: سؤال يبحث عن زمان كون الشيء. (8) «لم هو»: سؤال يبحث عن علة الشيء المعلول. (9) «من هو»: سؤال يبحث عن التعريف بالشيء.
حصر العرب بهذا الدستور المحكم متجهات البحث العلمي والفلسفي، غير أنهم لم يطبقوا هذا الدستور تطبيقا يقتضيه التفريق الحتمي بين كفايات العقل الإنساني، فإن كفاية العقل المستمدة من الحواس مباشرة، ينبغي لها أن تختص بجهات من هذا الدستور لا تتعداها، وكذلك كفاية التأمل، فإذا عرض سؤال معضل في مسألة علمية أو فلسفية رأيتهم يحاولون تطبيق هذا الدستور عليها جميعا، فسؤال يحتمل أن يكون من باب «ما هو» لا ينبغي أن ينظر فيه من باب «كيف هو» أو «أين هو» أو «متى هو»، فإذا اشترك بابان أو أكثر في الإجابة عن «سؤال» ما، يجب أن يفرق بين أجزاء السؤال، لتكون الإجابة عن كل جزء من اختصاص الباب الذي هو داخل فيه، حتى لا تختلط كفايات العقل التي فرق بينها الطبع، بتخالط الأوجه التي تنشأ عن سؤال في العلم يمت إلى الفلسفة بسبب، أو سؤال في الفلسفة فيه طرف من العلم، ولو أنهم طبقوا هذه الأبواب بحسب ما يجب، لكانوا أول الواضعين للطريقة العلمية في البحث، تلك الطريقة التي يفخر أهل عصرنا بها، ولكن لكل عصر حكمه، ولعل السبب في أنهم لم يطبقوا هذا الدستور على الوجه الذي ينبغي راجع إلى وراثتهم عن اليونان بالذات.
كيف توصل العرب إلى هذا الدستور المحكم؟ وما هي الأصول التي اعتمدوا عليها في تفصيل المعاني المنطوية تحت كل باب من أبواب هذا الدستور؟ لا شك عندي مطلقا في أن هذا الدستور البديع وليد علم المنطق، وأنه قد استمد من «المقولات» العشر المسماة عند اليونان «قاطيغورياس» وبالرغم من أن الفراغ المخصص لكتابة هذا البحث محدود؛ فإني لا أجد مندوحة من الإطناب في هذا الباب، فالبحث جديد غريب على القراء والموضوع خطير الشأن، فإنه يتعلق من حيث المنطق بمسألة من أعوص مسائله، ويتعلق من حيث تأريخ الفكر العربي بمنحى من أعوص مناحيه، ذلك إلى أن أسلوب البحث العلمي والفلسفي عند العرب مسألة جدلية في زماننا هذا، تكلمت فيها من قبل وتكلم فيها غيري من غير أن يحدد ذلك الأسلوب أو تعرف قواعده،
2
Неизвестная страница
وإني لأقر هنا أن ما كتبت من قبل في أسلوب التفكير العلمي عند العرب لم يكن قائما على الأساس الذي أضع قواعده في هذا البحث.
من أجل هذا كله ينبغي لي أن أشرح أبواب «الدستور» الذي وضعه العرب للبحث العلمي والفلسفي، ثم أعقب عليه بشرح المقولات شرحا مختصرا جليا؛ ليكون كلامنا بعد ذلك قائما على أساس من العلم بما نتكلم فيه، وسنرى بعد ذلك كيف تدلنا المقارنة على العلاقة الجوهرية القائمة بين «قاطيغورياس» الذي هو يوناني الأصل وبين دستور البحث عند العرب.
3
وعندي أن إثبات أن أسلوب البحث عند أسلافنا أصله يوناني أو بالحري مستمد من أصل يوناني، من رءوس المسائل التي يجب أن يعنى بها المؤرخون في تاريخ الثقافة العربية.
ونبدأ الآن بشرح دستور البحث العلمي والفلسفي عند العرب.
أولا: باب «هل هو»:
وهو سؤال يبحث عن وجدان شيء أو عدمه، والجواب نعم أو لا.
الموجود يقتضي الواجد لأنهما من جنس المضاف
4 - ووجدان الشيء لا يخلو من إحدى طرق ثلاث: إما بإحدى القوى الحساسة، وإما بإحدى القوى العقلية التي هي الفكرة والروية والتمييز والفهم والوهم الصادق والذهني الصافي، وإما بطريق البرهان الضروري، وليس لإنسان من طريق إلى المعلومات غير هذه، وأما معنى العدم فهو ما يقابل كل نوع من هذه الطرق الثلاث فيقال: معدوم من درك الحس له، ومعدوم من تصور العقل، ومعدوم من إقامة البرهان عليه.
ثانيا: باب «ما هو»:
Неизвестная страница
سؤال يبحث عن حقيقة الشيء.
هذا السؤال يبحث عن حقيقة الشيء، أو كما يقول الفلاسفة: عن «ماهية» الشيء، و«ماهية» لفظ منحوت من لفظي «ما هو»، وحقيقة الشيء تعرف بأمرين: الأول الحد، والثاني الرسم، ذلك بأن الأشياء جميعا لا تخرج عن نوعين: مركب كالجسم، وبسيط كالهيولي والصورة، والأشياء المركبة تعرف حقيقتها إذا عرفت الأشياء التي هي مركب منها، فإذا قيل: ما حقيقة الطين؟ قيل: «تراب وماء» مختلطان، والحكماء يسمون مثل هذا الوصف «الحد»، وحدوا الجسم: بأنه «الشيء الطويل العريض العميق»، وفي قولهم: الشيء إشارة إلى «الهيولي» أي المادة، وفي قولهم: الطويل والعريض والعميق إشارة إلى الصورة؛ لأن حقيقة الجسم ليست بشيء غير هذه التي ذكرت في حده.
وأما الأشياء التي ليست مركبة من شيء فحقيقتها تعرف من الصفات المختصة بها، مثال ذلك: إذا قيل: ما حقيقة «الهيولي»؟ فيقال: جوهر بسيط قابل للصورة لا كيفية فيه البتة، وإذا قيل: ما الصورة؟ فيقال: هي التي يكون الشيء بها ما هو، وهذا ما يسميه الحكماء «الرسم»، والفرق بين «الحد» و«الرسم» أن الحد مأخوذ من الأشياء التي يتركب منها المحدود، والرسم مأخوذ من الصفات المختصة بالمرسوم: وفرق آخر: أن الحد يخبرك عن جوهر الشيء المحدود ويميزه عما سواه، والرسم يميز لك المرسوم عما سواه لا غير.
ثالثا: باب «كم هو»:
سؤال يبحث عن مقدار الشيء.
الأشياء ذوات المقادير كلها نوعان: متصل ومنفصل، فالمتصل خمسة أنواع: الخط والسطح والجسم والمكان والزمان، والمنفصل نوعان: العدد والحركة، وهذه الأشياء كلها يقال فيها «كم هو».
رابعا: «كيف هو»:
سؤال يبحث عن صفة الشيء.
والصفات كثيرة الأنواع، وسوف نشرح ذلك عند كلامنا في المقولات.
خامسا: «أي شيء هو»:
Неизвестная страница
سؤال يبحث عن واحد من الجملة، أو عن بعض من الكل، إذا قيل: طلع الكوكب، فيقال: أي كوكب هو؛ لأن الكواكب كثيرة، وأما إذا قيل: طلعت الشمس فلا يقال: أي شمس هي؛ إذ ليس من جنسها كثرة.
سادسا: «أين هو»:
سؤال يبحث عن مكان الشيء أو عن مكان رتبته.
والفرق بين المكان والرتبة: أن المكان صفة لبعض الأجسام لا لكل الأجسام، فإذا قيل: أين زيد؟ فيقال: في البيت، أو في موضع آخر غير البيت، وأما المحل فهي صفة للعرض: والعرض نوعان: جسماني وروحاني، فالأعراض الجسمانية حالة في الأجسام، فإذا قيل مثلا: أين البياض؟ فيقال: عرض حال في الجسم الأبيض، وهكذا بقية الأعراض التي هي محمولات في غيرها، وأما الأعراض الروحانية فحالة في الجواهر الروحانية فإذا قيل: أين العلم؟ فيقال: عرض حال في نفس العالم، وكذلك بقية الأعراض الروحانية كالسخاء والعدل والشجاعة وغير ذلك.
وأما الرتبة: فهي من صفات الجواهر الروحانية، فإذا قيل: أين النفس؟ فيقال: هي دون العقل وفوق الطبيعة، وإذا قيل: أين الخمسة؟ فيقال: بعد الأربعة وقبل الستة، والجواهر الروحانية لا توصف بالمكان ولا بالمحل، وإنما بالرتبة.
سابعا: «متى هو»:
سؤال يبحث عن زمان كون الشيء.
والأزمان ثلاثة: ماض كأمس، ومستقبل مثل غد، وحاضر مثل اليوم.
ثامنا: «لم هو»:
سؤال يبحث عن علة الشيء المعلول.
Неизвестная страница
والعلل أربع: علة هيولانية، وعلة صورية، وعلة فاعلية، وعلة تمامية، فالعلة الهيولانية هي المادة التي يصنع منها الشيء، والعلة الصورية هي الهيئة التي يكون عليها الشيء كالاستدارة أو التربيع أو الاستطالة أو التكور، والعلة الفاعلية هي الصانع الذي يعمل الشيء، والعلة التمامية هي الغرض من الشيء، وكل معلول لا بد له من هذه العلل الأربع، فإذا سألت عن علة شيء؛ فاتجه بفكرك أولا عن أيها تسأل حتى يكون الجواب بحسب السؤال.
تاسعا: «من هو»:
سؤال يسأل عن التعريف للشيء، أي تحديده ولا يحتاج إلى شرح لأنه بين بذاته.
تحت هذه الأبواب التسعة حصر العرب كمية السؤالات التي ترد على الأشياء من أي نوع تكون، وإنما هم وضعوها لتقرب من فهم المتعلمين النظر في المنطق الفلسفي قبل الإقدام على درس «إيساغوجي» وهو المدخل لذلك العلم.
وهنا ينبغي لنا أن نشرح المقولات العشر، التي هي «قاطيغورياس» عند اليونان، ونقلت إلى العرب مع ما نقل إليهم من منطق «أرسطو»، حتى إذا فرغنا من شرحها أمكننا أن نوازنها بذلك الدستور القويم.
وقد يسمي العرب المقولات الأجناس العشر وذلك ما سوف نأتي على سببه بعد، أما المقولات أو الأجناس العشر فهي: مقولة أو جنس: الجوهر، الكم، الكيف، الإضافة، الأين، متى، الوضع، الملك، أن يفعل، أن ينفعل، ولا بد لنا من أن نتكلم فيها جنسا جنسا:
الأول: جنس الجوهر:
ليس له حد، ولكن له رسما
5
ورسمه أن القائم بنفسه، القابل للأعراض المضادة.
Неизвестная страница
ما هو النوع عند القدماء: النوع معنى يشمل جملة الأشخاص المتفقة في الصورة، المختلفة في الأعراض، وبيان هذا أن الحكماء لما نظروا في الموجودات فأول ما رأوا الأشخاص مثل زيد وعمرو وخالد، ثم تذكروا في من لم يروهم من الناس الماضين، فعلموا أن كلهم تشملهم الصورة الإنسانية وإن اختلفوا في صفاتهم من حيث الطول والقصر والسواد والبياض، والشهلة والفطسة، وما شاكل من الصفات، فقالوا: كلهم إنسان، ولذا سموه: «نوعا»، وعلى هذا القياس سائر أشخاص الحيوانات من الأنعام والسباع والطيور وغير ذلك.
هذه هي الخطوة الأولى، أما الثانية: فإنهم رأوا أن الحياة تشملهم كلها، فسموها الحيوان، ولقبوها الجنس الشامل لجماعات مختلفة الصور، وهي - أي الصور- أنواع له، ثم نظروا في أشخاص أخر كالنبات والشجر وأنواعها فعلموا أن النمو والغذاء يشملها كلها، فسموها «النامي» وقالوا: هي جنس «أي النامي» والحيوان والنبات نوعان له.
ثم انتقلوا بالنظر إلى الأشياء التي لا هي حيوان ولا نبات، أي الحجر والماء والنار والكوكب، فرأوا أنها كلها أجسام، فسموها: جنسا، ورأوا أن الجسم من حيث هو جسم لا يتحرك ولا يعقل ولا يحس ولا يعلم شيئا، غير أنهم وجدوه بعض الأحيان متحركا متعقلا ومصنوعا فيه الأشكال والصور والنقوش والأصباغ، فعلموا أن مع الجسم جوهرا آخر هو الفاعل في الأجسام؛ أي المؤثر فيها بما يكسبها هذه الأفعال والآثار، فسموه روحانيا، فجمعوا هذه كلها في لفظة واحدة وسموه: «الجوهر»، فصار الجوهر بذلك جنسا: والروحاني والجسماني نوعان له، والجسم جنس لما تحته من النامي والجماد وهي نوعان له، والنامي جنس لما تحته من الحيوان والنبات وهما نوعان له، والحيوان جنس لما تحته من الناس والطير وغير ذلك.
فالإنسان بذلك نوع الأنواع، والجوهر جنس الأجناس، والجسم والنامي والحيوان نوع من جنس المضاف، ذلك بأنها إذا أضيفت إلى ما تحتها سميت: أجناسا لها، وإذا أضيفت إلى ما فوقها سميت: أنواعا لها.
الثاني: جنس الكم:
أشياء هي أعراض في الجوهر مثل ثلاثة أرباع وأربعة أرطال وخمسة مكاييل وما شاكل يجري مجراها جميعا يشملها جنس الكم أو مقولة الكم.
ثالثا: جنس الكيف:
الكيف لا هو جوهر ولا هو كم، وإنما هو صفات كالبياض والسواد والحلاوة والحموضة، وهي أعراض للجوهر، فالجوهر موصوف بها، وهي قائمة به، وكلها صور متممة له.
رابعا: جنس المضاف:
هناك أشياء شتى تقع على شيء واحد لا يتغير في ذاته، بل يتغير من أجل إضافته إلى أشياء شتى، وهذا ما سموه: جنس المضاف أو مقولة المضاف، فالرجل مثلا يكون أبا وابنا وأخا وزوجا وصديقا وعدوا، وجميعها أشياء تقع بين اثنين يشتركان في معنى من المعاني، وذلك المعنى لا يكون موجودا في ذاتيهما، ولكن في نفس المفكر.
Неизвестная страница
خامسا: جنس الأين:
يشمل معاني غير معاني ما تقدم؛ مثل: فوق وتحت وها هنا وهناك وما شاكل ذلك فسموها: «الأين» أو مقولة الأين.
سادسا: جنس المتى:
يشمل معاني تدل على الزمان؛ مثل: يوم وشهر وسنة وحين ومدة وما شاكل ذلك فسموها: «المتى» أو مقولة المتى.
سابعا: جنس الوضع:
يشمل معاني تدل على وضع الشيء مثل قائم وقاعد ونائم ومنحن ومتكئ ومستند ومستلق فسموها: «الوضع» أو مقولة الوضع.
ثامنا: جنس الملك:
مثلها قولك به وعليه وله ومنه وعليه وعنده وما شاكل ذلك، فسموها: «الملك» أو مقولة الملك.
تاسعا: جنس أن يفعل:
وهو يدل على تأثير الفاعل.
Неизвестная страница
عاشرا: جنس أن ينفعل:
مثل قولك انقطع وانكسر وانبعث وانبجس، وهو جنس يدل على أثر الفاعل في المنفعل.
لقد جمع المنطق في هذه الأجناس كل موجود من الجواهر والأعراض وما كان وما يكون، وليس في مقدور أحد أن يتوهم شيئا خارجا عن هذه الأجناس وما ينطوي تحتها من الأنواع والأشخاص.
غير أن حصر هذه الأجناس إنما هو قانون للعقل، فإذا شرع العقل ينظر في حقائق الأشياء أو في ظواهرها، احتاج في تطبيق هذا القانون إلى دستور، وهذا الدستور قد فصل في التسعة الأبواب التي سبق أن ذكرنا، ومن هنا ترى أن بين قانون المنطق ودستور التطبيق تضايفا لا ينفصم وعلاقة لا تتصدع، وإلى هنا كان الوضع العلمي صحيحا لا غبار عليه، لا من ناحية القانون المنطقي ولا من ناحية الدستور الذي يطبق به ذلك القانون، فمن أين إذن جاء ذلك التخالط الذي نلحظه في الموضوعات التي تضمنها العلم الواحد عند العرب؟ كما تضمن الفلك علم التنجيم، والكيمياء علم تحويل العناصر، والطب علم التأثر بالبروج إلى غير ذلك، كيف اختلط المعلوم بالمجهول، وكيف امتزجت أشياء الغيب بأشياء الشهادة؟ هذا ما نحتاج للكلام فيه إلى موازنة بين القانون المنطقي الذي هو المقولات ودستور البحث الذي هو تلك التسعة الأبواب، ثم إلى استقراء ما يمكن أن يستقرأ من مجموع ذلك.
وقد يطول الكلام في الموازنة بين القانون المنطقي ودستور البحث العلمي، وقد يكون الكلام في هذه الموازنة ذا قيمة علمية كبيرة، غير أن المقام ليس مقام الكلام في هذا الموضوع، وإنما نكتفي بأن نقول: إن دستور البحث العلمي عند العرب قد قام على مقولات أرسطوطاليس.
الفصل الرابع
علم الأحياء
لعلم الأحياء عند اليونان تاريخ طويل حتى لقد اضطر المؤرخون إلى الفصل بين تاريخ علم الأحياء قبل أرسطوطاليس، وعلم الأحياء بعده، وإذا حققنا النظر فيما عرف العرب من هذا العلم، رأينا أنهم قد اتصلوا بما عرف اليونان من بدايات هذا العلم في العهدين، مما يدل دلالة صادقة على أنهم اشتغلوا به اشتغال العلماء، لا اشتغال النقلة والمترجمين.
ولقد ذاع عند العرب مذهب اتصال العوالم على النحو الذي ذاع به عند اليونان فقالوا: إن آخر مرتبة الجواهر المعدنية متصلة بأول مرتبة الجواهر النباتية، وإن أول مرتبة النبات متصلة بآخر مرتبة الجواهر المعدنية، وإن آخرها متصل بأول مرتبة الحيوان، وإن آخر مرتبة الحيوان متصل بأول مرتبة الإنسان.
وكان لهذا المذهب أثر كبير في تطور الفكر واتجاهه نحو فكرة النشوء، ودليلنا على هذا قولهم: إن الحيوانات كلها متقدمة الوجود على الإنسان بالزمان، فكان من ذلك بداية حسنة للتفكير في تتابع نشوء الأحياء على مدى العصور الأرضية.
Неизвестная страница