كلنا يعرف جيدا أن تحريف الواقع قد يحدث عندما يكون المرء تحت تأثير العقاقير، أو عندما يكون في حالة إجهاد أو نقص في الوعي أو في حالة من الاستثارة الشديدة. وقد سبق أن رأينا أيضا أن تقييم الواقع قد يعتريه الخلل من جراء بعض الأنماط الفكرية اللاواقعية؛ ففي عصاب القلق، على سبيل المثال، يتمثل المريض جميع المنبهات، حتى المأمونة منها، بطريقة تجعلها توحي بالخطر وتنذر به. يستلزم استخدام التقنيات السيكولوجية لعلاج هذا العصاب أن يكون المريض قادرا من الأصل على أن يميز ويدرك الفوارق بين الواقع الخارجي (المثيرات المحايدة غير المؤذية) من جهة والظاهرة السيكولوجية (تقييم الخطر) من جهة أخرى. ليس بمقدور بعض المرضى (كمرضى الانسمام بالعقاقير ومرضى الذهان الحاد ذي الضلالات) أن يعي أو يميز هذا الفرق.
كذلك يتوجب على المريض أن يكون قادرا على أن يختبر الفرضيات ويمحصها قبل أن «يصدق»
assent
عليها ويسلم بها كحقائق؛ فالمعرفة التي يعول عليها تعتمد جوهريا على امتلاك معلومات كافية تسمح لنا باختيار الأصح والأقوم من بين فروض بديلة.
10
مجمل العلاج المعرفي: صفوة القول أن العلاج المعرفي يقوم على نظرية في الشخصية ترى أن الفكر هو الذي يحدد الشعور والسلوك؛ أي إن الطريقة التي يفكر بها المرء هي التي تحدد الطريقة التي يشعر بها والأسلوب الذي يسلك به في أفعاله؛ ومن ثم يتألف العلاج من عملية تحقق تجريبي واختبار للواقع وحل للمشكلات يتحالف فيها المعالج والمريض ويتعاملان مع الأفكار اللاتكيفية للمريض بوصفها فرضيات قابلة للاختيار، ويحاولان البحث عن أدلة تدحض هذه الفرضيات وتؤيد اعتقادات تكيفية بديلة تفضي إلى التغير العلاجي المنشود.
ترى هذه النظرية أن عملية معالجة المعلومات لها دور حاسم في حياة الكائن العضوي وبقائه؛ فلو لم يكن للإنسان جهاز وظيفي يتلقى المعلومات ذات الصلة من البيئة ويقوم بمعالجتها وتركيبها ويصوغ خطة للفعل بناء على هذا التركيب لكان مصيره الهلاك العاجل.
وما يحدث في الحالات المرضية من اكتئاب وقلق ووسواس ورهاب وبارانويا ... إلخ هو أن هناك تحيزا منظما يتدخل في عملية معالجة المعلومات. ثمة تحيز محدد يلعب دورا في منظومة الأعراض الخاصة بكل مرض من هذه الأمراض. فإذا كان تفكير المرء يميل انتقائيا إلى تركيب ثيمات الخسارة والفقدان والهزيمة فهو حري أن يصير مكتئبا. وإذا كان تفكيره يميل إلى تأويل المثيرات البيئية كدلائل خطر فهو مستهدف للقلق ... وهكذا.
وما دام منشأ المرض هو وجود تحيز وميل انتقائي يتدخل في عملية معالجة المعلومات، فإن الهدف العلاجي المباشر هو «تحويل» جهاز معالجة المعلومات إلى وضع أكثر حيادا بحيث يقيم الأحداث بطريقة أقرب إلى الاعتدال. الأمر هنا أشبه ببرنامج الحاسوب؛ فلكل اضطراب برنامج خاص هو الذي يملي صنف المعلومات المسموح بإدخالها ويحدد السلوك الناتج. في عصاب القلق، مثلا، يتم تشغيل «برنامج حفظ الذات أو البقاء»؛ فيلتفت الشخص انتقائيا لإشارات الخطر، ولا يلتفت لإشارات الأمان. ويكون السلوك الناتج متسقا مع الطريقة التي تدمج بها هذه المعلومات، وهو سلوك يفرض على المرء أن يتفاعل مع المثيرات الهينة والمأمونة على أنها تمثل مخاطر كبرى، ويستجيب لها استجابة التجنب أو الهروب؛ ومن ثم تتألف التقنيات العلاجية من إيقاف مثل هذا البرنامج اللاتكيفي و«تحويل» الجهاز المعرفي إلى وضع أكثر اعتدالا، ويتم هذا التحويل عن طريق فحص منهجي للتأويلات الخاطئة وتصحيحها، والقيام بتغذية النظام بالمعلومات الصحيحة تغذية راجعة؛ الأمر الذي يحفز على إعادة التوافق ويدعم التوافق الجديد. (3) السيكوباثولوجيا الرواقية
إذا عدنا الآن إلى المصطلح الرواقي في السيكوباثولوجيا، نجد أن حجر الزاوية في النمو الأخلاقي عند الرواقيين هو «الاستخدام الصحيح أو القويم للانطباعات» (المحادثات، 1: 1-7؛ 2: 22-29؛ 4: 6-34). وقد قلنا آنفا أن المعرفة عند الرواقيين تبدأ ب «الانطباع»
Неизвестная страница