من ذلك أنه رفض زعم الرواقيين بإمكان المعرفة اليقينية، وأخذ برأي منتقديهم القائل بأن الحكيم الذي يملك المعرفة اليقينية لا وجود له: «لكأنما ألقي على الأشياء حجاب كثيف حتى لقد بدت لعدد غير قليل من كبار الفلاسفة غير قابلة للفهم على الإطلاق. وحتى الرواقيون أنفسهم بدت لهم الحقائق عصية على الفهم، وبدا لهم كل تصديق عقلي لإدراكاتنا شيئا عرضة للخطأ؛ فليس هناك من هو معصوم ...» (5-10).
ومن ذلك أنه رفض أن توضع الآثام جميعا في مرتبة واحدة، فقد ذهب قدامى الرواقيين إلى أن الفضيلة «كل» واحد بسيط لا يتجزأ، تملكها كلها أو لا تملك منها شيئا، وكذلك الأمر في الرذيلة، ورفضوا فكرة التدرج الأخلاقي، وجاءوا في ذلك بتشبيه معجب فقالوا بأن الإنسان إما أن يكون فاضلا وإما غير فاضل، ولا يعد فاضلا من لم يبلغ الفضيلة بتمامها، كما أن الغريق لا يكون أقل غرقا على بعد شبر من سطح الماء منه إذا كان في قاع البحر. يقول ماركوس: «إن ارتكاب الخطيئة بدافع الرغبة لأشد من ارتكابها بدافع الغضب؛ إذ يبدو أن من أثاره الغضب إنما يحيد به عن العقل شيء من الألم والتشنج غير الإرادي، أما من دفعته الرغبة إلى الخطيئة فاستسلم للذة فيبدو أكثر تهتكا في إثمه وأقل رجولة. إن الأول أشبه بشخص أوذي فاضطره الألم إلى الغضب، أما الثاني فإنه هو هو مصدر نزوته ومنشأ اندفاعته إلى الإثم حين تحدوه الشهوة إلى ارتكاب ما ارتكب» (2-10).
ومن ذلك أنك لا تجد في كلامه نبرة الثقة الزائدة والاعتداد بالرأي الذي تجده في أقوال قدامى الرواقيين. يقول ماركوس مخاطبا نفسه: «ليس لديك متسع للدرس والتحصيل، ولكن لديك متسعا لأن تكف الغطرسة، ولديك متسعا لأن تعلو فوق اللذة والألم، ولديك متسعا لأن ترتفع فوق حب الشهرة والصيت، وألا تحنق على البليد والجاحد، بل، حقا، أن ترعاهما» (8-8)، «احرص ألا تتقيصر، وألا تصطبغ بهذه الصبغة؛ فقد تقع في ذلك إذا لم تتوخ الحذر ...» (6-30).
ومن ذلك أنه، بخلاف الرواقيين القدامى، أخذ بفكرة أفلاطون عن الواجب الاجتماعي والسياسي؛ فلما كان الإنسان كائنا اجتماعيا فإن من واجبنا أن نقوم بدورنا في الشئون السياسية العامة. يقول ماركوس: «إنني أصحو من نومي لكي أؤدي عملي كإنسان، أما زلت كارها أن أذهب لكي أؤدي ما خلقت من أجله وما وجدت في العالم لكي أؤديه؟ ...» (5-1).
لقد قدر لماركوس أوريليوس أن يكون إمبراطورا فيلسوفا،
1
فلم يجتنب لحظة صحبة الفلسفة، ولم يفرط في واجبات الملك والقائد العسكري. واستطاع أن يخفف من هذا التوتر الظاهر بين مسئوليات الحاكم ومسئوليات الفيلسوف، وقنع بأن الفضيلة يمكن أن تجد لها منفذا إلى القصور، وبأن ممارسة الفلسفة يمكن أن تلطف من جفاء الحاكم وتجعله أكثر قبولا وأحسن موقعا في القلوب «لتكن الفلسفة لك ملاذا دائما ومستراحا وموئلا، حتى تجعل القصر يبدو محتملا لك، وحتى تبدو أنت محتملا في القصر» (6-12).
والحق أن الوظيفة العسكرية لم تكن متفقة مع روح الفيلسوف لدى ماركوس أوريليوس، على الرغم من إتقانه لهذه الوظيفة. يرشح ذلك من حديثه بين الحين والآخر: «العنكبوت فخورة حين تصطاد ذبابة، والإنسان فخور بصيده؛ أرنب مسكين، سمكة صغيرة في شبكة، خنازير، دببة، أسرى من الصرامطة، والجميع من حيث الدافع لصوص» (10-10). (2) قلعة الذات
لعل أهم ما يؤثر عن ماركوس وصفته العلاجية بالرجوع إلى الذات، والخلو إلى النفس من وقت لآخر التماسا للأمان والسكينة، باعتبارها الحصن الداخلي المنيع. إنه المنتجع العقلي حيث الاستجمام الحقيقي والتجدد الدائم . وهو الحصن الذي كان يلجأ إليه ماركوس أثناء حملاته الشمالية وراء الدانوب، والذي يهيب بنا ماركوس أن نبحث عن مثله داخل أنفسنا.
يقول سينيكا: «لذ بذاتك.»
Неизвестная страница