Мир в коробке
صندوق الدنيا
Жанры
بعد شهر، لست أمل التجواب في هذه الغابة الكثيفة. فإن لها لسحرا شديد الأخذ. وقد ظللت فيها أمس وإن كنت لم أبعد عن الكوخ أكثر من فرسخ، فنشط خيالي وراح يريني أشباحا ها هنا وها هنا بين الأشجار الغليظة الذاهبة في الهواء التي تحجب الشمس فلا ينفذ منها شعاع. فوقفت برهة أفكر وأتخيل وأشرب نفسي روح المكان، فنعق فوق رأسي غراب ففزعت ثم غضبت على نفسي؛ لأني فزعت ورفعت طرفي فأبصرت الغراب على غصن فوقي يصوب نظره إلي، فاستحييت أن يراني كأنما كان قد فاجأني في خلوتي، فحدجته بنظري فحدجني بنظره، ولم يحول عني عينه، وكان كلانا صامتا لا يقول شيئا، ثم تقدم الغراب بضع خطوات على الغصن ليكون أقدر على تأملي، ورفع جناحه ودلى رأسه من بين كتفيه، ونعق مرة أخرى نعقة أحسست أن لهجتها مهينة مبطنة بالزراية، فلو أنه كان يتكلم مثلي ومثل آدم ومثل الحية لما قال لي بأفصح مما قال: «ماذا تصنعين هنا بالله؟» وليس هذا من شأنه ولا كانت هذه الغاية له، وما من حقه أن يخاطبنا بمثل هذه اللهجة، ولكني لم أرد عليه؛ استنكافا مني للمنابذة مع غراب أسحم، وترفعا عن المهاترة معه، فلبث برهة يدير عينه في، ورأسه ممدود إلي من تحت كتفيه ثم قذفني بإهانتين أخريين لم أفهم معناهما على وجه الدقة، وإن كانت دلالتهما واضحة. فلم أشأ أن أجاريه في بذاءته وأمسكت عن دفع الإهانة. ويظهر أن حلمي أطمعه فقد رفع رأسه وأطلق في الغابة نعقة تبينت أنها نداء، فقد أجابه غراب آخر من قلب الغابة، وراح ذاك يسأل وهذا يشرح له الموقف، حتى ترك الغراب المدعو ما كان فيه وطار إليه وحط إلى جانبه فوقي، ومضى الغرابان الأسودان يتناعبان عني ولا يحفلان بوجودي، فلو أني كنت بعيدة عنهما بحيث لا أسمعهما ولم أكن تحت أعينهما لما أساءا الأدب في حقي إلى هذا الحد، فحرت وارتبكت، ثم بدا أن أدعهما وأمضي في سبيلي وأحسب أن الغرابين الوقحين قد سرتهما هزيمتي فقد مطا عنقيهما وراحا يضحكان مني ويرسلان خلفي الشتائم والإهانات حتى تواريت عنهما، وإني لأعلم أنهما غرابان لا أكثر، ولكنه من المؤلم على كل حال، بل مما يكوي غرور الإنسان أن يرى حتى الغراب يهزأ به ويتماجن عليه ويصيح به: «ما أطول شعرك! أوليس لك ثوب تلبسينه غير هذا الجلد القديم؟ ارفعي ذيله فإنه يكنس الأرض ويثير الغبار.»
ومن الغريب أني ألفيت نفسي عند باب الكوخ قبل أن أفكر في الطريق الذي أسلكه، وهكذا اهتدت رجلاي بعد أن ضل رأسي، لقد كدت أهم بالبكاء ولكن فرحي بالرجوع سالمة أنساني الدموع.
بعد أسبوعين، آدم يحمل علي ويرهقني بالعمل ويكتفي هو منه بالإشراف. ولا أدري ماذا يكلفه «الإشراف»، ولكن الذي أدريه أني مستعدة أن أقوم به عنه وأن أدع له ما أنا فيه، وقد ثقلت وأراني أميل إلى التمرد، وسأدعي المرض غدا فإن لم تصلح الحال بعد فسأهرب وأختفي في بعض الأدغال ليعرف قدري.
بعد خمسة أيام، هربت ثلاثة أيام ثم لم أطق البعد عنه فرجعت إليه وادعيت أني كنت تائهة، وقلت: «إني منهكة ولا أكاد أقوى على النهوض.» فخرج آدم متذمرا وغاب عني اليوم كله فكدت أجن من الشوق إليه، وتبت من ذنبي واعترفت له بالحقيقة.
بعد ثمانية شهور، سميته قابيل، وهو حلو أحمر لا شعر عليه غض اللحم، وأكاد من فرحي به وحبي له آكله! وكان آدم قد خرج للصيد فلما عاد بعد أيام سألني عنه ما هو؟ فلم أدر كيف أقول، وحملته إليه وأدنيته من فمه ليقبله، فظن أني أقدمه له طعاما، ونحى وجهه وصدني بيده وقال: أوحش أنا حتى آكله حيا؟ ولما قلت له: إني «وضعته» وأنا عائدة إلى الكوخ لم يصدقني وزعم أني «وجدته»، وقال: إن به مشابهة مني ولكنه صغير جدا فهو على الأرجح حيوان جديد، وتناوله وجعل يقلبه ويفحصه فبكى وصاح فاختطفته واحتملته وضممته إلى صدري ولاطفته حتى ثاب إلى السكون.
ولما جاء الليل وبكى زعم آدم أن من الحماقة أن أسجن هذا الحيوان معنا، وأنه إنما يبكي ويصيح ويخرج هذه الأصوات المنكرة؛ لأنه يريد أن يعود إلى جماعته، وهم بأن يلقيه خارج الكوخ فعدوت وراءه وصددته. فقال آدم إنه لا يفهم سلوكي هذا، وإنه لم يألف مني هذه العناية بالحيوانات الأخرى.
من مذكرات آدم «لقد تغيرت حواء حتى لأكاد أنكرها، مذ وجدت هذا الحيوان الغريب الذي حفيت قدماي على غير جدوى في البحث عن واحد آخر من مثله، فهي لا تخرج الآن للصيد أو للاحتطاب ولا تكاد تعنى حتى بإعداد الطعام. ولا تخطو خطوة إلا وهذا الحيوان الغريب مضموم إلى صدرها أو محمول على كتفها، وهو لا يكلفنا شيئا؛ لأنه لا يأكل ولا يشرب، وهذا أغرب ما فيه. وأحسب حواء قد جنت فإنها لا تفتأ من حين إلى حين تلقمه ثديها فيعكف عليه بفمه الفارغ كأنه يأكل ولا شيء هناك ؛ فليس أجن منها سواه! وما أغرب منظرها وهي تداعبه وتناجيه وتوهمه أنها تعض أنامله فيضحك، ولم أر قبل هذا حيوانا يضحك. لقد حيرني جدا هذا المخلوق العجيب الذي تسميه حواء «قابيل» والذي لا أدري ماذا هو؟ فهو ليس منا إذا كان لا يمشي مثلنا ولا يتكلم، وليس من الطير فما له أجنحة ثم هو لا ينهض فكيف بالطير، وليس من الحيوان فإن جلده أملس لا شعر عليه وليس له ذيل، وأكثر ما أراه مستلقيا على ظهره ورافعا رجليه في الهواء، ولست أفهم لغته، ولكن حواء تزعم أنها تفهمها وتجيبه إلى ما يطلب فيكف عن الصياح ويضحك وينام، أما أنا فقد تقطع نومي مذ جاءتنا بهذا اللغز، سأغافلها يوما وأسرقه وألقيه في الغابة أو في الغدير فإني في شك منه عظيم.»
بعد بضعة شهور، لا أزال عاجزا عن فهم هذا اللغز الذي كنا في غنى عنه، والذي يشرد عني النوم، ولم أستطع أن أسرقه؛ لأن حواء لا تتركه لحظة وقد نما بسرعة فصار خمسة أضعاف ما كان عليه لما جاءنا، وكان في أول الأمر لا ينفك مستلقيا على ظهره، فالآن يحبو على يديه ورجليه، وقد يباغتني وأنا نائم فيضع يده الصغيرة في فمي أو يقبض على أنفي أو يجذبني من لحيتي، ليست حواء وحدها المجنونة فسيلحق بها سواها قريبا، ولقد أشفقت على هذا اللغز وقلت آتيه برفيق يؤنسه في وحدته ويسليه في غربته بيننا، فجئت بدب صغير ولكنه لم يكد يراه حتى ريع وملأ الدنيا صياحا فلم أجد بدا من طرد الدب ورده إلى حيث كان.
أي شيء هو؟ هذا ما يحيرني! هو قط؟ لا! أو دب؟ لا! أو قرد؟ ربما، ولكن أين الذيل والشعر؟ سنرى.
بعد شهور أخرى، لا يزال هذا اللغز ينمو وهو الآن يقف على قدميه الخلفيتين ويمشي خطوات ثم يقع، وقد ظهر الشعر في رأسه وهو كشعرنا نحن لولا أنه أنعم وأخف وأقل سوادا وألين ملمسا، وكنت أتوقع أن يظهر له ذيل ولكن خيب أملي. وأقول الحق : لقد بدأت أخافه فإن هذا النمو الشاذ الذي لا عهد لي به في حيوان آخر يوقع في روعي أني لم أر آخر هذه الحكاية. وما يدرينا غدا ماذا يكون منه؟ وقد رأيت أن الأحزم أن أنام خارج الكوخ من الآن فصاعدا، وأن أدع حواء وحدها معه، وليس هذا من الشهامة والمروءة في شيء، ولكن ماذا أصنع وهي لا تريد أن تفرط فيه ولا ترضى أن تعتاض منه دبا أو قردا؟ فعليها إذن أن تحتمل وحدها عواقب طيشها وحماقتها.
Неизвестная страница