وقد أنجزت الوصية الخرقاء دورها المرسوم، فقطعت جهيزة قول كل خطيب، وبطل اللجاج بين طلاب الإنقاذ في بقاء الأسرة أو زوالها، وتمهدت السبل لدعوة الجنوب، فوجد سن ياتسن أسماعا صاغية لرسالته الكبرى، ولم تمض على هذه الحوادث عشر سنين حتى ذهب آخر عرش لأبناء السماء.
المعتقدات والعادات
على أثر الفتنة التي قام بها الملاكمون - خاصة - راجت في الغرب تهمة التعصب الديني وتذرع بها الساسة لتسويغ حملات التنكيل والانتقام التي كان أولئك الساسة يشفقون من سريان أخبارها بين الأمم الغربية، ويضطرون إلى إثارة الشعور لمداراة أهوالها وفظائعها، فقد كانت أخبار حرب الأفيون تقابل في الغرب بالنفور والاشمئزاز، وتصور النزاع بين الدول والصين في صورة نزاع بين أمة تحمي نفسها من آفة خبيثة وطائفة من التجار الجشعين يكرهونها على فتح أبوابها لتلك الآفة، ولا يبالون بالربح الحرام من أي مصادر تلقفوه، ثم يجدون من ورائهم جيوشا وأساطيل تخضع الأمة المغلوبة لمآرب أولئك التجار.
فلما تكررت الثورات والمنازعات ألفى المستعمرون أنفسهم في حرج شديد مع أقوامهم، وراحوا يبحثون في حجة تسترهم وتسوغ حملاتهم، فلم تسعفهم حجة في ذلك الوقت غير حجة التعصب الديني، وساعدهم على إشاعة هذه الحجة أن الملاكمين ينتحلون المصطلحات الدينية وأن المصابين من الأجانب كان معظمهم من المرسلين والمبشرين.
إلا أن العارفين بالصين كانوا يستغربون هذه الدعوى ولا يخفى عليهم ما وراءها من التضليل والافتراء؛ لأن التعصب الديني الذي يغري صاحبه باستباحة دماء المخالفين شنشنة لم تعرف عن أهل الصين، ولم يحدث قط في تاريخهم اضطهاد لأصحاب دين من الأديان إلا لباعث من بواعث السياسة؛ إذ كان القوم يدينون بعبادة الأسلاف، وليس من دأب الإنسان أن ينازع أحدا في أسلافه أو يجبر أحدا على مشاركته فيهم، وكل عقيدة غير عقيدتهم في أرواح الآباء والأجداد وفي أرواح الآلهة البيتية عامة، فهي من قبيل آداب السلوك التي يعاب من يهملها كما يعاب من يهمل التهذيب والمروءة في الأمم الأخرى، ولا يتعدى الأمر ذلك إلى القتل والاضطهاد.
ومن الدلائل البارزة على هذا الخلق في أهل الصين عامة أن زعيمهم الأكبر سن ياتسن كان يدين بالمسيحية، ومثله تلميذه الكبير شيان كاي شيك الذي خلفه زمنا على قيادة الأمة، وما كان لأهل الصين أن ينظروا إلى الزعيمين بغير نظرة الاحتقار الذي يتعرض له الصابئون المرتدون عن دين آبائهم لو كان التدين عند الصينيين على مثال التدين عند الأمم الأخرى، إنما الدين عند القوم آداب سلوك قبل كل شيء، وقوامه الأول توقير أرواح الأسلاف وأرواح الأرباب الموكلة بأمر البيت، فكل بيت فيه معبده، وكل قبيلة فيها هيكلها، ولكل أن يوقر أسلافه، ولا ضير في ذلك على غيره، فلا موضع بينهم للعداوة والشحناء من أجل العبادة والمعبودات.
ولا يفهم الصيني من إيمانه بالمسيحية أو البوذية أو الإسلام أنه مرق من دين آبائه وأجداده، فإنه ليحافظ على قداستهم بعد إيمانه بتلك الأديان، ولا مانع عنده من التردد على هياكلهم والصلاة أمام أضرحتهم في المواسم العامة أو الخاصة، ولهذا ذهب سن ياتسن إلى ضريح أسرة «منج» ليؤدي صلاة الشكر، ويؤكد عهد الولاء بين يديه، وهكذا كان يفعل الصينيون الذين دانوا بالمسيحية على أيدي المرسلين اليسوعيين في القرن الثامن عشر، فقد رخص لهم أولئك المرسلون في أداء فرائضهم البيتية وفي تسمية الله باسم السماء باللغة الصينية، ولبثوا على ذلك حتى نمى إلى كنيسة روما أن القساوسة يقبلون شعائر الوثنية، فحرمت عليهم قبولها في كنائسهم ومحافلهم، ولكن المسيحيين الصينيين لم يتحولوا عن دينهم ولم يزل منهم من يرتضي الدين الجديد على أنه طريق من طرق شتى إلى الصلاح والاستقامة، وشعارهم في هذا شعار البدوي الذي قال:
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنما
كلا جانبي هرشي لهن طريق
كان هذا شأنهم في كل زمن، وكان هذا شأنهم يوم رحل ابن بطوطة إلى بلادهم وروى ما روى عن كاهن منهم أو ساحر «يذكر النبي
Неизвестная страница