20
حياة آخر الليل حادة اللذة، ولكنها لا تدوم فضلا عن فداحة ثمنها، وللأريزونا جمال خاص عند منتصف الليل، فالرقص يدور مع حسناوات من أمم شتى، والشراب ممزوج بندى الفجر، ثم إنك تستطيع أن تقتنع بالكذب، وفي الحديقة الخلفية لا يوجد إلا العشق والعشاق وضوء القمر أو ضوء النجوم، النقود لا قيمة لها البتة والعواطف تهرق بلا حساب، وقال إنه لا جديد في الصورة، غير أنه يمارس أكاذيبه في الحياة اليومية في جو شديد الجفاف، أما هنا فهي تمزج مع الأغاني في جو من الطرب، وسلوى قد عرفت التفاهة ولكنها لم تعرف الطرب، وخطر له أن يسأل صديقته الإيطالية في الحديقة: أنت طوفت بلادا كثيرة، فما رأيك في الناس؟
وكانت متعة الحواس الخمس، فأجابت: أنا ألقاهم عادة عندما يكون السرور مطلبهم، فهم طيبون جدا. - ولكن ذلك كله كذب! - في الأقل فهم يرغبون في بصدق. - مجرد انفعال عابر. - وهكذا كل شيء!
فضحك، وتردد قليلا، ثم قال: ولكن حتى هذا الانفعال العابر لا تجدينه في نفسك.
فقالت في دعابة: إذن فأنت لا تصدق أنني أحبك؟
فسألها باهتمام: كيف لم يتأت لمثلك أن تنعم بالاستقرار؟
فغنت أغنية إيطالية، ومرت به لحظة تأثر بجمالها فحزن لامتهانه، ولكنه قال إن قيما ثمينة غير الجمال تلقى نفس المصير؛ كالحرية والآدمية وحتى الدين، يتاجر به أناس بلا حياء، وإنها في الحقيقة مأساة واحدة، وهو نفسه وقع في نفس العبث في ماضيه، فهضم ألوانا من الفساد وشارك فيه، ولا يزال رصيده في البنك شاهدا على ذلك، فلم لا يسود النقاء؟ وما الذي حال دون ذلك طوال القرون؟ وهل يوجد في مكان ما من الأرض إنسان يعيش بلا خوف ولا رذائل؟
وجعل يتسلى بتعقب الفتيات في شوارع القاهرة، وبخاصة الصغيرات منهن، كأن قوة تدفعه إلى منابع السذاجة، ولكنها لم تكن إلا رحلات عابثة غامضة وبلا نتائج، وكلما اشتدت العواصف السياسية وأطاحت بمعنى أو برجل من ماضيه ترنح من هول الصدمة، حتى تمنى يوما لو كان للمصريين - كما لغيرهم - جالية في أمريكا الجنوبية ليهاجر إليها. وقال ساخطا: إن المصريين زواحف لا طيور، وراوده حلم بتغيير جذري في حياته، ولكنه لم يكن يفعل سوى العبث، وقد شكا إلى صديقه سمير عبد الباقي، فقال له: أين شراعك؟ .. أنت زورق بلا شراع!
وعند الرابعة من مساء يوم، جاء سمسار الوايلية وهو يقول: بعضهم يرغب في مشاهدة البيت.
ودخلت سيدتان؛ عجوز في السبعين وابنتها - من الشبه بينهما استنتج ذلك - في الأربعين أو دون ذلك بقليل، تقدمهما من حجرة إلى حجرة وهو يجيب على أسئلتهما، وكانت العجوز نحيلة، بيضاء البشرة، رمادية العينين، ذات جفون ثقال ونظرة تدل على الخبرة والثقة بالنفس، أما ابنتها فمتوسطة الطول، ممتلئة الجسم والوجه، ولها عينا بقرة وهدوءها، وقد لاحظ دهشتهما من التناقض الواضح بين قدم البيت وفخامة الأثاث وعصريته، فضايقه ذلك، وأهاج إحساسه الراسخ بالمطاردة. وبعد أن ألقيا نظرة على الحوش الكبير دعاهما إلى الجلوس في حجرة الاستقبال وقدم لهما القهوة، وشهد المجلس السمسار بجلبابه الأبيض، ورأسه العاري، وهو يتفحص الجميع بعينيه الضيقتين ويقول: البيت عبارة عن مساحة كبيرة تصلح لإقامة عمارة على ناصيتين، ميدان الكومي وشارع الجلال بحرية غربية، موقع نادر المثال، والحي فيما حوله يتجدد بسرعة كما رأيتما، فخمس عمارات جديدة تشيد في وقت واحد، وهو ما يزيد من قيمته.
Неизвестная страница