ثم وهو ينذرها بسبابته: لا تريني وجهك، من الآن وإلى الأبد!
فتوسلت إليه قائلة: لم تضع الفرصة، ولكن كن أحسن من ذلك.
فقال بإصرار جهنمي: الآن ... الآن أنا فاهمك، ولكن الآن وإلى الأبد.
17
اشتدت وطأة الوحدة عليه فلم يعد يتحمل الرجوع إلى الشقة إلا آخر الليل، ولكن خوفه من البنت فاق جميع عذاباته، وجعل يتساءل؛ ترى هل تتخذ الخطوات التي تقذف به إلى صميم الفضيحة العلنية؟ هل يقف قريبا موقف الذل أمام النيابة؟ كما سيحلو التشهير به عند الصحف! وكم سيكون ذلك فرصة طيبة للتشهير بالآخرين وبعهد بأكمله! وطوقه القلق في وحدته كالبعوض في مستنقع، ولكن تتابعت الأيام دون أن يتحقق شيء من مخاوفه أو يجيئه من البنت تعب، وثمة أسباب كثيرة أقنعته بوجوب العودة إلى القاهرة ولكنه تشبث بالبقاء في الإسكندرية بلا سبب معقول، وكلما اطمأن من ناحية البنت زاد تشبثه بعذابه، ولم تعد العواطف تزعجه بقدر ما تفتنه، والوحدة تغازله بسحر غامض قاتل، أما جو الأجانب ذو العبير الغريب ففجر في نفسه أحلاما بالهجرة الأبدية إلى قمم الجبال المنقوشة بالمراعي الخضر حيث ينقضي العمر بعيدا عن الكدر، وأحب ميدان الرمل حبا جما، فهو مسرح دائم لحاملات الأناقة والشعور الذهبية الملفعات بمعاطف المطر، وكلما جاء ترام انطلقت أسراب الحسن تبهج الخاطر وتسكر اللب وتعزف بسيقانها مختلف الألحان، ورآه ضابط بوليس وهو يحملق في حسناء ويهم بمتابعتها فالتقت عيناهما وابتسم الضابط، فتراجع عيسى من فوره وهو يتفكر ما كان له من رهبة في نفوس جميع الرتب من ضباط البوليس، واتخذ وراء الزجاج مجلسا في «على كيفك» المشرف على الميدان، وتيار البشر يتلاطم بلا انقطاع فيعيش فيه ما شاء بلا ملل، الماضي المشحون بالطموح لم يسمح بجلسة كهذه وإن تكن جلسة منبوذ كالزبد الذي يخلفه الموج فوق الساحل حتى يجمعه عمال البلدية، وأين الأعزاء الكبار الذين أجبروا على الاختفاء ومتى تجف الدموع عليهم! واللهو في تلك الأيام لم يؤخذ إلا خطفا وبلا تذوق ودون علاقة إنسانية حقيقية، وعندما أذن الزمان بإنشاء علاقة إنسانية هب الإعصار فاجتاح كل قائم، وها هو الجو يكفهر وتبتلع قوة مجهولة الضياء وتتكدس السحب فيلوح الآدميون المولون كالأطياف. يا إسكندرية الشتاء المتقلبة كامرأة! وهب الهواء عنيفا كأنباء السوء فحبكت الأيدي البضة المعاطف، وأغلق باعة الصحف معارضهم وأمسى الاحتماء بزجاج «على كيفك» واحتساء الشاي الساخن نعمة النعم، وجعجع الرعد فشرد القلب وهطل المطر بقوة ورشاقة حتى وثق ما بين السماء والأرض بأسلاك مكهربة، وخلا الميدان وتكتل البشر تحت مظلات الأسمنت فبعث منظر تلاصقهم الدفء فارتاحت نفسه وطابت.
وسمع نحنحة خفيفة فالتفت إلى يساره فرأى ريري مستقرة على كرسي لا يفصلها عنه سوى ترابيزة واحدة! حول رأسه إلى الميدان بسرعة ولكنه لم يعد يرى إلا صورتها في المعطف البرتقالي القديم في مزيج من أفكاره المضطربة، لقد التقت العينان لحظة قصيرة جدا ولكنها مليئة بتعبير مأساوي باسم، أهي تتبعه عن قصد أم رماه بها التسكع وحده؟! وهل تنتهي الجلسة بسلام أو تنفجر في ذروة من الفضيحة؟ وهل تخلصت من الشيء أو ما زالت مصرة على الاحتفاظ به؟ وقرر أن يغادر المكان، لكنه انتبه إلى الميدان فرأى العاصفة تتمادى في هياجها وسلم بأنه سيظل حبيسا داخل المحل على رغمه، وقرر أيضا أن يغادر الإسكندرية في أول فرصة، غدا لو أمكن، ثم تظاهر باللامبالاة وأسند خده إلى قبضته كالمتأمل الحالم! وخطر له خاطر سيئ جدا، وهو أن حضورها ما هو إلا جزء من خطة متفق عليها مع البوليس للقبض عليه، وأنه آن له أن ينضم إلى ركب أبناء جيله البارزين الذين يقذف بهم تباعا خارج الأسوار، وقد يسوق ذلك إلى ما هو أدهى، إذ إنه لا شك في أنهم مطلعون على رصيده في البنك وأنهم قد يطلقون عليه هذا السؤال: «من أين لك هذا؟» في أي لحظة، وما يدري إلا والبنت تجلس إلى ترابيزته وهي تقول: قلت أدعو نفسي ما دام لا يريد أن يدعوني!
حدجها بنظرة جامدة تخفي وراءها ذعره ولم ينبس، فقالت: لا تزعل، سنجلس معا بعض الوقت كما يليق بالأصدقاء القدامى.
وقال لنفسه هذه هي الخطوة الأولى في المكيدة، ولعل المتآمرين الآخرين يترقبون، وصمم على الدفاع عن نفسه حتى الموت، فقال بصوت يسمعه القريبون منهما: عم تتحدثين؟ .. أنا لا أفهم شيئا!
فأخذت بتجاهله وانطفأت المداعبة في عينيها وتمتمت: أنت تقول هذا!
فبسط يسراه متظاهرا بالحيرة، فقالت بتعجب: إذن فأنت لا تعرفني! - أنا آسف جدا، لعلك أخطأت في الشبه!
Неизвестная страница