يوم الخطبة في قصر علي بك سليمان بهليوبوليس يوم يستحق الذكر، لم يكن ثمة فاصل حقيقي بين الجنسين، فقد احتلا بهوين متصلين بمدخل مشترك يعد في ذاته تحفة زخرفية، وأم عيسى وسلفتها أم حسن جلستا بين المدعوات في البهو الأحمر، وجلس في البهو الأخضر - بين المدعوين من الأهل والأقارب - أصدقاء عيسى الحميمون سمير عبد الباقي وعباس صديق وإبراهيم خيرت وابن عمه حسن، على حين استقبل البهو الكبير المتصل بالمدخل كبار المدعوين من أصدقاء علي بك سليمان وجملتهم من رجال السراي أو من رجال القضاء، كذلك معارف عيسى من رجال الحزب، وانكمشت أم عيسى وسلفتها تحت غمرة الأنوار الساطعة. فهذه الدنيا لا ينتميان إليها بسبب. ورغم الفستان النفيس التي تزينت به أم عيسى، ورغم وقار الشيخوخة، ورغم ضعف الحواس، وبخاصة البصر والسمع الذي أوهن انفعالها بالجو، رغم ذلك كله فقد لاذت بالانطواء ولم تحاول في مجلسها أن تمارس أي مظهر خليق بأم العريس، وعنيت سوسن هانم حرم علي بك بمؤانستها عناية خاصة لتذهب عنها الوحشة؛ فهي تحبها من قديم أو مذ كانت عروسا لعلي بك سليمان، وحبها للعجوز كان ضمن الأسباب التي جعلتها توافق على قبول عيسى، وسوسن هانم في أواسط الحلقة الخامسة ولكن لم يبق من جمالها إلا مسحة بسبب مرض الكبد المزمن وسوء حالة الكلية، ولكن طولها وعرضها وبهاءها الفطري أورثتها مزايا باهرة لا تبيد، وجعلت تقول لأم عيسى في لطف بديع: لا تنسي أنك في بيتك.
وهجم حسن على أصدقاء عيسى في مناقشة سياسية رغم معرفته البسيطة بهم. وتابعه عيسى من بعيد بعض الوقت وكان يظن أنه سيحجم عن شهود الحفل، فعجب لشأنه واقتنع بأنه يستطيع أن يتحدى الزمن نفسه إذا أراد، ولكن عيسى لم يستقر بمكان.
وخص مدعويه من الحزب بأخص مجاملاته، ولم يكن الجو في البهو الكبير يخلو من حرج، فقد واجه رجال الحزب رجال السراي، ومع أن البعض ربطت بينهم مودات قديمة إلا أن الأغلبية من الطرفين تجاهلت بعضها البعض، ولعب علي بك سليمان دوره بكل لباقة، ورحب بالجميع على قدم المساواة، رغم أنه هو نفسه من رجال السراي، كان محاميا وسطا حتى رشحته السراي لوظيفة مستشار في إحدى الحركات القضائية، ولم يعرف بلون حزبي ثابت، ولكنه اكتسى بشتى الألوان كقوس قزح، ثم انضم إلى حزب الاتحاد في الوقت المناسب، وسار في الركب الملكي حتى اعتلى أسمى مركز في القضاء، ومع أنه يقترب من الستين إلا أنه يتمتع بصحة وحيوية نادرتين. طويل القامة في استقامة رياضية بديعة، وعيناه السوداوان تحت حاجبيه الغزيرين الأسودين يهبانه جاذبية لا تقاوم، ودعم حياته في مطلعها بمصاهرة آل همت - أسرة سوسن هانم - فمد رقعة أرضه وأصل الأرستقراطية في ذريته، وراح يضحك ويداعب مدعويه جميعا قائلا: من تفرقهم السياسة فلتجمعهم الأفراح!
وهمس شكري باشا عبد الحليم في أذن عيسى: ألا ترى أن قريبك يعترف في دعابته بأن رجال الملك - والملك بالتالي - ليسوا فوق الأحزاب؟!
ومال الشيخ عبد الستار السلهوبي برأسه نحوهما ليسمع الهمس في اللحظة المناسبة، ثم ضحك ضحكة صامتة وهمس بدوره: إذن فلتكن الأحزاب فوق الملك!
ومد بصره في حذر إلى صورة الملك المعلقة بالجدار الأوسط للبهو، فابتسم عيسى قائلا: لا تخف، فإن اللعنات تنصب عليه في المقاهي جهرة.
ولكن مرارة السياسة ذابت في شربات الحفل، عيسى نفسه - وهو مخلوق سياسي قبل كل شيء - أسلم نفسه بكليته إلى لذة الوجدان. ازين كأحسن ما يكون، وتجلى وجهه ذو الهيئة المثلثة في أنقى مظهر، وصفت عيناه المستديرتان، ولم تكن فرحته بمصاهرة المال والجاه لتذكر إلى فرحة قلبه بعروسه، وأمله الصادق في حياة هانئة حقا، وغد مفعم بالمسرات، ومستقبل واعد بمجد حقيقي، وتناسى حريق القاهرة وإقالة الوزارة ونقله إلى المحفوظات، والفتور المحزن الذي اجتاح الحماس الشعبي، والتقاعس الذي طوق الجهات الرسمية نحو الأماني الوطنية والكآبة الدكناء التي خضبت الآفاق رغم انتشاء الحياة بمباهج الربيع. وكان عليه ألا يستقر في مكان أكثر مما يجب، الأمر الذي وافق رأسه المشتت بالانفعال. ومضى إلى سوسن هانم، فتفقدا البوفيه معا وألقيا نظرة أخيرة على صورته المكتملة الزاخرة بالألوان، ثم قصد إلى البهو الأخضر فجلس بين أصدقائه الأعزاء الذين ود لو يبقى بينهم حتى تدعوه اللحظة الحاسمة. وقال إبراهيم خيرت وهو يسدد النظر إلى البهو الأحمر: ما أكثر اللحوم البيضاء وما أجملها!
فتساءل عباس صديق مازحا: هل تقصد الحاجة أم عيسى؟
ونظر عيسى إلى أمه في فستانها النفيس المحتشم فارتاح إلى تفوقها على أم حسن في الوقار رغم وسامة الأخيرة، وشكا عباس صديق إليه حسن قائلا: ابن عمك أعنف من حريق القاهرة!
فضحك حسن طويلا، وعاد عباس يقول له بنبرة الناصح: تزوج أنت أيضا وسوف تقتنع بأن الحزبية ليست أسوأ الأشياء.
Неизвестная страница