Судан
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
Жанры
وقد كان المحاضر يقتبس نبذا من أقوال الأجانب عن الإنكليز قائلا: إن كلامهم أوقع في إيضاح ما ينبغي في الموضوع، واستشهد بما ينسب إلى الإنكليز من أنهم قد يضحكون في الأحوال التي لا تثير الضحك عند غيرهم، وأشار المحاضر إلى عدم وجود المقاهي في إنكلترا، وأن أمكنة الشراب ضيقة النطاق.
وأما الألعاب التي يعد الإنكليز أصحاب القدح المعلى فيها، فقد قال المحاضر: إن نسبة المشتغلين بها من الإنكليز قليلة، فإن كرة القدم التي يلعبها اثنان وعشرون رجلا في الحلبة يكون المتفرجون فيها عشرين ألفا، وإن حب الإنكليز للألعاب ينحصر في دور الدراسة حيث يخصص لها جزء من برنامج التعليم، فإنها تروض الأولاد على النظر إلى الحياة نظرة صالحة وأن يتلقوا الصدمات من دون تذمر.
والإنكليز يتمسكون بمظهر الانسجام: هم - على حريتهم - يحافظون على التقاليد ومصطلحات الحياة، وهم في مدارسهم العامة لا يتخذون رداء معينا، ويعتبرون التقيد بذلك ماسا بحريتهم، ويتركون التلاميذ يرتدون ما يشاؤون، وهذا يؤدي إلى ظهور التلاميذ بشكل واحد وليس عليهم مسيطر إلا الرأي العام، ولا شك في أن الإخلال والخروج عن المألوف يعد جريمة، واللياقة عندهم هي ما يكون خاضعا لما يتطلبه الرأي العام، وكل من يخرج عن هذا المبدأ يعد خارجا.
وانتقل المحاضر بعد ذلك إلى المرأة الإنكليزية قائلا: إن مكانتها عالية في الهيئة الاجتماعية الإنكليزية؛ فإنها ذات نصيب وافر من الثقافة، وهي تعامل بكل احترام وتنتظر كل تقدير وتبجيل من ناحية الرجل. وإن النساء أصبح لهن حق الاشتراك في الانتخابات وعضوية البرلمان ومزاولة صناعتي المحاماة والطب. وكن السابقات إلى الإصلاحات الاجتماعية، وهن صاحبات الفضل في رفع الشكوى لإصلاح مساكن الطبقات الفقيرة والمحال العمومية، وإن الأم الإنكليزية تحب أطفالها، ولكنها لا تفسد طباعهم ولا تحجم عن إرسالهم إلى المدارس الداخلية، وتخفي دوما شعورها إذا فارقتهم، كما أن الولد من جانبه يرى من اللائق عدم إظهار التألم عند الفراق. وإن أبناء الإنكليز يتاح لهم نصيب وافر من الحرية لتكوين جماعات من الأصدقاء والعناية بما يهوون من الرغبات البريئة.
وقد استطرد المحاضر إلى نظام فرق الكشافة قائلا: إنها ترجع إلى فكرة إنكليزية، ثم انتشرت إلى البلدان الأخرى، ولكنها تحولت إلى غير معناها ومقصدها الأصلي؛ فإنه في البلدان الأوربية انقلبت نظاما عسكريا، وهو ما ينبغي أن يتجنبه منظمو هذه الهيئات؛ إذ إن المقصود من هذا النظام هو تكوين خلق النشء وتشجيع حب الطبيعة والهوايات وحب المطالعة وطرق الانتفاع بالأشياء. وقد وصف المحاضر حي الستي في مدينة لندن التي يرحل إليها كل مسافر إلى إنكلترا بأن منطقة هذا الحي مجمع لكل مظاهر النشاط والحياة والعمران، فهو مركز حركة الأعمال العالمية، وفيها البورصة الملكية وبنك إنكلترا.
وإن خصائص الستي أن كل شيء فيها يدل على السرعة، فليس فيها مقاه للجلوس والتدخين ولعب الورق، وهناك ترى قاعدة «الوقت من ذهب» ظاهرة أينما سرت؛ فلا يقف الناس في الطريق لتبادل الحديث، ولا يسيرون لمجرد الرياضة؛ فإن هذا النوع إنما يقضى في البساتين، وليس الطريق إلا وسيلة الانتقال من مكان لآخر؛ إذ التسكع في الطريق جريمة، ورجال الشرطة لا يسمحون لرجل بالوقوف طويلا إذا لحظوا ذلك.
ورجال البوليس مشهود لهم بحسن المعاملة وإرشاد الجمهور إلى ما يرغبون، وهم حجة في تقدير الوقت ويراقبون مرور الأشخاص والمركبات بحذق ومهارة. والإنكليز مشهورون بحبهم للحيوانات، ويرجع ذلك إلى تربيتهم وعلمهم بأن للحيوانات إحساسا كما للإنسان. وليس من عادة الإنكليزي إذا التقى بآخر أن يرفع قبعته للتسليم، وإنما يكتفي بإيماءة برأسه، وإذا وقفا فلا يسلمان باليد، ويلاحظ أن الإنكليز إذا وجد اثنان أو ثلاثة منهم أمام باب، فلا يحاول أحدهم دعوة الآخرين للدخول بل المتبع في ذلك لديهم أن «الوقت من ذهب»، وأن أقربهم من الباب يدخل الباب أولا - وأما المتنزهات فإنها مفتوحة لجميع الناس وليس بها إعلانات بمنع السير على العشب.
ويزدحم الناس صباحا أيام الآحاد في هذه المتنزهات فيجلسون على كراسي موزعة في أنحاء كل متنزه، ويدفع الزائر بنسين عن تذكرة لاستعمال كرسي، وهذه التذكرة تخول استعمال كراسي جميع المتنزهات طيلة اليوم، وتمتاز هذه المتنزهات بمن يجتمع فيها من خطباء الجمهور في أماكن مختلفة من دون أن يعترض للخطيب أو السامعين أحد ما داموا محافظين على النظام. أما مواعيد المحال العامة فهي محددة حسب الأصناف التي تباع فيها. وقد قال المحاضر في نهاية شرحه بأن الديموقراطية تتمثل في بلاد الإنكليز وأن الخدمة العسكرية ليست إلزامية.
وقد طلب إلى السامعين أن يحاولوا الوقوف على مزاج وطبيعة الإنكليزي بأن يتصلوا به وأن يعلموا أنه شخص يحب الصراحة في كلامه ويكره المراوغة والدوران في المعاملة، وأشار إلى وجوب إزالة أسباب سوء التفاهم كلها والعمل على إزالة التنافر؛ إذ المعلوم أنه ليس من أمة إلا وفيها أخطاء، وأن أخطاء الإنكليز تعود إلى أنهم أمة تعيش في جزائر بعيدة عن المؤثرات التي تقع على سكان القارات الأخرى، وهم لذلك ليسوا مستعدين لسرعة الارتباط بأسباب الصداقة بالغير.
وقال المحاضر - وهو أستاذ إنكليزي: إننا نخلص لمن تتوثق الصداقة بيننا وبينه، واستشهد بأبيات لشاعر الإنكليز شاكسبير تحض على التعارف واجتناب الغلظة بالأصدقاء، والحذر من كل قادم، واجتناب المشاكل، والإصغاء إلى كل ما يقال، والإقلال من الكلام، والتحفظ في الحكم على الأشياء. وقال المحاضر: إن هذه الأبيات تدل على كثير من نواحي الخلق الإنكليزي، وقد شكر الحاضرين لحسن إصغائهم لكلامه، وطلب منهم اعتبار صراحته في الكلام دليلا على حسن قدره لهم، وأعرب عن أمله في أن يكون اطراد حسن التفاهم مؤديا إلى تقوية عناصر المودة والصداقة.
Неизвестная страница