وأعطاني الخواجة المبلغ المطلوب فتهيأت للسفر بعد أن قطعت الثياب الرسمية اللازمة، وفي موعد الذهاب مررت في عربتي على محل معلمي وأنا لابس طقم الوزارة ومعي الياور، فما أبصرني خالد حتى هجم علي بالمكنسة صائحا: ولاه يا فرنكو عامل كراكوز في البلد! ولو لم يتدخل معلمي كان كسر رأسي ومزق طقمي المقصب.»
وختم فرنكو قصته هذه بقوله: «هذا هو العلم يا أولادي، ومن يدرينا أنه ليس بينكم من هو مثل فرنكو؟ لا أحد يعلم ما يصير، وما علينا إلا أن نعمل، فتعلموا لتعملوا.»
يتحير الواحد منا في سيرورة هذا الكون إذ يرى الناهضين من الحضيض، ولكن ليس هناك ما يحير، فمن يسع ليجد ذاته ينجح متى وجدها، وهنا سر الفلاح كله، فلنفتش عنها.
الأدب الحق
لا يعني الأديب محترف الإنشاء، فالعرب حين قالوا: «أدركته حرفة الأدب» لم يفهموا الحرفة بالمعنى السوقي، يقصدون ب «أدركته حرفة الأدب» أن الأديب هو العاجز عن النضال في حرب المعاش، انحصر فكره في بؤرة واحدة فأصبح من أدبه كذوي الفكرة الثابتة؛ ولهذا يقول شكسبير: «حبر الكاتب كدم الشهيد.»
يناضل الأديب، ولكن في غير سبيل الرغيف، ولا بد لكل قضية كبرى مهما سمت وتنزهت من أدباء يناصرونها لتتوطد دعائمها، أما رأوا محمدا رسول الله كان يدعو لشاعر الرسالة حسان بن ثابت بقوله: «اللهم أيده بروح القدس؟» ثم يقول له: «شن الغارة على عبد مناف، فوالله لشعرك أشد عليهم من وقع السهام في حلك الظلام!»
وإذا فتشنا عن العنصر الأدبي في جميع ما أسعد الإنسان من تعاليم، رأينا سحر البيان - وهو أقوى عناصر الأدب - من دعائم الرسالات الكبرى، إن الله - تقدس اسمه - لم يكلف برسالته في كل دور إلا أفصح خلقه، فالسيف والمدفع لا يؤديان رسالة السلام والاطمئنان، فما لهذه الرسالة غير الأديب يحملها على أجنحة خياله، ويطير بالنفوس معها، فهل أراني مخطئا إذا حددت الإنسان تحديدا جديدا وقلت: «الإنسان فصيح فنان؟» فالإنسان لا يقاد طائعا راضيا إلا بسحر البيان والفن.
وحب الوطن من يعلمه غير الأديب؟ تنقشه أقلام الأدباء في الصدور كما يدق الوشم في اليد فلا يمحي إلا باندثار الجسد، إنه يستحيل نفوسا تسيل على حد السيوف، وقوى غريبة عجيبة تقاوم الدبابات ولا تخشى قنابل الطائرات. إن حب الوطن الذي يصور جماله الأديب يمسي حقيقة ثابتة في ذهن كل مواطن، حتى يستحيل هذا المواطن جنديا مدربا في ثكنة الأديب يلبس درعه وسيفه، وما هما غير الإيمان ببقعة من الأرض خلع عليها قلم الأديب رائع السحر والجمال.
فالوطنية من عمل الأديب يغرسها كالنخلة ليجني رطبها وثمرها غيره، زرعوا وأكلنا ونزرع ويأكلون، هذا هو نهج الأديب، يعلم أنه لا يجني ثمرة ما يزرع، ولكنه يزرع ولا يبالي بشقائه؛ لأنه خلق للإنشاء والإبداع، ومن يستطيع أن يمحو ما خط في لوح القدر؟
إن مخيلة الأديب في حلم دائم، والعالم يعبر تلك الأحلام ويحققها، فمخيلة الأديب تحبل وتلد، ورجال العلم يلتقطون المولود، يحلم الأديب الملهم بتجميل الحياة وإسعاد الناس، والجبابرة يصيرون تلك الأحلام يقظة قاسية.
Неизвестная страница