وهكذا تمكن هؤلاء الذين طالما أشادوا بفضائل الستالينية في الماضي من إصدار الحكم ضد أخطائها وزيفها بنفس القوة، يساعدهم في ذلك تلك المقدرة العجيبة على النسيان.
والواقع أنه سيكون للمؤتمر الشيوعي العشرين نفس الأهمية التاريخية التي كانت للمؤتمرات الدينية الكبرى في تاريخ المسيحية عندما كان يجتمع أقطابها لاتخاذ قرار ما يمس العقائد الدينية، إلا أن الذين اشتركوا في المؤتمر الشيوعي ممن لا يؤمنون بالدين، ولم يسمح بالدخول إلى المؤتمر إلا لأعضائه الذين بلغ عددهم 1645 عضوا، ولبعض «المراقبين» الشيوعيين المخلصين الذين وفدوا من دول أخرى مثل: توريز الفرنسي، وشوتين الصيني، وراكوزي المجري، وبيروت البولندي.
وهؤلاء الأعضاء ال 1645 يمثلون سبعة ملايين روسي، أي: نحو 5٪ من مجموع سكان الاتحاد السوفييتي، ممن يحملون بطاقة عضوية الحزب الشيوعي؛ إنهم خلاصة الشعب الروسي، وهم يواجهون القرارات الحاسمة في المؤتمرات، وعليهم أن يصدروا تأييدهم للرئاسة وهي تدلي إليهم بهذه القرارات.
لقد وفد ال 1645 عضوا من جميع جمهوريات الاتحاد السوفييتي إلى موسكو، وكان من بينهم بعض المتقدمين في السن ممن يذكرون البطولة في عهد لينين، عندما كان المؤتمر يعقد تلو المؤتمر، وكانت هذه المؤتمرات مسرحا للنضال بين أقطاب المذهب الشيوعي وعلمائه وفلاسفته من أمثال: تروتسكي وبوخارين وزينوفييف، وكانت تتخلل النضال السخرية والخطب المختلف وسط الدخان المتكاثف المتصاعد من «البيب» ولفائف التبغ.
إلا أن العدد الأكبر من الأعضاء ممن يقل سنهم عن الثلاثين لم يشهدوا إلا المؤتمرات التي عقدت بين عامي 1939 و1952، وهي المؤتمرات التي كان يرأسها «بوذا» الشيوعية، فيتربع بين كهنته على منصة الرئاسة وسط مظاهر العظمة والأبهة والقوة والتمجيد، وإنهم ليذكرون آخر اجتماع لهم في نفس النظام، وفي ظلال نفس الأنوار الساطعة المنبعثة من نفس «النجف»، وفي نفس قاعة العرش ... فلقد كان ذلك في يوم 5 أكتوبر من عام 1952 عندما شهدوا الزعماء يدخلون بنفس النظام الدقيق واحدا تلو الآخر، فرأوا ستالين يتبعه مولوتوف، ثم مالنكوف، ثم فورشيلوف، ثم بولجانين، ثم بيريا، ثم كاجانوفيتش، ثم خروشيشيف، ثم أندرييف، ثم ميكويان، ثم كوسيجوين، هؤلاء هم الآلهة الذين يعتلون منصة الرئاسة، وقام الأعضاء عندما دخل الآلهة، ثم صفقوا لهم، ثم عادوا فجلسوا.
ولكن أعضاء المؤتمر العشرين ال 1645 دخلوا القاعة في عام 1956، ثم استقروا في أماكنهم، وروت «برافدا» أنه ما كاد يظهر خروشيشيف بصلعته اللامعة، وقامته المديدة، وما كادت أيديهم تتحرك بالتصفيق، وما كاد التصفيق الذي لا نهاية له يصل إلى أذنه حتى صاح خروشيشيف: لماذا تقفون؟ ماذا تظنون؟ هنا ... كلنا سواء! وأنتم مثلنا تماما!
بعد هذا المؤتمر كان في وسع الأعضاء بعد انصرافهم من القاعة وقبل اجتياز أسوار الكرملين العالية أن ينظروا إلى نافذة قاعة مكتب ستالين المغلقة نظرة عادية، وقد وضع من يشاء منهم يده في جيبه، في حين أنه في الاجتماعات الماضية لم يكن الواحد منهم يجرؤ على أن يتطلع بنظره إلى هذه النافذة؛ سواء كانت مغلقة أم مفتوحة. •••
واستغرق خطاب خروشيشيف التاريخي سبع ساعات، استعرض فيها مخازي العهد «الستاليني» ببلاغة أبناء الفولجا. ومحا خروشيشيف أو حاول أن يمحو صورة ستالين، كما رسم مكانها أو حاول أن يرسم صورة من شبح لينين نبي الشيوعية وأستاذها الأول، وإلى جانبه «رفيقة» حياته ناديجدا كروبسكايا وهي تعيش إلى جانبه في الغرف الصغيرة في لندن وميونيخ وزيوريخ وجنيف.
وأخيرا عندما خرج الأعضاء من المؤتمر في مساء الثلاثاء 14 فبراير 1956، خيل إليهم أنهم قلبوا صفحات من تاريخ كانوا يجهلونه، وكانت هناك عواطف مختلفة متضاربة في صدورهم؛ فإن خروشيشيف كان قد زجرهم في عدة مواضع من الخطاب؛ إذ قال مرة: إنني لا أريد أن أراكم من أجل كلمة نعم أو لا، تنتقلون في السيارات الرسمية، وكفاكم استغلالا للسائقين، اعملوا مثلي وتعلموا القيادة!
ثم نزع منظاره ذي الإطار الحديدي عن عينيه، وألقى عليهم نظرة مرحة وقال: ما لي لا أراكم تصفقون لي هذه المرة؟! •••
Неизвестная страница