43
وفي هذه الحالة تكون الأشياء الفردية هي علة بعضها البعض، وكلما حاولنا التوقف عند العلية الإلهية محاولين أن نهتدي إليها خالصة، وجدناها بالفعل متأثرة بفكرة شيء فردي آخر، ويظل هذا التأثر ساريا إلى ما لا نهاية. وبعبارة أخرى: فإذا جاز لنا أن نتحدث عن فاعلية إلهية في الأشياء الجزئية. فلا بد أن يكون ذلك من خلال أشياء جزئية أخرى. وهذا يؤدي في الواقع إلى الاستغناء تماما عن العلية الإلهية والاكتفاء بتأثير الأشياء الفردية بعضها في البعض. (4) «التشخيص والتشبيه بالإنسان»: ليس هذا وصفا جديدا من الأوصاف التي يستبعدها اسپينوزا من فهمه لفكرة الله، وإنما هو في رأيه خلاصة كل الأوهام والأفكار الباطلة التي لصقت بأذهان الناس عن هذه الفكرة، وهو منشأ كل الأخطاء التي ارتكبها رجال اللاهوت. فأصل البلاء كله، والعلة الأصلية لكل ما دار بأذهان الناس من أوهام في هذا الصدد، هو كما أكد اسپينوزا في تذييل الباب الأول من الأخلاق، نزوع الناس إلى تشبيه الله بالإنسان، أو تصوره على مثال الإنسان؛ فهو أصل الاعتقاد بالمشيئة الحرة؛ إذ يجد الناس في حكامهم، ولا سيما المستبدين منهم، نزوعا إلى السلوك بلا قاعدة ولا قانون، وإلى التصرف في كل شيء حسبما يشاءون، فيصورون آلهتهم على هذا النحو ذاته. وحين يحكم الإنسان على بعض الظواهر بأنها خير لأنها أفادته هو ذاته على نحو ما، يتصور أن الطبيعة في مجموعها تستهدف مثل هذا الخير، وأنها تسير في طريق أريد منه أن يخدم الإنسان دون سواه. وحين يمارس الإنسان فاعليته على أشياء معينة، ويحدث باستخدام المادة الطبيعية، أشياء لم يكن لها وجود، يتصور أن الكون كله قد حدث أو خلق بعد أن لم يكن له وجود، وأنه يحتاج إلى فاعل مثلما يحتاج نتاج الإنسان إلى صانع. وهكذا ترتد كل الأخطاء العقلية التي يقع فيها الناس في هذا الصدد، إلى خطأ واحد أصيل، هو وصف الأشياء على مثال صورة الإنسان، وتفسيرها وفقا لغايات الإنسان وأغراضه الخاصة.
ويسخر اسپينوزا من هذا الاتجاه إلى التشبيه بالإنسان في الرسالة رقم 54 فيقول: «في اعتقادي أن المثلث لو وهب ملكة الكلام، لقال إن الله مثلث في المحل الأول، ولو وهبت الدائرة هذه الملكة لقالت إن طبيعة الله دائرية قبل كل شيء، وكذلك يقول أي كائن إن الله يتصف بصفاته هو، ويجعل الله شبيها به، بينما تعد كل طريقة أخرى في الوجود قبيحة في نظره.»
والنظرة الصحيحة إلى العالم هي تلك النظرة التي خلت تماما من كل إشارة إلى العلل الغائية؛ فالظواهر لا تحدث «لكي» تحقق غرضا ما (هو دائما غرض بشري في نظر الإنسان)، والطبيعة لا تستهدف إرضاء الإنسان، كما أنها في الوقت ذاته لا تتعمد إغضابه، وإنما هي تسير في مجراها الضروري، الذي يستطيع كل كائن أن يفسره على هواه، ولكنه من وجهة نظر العقل لا يقبل تفسيرا إلا من خلال فكرة الضرورة فحسب. «إن الطبيعة لا تسلك مستهدفة غاية ما؛ إذ إن الكائن الأولي اللامتناهي، الذي نسميه الله أو الطبيعة، يسلك بنفس الضرورة التي يوجد بها ... وليس لوجوده ولفعله أصل ولا غاية ... وعلى ذلك فالعلة التي تسمى غائية ليست إلا الرغبة البشرية بقدر ما تعد أصلا أو علة لأي شيء.»
44
أما تذييل الباب الأول من «الأخلاق»، الذي أشرنا إليه من قبل، فإنه يتضمن صفحات تعد من أقوى وأعنف الانتقادات التي وجهت إلى فكرة العلل الغائية وإلى كل محاولة لتشبيه الآلهة بالإنسان. ولا بد أن تسيطر على ذهن من يقرأ هذا التذييل بإمعان فكرة لا مفر منها، هي أن كاتب هذا الكلام، ولا سيما في العصر الذي عاش فيه اسپينوزا، لا يمكن أن يكون في قرارة نفسه معترفا بأي إله سائد في عصره، أو بأي إله مشخص، ينظر إليه على أنه قوة منفصلة عن العالم أو مسيطرة عليه (ولست أدري هل يتبقى من الفكرة بعد ذلك شيء؟) ففي هذا التحليل التشريحي الصارم لأوهام الناس وأخطائهم الشائعة، وهي أوهام وأخطاء لم تسلم منها، في واقع الأمر، كل المذاهب الدينية والفلسفية السائدة في عصر اسپينوزا والعصور السابقة عليه، يستحيل أن يكون هناك مكان لما يعلو على الطبيعة، أو ينفصل عنها على أي نحو، ولا يمكن أن تكون هناك حقيقة سوى الطبيعة الشاملة أو النظام الكلي للأشياء. ويكفي هذا التذييل وحده لإقناع الذهن بأن كل تفسير لاسپينوزا من خلال أي مفهوم لاهوتي تقليدي، لا بد أن يتنافر تنافرا شديدا مع الروح التحليلية الصارمة التي تسود هذا التذييل.
ونستطيع أن نقول إن اسپينوزا حين انتقد النظرة التشبيهية إلى فكرة الله، لم يكن ينتقد فقط أولئك الذين يصورون الآلهة بصورة إنسانية مباشرة، ويجعلون لها جسما ويدين، ويتخيلونها غاضبة غيورة منتقمة. فمعنى التشبيه الذي يحمل عليه يتسع إلى أبعد من ذلك بكثير، ويمتد إلى ميادين عديدة ينزلق فيها الذهن إلى فكرة التشبيه دون أن يشعر. وكما قلنا من قبل، فنسبة أية قيمة بشرية، كالخير، إلى فكرة الله، فيها تشبيه بالإنسان وغائية ينبغي ألا تسري على نظام الكون في مجموعه؛ لأن الكون لم يصنع من أجل الإنسان، ولا من أجل أي كائن، ولا في سبيل أية غاية من تلك الغايات التي نضعها، نحن البشر، لحياتنا، وبنفس هذا المنطق يمكن القول إن أي نوع من التفاهم أو الاتصال أو التقارب بين المبدأ الإلهي وبين الإنسان فيه تشبيه. وهكذا يحتم تفكير اسپينوزا على المرء، إذا شاء أن يكون متسقا مع نفسه، أن يصف كل ما يتصل بالمجال الإلهي بأنه لا شأن له بالإنسان (لا بمعنى أنه مضاد للإنسان، أو يتعمد عدم الاكتراث به، وإنما بمعنى أن الضرورة السائدة فيه لا تستهدف إرضاء الإنسان ولا إغضابه، بل تسير في طريقها الحتمي فحسب)، فمجال القوانين الإلهية لا صلة لها بغاياتنا، بل إن أمانينا وقيمنا تنحصر في عالمنا الجزئي الخاص، ولا يكون لها معنى إلا في داخله، ولا تعني شيئا إلا في ذلك المجال، «فالتعقل، والإرادة، إذا كانت تؤلف الماهية الإلهية، ينبغي أن تكون بعيدة عن التعقل والإرادة لدى البشر بعد القطب عن القطب، بل لا يكون بين الاثنين من عنصر مشترك، في الواقع، إلا الاسم، ولا يكون بين الاثنين من مطابقة إلا ما يوجد بين مجرة «الكلب» السماوية وبين الكلب الذي هو حيوان ينبح.»
45
ولست أدري بأي معنى يمكن أن تفهم فكرة الألوهية في هذا السياق، غير معنى النظام الكلي للأشياء أو الطبيعة في مجموعها. وليحاول أي شخص أن يتخيل ماذا يتبقى من المفهوم التقليدي لهذه الفكرة بعد حذف كل هذه الأوصاف، وليذكر بعد ذلك أن اسپينوزا طالما وضع كلمتي الله والطبيعة على أنهما تشيران إلى حقيقة واحدة، ثم ليتساءل: أليس هذا واضح الدلالة على أن لفظ
Deus
Неизвестная страница