34
يستبق به اسپينوزا فكرة تداعي المعاني عند هيوم، فيقول: «إذا ما تأثر الجسم البشري ذات مرة بجسمين أو أكثر في آن واحد، فإن ذهنه عندما يتخيل أيا منهما فيما بعد، يتذكر الآخر بدوره على التو.»
35
وفي ملحوظة القضية ذاتها يقول: «والآن ندرك بوضوح ما هي الذاكرة؛ فما هي إلا ترابط معين للأفكار يتعلق بطبيعة الأشياء الخارجة على الجسم البشري، وهو ترابط ينشأ في الذهن وفقا لنظام وترابط الأحوال التي تطرأ على الجسم البشري.» بل إن معرفة الذهن لذاته لا تتم إلا من خلال ما يدركه الذهن من الأفكار الخاصة بتغيرات الجسم.
36
ومع ذلك فمن الضروري أن نحذر تفسير هذه الأفكار عند اسپينوزا بأنها تعني أن للجسم تأثيرا مباشرا في الذهن؛ فهذا أبعد ما يكون عما يقصده. إن كل ما يقوله هو أن قدرات الذهن تفسر من خلال قدرات جسمه؛ أي إن الحقيقة الواحدة، التي هي الإنسان، تكون ذا ذهن أوسع قدرة إذا كان جسمها، الذي هو الوجه الآخر للحقيقة نفسها، أقدر على تكوين الانطباعات والاتصال بالعالم المحيط به. ولكنه في الوقت ذاته يحذر بشدة من فهم هذه الآراء على أنها تشير إلى تأثير لأحد الوجهين في الآخر، فيقول: «لا الجسم يستطيع أن يدفع الذهن إلى التفكير، ولا الذهن يستطيع أن يدفع الجسم إلى الحركة أو السكون أو أية حالة تختلف عن هاتين، إن وجدت.»
37
وفي ملحوظة القضية نفسها يحدد موقفه من هذه المسألة بوضوح فيقول: إن التغيرات التي تحدث في الجسم؛ أي حركات الجسم وسكناته، تحدث لأسباب جسمية فحسب، وليس للذهن دور فيها، ويدافع اسپينوزا دفاعا طويلا عن فكرة استحالة تأثير الإرادة الواعية في الأفعال الجسمية، على أساس أننا - كما قلنا من قبل - لا ندرك تماما مدى قدرة الجسم؛ ولذلك ينبغي أن نكف عن الإهابة بأسباب خفية (كالإرادة) لتفسير ما نجهله، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة مسألة حرية الإرادة، التي سنتحدث عنها فيما بعد حديثا مفصلا، ولكن لا مفر هنا من اقتباس رأيه بقدر ما يتصل بموضوع النفس والجسم، «... فالناس يظنون أنفسهم أحرارا، لمجرد كونهم واعين بأفعالهم، وغير واعين بالأسباب المتحكمة في هذه الأفعال ... وهذه الاعتبارات كلها تثبت بوضوح أن الأوامر الذهنية تقترن دائما برغبات جسمية، أو أنهما على الأصح شيء واحد ، نسميه أمرا عندما ننظر إليه ونفسره من خلال صفة الفكر، ونسميه تحددا عندما نتأمله من خلال صفة الامتداد، ونستنبطه من قوانين الحركة والسكون.»
38
وفي رأيي أن فكرة اسپينوزا عن ازدياد قدرة الذهن - وبالتالي قدرة الكائن الحي بأسره - كلما ازدادت الانطباعات الواقعة على جسمه وكلما ازداد اتصاله بالأجسام الأخرى في العالم المحيط به. هذه الفكرة تعبر عن مبدأ علمي وجد أقوى تأكيد له في نظرية التطور في القرن التاسع عشر. فمن اليسير جدا الانتقال من فكرته هذه إلى المبدأ التطوري القائل ببقاء الأنواع الأقدر على «التكيف» مع العالم المحيط بها. والمذهبان معا مذهب اسپينوزا ونظرية التطور - يؤكدان أهمية تعامل الجسم مع العالم الخارجي في ارتقاء الحياة، ويكاد اسپينوزا ذاته يقول: إن الحيوان يحتل مكانة عالية في سلم الأحياء إذا كان أقدر من غيره على الاتصال بالعالم والتعامل معه على شتى الأنحاء؛ أي كلما ازدادت «حكمة جسمه» وكمال تركيبه.
Неизвестная страница