فلنتأمل مثلا تعريفا كهذا: «أعني بمعونة الله، النظام الثابت المحدد للطبيعة، أو سلسلة الحوادث الطبيعية ... بحيث إن القول بأن كل شيء يحدث وفقا لقوانين طبيعية، والقول إن كل شيء يحدث بأمر الله، يعنيان نفس الشيء ... وهكذا فإن كل ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تزود به نفسها بجهودها الخاصة في سبيل حفظ وجودها، يصح أن يطلق عليه اسم العون الإلهي الباطن، بينما أن كل ما يعود على الإنسان بالنفع بفعل أسباب خارجية يمكن أن يسمى بالعون الإلهي الظاهر.»
18
وفي موضع آخر يعرف اسپينوزا الأمر الإلهي، والإرادة والعناية الإلهية، بأنها نظام الطبيعة كما يتلو بالضرورة من قوانينها الأزلية.
19
ويعرف اسپينوزا الطاعة الإلهية بأنها حسن معاملة الناس فحسب، ثم يعرف الإيمان بعد ذلك بأنه «معرفة لله بدونها تستحيل طاعته ويتضمنها فعل الطاعة هذا وحده.»
20
والنتيجة الواضحة هي أن الإيمان يغدو في هذه الحالة معادلا للمعاملة الطيبة للناس فحسب.
في هذه الحالات السابقة - التي يحفل ذلك الكتاب بأمثالها - يستخدم اسپينوزا «طريقة المعادلات»، دون أن يكون قد استخدم المنهج الهندسي صراحة. وهو يضع معادلات غاية في الخطورة، يأتي فيها بألفاظ تقليدية مثل الأمر الإلهي، والمعونة الإلهية، والعناية الإلهية، وبتعريفات جديدة تتفق تماما مع الروح العلمية ومع المعقولية. وهو يمضي بعد ذلك في استخدام هذه الألفاظ والتعبيرات التقليدية، بعد أن نبه القارئ اليقظ إلى ما يقصده منها، ولكن كم من قراء اسپينوزا يتبع تعاليمه هذه؟ وكم منهم يبعث في ذهن كلمة «القانون الطبيعي» كلما صادف لدى اسپينوزا لفظ «الأمر الإلهي أو العناية الإلهية» مثلا؟ وكم منهم يتذكر القيمة الحقيقية للرموز المألوفة التي يستخدمها في كتاباته؟
إن القليلين جدا ممن كتبوا عن اسپينوزا هم الذين تنبهوا إلى وجود هذه المحاولة لإخفاء آرائه الحقيقية في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» ومن هؤلاء القليلين سنذكر اثنين: (أ)
فمنهم «ماثيو أرنولد» الذي يقول: «إن أي قارئ ذكي لا يستطيع أن يقرأ البحث اللاهوتي السياسي دون ... أن يحس بأنه يفتقر، بمعنى ما، إلى أساس وبأنه في حاجة إلى دعائم، وبأن هذا الأساس وهذه الدعائم لا توجد، على أية حال، في الكتاب نفسه، ومن الواجب، إن كان لها وجود، أن تلتمس في الكتابات الأخرى للمؤلف.»
Неизвестная страница