هذا النص، الذي أردت أن أبدأ به بحثي لهذا الموضوع المعقد، يصلح مدخلا سليما إلى تفسير معنى القضايا التي تحدث فيها اسپينوزا عن هذا الموضوع؛ فهو يتحدث هنا، في موضع واحد، عن ضرورة النظر إلى الله بمعزل عن صفات البشر، وفي الوقت ذاته عن كون الحب الإلهي أنفس ما لدى البشر. ولو فهمت هذه العبارة الأخيرة بأي معنى حرفي، لكان في وسع قارئه أن يعترض عليه توا بأن معنى الحب بشري بدوره، وبأننا لا نستطيع أن نحب إلا كائنا نتصوره على مثالنا على نحو ما. وهكذا يكون اسپينوزا قد تناقض مع نفسه تناقضا صارخا في موضع واحد كهذا؛ إذ إنه يعود في آخر النص، وبعد الحديث عن حبنا لله، إلى تحذيرنا من تشبيه الله بالشر. والمسلك الوحيد الممكن إزاء نص كهذا هو أن نلتمس تفسيرا غير التفسير الحرفي أو التقليدي لفكرة الحب الإلهي. وهكذا تبدأ محاولة البحث عن معان أخرى وراء المعاني التقليدية الظاهرية للقضايا التي تعالج هذه الفكرة.
ولا بد للوصول إلى هذه المعاني الأخرى الخفية من إيضاح معنى بعض الأفكار والتعبيرات الرئيسية التي يستخدمها اسپينوزا في هذا السياق، مثل: معرفة الذهن لله، وعلاقة الذهن البشري بالذهن الإلهي.
ومن أقرب النصوص إلى إيضاح معنى التعبير «معرفة الذهن لله» عند اسپينوزا، النص الآتي: «إن كمال الذهن ليس إلا معرفة الله وصفاته والأفعال التي تتلو من ضرورة طبيعته. وهكذا فإن الغاية القصوى أو الرغبة التي يسعى بها من يسترشد بالعقل إلى حكم كل رفاقه، هي تلك التي توصله إلى فهم كامل لنفسه ولجميع الأشياء الداخلة في نطاق عقله.»
86
وهكذا يتحدث اسپينوزا في أول النص عن معرفة العقل لله، ويتحدث في آخره - بمعنى مرادف - عن معرفة العقل لنفسه وللأشياء الداخلة في نطاقه. والنص واضح الدلالة على أن المعنيين مترادفان؛ أي إن المقصود بمعرفة الذهن لله هنا هو معرفة كل ما يستطيع الذهن أن يصل إليه عن النظام الضروري للطبيعة، وضمنها معرفته لنفسه.
أما العلاقة بين الذهن البشري والعقل الإلهي فيوضحها قول اسپينوزا: «... إن الذهن البشري جزء من العقل الإلهي اللامتناهي؛ وعلى ذلك فعندما نقول: إن الذهن البشري يدرك هذا الشيء أو ذاك، فإنا نؤكد بذلك أن الله لديه هذه الفكرة أو تلك، لا بما هو متناه، بل بما هو يتبدى من خلال طبيعة الذهن البشري، أو من حيث هو يكون ماهية الذهن البشري ...»
87
وبعبارة أخرى: فعندما يفكر الإنسان، فمن الممكن القول أيضا إن الذي يفكر هو الله، من حيث إنه يتمثل من خلال الذهن البشري، وبذلك لا يكون الفكر الإلهي إلا صفة الفكر التي هي موجودة بالفعل في النظام الضروري للأشياء، وهي صفة إذا نظر إليها في مظهرها الكلي كانت لا متناهية، ولكن لها مظاهر متناهية هي تفكير هذا الذهن أو ذاك، وبذلك لا تكون العلاقة بين الذهن البشري والعقل الإلهي علاقة بين حقيقتين متميزين، بل تكون علاقة حقيقة جزئية بحقيقة كلية تتجاوز الأولى، وإن تكن في الوقت ذاته تعبر عن نفسها من خلالها. أما إذا فهمت عبارة «التفكير الإلهي» بالمعنى المألوف المغاير لهذا؛ أي بمعنى وجود كائن مشخص يفكر بالفعل، فإن ذاك يكون ولا شك تشبيها بالإنسان على نحو يأباه تفكير اسپينوزا في اتجاهه الحقيقي، ولا جدال في أن هذا التفسير التقليدي يذيع كثيرا حتى بين الشراح الذين يدركون تماما - في مواضع أخرى - نفور اسپينوزا من كل تشبيه للآلهة بالبشر (ومن هؤلاء الشراح فرويد نتال)، وعلى أساس مثل هذه التفسيرات التقليدية شاع القول بتناقض اسپينوزا، بينما التناقض في معظم الأحيان هو تناقض الشراح أنفسهم. أما إذا فهمت عبارة «الله يفكر» على أنها تعبير عن صفة الفكر الشاملة الموجودة في الكون، والتي يعد كل تفكير بشري وجها جزئيا لها، فعندئذ يصبح اسپينوزا متسقا مع نفسه تماما.
ولقد وصف اسپينوزا الحب الإلهي «بأنه حب عقلي لله
Amor Dei intellectualis »، ولفظ «العقلي» له هنا أهمية أساسية، وإن كان كثيرا ما يغفل. فمن الممكن القول بوجه عام إن تعبير «الحب العقلي» فيه نوع من التناقض في الألفاظ؛ لأن الحب بمعناه المألوف انفعالي، ولأن العقل، بمعناه الدقيق، يمارس فاعليته في المعرفة لا في الحب؛ وعلى ذلك فالتعبير وحده كفيل بأن ينقلنا إلى مجال جديد كل الجدة، مغاير للمجال المألوف الذي يتحدث فيه الناس عن «الحب». ومن المؤكد، كما قلنا من قبل، أن تعبير «الحب الإلهي» لو فهم بأي معنى صوفي أو انفعالي لكان فيه تشبيه لله بالإنسان على النحو الذي لا يكف اسپينوزا عن تحذيرنا منه.
Неизвестная страница