كل هذا أدى إلى تكوين صورة مشوهة لإله اسپينوزا، ظهر فيها تارة متفقا تماما مع فكرة الطبيعة، ومتمشيا مع الحتمية والقانونية الكونية، وماديا، ومستبعدا كل صفات مشبهة بالإنسان، وتارة أخرى «ملاذا» و«ملجأ»، وموضوعا للحب، ومصدرا للخلاص، ولا سبيل إلى رفع هذا التناقض المؤسف إلا إذا خطا المفسرون الخطوة الجريئة الضرورية، والتي يقتضيها البحث الدقيق لجميع أطراف فلسفة اسپينوزا، وقالوا إن فكرة الله عنده «لفظ» يرمي إلى تهدئة الخواطر (ومن الغريب أن هذا هو تعبير ولفسون - نفس ولفسون الذي جعل من اسپينوزا في نهاية الأمر صوفيا بالمعنى التقليدي!) ثم مضوا في فلسفته بأسرها على هذا الأساس؛ بحيث إنهم في كل مرة يصادفون لفظ «الإله» يستبدلون به لفظ «الطبيعة»، أو «الضرورة الكونية» أو «النظام الكلي للأشياء» أو «مجموع ما يوجد» - تبعا للسياق، ويقيني أن عملية الاستبدال هذه (أو عملية فك الرموز في المنهج الرياضي) إذا أجريت بطريقة يقظة متسقة، واقترنت باستبدال مماثل لكل الألفاظ والتعبيرات التي نبهنا هو ذاته، في موضع أو آخر، إلى معناها الحقيقي في فلسفته، فإنها ستؤدي إلى تفسير تام الاتساق لهذه الفلسفة.
وكما أننا طبقنا من قبل منهج استبدال المعاني الجديدة بالألفاظ القديمة في أجزاء أخرى لفلسفة اسپينوزا، فسوف نطبقه الآن على أكثر أجزائها صعوبة؛ أعني القسم الأخير من كتاب «الأخلاق»، الذي أثار مشكلة التناقض منذ البداية. (5-2) فكرة الأزلية
ليس لفكرة الأزلية
aeternitas
عند اسپينوزا أية صلة بمعاني الخلود أو البقاء «بعد» هذه الحياة، فما هي إلا إحدى طرق الوجود التي يحققها الذهن في هذا العالم. وليس للفكرة عنده أية صلة بما هو ممتد في الزمان، وبما يسري عليه ما هو «قبل » وما هو «بعد»، بل إن ما يتصف بالأزلية هو ما لا يسري عليه الزمان؛ فالقانون العلمي - كقانون بقاء الطاقة مثلا - أزلي بهذا المعنى، وإذا كشفت في المستقبل حالات لا يسري عليها هذا القانون، فسيظل من الصحيح مع ذلك أن هذا القانون ينطبق على مجاله الحالي. ويكون الذهن أزليا طالما أنه يحيا في عالم المعرفة الذي يؤدي به إلى كشف مثل هذه القوانين وتأمل الكون من خلالها. وبعبارة أخرى فللعالم وجهان: وجه زماني تسير فيه الظواهر اليومية في مسارها المعتاد، وتبدو فيه هذه الظواهر جزئية منفصلة لا رابط بينها، ووجه آخر يربط فيه بين هذه الظواهر في قوانين مطردة تفسرها، ولا يخضع لتغيير الجزئيات أو الفرديات، وفي هذا الوجه الأخير ينظر إلى الأشياء «من منظور الأزل
sub specie aeternitatis »، وإذا كان الوجه الأول هو وجه التجربة اليومية المألوفة للإنسان، فإن الوجه الثاني هو الوجه الذهني؛ أي العالم كما يتمثل لذهن ينظر إليه نظرة جامعة تكشف قوانينه وتفهم أسراره.
وليس من الضروري أن يكون الذهن قادرا على كشف جميع قوانين الأشياء حتى يقال عنه إنه ينظر إليها من منظور الأزل. كما أنه ليس من الضروري أن تظل القوانين التي يكشفها صحيحة على الدوام حتى تنطبق على الذهن صفة «الأزلية» هذه؛ فالأزلية في الواقع «اتجاه» أو «موقف» قبل كل شيء. إنها الاتجاه إلى تأمل الأشياء من منظور شامل لا يتأثر بالتغييرات الجزئية، والاتجاه إلى المعرفة والتفسير العقلي. فإذا تمكن الذهن من أن يصل إلى ذلك «الحدس» الذي يجعله يدرك قانونية العالم وضرورة الظواهر الطبيعية، ويستبعد كل تفسيراته التشبيهية من مجال الفهم العلمي للظواهر، فعندئذ يكون ذلك الحدس ذاته - الذي أسماه اسپينوزا بالمعرفة من النوع الثالث - هو أوضح مظاهر الأزلية في ذهنه، بغض النظر عن المحتوى الفعلي لمعرفة ذلك الذهن. فلا يهم إن كان الذهن يعيش في عصر نيوتن، ويتقيد بقيود العلم المعروفة في هذه المرحلة، أو يعيش في عصر أينشتين، ويوسع آفاقه بالقدر الذي امتدت إليه المعرفة خلال ثلاثة قرون؛ وإنما يكون الذهن «أزليا» إذا أقبل على دراسة الكون وهو يدرك أن هذا الكون قابل لأن يعرف، وأنه يخضع لقوانين ضرورية - بغض النظر عن درجة كشفه لهذه القوانين - وأن مجراه ليس عشوائيا وليس خاضعا لمشيئة لا ضابط لها.
فإذا أدركنا أن كلمة «الله» عند اسپينوزا تعبر عن مجموع الطبيعة أو النظام الكلي للأشياء، أمكننا أن نفسر على التو ربطه بين فكرة الأزلية وفكرة الله؛ فحين يقول إن الأزلية هي طريقة وجود الله، يكون المعنى هو أن الكون، في وجهه الشامل، لا يتصف بأنه ممتد زمنيا، بل إن أجزاءه وأحواله (
modes ) ومكوناته الفردية هي التي تتصف بالامتداد الزمني، وإنما يتصف الكون في وجهه الشامل، بأنه ضروري لا بداية ولا نهاية لقوانينه ونظامه. وكل تفسير آخر لفكرة «الأزلية» من خلال المعاني الفلسفية أو الدينية التقليدية للكلمة يصطدم حتما بنصوص صريحة لدى اسپينوزا تؤكد استحالته، وسوف نجد أن الدلالة الواضحة تماما لهذه النصوص، من حيث انفصالها عن كل المفاهيم التقليدية للفظ الأزلية، تمدنا بدليل آخر على أن كلمة «الله» في عبارة «الله أزلي» لا يمكن أن يكون لها في هذا المجال أيضا أي معنى له صلة بمعانيها التقليدية، بل إنها تدعم في واقع الأمر التفسير الذي قدمناه ها هنا، من أن هذه الكلمة لها عند اسپينوزا في جميع الأحوال معان مثل مجموع الوجود أو النظام الضروري الشامل للكون. •••
في كتاب «أفكار ميتافيزيقية» يعرف اسپينوزا الأزلية الإلهية قائلا إن الله أزلي بنفس المعنى الذي تكون فيه ماهية الدائرة أزلية،
Неизвестная страница