بعدي وسيكون خلفاء يكثرون»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «أوفوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإنَّ الله سائلهم عما استرعاهم».
فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلَّد لهم القضاء مَن تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة= احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكمًا أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة.
والسبب في ذلك: أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصَّروا في معرفة السنّة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تُسْفَك الدماء وتؤخذ الأموال وتُستباح المحرمات. والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوعٍ من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنّة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرَّى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القويّ ومَن يرشوهم ونحو ذلك.
وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة، يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها؛ مِنْ جَعْل صاحب الحرب متبعًا لصاحب الكتاب ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومَن اتبعهم، حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم. وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ الآية [الحديد: ٢٥]، فقوام الدين بكتابٍ يهدي وسيفٍ ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
المقدمة / 10