الإمام يوسف بن عبد الهادي
وآثاره الفقهية
وبيان أثر حنابلة فلسطين في دمشق
مع تحقيق علمي لكتابه
سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث
إعداد ودراسة
الدكتور صفوت عادل عبد الهادي
سليل أسرة آل عبد الهادي الحنابلة
دار النوادر
الطبعة الأولى
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
1 / 1
كتاب سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث
جمع يوسف بن حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الهادي
1 / 417
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف
الحمد لله الذي أوضح منهاج الحق للراغب، وكشف ظلمة الباطل للطالب، وحسن التجائر للجالب، وكسر الجبابرة وقهرهم، فما تقرب إليه أحد إلا ورجع بالمكاسب، ولا بعد عنه أحد إلا ورجع بالمصائب، استوى على عرشه كما قال، لا كما يقول أولو المصائب، وارتفع فوق سماواته فيا سعادة الآيب، «وينزل ربنا ﵎ كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا فيسأل: هل من مستغفرٍ؟ هل من تائبٍ؟» فقم وسل حوائجك، فإن الباب بلا حاجب.
1 / 419
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد، ولا ند، ولا شبيه، ولا مقارب.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، صلى الله عليه وآله وصبحه وسلم تسليمًا كثيرًا كلما أمطرت السحائب.
وبعد: فهذا كتاب في بيان الطلاق الثلاث، وحكمه، وبيان اختلاف الناس فيه، سميته: كتاب «سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث» وأسأل الله الإعانة، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وجعلت فيه اثني عشر فصلًا:
الفصل الأول: في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثًا.
الفصل الثاني: فيمن قال بهذا القول، وأفتى به.
الفصل الثالث: في ذكر ما احتجت به هذه الطائفة.
الفصل الرابع: في أنه إنما يقع بالثلاث واحدة.
الفصل الخامس: فيمن قال بهذا القول، وأفتى به.
الفصل السادس: في ذكر ما احتجت به هذه الطائفة.
الفصل السابع: في ذكر فصل النزاع بين الفريقين.
الفصل الثامن: في ذكر مذاهب الناس في ذلك.
الفصل التاسع: في ذكر الثلاث إذا أتت متفرقة.
1 / 420
الفصل العاشر: في ذكر أنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
الفصل الحادي عشر: في ذكر المحلل وأحكامه.
الفصل الثاني عشر: في أن الثلاث: هل تحرم أم لا؟
1 / 421
الفصل الأول في أن الطلاق الثلاث يقع ثلاثًا
هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره؛ كما سيأتي، وهذا القول مجزوم فيه في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد؛ كـ «الخرقي»، و«المقنع»، و«المحرر»، و«الهداية»، وغيرهم من كتب أصحاب الإمام أحمد، ولا يعدل عنه.
قال الأثرم: (سألت أبا .. .. ..
1 / 422
عبد الله عن حديث ابن عباس «كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكرٍ [وسنتين من خلافة] عمر، [طلاق الثلاث] واحدة» بأي شيء تدفعه؟ فقال: برواية الناس عن ابن عباس أنها ثلاث)، وقدمه في «الفروع»، وجزم به في «المغني»، وأكثرهم لم يحك غيره. والله أعلم بالصواب.
1 / 423
الفصل الثاني فيمن قال بهذا القول وأفتى به
قال به ابن عباس غير مرة، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأنس، ذكره في «المغني»،
1 / 424
وقال: «هو قول أكثر أهل العلم»، وبه قال أحمد: والشافعي، وأبو حنيفة، ومالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي.
وقال به من أصحابنا الخرقي، والقاضي، وأبو بكر، وابن حامد، وابن .. .. ..
1 / 425
عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، والشيخ موفق الدين، والشيخ مجد الدين -وليس مطلقًا كما سيأتي-، والشريف، حتى أكثر أصحاب الإمام أحمد على هذا القول. وفي «إجماع» ابن المنذر ما يدل على أنه إجماع، ليس بصريح فيه. وهذا القول اختاره ابن رجب، وقد صنف ردًا على من قال بخلافه. والله أعلم بالصواب.
1 / 426
الفصل الثالث في ذكر ما احتجت به هذه الطائفة، ومالها، وما عليها
قال في «أعلام الموقعين» -بعد ذكره دليل الطائفة الأولى- ثم قال: (لكن رأى أمير المؤمنين عمر أن الناس استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة، بانت المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة، يراد للدوام، لا نكاح تحليل؛ فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك، كفوا عن الطلاق [المحرم].
فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي ﷺ وعهد الصديق وصدر من خلافته كان لا يليق بهم؛ لأنهم لم
1 / 427
يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجًا، فلما تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه؛ عقوبة لهم؛ فإن الله إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة، فقد تعدى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه، ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه، ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه، رحمةً منه وإحسانًا، وليس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد.
وهذه قاعدة، وهي: «من تعجل شيئًا قبل أوانه، عوقب بحرمانه» وهذه من حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته، وقد وافقه الصحابة على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.
قال عبد الله بن مسعود: «من أتى الأمر على وجهه، فقد بين
1 / 428
[الله له]، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله لا تلبسون على أنفسكم فنحمله عنكم. هو كما تقولون».
وقال النبي ﷺ لمن فعل ذلك:
«أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟» حتى قام رجل وقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟.
ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع، وقال للسائل: «إن هذا لأمرٌ ما لنا فيه قولٌ، فاذهب إلى عبد الله بن عباسٍ وأبي هريرة، فلما جاء إليهما، قال ابن عباسٍ لأبي هريرة: أفته؛ فقد جاءتك معضلةٌ»، ثم أفتياه بالوقوع.
1 / 429
فالصحابة ﵃، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب، لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وأرسلوا ما بيدهم منه، ولبسوا على أنفسهم، فلم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، فأخذوا بالتشديد على أنفسهم، ولم يقفوا على ما حد لهم، ألزموهم بما التزموه، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة، بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه، ولم يقبل رخصة الله وتيسيره ومهلته.
ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مئة: «عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجًا. ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجًا﴾».
وأتاه رجل، فقال: إن عمي طلق ثلاثًا. فقال:
«إن عمك عصى الله، فأندمه الله، وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجًا. فقال: أفلا تحلها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه الله».
وقال سعيد بن جبير: «جاء رجلٌ إلى ابن عباس فقال: إني طلقت
1 / 430
امرأتي ألفًا، فقال: أما ثلاث، فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزرٌ، اتخذت آيات الله هزوًا».
وقال مجاهد: «كنت عند ابن عباس، فجاءه رجلٌ فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن عباس! وإن الله قال: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجًا﴾؛ فإنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، فبانت منك امرأته».
وليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في
1 / 431
قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله ﷺ، وتقواهم ربهم ﵎ في التطليق، فجرت عليهم رخصته وتيسيره شرعًا وقدرًا، فلما ركب الناس الأحموقة، وتركوا تقوى الله، ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه الله لهم، أجرى الله الحكيم على لسان الخليفة الراشد، والصحابة معه، شرعًا، وقد ألزمهم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاءه الإصر الذي جعلوه في أعناقهم، وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان، فجاء أئمة الإسلام على آثار الصحابة، سالكين مسلكهم، قاصدين رضاء الله ورسوله، وإنفاذ دينه، فمنهم من ترك القول بحديث ابن عباس، لظنه أنه منسوخ، وهذه طريقة الشافعي).
وقال الشيخ موفق الدين في «المغني» مثل هذا، واستدل بما روي عن عبادة بن الصامت، قال: («طلق بعض آبائي امرأته ألفًا، فانطلق إلى رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله! إن أبانا طلق أمنا ألفًا، فهل له مخرجٌ؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجًا، بانت منه
1 / 432
بثلاثٍ على غير السنة، وتسعٌ مئة وسبعةٌ وتسعون إثمٌ في عنقه»؛ ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقًا، فيصح مجتمعًا كسائر الأملاك. فأما حديث ابن عباس، فقد صحت الرواية عنه بخلافه، وأفتى أيضًا بخلافه، قال الأثرم: «سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: بأي شيء تدفعه؟ قال: أدفعه برواية الناس عن ابن عباس من وجوه أنها ثلاث».
وقيل: «معنى حديث ابن عباس أن الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر، فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر، ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله ﷺ ويفتي بخلافه).
قال ابن رجب في كتاب «مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة»:
(الحديث الأول: حديث طاوس عن ابن عباس قال: «كان الطلاق
1 / 433
على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدةٌ، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناةٌ، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم»، وأخرجه أيضًا من طريق إبراهيم بن ميسرة عن طاوس، بنحوه).
فهذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان:
أحدهما: وهو مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، ويرجع إلى الكلام في إسناد الحديث بشذوذه، وانفراد طاوس به، وأنه لم يتابع عليه، وانفراد الراوي بالحديث، وإن كان ثقة، هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه، وأن يكون شاذًا ومنكرًا إذا لم يرو معناه من وجه يصح. وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين؛ كالإمام أحمد، ويحيى القطان، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وغيرهم، وهذا الحديث لا يرويه عن ابن عباس غير طاوس.
1 / 434
قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: «كل أصحاب ابن عباس -يعني: روى عنه- خلاف ما روى طاوس».
وقال الروشنائي: «هو حديث شاذ، قال: وقد عنيت بهذا الحديث في قديم الدهر، فلم أجد له أصلًا».
قال المصنف: «ومتى أجمع الأمة على اطراح العمل بحديث، وجب اطراحه، وترك العمل به».
وقال ابن مهدي: «لا يكون إمامًا في العلم من عمل بالشاذ».
1 / 435
وقال النخعي: «كانوا يكرهون الغريب من الحديث».
وقال يزيد بن أبي حبيب: «إذا سمعت الحديث، فانشده كما تنشد الضالة، فإن عرف، وإلا فدعه».
وعن مالك قال: «شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس».
وفي هذا الباب شيء كثير، لعدم جواز العمل بالغريب وغير المشهور.
قال ابن رجب: «وقد صح عن ابن عباس -وهو راوي الحديث- أنه أفتى بخلاف هذا الحديث، ولزوم الثلاث مجموعة. وقد علل بهذا أحمد والشافعي كما ذكره في «المغني»، وهذه أيضًا علة في الحديث بانفرادها، فكيف وقد ضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة؟!».
وقال القاضي إسماعيل في كتاب «أحكام القرآن»: «طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة، منها هذا الحديث».
1 / 436