الصراط
أهلا وسهلا، يا ألف مرحب، أنا حصل لي الشرف والله. كرسي يا ولد. لا والله لا بد تقعد. عندك موعد؟ طيب ولو ربع ساعة، على الأقل نتعرف على بعض. تقول موعد في السيرك؟ آه! وأنا أيضا من ساعتها أشبه عليك. أقول يا ربي أنا شفته، هذا الوجه ليس غريبا علي، كنت معهم في الموكب من يومين. تقول إنهم لا يعرفونك من وجهك، لكن من رجليك؟ ها ها! أما صحيح بتاع سيرك! نعم؟ قصدك إنك الراقص الأول في السيرك، الراقص على الحبل؟ طيب قل يا أخي من الأول، كنت على الأقل عرفتك إننا أصحاب، حبايب، إخوان في الكار. أنت طبعا مندهش، طبعا لا تريد أن تصدق، معذور بالطبع، واحد مكرش وسمين وعنده ضغط مثلي ويرقص على حبل؟ طبعا حبل عرضه مترين؟ تقول ولا يكفي؟ لا والله معك حق، لكن وحياتك عندي أنا مثلك أرقص على حبل، طبعا طبعا، حبل بحق وحقيق، مشدود من الناحيتين، نعم؟ في أي سيرك؟ لا، لا، لا يكون عندك فكر، ولا سيرك ولا حاجة، تقدر تقول أعمال حرة. نعم، كما يقولون راقص من منازلهم. تقول متى رقصت عليه؟ طول عمري، آي والله، من يوم ما أمي ماتت وأنا أرقص عليه، تقول متى كان ذلك؟ آه؛ أصلها حكاية طويلة، لكن قبل ما أنسى، اشرب حاجة، لا والله لا بد تشرب. شاي؟ قهوة؟ مضبوطة؟ طبعا، أنا أيضا كنت سأطلبها لك مضبوطة. طبعا طبعا، كل حاجة عند الرقاصين لازم تكون مضبوطة، لا شعرة زيادة ولا شعرة ناقصة. تقول ارجع للحكاية، أية حكاية؟ آه! لا مؤاخذة، كانت راحت من على بالي؛ بيني وبينك السن له حكمه. القصد، نرجع للحكاية. هل قلت لك إنني بدأت أتعلم الرقص من يوم ما ماتت أمي؟ طبعا الصلة بعيدة. خصوصا وإني كنت أيامها لا رحت ولا جيت، ولد صغير في المدرسة، قل عشرا قل إحدى عشرة سنة. كنت أعرف أن أمي راقدة من شهور، لكن عمر ما أحد قال لي إنها كانت راقدة على فراش الموت، كنت أقف مع الحكيم عندها وأشوفه وهو يكشف على قلبها، وبعد ما ينتهي من الكشف وأبي يوصله للباب كنت أقرب منها وأنا خائف. طبعا شيء مخجل، كيف يخاف الإنسان من أمه؟ لكن هذا ما حصل. كانت تنادي علي، وأقترب منها وأسألها إن كانت محتاجة لشيء، وتتأمل في بعينيها وهي ساكتة وتقول بعد مدة: كنت محتاجة لك أنت، كنت أبعد عيني عن عينيها؛ فقد كانت نظرتها تحيرني، تخرسني، تؤنبني وتعاتبني وتغرز مثل السكينة في قلبي. أفلت من السرير وأقول: أنا رائح ألعب مع أصحابي. كنت ألعب مع أصحابي ولا ألعب معهم. كانت نظراتها الحزينة معي في كل مكان. تقيدني وتلومني وتكتف رجلي. ولا أكثر عليك. في يوم نادوا علي بسرعة، قالوا أمك تريد أن تراك. ذهبت إلى حجرتها، أشارت لهم بسرعة أن يغلقوا الباب ويتركونا وحدنا. أحسست أنها كانت آخر مرة. إحساس غريب على طفل مثلي، لكن الأطفال تحس أكثر مما يعرف الكبار. القصد، اقتربت منها وقلت لها: نعم يا أمي. قالت: قرب مني. مدت يدها المرتعشة ومسحت على وجهي. سمعتها تقول: يا ما كان نفسي تكون معي. قلت لها: أنا معك يا أمي. قالت: لا. قصدي هناك. قلت لها: هناك أين؟ قالت: على الصراط. سكت وسكتت. بعد مدة سألتها: صراط يعني إيه يا أمي؟ قالت الواحد منا يوم القيامة يمشوه على الصراط، شيء مثل الشعرة وأحمى من السكين، مشدود بين الجنة والنار، الجنة على اليمين والنار على الشمال. الواحدة منا إذا كان لها ابن مات قبلها يسبقها على الصراط، يجري مثل الفرس ويقول لها تعالي يا أمي ويأخذ بيدها. لو كنت يا ابني معي هناك! سكت. تمنيت لو أن الأرض تغور بي من الكسوف. قالت لي: قم أنت يا ابني، ربنا يعطيك طول العمر، يرزقك بابن حلال يمشي قدامك ويأخذ بيدك. في يوم لا يعلمه إلا الله، دخل أبي علينا فوجدنا ساكتين. قال: قم أنت يا ابني نام. أنام؟ بذمتك، هل واحد مثلي يأتي له نوم؟ طول عمره بذمتك يأتي له نوم؟ لكن الصاحي مصيره ينام، والصغير يكبر، والكبير يروح لحاله. صحيت الصبح قالوا لي البقية في حياتك، أمك ماتت والبقية في حياتك.
قلت لك إني كنت الابن الوحيد؟ طبعا فهمتها من نفسك. الابن الوحيد ويبخل على أمه بالخدمة الوحيدة، تقدر أنت تتصور حالتي. دفنوها ورجع أبي أخذني على صدره وقال لي: شد حيلك. مصيرك تكبر وتفهم. أنت الآن كبير العائلة. البركة فيك، والموت على رقاب العباد. قلت له: كان لازم أموت قبلها بزمان. قال لي: تموت؟ قصدك إيه؟ قلت له: لأجل أسبقها على الصراط. ضحك وقال لي: الصراط؟ الله يجازيك، ومن حكى لك عليه؟ كذبت وقلت له: أبدا. أصحابي قالوا لي كان لازم أموت قبلها. كان لازم أعمل حسابي لأجل أمشي قدامها. أجري وأقول لها تعالي، تعالي يا أمي ولا تخافي. السكة ظلام والدنيا عتمة، لكن أنا أنور لك الطريق. أبي ضحك ومات على روحه من الضحك، زغدني في صدري وقال لي: روح يا شيخ، إذا كنت تحبها صحيح زرها كل يوم واقرأ لها الفاتحة، وطمنها أنك بخير، وأنك تذاكر دروسك وتنجح في امتحاناتك.
أكثرت عليك؟ تحب تشرب قهوة ثانية؟ صحيح؟ يعني تقدر تقعد لحد ما أكمل الحكاية؟ لا أطيل عليك. الندم أكل في قلبي من يومها، ليل ونهار وأنا أفكر في الصراط. أقول يا ترى شكله إيه وعرضه كم وتقدر صحيح تمشي عليه؟ ويطاوعك قلبك لا ترتعش ولا تخاف ولا تزعق وتقول: يا هوه! وتقف عليه برجل واحدة أو رجلين؟ وإذا وقعت يا ترى تقع على اليمين أو على الشمال؟ يا ترى الملائكة تحدفك على جهنم أو توصلك عند المؤمنين؟ القصد، أصبحت همي وشغلتي. وتصادف يوم ما ماتت أمي أن سيرك الحلو يحضر على البلد. طبعا هو بعينه. أيام مجده وعظمته. الطبل والمزامير فاتت في الشوارع. البهلوانات والقرود والفيلة مرت من قدام البيت، والميكروفون زعق وصحا النائمين. أنا قلت فرصة العمر. تروح تتفرج وتشوف البهلوان يلعب الوحوش ويرقص على الحبل. لكن المشكلة أن أمي ميتة من يومين، وعيب أطلب من أبي أروح السيرك. قل بقيت أفلت كل يوم ساعة وأروح على هناك، أسمع الضحك والزعيق والهيصة من بعيد ألاقي قلبي ينط وكأنه يرقص على حبل. يوم في يوم عرفت الساعة التي يلعب فيها البهلوان، بقيت أزوغ من بين الحراس الواقفين على الباب من غير ما يشوفوني. وإذا حصل وأمسكوني رجعت أحشر رأسي في الصيوان وأبص من بين الخياطة أو الخروم النافذة في الفراشة. كان كل مناي أني أصبح مثل البهلوان؛ رجل مسلول وغلبان لابس أبيض في أبيض وعلى رأسه طرطور، يمشي على الحبل ويفرد ذراعيه ويزعق بعلو صوته: تعالي لي يا أمي! خطوة خطوة كأنه ماشي على سكاكين أو مسامير. الناس شاخصة له، كأن على رءوسهم الطير، مذهولين ومبهورين وخائفين عليه. ومن لحظة ولحظة يزعق واحد في الحلقة: وحدوه! من يحب النبي يصفق! طبعا الدنيا تقدمت ووضعوا تحتكم شبكة؟ طبعا طبعا. صحيح العمر واحد والرب واحد لكن ضروري من الاحتياط. تقول إنك لا تمشي الآن على رجليك؟ يا سلام؟ تركب على عجلة أو موتوسيكل؟ وتحفظ التوازن مع ذلك؟ ما شاء الله! ما أنا قلت لحضرتك الدنيا تقدمت. وتأخذ واحدا معك أو وراءك؟ تقول واحدة؟ طبعا أحسن؟ والبطل صحيح يوازن نفسه ووراءه واحدة. القصد، قلت لحضرتك يوم في يوم تعرفت على البهلوان، رجل طيب مثل حضرتك. صحيح فنان، طول النهار على الحبل، ولا شبكة ولا يحزنون. ناس صحيح تخاطر بحياتها في سبيل الجمهور. قل يوم في يوم ضربت صحبة مع عم آدم - نسيت أقول لك إن اسمه كان آدم، صحيح اسم على مسمى - الصبح والعصر بقيت أروح له. الرجل أخذ علي وأحبني، وأصبحت ولا كأنني ابنه تمام. كان يقعد طول النهار يكلمني على سر المهنة؛ إن الواحد منا لازم يحافظ على التوازن في كل شيء، في أكله في شربه في مشيه في كلامه، وفي كل ما يعمل لازم يخلي في باله كأنه ماشي على الحبل. إن مال يمين أو شمال تتقطم رقبته أو تنكسر سلسلة ظهره. القصد لا أكثر عليك، كنت أختلس الفرص في ساعة ما يروق بال عم آدم وأشد الحبل فوق الأرض خطوتين، طبعا عمري ما رفعته عن الأرض زيادة عن شبر أو شبرين؛ مهما كان بني آدم خواف. وفي كل مرة أقف فيها على الحبل وأمسك نفسي ألاقيني غبت عن الدنيا وما فيها. لحظة واحدة طبعا، والعارف لا يعرف، لكن كانت تساوي الدنيا وما فيها. أنا قلت تساوي الدنيا؟ أبدا والله. كانت لحظة من الآخرة، من عالم تاني بعيد كأني واقف على الصراط نفسه. رجل على جسر جهنم ورجل على سرير في الجنة. على يميني ملائكة الرحمة، وعلى شمالي ملائكة العذاب. أصرخ بعزم ما في وأقول أنا جئت يا أمي! أنا ماشي قدامك يا حبيبتي. تعالي، لا تخافي، هاتي يدك، أنا أنور لك السكة العتمة. الصراط عريض أعرض من جسر بلدنا، النار تحت رجليك وفوق رأسك، لكن لا تخافي، غيرك يعديه فيصبح فحما أسود، وأنت تعديه حمامة بيضاء. غيرك يمشي عليه ألف سنة، ألفين، ثلاثة آلاف، وأنت تجري عليه أسرع من البرق والطير والريح. كنت أصرخ وأضحك وأبكي مثل المجنون، طبعا كان الحبل على الأرض، أو بينه وبينها شبر أو شبرين. وكان عم آدم يمشي بجانبي يسندني ويأخذ بيدي ويجفف دموعي. سمها سعادة، سمها حزنا، ندما، خبلا. المهم أنني كنت أحس أني أكفر عن ذنبي؛ ذنب قديم أقدم من الكون ومن سيدنا آدم نفسه. صحيح تقدر تقول إنه ما كان ذنبي. وهل كان في يدي أن أموت قبل أمي أو لا أموت؟ هل كان في يدي أن أعرف أنني سأكون ابنها الوحيد ؟ لو كان مات لها ابن قبلي أو حتى بنت كنت استرحت من العذاب، كنت رميت الهم من على ظهري ورقصت على الحبل بحق وحقيق. كنت أصبحت أكبر منافس لك. لا، لا! في سيرك ثاني. سيرك عالمي، أمريكاني، آخر مكن واستعدادات ونمر بالكهرباء والنيون. تضحك؟ طبعا على كرشي؟ تقول وأين أروح من اللحم والضغط وتعب الأعصاب ودوا السكر ورعشة اليدين والرجلين؟ لكن أنت نسيت أنني كنت سأرقص بحق وحقيق، رقص صحيح، مثل كل الناس حواليك. أبدا أبدا، من غير حبل ولا حاجة، طبعا على الأرض. وهل فيه غير الأرض! منها وإليها يا صاحبي! حتى الهموم كانت تبقى هموما من نوع ثان. لا فيها ندم ولا خجل، ولا تسمع أحدا ينادي عليك من عالم ثان ويقول لك أنا منتظرك! منتظر تأخذ بيدي. آه يا صاحبي من الانتظار! تعرف إن فيه ناس طول عمرها تنتظر. طول عمرها لا تعمل شيئا إلا أنها تنتظر! أنت تنظر في الساعة؟ لا مؤاخذة؟ يظهر أنك أيضا تنتظر؟ أن أفرغ من كلامي؟ الله يسامحك. طبعا أنا أطلت عليك، لا العفو. والساعة الآن؟ هه؟ تمام. ربع ساعة ويبتدئ العرض؟ ونمرتك ثاني نمرة؟ آه! ياما كان في نفسي تأخذني معك، ساعة ما شفتك من يومين كنت أتمنى أن يشيلوني بلحمي وشحمي ويضعوني على الحبل معك، وأتمدد وأسند رأسي عليه وأقول: يا هوه! أنا في عرضكم! طول عمري كان نفسي أموت على الحبل، حبل مشدود بين الأرض والسماء، صراط ومشدود بين الجنة والنار. يا هوه أنا مت خلاص! أديت ما علي ومت خلاص! لكن أنا أكثرت عليك. من غير كسوف والله أكثرت عليك. تقول أحضر وأشوفك هناك؟ وهل فيها كلام؟ طبعا سأحضر وأصفق لك. ولو كان لي بخت تتوسط لي عند المدير يشغلني معك! تقول والكرش واللحم والشحم؟ علم هذا عند الله؟ يمكن تصادف وأجري عليه مثل الحصان، أو أتمدد وأنتظر لغاية ما أشوفها من بعيد وأمد لها يدي . تقول أقع تنقطم رقبتي؟ طيب والشبكة راحت يا سيدي؟ ما هي لحسن الحظ دائما ممدودة. مصيرها تتلقف الواحد حي ولا ميت. لا مؤاخذة. تقول لا بد تمشي؟ طيب على كيفيك. تقول ممنون؟ يا شيخ بلا مبالغة! يا رجل العفو! أهلا وسهلا. يا ألف مرحبا. حصل لنا الشرف والله. ومن كل كم سنة لما الواحد يتعرف على واحد مثل حضرتك، يلعب على الحبل. تقول يمشي على الصراط؟ طيب يا سيدي. من هنا ورائح سميه الصراط!
1964م
الرجل الذي يعتذر دائما
كنا، أبي وأنا، نزور عمتي المسكينة مرة في كل أسبوع. فمنذ أن دخلت المصحة ونحن نحرص على هذه الزيارة، ونمني أنفسنا بأن تفطن يوما إلينا، وتعرف أنها ليست مقطوعة من شجرة. كنا نركب قطار حلوان صباح يوم الجمعة، ونأخذ معنا ما نستطيع أخذه من مأكولات أو حلويات، ونمضي معها بضع ساعات حتى ينتهي موعد الزيارة، فنذهب إلى العين أو نقضي بقية النهار في الحديقة اليابانية. ومع أنها كانت تظل طول الوقت غائبة عنا تحدق في السقف وتتمتم بكلمات لا نعرفها، إلا أننا مع ذلك لم نكن نقطع الأمل في شفائها يوما من الأيام.
كانت زيارتي للمصحة تفتح لي عالما غريبا ليس لي به عهد، وتتيح لي متعة عجيبة تلذني بقدر ما تؤلمني؛ فقد كانت رؤية هؤلاء المساكين الذين خرجوا من دنيا العقل والتحدث معهم والاستماع إلى نوادرهم لا يعدلها عندي قراءة الحكايات والحواديت أو الاستماع إليها من جدي. وكنت أعود منها في كل مرة في حالة من النشوة والحيرة والذهول لم يكن يستطيع صبي مثلي أن يعبر عنها. وبالطبع كنت أسأل أبي عما حدث لعمتي، فيقول في كلمات مقتضبة: إن زوجها قد مات وتركها شابة صغيرة. ولم يكن هذا الجواب بطبيعة الحال يقنعني، فألح بالسؤال من جديد، فيقول: إنها ظلت تنتظر عودته وما زالت تنتظر. فإذا اعترضت بأن الأموات لا يعودون، قال: إنها لو صدقت أنه مات لما حدث لها ما حدث. عشرون عاما وهي تصلي وتدعو وتنتظر في كل عام أن تطلع لها طاقة القدر وينزل عليها من السماء أو يسقط عليها من السقف، ولكن طاقة القدر لا تظهر، والزوج الغائب لا يعود.
كنا ندخل من باب العنبر الكبير فنراها جالسة على سريرها في ثوبها الأبيض، على رأسها طرحة بيضاء كبيرة، وعيناها مثبتتان على السقف، وشفتاها لا تكفان عن الحركة. ولم تكن يبدو عليها أنها تنتبه إلى وجودنا، أو أنها ستفتقدنا إن غبنا عنها. ومع ذلك فقد كنت أؤكد لأبي أنني أرى في عينيها الصامتتين فرحة لا يمكن التعبير عنها، تلمع فجأة ثم تنطفئ في ذلة وانكسار. وكان يخيل إلي أنني أرى هذه الفرحة في عينيها حين كنت أقترب منها وألثم يدها، أو حين كنت أتشجع في بعض الأحيان فأمد شفتي وأطبع على خدها أو جبينها قبلة.
وطبيعي أن عمتي المسكينة لم تكن وحدها هي سر المتعة التي كنت أحس بها عند زيارتي للمصحة، بل أستطيع أن أقول إنها لم تكن غير المناسبة التي أنتهزها لكي أراقب سائر المرضى، وأقترب ممن لا خطر من القرب منهم، وأحاول أن أعرف أخبارهم، وألمس تلك الشعرة الدقيقة التي نزعت من عقولهم فلم يعودوا يفرقون بين العقل والجنون. وكما يوجد عادة في كل مستشفى للمجانين، فقد كان هناك أيضا من يتقمص شخصية تاريخية قرأت عنها في كتب المطالعة، أو من يحس دائما بأنه مضطهد من الجميع لأنه أصلح العالم، أو من يغني أو يخطب أو يكلم نفسه أو يتلفت وراءه في كل لحظة، أو من يجلس وحيدا صامتا كأنه جرح كبير حي. كان هناك بالطبع الكثيرون ممن لا يلاحظ الإنسان وجودهم، إما لأن جنونهم عادي وممل، أو لأنهم لا يميلون بطبيعتهم إلى أن يلتفت إليهم أحد، أو لأنهم يثبتون لكل إنسان أنهم عقلاء، فيثبتون بذلك نفسه أنهم مجانين. وكانت هناك شخصيتان تجذبان انتباهي في كل مرة أزور فيها المصحة، لا لغرابتهما، بل ربما لأن صاحبيهما كانا من النوع الحيي الذي لا يتطفل ولا يزعج أحدا. كان أحدهما يسمي نفسه الإسكندر الأكبر (وإن لم يثبت دائما على هذه التسمية، فكثيرا ما كان يدعي أنه هو هتلر أو موسوليني أو نيرون)، وكان يقترب من الزائر في ثيابه الأنيقة النظيفة، ليقول له في صوت مهذب حزين: صدقني، أنا الإسكندر الأكبر. لم يعد هناك مكان واحد على الأرض لم تحتله جيوشي، لم يعد هناك شبر واحد لم أضع عليه قدمي. حين عرفت هذا لأول مرة بكيت؛ أليس هذا سببا كافيا للبكاء؟ وكان الآخر يسمي نفسه المصلح العظيم. كان عجوزا محني الظهر، بارز العظام، مجهد العينين، ذابل الوجه كأنه جثة. وكان في العادة يرتدي بذلة مهلهلة قديمة، ويحمل تحت إبطه عددا لا حصر له من المجلات والصحف القديمة، ويقترب منك كما يقترب المعلم العجوز، وتبرز أسنانه الصفراء الكبيرة وهو يقول: «إياك أن يفوتك مقالي. سيظهر في مجلة الجهاد. العدد محدود فإياك أن يفوتك مقالي.» فإذا سأله الطبيب الشاب - ربما لأن أحدا لم يعد يسأله حتى لا يسمع نفس الجواب - عن موضوع المقال أو عنوانه قال: إن العالم فسد. كان لا بد من كتابة مقالي. إياك أن يفوتك. العدد محدود.
Неизвестная страница