لست أدري كم مضى من الزمن علي وأنا أضرب في الطريق المجهول، فرحا أمشي على الثلج كأنني أمشي على النور. بعث البياض الناصع من حولي هذا الخيال الغريب، قلت هذه جثة معبود قديم، مات هنا منذ زمن لا يعرفه إنسان، ومدد جسده في كل مكان. في كل عام تنسج له الطبيعة كفنا جديدا، في كل عام. وأعجبني أنني الكائن الوحيد الذي يتنفس ها هنا، ويحمل في كيانه الدفء والدم والحياة، وفي يديه ديوانا من الشعر!
وحين وصلت إلى قمة الجبل - أعلى قمة بين هذه الجبال - خيل إلي كأنني ملك من الملوك الذين يعيشون في خيال الأطفال. هذه جبال الثلج ترتفع من حولي، وكم من هاوية تمتد تحت قدمي، رهيبة وفاجعة ومملوءة بالأسرار. فتحت ديوان الشعر الوحيد ونسيت نفسي - والشعر يسرق العين والقلب والشعور - فلم أغلقه حتى تنبهت على الظلام.
كانت الشمس تجمع خيوطها الذهبية في جانب الأفق، كأنها صياد عجوز يلم شبكته، وانحدرت من على الجبل بأسرع ما أستطيع. كم من الوقت يا ترى يلزمني لكي أعود إلى الفندق؟ لا شك أن الظلام سيقطع على الطريق. ووسعت خطاي، ورحت أجري كأنني هارب يطارده خطر مجهول. كانت أنوار الفنادق المتناثرة في الغابة كأنها نجوم بعيدة قصيرة العمر، تلمع ثم تخبو في كل لحظة. والأشجار التي مررت عليها منذ قليل والثلج يطوقها بباقة من نور، ترتفع الآن من حولي كأنها أشباح سود، والأسماء المنقوشة على الثلج - وبينها اسمي - لم يعد لها أثر. نعم لقد جاء الظلام وبعد قليل تطمس يداه كل شيء. والسهام المنصوبة في مطلع كل طريق، لتهدي السائرين في الغابة السوداء، أصبحت أفتش عنها في كل مكان. إن وجدت أحدها، فكيف أرى الكتابة المنقوشة عليه؟
بعد ساعة من السير الشاق أطبق الظلام علي، ووصلت إلى منعطف تذكرت أنني مررت به في طريقي إلى الجبل. قلت يا ترى هل انعطف إلى اليمين أو إلى اليسار؟ ورحت أفتش عن علامة الطريق. كان كل شيء قد امحى، غرق في بحر أسود. قربت يدي إلى وجهي فلم أكد أميزهما. رفعت بصري إلى السماء فلمحت القمر يتقد بين أكوام من السحب كأنه مصباح في قارب صغير، تائه في محيط معتم. وطافت بذهني قصة الطلاب السبعة الذين تاهوا في الصباح. ونظرت إلى ديوان الشعر في يدي نظرة عتاب؛ أهكذا يا شاعر الوحدة والعذاب؟
وتلفت أبحث عن فندق أقضي فيه ليلتي. لا شك أن الوصول إلى الفندق الذي أسكن فيه أبعد من المحال. كانت الأنوار تبدو من بعيد ثم تختفي، كأنها مصابيح صغيرة يعبث بها طفل صغير. وكان بعضها يأتي من مرتفع بعيد وبعضها كأنه يستقر في قرار الهاوية. ويممت وجهي نحو واحد منها خيل إلي أنه أوضحها وأقربها إليه. لن أقول شيئا عما وجدته وأنا أعبر الطريق إليه. أغمضت عيني وسرت كأني «أورفيوس» يخترق دروب العالم السفلي!
ما كان أسعدني حين لاح البناء أمام عيني! بيت حقيقي، بناء إنسان، وله باب أستطيع أن أطرقه. ترى ما الذي يختفي وراء هذا الباب؟ أي وجه سيطالعني منه؟ أي مأساة ولدت وعاشت بين جدرانه أو أي ملهاة؟ لا شك أنني سأحقق الليلة؟ حلم يراودني منذ زمن طويل؛ فكم من باب مررت به، في المدينة، في القرية، في الجبل والسهل، تمنيت لو فتحته يد سحرية، ودعتني إلى الدخول، وروت لي القصة التي ظلت تنسج خيطها وراء جدرانه عاما بعد عام. كل نافذة، كل باب، كل جدار، اخترقته عيني، وتمنت لو تعرف السر المختفي وراءه؛ لتحيله بعد قليل سطورا على الورق!
واتضح البناء أمام عيني. خرج من الظلمة فجأة فوجدته يقف أمامي. كان بيتا صغيرا، يحيط به سور خشبي، وترتفع من مدخنته خيوط من الدخان، استطعت أن أتبينها على أشعة النور الدقيقة التي تتسلل من النافذة. وفتحت باب السور في حذر، وسرت خطوات على الأوراق الجافة الملقاة على الأرض حتى وصلت إلى عتبة الباب. ولم أكد أضع قدمي عليها حتى نبح كلب. أغمضت عيني وتنفست في هدوء، حيث يوجد الكلب يوجد الإنسان! وطرقت الباب. وأقبلت أقدام خفيفة تجري، وأحسست بأنفاس تتردد قريبة مني، واختفى النور من النافذة، وسمعت صوتا يقول: سلطان، تعال هنا! وعوى الكلب عواء خفيفا، وعوى الباب وهو يفتح، وأطل وجه عجوز، يكشف معالمه مصباح زيتي يحمله صاحبه في يده، وتبينت رأس كلب تمتد لتتعرف على القادم الغريب، من هناك؟ وظل الباب مواربا. فتح الباب. واقترب المصباح من وجهي. - مساء الخير يا سيدي. - مساء الخير.
وقبل أن يسألني الوجه العجوز عما أريده انطلقت أقول: أنا غريب هنا يا سيدي. أقبل الليل علي وتهت في الغابة، هل أستطيع أن أقضي الليلة عندكم؟
وقبل أن يجيبني سمعت صوتا يأتي من داخل البيت: من يا إدوارد؟
والتفت الرجل العجوز وراءه وهتف: أوه! اسكتي أنت يا ماريا!
Неизвестная страница