كل هذا يتجاوز الشرح الآن. كنت أسمع الأطفال الصغار يقولونها بأريحية «اللعنة، ما أهمية ذلك؟» وهم يركبون دراجاتهم، كنت أسمع أيضا أبا يصيح في أبنائه: «أبعدوا آلة تجزيز العشب اللعينة بعيدا عن طريق السيارة!» هذه الكلمة يمكن أن يوجهها أحدهم إليك وتصيبك بالجمود في مكانك. أما الإذلال فكان أكيدا، وإن كان موجودا من قبل بالفعل، في سماع هذه الكلمة، وإجبارك على التوقف مكانك، والاضطرار إلى التسليم لها، وما تسببه من عار له أن يشعرك بالاختناق. أعني أنه ليس خلال هذه اللحظة حيث لا شيء يشغل بالك إلا أن تبقى آمنا وأن تتجاوز الموقف بسلام، ولكن بعد ذلك، حيث يعتريك شعور عارم بالخجل والعار، ويا لها من أسرار مؤرقة لا يمكن نسيانها! الضعف في حد ذاته عار. إننا مخلوقات يجللها الخزي والعار.
لم أكن لأخبر أحدا عن هذا، ولم ألتمس من أحد المساعدة قط. كان بإمكاني أن أتحمل أي أخطار، أتحمل أي نوع من العنف، أو إهانة شديدة، بدلا من ترديد ما قيل لي، أو الاعتراف به. ولقد رأيت في هذا الموقف أنني لا أستطيع التماس أي مساعدة، أو أي قوة تساندني. ولقد فكرت بالطبع أن هذا كل ما قد يقال لي، وأن هاوارد تروي سيعرف ما يمكنه تهديدي به، وأن هذه كانت مجرد إشارة. ولذلك كان يجب أن أخفي الأمر وأخرجه من ذهني تماما، سريعا، سريعا، وكأنه لم يحدث لي قط، ولكني لم أستطع عمل كل هذا في نفس الوقت، فهو عالق في ذاكرتي بشكل لا أستطيع طرده منها دفعة واحدة، كانت كأنها ذكريات مكبوتة ثم تدفقت كلها في مكان آخر في عقلي. •••
اعتادت روبينا أن تصحبني إلى المنزل معها. كنا نسير عبر الغابة، خلف المكان حيث المطار حاليا، على بعد ميل أو ربما ميل ونصف من المزرعة الصغيرة التي كانت توجد بها أكوام من الحجارة في منتصف الحقول. كنا نذهب إلى هناك في الشتاء، وقد أرتني روبينا أيضا ما أطلقت عليه طريق الذئاب. كانت تعرف حادثة تعرض لها طفل صغير كان موضوعا في مزلجة الجليد يجرها كلب، وعندما سمع الكلب الذئاب تعوي في الغابة، أسرع بكل قوته لكي ينضم إليها، وكان الطفل لا يزال معلقا به في المزلجة. وعندما ذهب الكلب إلى المكان الذي كانت فيه الذئاب، تحول هو أيضا إلى ذئب، وتجمعوا كلهم فأخرجوا الطفل من المزلجة ونهشوه نهشا.
عندما كنا نمشي في الغابة كانت روبينا تزيد من سلطتها علي، أو تكتسب نوعا آخر من السلطة مختلفا عما تتمتع به في مطبخ أمي، حيث كان كل ما تحمله هناك هو لقب الخادمة غير الملائم الذي يعطي عنها انطباعا مضللا تماما. جسدها الطويل المسطح كان يبدو متراخيا، يتمايل مثل باب يتأرجح على مفصلاته، محكوم، ولكنه خطير جدا إذا اعترضت طريقه. أظن أنها كانت في العشرين من عمرها في ذلك الحين، ولكنها كانت تبدو بالنسبة لي أكبر سنا كما لو كانت في عمر أمي، كانت تبدو كبيرة كمدرسات المدرسة القويات الكبيرات في السن، والسيدات العجائز المسئولات عن المتاجر. كان شعرها مقصوصا قصيرا، داكن اللون، مسحوبا بإحكام حول جبهتها وممسوكا بدبابيس الشعر. كانت رائحتها كرائحة المطبخ، وملابسها معبقة برائحة العرق الجاف. كان هناك شيء قاتم مكفهر فيها؛ في بشرتها وشعرها وملابسها ورائحتها. ولكن لا شيء من هذا كله يمكن الاعتراض عليه. من ذا الذي يستطيع الاعتراض على روبينا؟ من ذا الذي بمقدوره أن يكون بهذا التهور؟
كان علينا أن نعبر جسرا لم يكن مكونا إلا من ثلاثة جذوع خشبية، موضوعة بغير انتظام. أخذت روبينا تلوح بذراعيها لحفظ التوازن، وكم قميصها نصف المطوي يتخبط كجناح طائر مصاب فوق الماء.
كانت حكايتها الأكثر أهمية هي كيف اعتادت أن تتبع خطى أمها، التي كانت تعمل خادمة في منازل سيدات البلدة منذ سنوات مضت. في أحد المنازل كانت هناك غسالة وعصارة كهربائية، كانت اختراعا جديدا في ذلك الحين. كانت روبينا، التي كانت في الخامسة من عمرها في ذلك الوقت، تقف فوق كرسي لتضع الملابس في العصارة (ومن ذلك أيضا فهمت أنه لم يكن بمقدورها أن تترك أي شيء على حالته، كان يجب أن تظهر نفسها أنها القائدة في أي عملية تجرى). بيد أن العصارة أمسكت بيدها، ثم بذراعها، وبترت ذراعها من المنطقة بين المعصم والكوع. لم تظهر هذا الجزء قط، وكانت دائما تلبس فستانا أو قميصا بأكمام طويلة، ولكن يخيل إلي أن هذا لم يكن نوعا من الإحساس بالخجل، كان شيئا تفعله لزيادة الغموض والأهمية حولها. أحيانا في الطريق كان الأطفال الصغار يلاحقونها، قائلين: «روبينا، روبينا، أرينا ذراعك!» كانت طلباتهم تلك نابعة من رغبة حقيقية في الاكتشاف، وبمنتهى الاحترام، بيد أنها تتركهم يستمرون في التوسل إليها قبل أن تقوم بإبعادهم مثل الدجاج. كانت هي القائدة لكل هؤلاء الذين ذكرتهم. من ذا الذي يمكنه أن يحول الإعاقة إلى شيء محل حسد، والسخرية إلى إعجاب؟! أما أنا فلم أفكر في هذه الذراع المبتورة إلا كشيء قامت هي باختياره، كدليل على العناد والقوة.
لكم تقت إلى رؤيتها، كنت أعتقد أنها قد قطعت كلية، مثل قطعة خشب، كاشفة العظم والعضلات والأوعية الدموية والأنسجة والغضاريف بوضوح. كنت أعرف أن فرصتي لرؤية هذه الذراع مثل فرصتي في النظر إلى الجانب المعتم من القمر.
بقية القصص كانت معنية بأفراد أسرتها. «عندما كان دوفال صغيرا كان يعتلي سطح المنزل طوال اليوم، حيث يساعدهم في كساء السطح بالأخشاب. كان من المفترض ألا يكون هناك؛ لأن بشرته كانت فاتحة وحساسة، أفتح بشرة في عائلتنا. كل عائلتي شقراء، إلا أنا وفيندلي، أكبر وأصغر أبناء الأسرة. لم يفكر أحد في تأثير حرارة الشمس على دوفال أو أن يضع قبعة فوق رأسه. أنا الوحيدة التي كنت سأفكر في هذا، ولكني لم أكن موجودة في المنزل. ولكن حتى لو قمت بوضع قبعة فوق رأسه كان هو سيقوم بخلعها، ربما لأنه يعتقد أنه أذكى من أن يلبس قبعة إذا كان الرجال الآخرون لا يلبسون قبعات. وبعد العشاء استلقى على الأريكة كالنائم، وبعد قليل فتح عينيه وقال بصوت عال جدا: «انزعي هذا الريش عن وجهي.» حسنا، لم نر أي ريش، ومن ثم تعجبنا جميعا، بعد ذلك جلس مكانه وأخذ يدقق النظر باتجاهنا، لم يستطع التعرف علينا، قائلا: «جدتي، أحضري لي كوبا من الماء. أرجوك يا جدتي، أحضري لي كوبا من الماء.» لم تكن جدتي هنا على الإطلاق، كانت متوفاة، ولكن لو سمعه أحدهم وهو يقولها لحسب أنها تجلس بجواره تماما ولم يكن معه بالغرفة أي أحد منا على الإطلاق أو في أي مكان يستطيع رؤيته.»
فسألتها متأثرة: «هل أصيب بضربة شمس؟»
أجابتني: «بل شاهد رؤيا من السماء.»
Неизвестная страница