من أفضل ما قيل عن الكتاب
سر يؤرقني
مادة قصصية
كيف التقيت زوجي!
المشي على الماء
تسامح عائلي
قل لي نعم أو لا
مغامرة القارب
الجلادون
مراكش
المرأة الإسبانية
رياح الشتاء
مراسم التأبين
وادي أوتاوا
من أفضل ما قيل عن الكتاب
سر يؤرقني
مادة قصصية
كيف التقيت زوجي!
المشي على الماء
تسامح عائلي
قل لي نعم أو لا
مغامرة القارب
الجلادون
مراكش
المرأة الإسبانية
رياح الشتاء
مراسم التأبين
وادي أوتاوا
سر يؤرقني
سر يؤرقني
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
محمد أحمد شيخون
مراجعة
ضياء وراد
من أفضل ما قيل عن الكتاب
أليس مونرو روائية تتمتع بموهبة فريدة من نوعها، وهي بصدد أن تكون واحدة من أعظم الكتاب على مستوى العالم ... إن كل قصة قصيرة تكتبها لهي ملحمة متعددة الفصول.
ملحق النقد الأدبي بصحيفة «ذا نيويورك تايمز»
يا لها من مجموعة قصصية بديعة الجمال وبالغة الإحساس ... إنها جولة تخلب الألباب في عالم من الحب والوعيد والمفاجأة ... إن أليس مونرو ذات مواهب جمة وحس راق.
صحيفة «لوس أنجلوس تايمز»
مجموعة قصصية رائعة ... متعة لا حدود لها.
صحيفة «سياتل بوست إنتليجنسر»
رحلة ثرية في خفايا عالم المرأة ... إنها مجموعة تتفوق في خصوبة خيالها وأمانتها وحساسيتها وتعاطفها مع قضايا المرأة على أدب اليوم وكتابه.
مجلة «إم إس»
رائعة أدبية ... برهان لا يطاله نقد على مقدرة أليس مونرو الواضحة على نقل جوهر الشخصية بكل ما يموج بها من أهواء النزوات البشرية ... لكم يصعب تخيل وجود إدراك للنفس البشرية يتميز بنظرة ثاقبة كهذه!
صحيفة «هيوستن بوست»
إلى شيلا، وجيني، وأندريا.
سر يؤرقني
«على أي حال، إنه يعرف كيف يفتن النساء.» هكذا قالت إت لشار. لم يكن بمقدورها أن تعرف ما إذا كانت شار قد صارت أكثر شحوبا لدى سماعها ذلك؛ نظرا لأن شار كانت بالفعل شاحبة لأقصى درجة، ومع ابيضاض شعرها الآن، صارت أشبه بشبح إنسان. بيد أنها لا تزال جميلة؛ إذ لم تفقد رونقها.
واصلت إت قائلة: «إنه لا يكترث بالسن أو الحجم. أعتقد أنها موهبة فطرية يتمتع بها، لكني آمل ألا تكون السيدات ينخدعن فيه ويقعن بين براثنه.»
قالت شار: «هذا أمر لا يقلقني.»
قبل يوم واحد، قبلت إت دعوة بلايكي نوبل للذهاب معه في واحدة من جولاته والاستماع إلى معسول كلامه. ووجهت الدعوة أيضا إلى شار، ولكنها لم تذهب بالطبع. كان بلايكي نوبل يقود حافلة، كان الجزء السفلي منها مطليا باللون الأحمر فيما كان الجزء العلوي مخططا، بحيث تشبه المظلة. وعلى جانب الحافلة كتبت الكلمات التالية: «جولات على شواطئ البحيرات، مقابر الهنود، الحدائق الجيرية، منتجع المليونيرات، مع السائق والمرشد بلايكي نوبل.» كان بلايكي يقيم في غرفة بالفندق، وكان يعمل أيضا مع أحد مساعديه بالأرض في تجزيز العشب وتقليم أشجار أسوار الحدائق وحفر الحواف. يا له من ذل بعد عز! قالتها إت في بداية فصل الصيف عندما اكتشفت عودته؛ فقد عرفته هي وشار في الأيام الخوالي.
وهكذا وجدت إت نفسها محشورة في حافلته مع الكثير من الغرباء، لكنها بحلول عصر اليوم كونت صداقات مع عدد منهم، وقطعت على نفسها وعودا بتوسعة بعض السترات، كما لو أنه لم يكن لديها ما يشغلها بالفعل. كان هذا كله على هامش الأحداث، أما ما كان يشغل بالها حقا فهو مراقبة بلايكي.
وما الذي لديه ليستعرضه؟ بضع ربى ينمو عليها العشب، مدفون تحتها جثث الهنود، بقعة من الأرض مليئة بمنحوتات جيرية غريبة الشكل، كئيبة المنظر، ذات لون أبيض مائل للرمادي - في محاكاة متكلفة لنباتات (يمكنك أن تعتبرها مقبرة إن أردت ذلك) - ومنزل عتيق ذو هيئة بشعة بني بأموال الخمور، غير أن بلايكي حقق أقصى استفادة منه؛ إذ بدأ عرضه بحديث تاريخي عن الهنود، أتبعه بحديث علمي حول الحجر الجيري. لم يكن أمام إت وسيلة لمعرفة مدى صحة ما يرويه لهم. أما آرثر فيعرف، ولكنه لم يكن هناك؛ فلم يكن هناك سوى نسوة سخيفات، يأملن أن يمشين بجانب بلايكي من المعالم السياحية وإليها، والدردشة معه وهن يحتسين الشاي في جناح الحجر الجيري، متطلعات إلى أن يضع يده القوية أسفل مرافقهن، بينما تمسد يده الأخرى مكانا ما حول الخصر، وهو يساعدهن في النزول من الحافلة (همست إت بحدة: «أنا لست سائحة» عندما حاول فعل ذلك معها).
أخبرهن أن المنزل كان مسكونا. وكانت أول مرة في حياتها تسمع إت عن ذلك، وهي التي تعيش على بعد عشرة أميال منه طوال حياتها؛ إذ إن امرأة قتلت زوجها، ابن المليونير، أو على الأقل يعتقد أنها هي من قتله. «كيف؟» هكذا صاحت إحدى السيدات في إثارة جنونية.
عندها قال بلايكي بصوت رقيق، جمع بين السخرية والحنو في الوقت نفسه: «آه، إن السيدات حريصات دائما على معرفة الوسيلة. لقد قتلته بالسم ... البطيء، أو هذا ما قالوه. بيد أن هذا كله محض إشاعات، ثرثرة أهل البلدة.» (قالت إت لنفسها: ثرثرة أهل البلدة! مستحيل.) «كل ما هنالك أنها لم تحب صديقاته من السيدات. لم تحبهن الزوجة. بالقطع لم تحبهن.»
أخبرهن أن الشبح أخذ يذرع الحديقة جيئة وذهابا، بين صفين من شجر التنوب الشائك. لم يكن القتيل هو من يمشي، بل زوجته، نادمة على فعلتها. ابتسم بلايكي في أسف لمن جاءوا معه في الحافلة. في البداية اعتقدت إت أن اهتمامه مصطنع، مجرد مغازلة تجارية عادية، لمنحهم بضاعة تعادل قيمة ما دفعوه من أموال، ولكن فكرتها تلك أخذت في التغير شيئا فشيئا؛ فقد كان ينحني على كل امرأة يتحدث إليها - بصرف النظر عن بدانتها أو نحافتها أو سخافتها - كما لو كان هناك شيء خاص فيها يود العثور عليه. كانت نظرته لطيفة وضاحكة ولكنها في حقيقتها جادة وثاقبة (هل كانت تلك هي النظرة التي تطل من أعين الرجال في نهاية المطاف عندما يمارسون الحب، تلك النظرة التي لن تراها إت أبدا؟) جعلته يبدو وكأنه يريد أن يكون غواصا في أعماق البحار، يغوص ويغوص عبر الفراغ والبرد والحطام لاكتشاف شيء واحد وطن نفسه على اكتشافه، شيء صغير ولكنه ثمين، شيء يصعب إيجاده، كياقوتة في قاع المحيط. تلك هي النظرة التي تود أن تصفها لشار. لا شك أن شار رأتها من قبل، لكن هل عرفت كيف يجري توزيعها بالمجان؟ •••
كانت شار وآرثر يخططان لرحلة ذلك الصيف لمشاهدة حديقة يلوستون وأخدود جراند كانيون، لكنهما لم يذهبا؛ إذ تعرض آرثر لسلسلة من نوبات الدوار قبيل نهاية المدرسة، ونصحه الطبيب بملازمة الفراش. كان آرثر يعاني العديد من الأمراض؛ فقد كان مريضا بالأنيميا ويعاني عدم انتظام ضربات القلب، علاوة على متاعب كليتيه. وكانت إت تخشى إصابته بسرطان الدم، حتى إن الأرق داهم لياليها من فرط القلق.
قالت لها شار بهدوء: «لا تكوني سخيفة، كل ما هنالك أنه مجهد وحسب.»
استيقظ آرثر في المساء وجلس مرتديا منامته. جاء بلايكي نوبل للزيارة، وقال إن غرفته بالفندق تقع فوق المطبخ مباشرة، وإنه كان يشعر كما لو أنهم كانوا يحاولون طهوه بالبخار، وهو ما جعله يستحسن هواء الشرفة اللطيف. لعبوا الألعاب التي يحبها آرثر، ألعاب معلم المدرسة. لعبوا لعبة الجغرافيا، وحاولوا معرفة من بمقدوره تكوين أكبر عدد من الكلمات من اسم «بيتهوفن». فاز آرثر؛ فقد حصل على أربع وثلاثين نقطة، وكان مسرورا أيما سرور.
قالت شار: «تحسب نفسك وجدت الكأس المقدسة!»
لعبوا لعبة «من أنا؟» حيث كان على كل منهم اختيار شخصية ما - حقيقية أو خيالية، حية أو ميتة، إنسان أو حيوان - فيما كان على الآخرين محاولة تخمين من تكون تلك الشخصية من خلال طرح عشرين سؤالا فقط. استطاعت إت تخمين حقيقة الشخصية التي يقصدها آرثر بعد السؤال الثالث عشر: السير جالاهاد. «لم يدر بخلدي قط أن تعرفيه بهذه السرعة.» «لقد تذكرت ما قالته شار عن الكأس المقدسة.»
قال بلايكي مقتبسا عن السير جالاهاد: «قوتي تساوي قوة عشرة؛ لأن قلبي نقي!» ثم أضاف: «لم أكن أعرف أنه بمقدوري تذكر ذلك.»
قالت إت: «كان حريا بك أن تكون الملك آرثر. فاسمك على اسمه.» «كان حريا بي ذلك، فالملك آرثر كان متزوجا من أجمل امرأة في العالم.»
قالت إت: «ها، نعرف جميعا نهاية تلك القصة.»
توجهت شار إلى غرفة المعيشة وأخذت تعزف على البيانو في الظلام:
الزهور تتفتح في الربيع، ترا ... را،
ما بيدها حيلة حيال هذا الصنيع ...
عندما جاءت إت لاهثة في يونيو الماضي، وقالت: «خمني من رأيت وسط البلدة بالشارع؟» أجابتها شار التي كانت جالسة متكئة على ركبتيها تلتقط حبات الفراولة: «بلايكي نوبل.» «أرأيته؟»
قالت شار: «كلا، كل ما هنالك أنني خمنت ذلك، أعتقد أنني خمنته من نبرة صوتك.»
اسم لم يأتيا على ذكره طوال ثلاثة عشر عاما. وكانت إت مندهشة للغاية، حتى إنها لم تستطع التفكير في التفسير الذي طرأ على بالها لاحقا. فما الذي يدعو إلى أن يكون هذا الأمر مفاجئا لشار؟ فخدمة البريد متاحة في هذه البلدة، متاحة طوال الوقت.
قالت: «سألته عن زوجته، تلك المرأة المغرمة بالدمى» (كما لو أن شار لا تتذكر ذلك). «وقال لي إنها قد ماتت منذ زمن طويل. ليس هذا وحسب، بل تزوج مرة أخرى وماتت أيضا. ولم تكن أي منهما ثرية. وأين كل مال آل نوبل، من الفندق؟»
قالت شار وهي تقضم حبة فراولة: «لن يتسنى لنا أبدا أن نعرف.» •••
افتتح الفندق مؤخرا مرة أخرى. كان آل نوبل قد تخلوا عنه في العشرينيات وتولت البلدة تشغيله فترة من الوقت كمستشفى؛ أما الآن فقد اشتراه بعض الناس من تورونتو، وجددوا غرفة الطعام، ووضعوا فيه ركنا للمشروبات، واستصلحوا المروج والحديقة، مع أن ملعب التنس بدا غير قابل للإصلاح. كذلك وضعت أدوات الكروكيه بالخارج مرة أخرى، وجاء الناس للإقامة فيه في فصول الصيف، لكنهم ليسوا من نوعية الأشخاص الذين اعتادوا المجيء إليه: أزواج متقاعدون، وكثير من الأرامل والسيدات غير المتزوجات. ما من أحد يكلف نفسه عناء المشي مسافة مربع سكني واحد لرؤيتهم وهم ينزلون من على متن القارب، ناهيك عن أنه لم يعد هناك قارب. هذا ما دار بخلد إت.
في المرة الأولى التي التقت فيها بلايكي نوبل في الشارع حرصت على ألا تفاجأ. كان يرتدي بدلة كريمية اللون، وشعره الذي طالما اكتسى بالبياض بفعل الشمس، صار الآن أبيض، كله. «بلايكي. عرفت أنه إما أنت أو أن ما أراه ليس إلا مخروط آيس كريم الفانيليا. أراهن أنك لا تعرف من أنا.» «أنت إت ديزموند، والشيء الوحيد المختلف فيك هو أنك قصصت ضفائر شعرك.» وطبع قبلة على جبينها؛ لا يزال جريئا كعهدها به.
قالت إت وهي تتساءل في نفسها عمن رأى ما حدث: «إذن فقد عدت مرة أخرى لزيارة ديارك القديمة.» «لم آت للزيارة فحسب، وإنما سترينني كثيرا.» ثم أخبرها كيف أنه علم بافتتاح الفندق مرة أخرى، وكيف أنه أصبح يمتهن قيادة الحافلات في الجولات السياحية في أماكن مختلفة بفلوريدا وبانف. وعندما سألته أخبرها بأمر زيجتيه الاثنتين، ولم يسألها قط إن كانت قد تزوجت؛ ليقينه من عدم زواجها، كما لم يسأل إن كانت شار تزوجت، حتى أخبرته هي بنفسها. •••
تذكرت إت أول مرة أدركت فيها أن شار جميلة. كانت تنظر إلى صورة التقطت لهم: هي وشار وشقيقهما الذي مات غرقا. كانت إت في العاشرة من عمرها في الصورة، أما شار فكانت في الرابعة عشرة، في حين كان ساندي يبلغ حينذاك سبعة أعوام ولم يكتب له أن يعيش بعدها سوى أسبوعين فقط. كانت إت جالسة على كرسي بدون مساند للذراعين، وشار من خلفها، طاوية ذراعيها على ظهر الكرسي، فيما كان ساندي مرتديا بدلة بحار وجالسا القرفصاء على الأرض، أو الشرفة الرخامية، كما يخيل للرائي؛ نظرا للمؤثرات التي لم تحدثها سوى ستارة متربة مصفرة اللون، ولكنها ظهرت في الصورة عمودا رخاميا مشدودة إليه ستارة، لتنحسر عن شجر الحور ونوافير عن بعد. كانت شار تزين شعرها من الأمام بدبابيس، وترتدي فستانا حريريا ذا لون أزرق متألق يصل إلى كاحلها - بالطبع لم يظهر لونه في الصورة - مع شرائط مخملية معقدة سوداء اللون. كانت تبتسم ابتسامة رقيقة تنم عن الرزانة. يخيل لمن يراها أنها في الثامنة عشرة أو الثانية والعشرين. لم يكن جمالها من النوع المبهرج المفتقر للثقة بالنفس الذي كان يظهر كثيرا على التقويمات وعلب السيجار في تلك الفترة، بل كان ذكيا ومرهفا، عنيدا، ومفعما بروح التحدي.
أطالت إت النظر إلى الصورة، ثم ذهبت ونظرت إلى شار التي كانت في المطبخ . كان هذا يوم الغسيل. كانت المرأة التي جاءت للمساعدة تسحب الملابس عبر العصارة، فيما كانت أمهما تجلس للاستراحة محدقة عبر الباب السلكي (إنها لم تتجاوز وفاة ساندي قط، ولم يتوقع أحد منها أن تتجاوزها). كانت شار تنشي ياقات أبيها الذي كان يمتلك محلا يبيع فيه التبغ والحلوى في الساحة ويرتدي ياقة جديدة يوميا. كانت إت مهيأة نفسيا لرؤية بعض التحول، كما في الخلفية، ولكن خاب أملها؛ إذ كانت شار منحنية على حوض النشا متعكرة المزاج تلوذ بالصمت (فهي تبغض يوم الغسيل حيث الحرارة والبخار وخفق الملاءات وضجيج الغسالة الشديد، في الواقع لم تكن شار مغرمة بأي من الأعمال المنزلية)، مما جعلها تظهر وجهها الحقيقي بنفس الانسجام المعبر عن الترفع، كما في الصورة تقريبا. هذا جعل إت تفهم - وإن كان بطريقة غير محببة تماما - أن صفات الشخصيات الأسطورية حقيقية، وأنها تظهر على السطح حيثما وحينما لا تتوقع ظهورها. فلطالما حسبت أن النساء الجميلات هن من صنع الخيال؛ فقد اعتادت هي وشار الذهاب لمشاهدة الناس وهم ينزلون من قارب الرحلة، أيام الآحاد، ويمشون حتى الفندق. كان اللون الأبيض من الكثرة بحيث إنه يؤذي عينيك؛ فساتين السيدات، ومظلات الشمس، وملابس الرجال المناسبة لفصل الصيف، وقبعات بنما المصنوعة من القش، ناهيك عن ضوء الشمس المبهر المنعكس على صفحة الماء، وفرقة العزف. ولكن بالنظر عن كثب إلى أولئك السيدات، وجدت إت ما يعكر صفو هذه الصورة؛ بشرة متجعدة أو أردافا سمينة أو رقبة هزيلة كرقبة الدجاج أو شعرا مجعدا كأعشاش الطيور. لم يكن أي شيء كهذا يفوت إت، على صغر سنها آنذاك. وفي المدرسة كانت محل احترام الجميع؛ نظرا لرباطة جأشها وسلاطة لسانها؛ إذ لم تكن تتورع عن إخبارك بأنك كنت تقف عند السبورة وجوربك مثقوب أو حاشية ثوبك ممزقة. كانت تقلد المدرس وهو يقرأ قصيدة «دفن السير جون مور» (ولكن في ركن آمن بفناء المدرسة بعيدا عن مسامع المدرسين).
مع ذلك كان سيلائمها كثيرا، هي وليس شار، أن تجد الجمال في إحدى أولئك السيدات . كان ذلك سيلائمها أكثر مقارنة بشار في مئزرها المبلل وتعابير وجهها المكفهر وهي منحنية على حوض النشا. فلم تكن إت ممن يحبون المتناقضات، لم تكن تحب أن تكون الأشياء في غير محلها، لم تكن تحب الألغاز أو المبالغات.
لم تعجبها السمعة السيئة البائسة التي التصقت بها جراء الربط بينها وبين غرق ساندي، لم تحب احتفاظ الناس في ذاكرتهم بمشهد والدها وهو يحمل الجثمان من الشاطئ. كان يمكن رؤيتها في الشفق، مرتدية سروالها الرياضي، تتقافز بحركات دائرية في حديقة المنزل المنكوب. وقد مطت شفتيها ساخرة، دون أن يراها أحد، عندما قالت شار يوما ما في المنتزه: «هذا أخي الصغير الذي مات غرقا.» •••
كان المنتزه يطل على الشاطئ. كانوا يقفون مع بلايكي نوبل، ابن مالك الفندق الذي قال: «تلك الأمواج قد تكون خطرة؛ فمنذ ثلاث أو أربع سنوات مضت غرق طفل ها هنا.» «إنه أخي الصغير الذي مات غرقا.» عندما قالتها شار، تصديقا على كلامه، لم تقلها بتأثر، بل من باب التسلية تقريبا، ولتثبت له أنه لا يعرف إلا أقل القليل عن أهل موك هيل.
لم يكن بلايكي نوبل أكبر من شار سنا، ولو كان كذلك لالتحق بجبهة القتال في فرنسا، ولكنه لم يكن مضطرا للعيش في موك هيل طوال حياته؛ لذا لم تكن معرفته بأهالي البلدة الحقيقيين أفضل حالا من معرفته بنزلاء فندق والده المعتادين. وفي شتاء كل عام كان يذهب مع والديه إلى كاليفورنيا بالقطار؛ حيث شاهد أمواج المحيط الهادي، وتعهد بالولاء لعلم بلاده. كان ذا مظهر غير متكلف، وذا بشرة لوحتها الشمس. كان هذا في وقت لا يكتسب فيه الناس بشرة ملوحة عادة نتيجة لقضاء أوقات الفراغ، بل بسبب العمل فقط. كذلك ابيض شعره من أشعة الشمس. كان جمال هيئته يضاهي جمال هيئة شار تقريبا، ولكن وسامته أفسدها سحره، أما هي فلا.
كان ذلك اليوم هو يوم الذروة في موك هيل وجميع البلدات الأخرى الواقعة على البحيرات، وبجميع الفنادق التي ستتحول في وقت لاحق إلى مخيمات سانشاين كامبس لأطفال المدينة، ومصحات للسل، وثكنات لتدريب الطيارين بالسلاح الجوي الملكي إبان الحرب العالمية الثانية. كان يتم تجديد الطلاء الأبيض للفندق في ربيع كل عام، وتوضع قطع خشبية مفرغة مليئة بالزهور على الأسوار، فيما تشد أصص الزهور بسلاسل وتتأرجح فوقها. تم نثر أدوات الكروكيه والأرجوحات الخشبية على المروج في الخارج، وجرى تمهيد ملعب التنس. وبالنسبة لسكان المدينة الذين لا يستطيعون تحمل نفقات الإقامة في الفندق، من عمال المصانع وكتبة المتاجر وفتيات المشاغل، فكانوا يقيمون في صف من أكواخ صغيرة يربط بينها سور شبكي يخفي سلال القمامة ودورات المياه الجماعية، ممتد حتى الشاطئ. أما فتيات موك هيل، أو تحديدا من كانت لهن أمهات يقلن لهن ما يجب عليهن فعله، فكن يحذرن من السير هناك. لكن لم يخبر أحد شار بما عليها فعله؛ لذلك كانت تسير على طول الممشى أمامهم في وضح النهار، مصطحبة معها إت بغرض الصحبة. لم يكن في نوافذ الأكواخ زجاج، وإنما مصاريع خشبية متهالكة تغلق في الليل. ومن وراء الثقوب المظلمة كانت تأتيهما دعوة أو اثنتان خافتتان، تنمان عن الأسى أو السكر، وهذا كل شيء. لم يكن في مظهر شار ولا أسلوبها ما يجذب الرجال، بل ربما كان يثنيهم. وفي جميع مراحل دراستها بالمدرسة الثانوية في موك هيل لم تتخذ صديقا واحدا. كان بلايكي نوبل أول أصدقائها، إذا اعتبرناه كذلك.
ما الذي آلت إليه تلك العلاقة بين شار وبلايكي نوبل في صيف عام 1918؟ لم يتسن لإت قط أن تعرف على وجه اليقين؛ فهو لم يتصل بهاتف المنزل، على الأقل ليس لأكثر من مرة أو مرتين، وبقي مشغولا بعمله في الفندق. وفي عصر كل يوم كان يقود سيارة الرحلات المكشوفة، مع مظلة أعلاها، على طريق شاطئ البحيرة مصطحبا السياح لزيارة مقابر الهنود الحمر وحديقة الأحجار الجيرية ولإلقاء نظرة عبر الأشجار على القصر الحجري المبني على الطراز القوطي، الذي بناه أحد مصنعي الخمور في تورونتو، والمعروف محليا باسم قلعة الخمر. كذلك كان بلايكي مسئولا عن برنامج المنوعات الذي يقدمه الفندق أسبوعيا، مع مجموعة من المواهب المحلية، والضيوف الذين يستعين بخدماتهم، والمغنين والممثلين الكوميديين المحترفين الذين يجلبهم خصوصا من أجل العرض.
بدا أن الأوقات المتأخرة من الصباح هي الأوقات المفضلة له هو وشار؛ حيث دأبت شار على قول: «هيا، يجب أن أذهب إلى وسط البلدة.» وكانت في الواقع تلتقط البريد وتمشي جزءا من الطريق حول الساحة قبل أن تغير وجهتها إلى المنتزه، وسرعان ما يخرج بلايكي نوبل من الباب الجانبي للفندق ويأتي مهرولا على الممر المنحدر. في بعض الأحيان لم يكن يعبأ حتى بالممر ويقفز من فوق السور الخلفي؛ ليثير إعجابهما. لم يكن يفعل شيئا من هذا، من هرولة أو قفز، بالطريقة التي يفعلها بعض الصبية من مدرسة موك هيل الثانوية، برعونة ولكن بتلقائية. كان بلايكي نوبل يتصرف كرجل يقلد الصبيان؛ وكان يسخر من نفسه ولكن كان رشيقا كممثل.
قالت إت لشار وهي تشاهده: «أليس مغرورا؟» كان رأيها المبدئي في بلايكي أنه شخص بغيض.
قالت شار: «بلى، هو كذلك.»
ثم وجهت حديثها إلى بلايكي، قائلة: «إت تقول إنك مغرور.» «وماذا قلت لها أنت؟» «لقد قلت لها إنك يجب أن تكون كذلك، فلا أحد غيرك يعجب بك.»
لم يلق بلايكي بالا؛ وكان رأيه المبدئي في إت أنها جديرة بالإعجاب. يمكنه بحركة سريعة مفاجئة منه أن يفك ضفائرها ويفسد تسويتها. حكى لهما أشياء عن فناني الحفل، وأخبرهما أن المغني الاسكتلندي كان سكيرا يلبس مشد الصدر، وأن مقلد الشخصيات النسائية حتى في فندقه يرتدي ثياب نوم كحلية مكسوة بالريش، وأن محركة العرائس كانت تتحدث إلى دميتيها (ألفونس وأليسيا) كما لو كانتا شخصيتين حقيقيتين، وأنها أجلستهما في الفراش من حولها ونامت بينهما.
سألته شار: «وأنى لك أن تعرف ذلك؟» «لقد أخذت لها إفطارها في غرفتها.» «أعتقد أن لديكم خادمات في الفندق يتولين تلك المهمة.» «اعتدت في الصباح التالي للعرض أن أفعل ذلك. هذا عندما أسلمهم مظروف أجرهم وأوراق مغادرتهم؛ فبعضهم قد يمكث أسبوعا كاملا إن لم تخبريه بالمغادرة. جلست محركة العرائس في الفراش وحاولت إطعامهما فتات لحم الخنزير المقدد والحديث إليهما وجعلهما تردان عليها. كان سيجن جنونك لو رأيتها.»
قالت شار بهدوء: «أعتقد أنها مجنونة.» •••
ذات ليلة من صيف ذلك العام استيقظت إت متذكرة أنها تركت فستانها الوردي المصنوع من قماش الأورجانزا على الحبل بعد غسله بيديها، وظنت أنها سمعت صوت هطول الأمطار، بضعا من أولى قطراتها وحسب. في الواقع لم تكن السماء تمطر، وما سمعته لم يكن سوى حفيف أوراق الشجر، ولكنها ارتبكت لاستيقاظها هكذا. اعتقدت أيضا أن الوقت متأخر جدا من الليل، ولكن بالتفكير في الأمر لاحقا تبين لها أنها في منتصف الليل تقريبا. نهضت ونزلت السلم، وأضاءت مصباح المطبخ الخلفي وخرجت من الباب الخلفي. وقفت بالشرفة الصغيرة وجذبت حبل الغسيل نحوها، عندئذ وتحت قدميها تقريبا من بين العشب النامي بجوار الشرفة مباشرة، حيث كانت هناك أجمة كبيرة من زهور الليلك نمت وانتشرت دون أن يعتني بها أحد لتصل إلى حجم شجرة، كان هناك شخصان لا هما بواقفين ولا بجالسين، يطلان برأسيهما كما لو كانا راقدين على الفراش، وهما لا يزالان متشابكين بطريقة أو بأخرى. لم يضئ مصباح المطبخ الخلفي الخارج إضاءة مباشرة، ولكنه أضاء الفناء بما يكفي كي ترى وجهيهما. كانا بلايكي وشار.
لم يتسن لها قط معرفة الحالة التي كانت عليها ملابسهما لترى إلى أي مدى وصلا أو سيمضيان. لم تكن تريد ذلك؛ فيكفيها أن ترى وجهيهما، وفمويهما المفتوحين المتورمين، وخديهما المصعرين للقبلات، وعيونهما الجاحظة. تركت إت فستانها وهرولت عائدة إلى المنزل، ومن ثم إلى فراشها حيث فوجئت بالنعاس يهبط عليها. في اليوم التالي لم تقل لها شار كلمة واحدة عما حدث، كل ما قالته: «إت، لقد أحضرت لك فستانك؛ فقد خشيت أن تمطر ليلا.» كما لو أنها لم تر إت في الخارج ليلة أمس تجذب حبل الغسيل، هكذا تساءلت إت. كانت تعرف أنها لو قالت: «لقد رأيتني» فلربما ردت عليها شار بأنها كانت تحلم. تركت شار تعتقد أنها انخدعت بتصديق ذلك، إذا كان هذا ما اعتقدته شار. بتلك الطريقة انفتح الطريق أمام إت لمعرفة المزيد؛ انفتح أمامها الطريق لترى كيف تبدو شار حينما تخور قواها وتترك لنفسها العنان. لم يكن ساندي يبدو أكثر ضياعا منها حينما غرق وسدت فتحتا أنفه بتلك الأشياء الخضراء. •••
قبل الكريسماس وصلت موك هيل أخبار زواج بلايكي نوبل. تزوج محركة العرائس صاحبة الدميتين (ألفونس وأليسيا)، هاتين الدميتين اللتين تلبسهما ملابس سهرة وتصفف شعرهما تصفيفات أنيقة على طريقة فيرنون وإيرين كاستل، لدرجة أنهما علقتا بالذاكرة أكثر من السيدة نفسها. الشيء الوحيد الذي يتذكره الناس على وجه اليقين عنها هو أن سنها لا تقل عن الأربعين بكل تأكيد، فيما كان بلايكي صبيا في التاسعة عشرة من عمره. ولأنه لم يترب كسائر الأولاد الآخرين؛ فقد سمح له بإدارة الفندق والسفر إلى كاليفورنيا والاختلاط بكل أنواع الناس؛ وكانت النتيجة فساد الأخلاق وعدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته.
شربت شار سما، أو ما حسبت أنه سم، ولم يكن في الواقع سوى مزهرة الغسيل؛ إذ كانت أول ما أمكنها الوصول إليه على رف المطبخ الخلفي. رجعت إت إلى البيت بعد المدرسة - كانت قد سمعت الخبر ظهيرة ذلك اليوم من شار نفسها في الواقع، وأخذت تضحك وقالت: «ألم يكن ذلك ليقتلك؟» - ووجدت شار تتقيأ في دورة المياه. صاحت فيها شار قائلة: «اذهبي وأحضري الدليل الطبي.» وندت عنها آهة ألم فظيعة لم تستطع أن تتمالكها، مستطردة: «هيا اقرئي ما يقوله عن السم.» بيد أن إت ذهبت للاتصال بالطبيب. خرجت شار مترنحة من الحمام وممسكة بزجاجة مبيض الغسيل التي كانوا يحتفظون بها خلف الحوض، وقالت بصوت هامس يخرج بصعوبة: «إذا لم تضعي السماعة فسأشرب الزجاجة كلها.» كان من المفترض أن أمهما نائمة خلف باب غرفتها المغلق.
اضطرت إت إلى وضع السماعة والنظر في الكتاب القديم القبيح الذي قرأت فيه منذ أمد بعيد عن الولادة وعلامات الوفاة، وتعرفت فيه على كيفية فحص الفم بمرآة. كان لديها انطباع خاطئ بأن شار قد شربت بالفعل من زجاجة مبيض الغسيل، ومن ثم قرأت كل ما يخص ذلك الموضوع، ثم اكتشفت أنها شربت من المزهرة. ولم يكن الدليل يحوي شيئا عنها، ولكن بدا لها أن أفضل شيء يمكنها فعله أن تحث شار على التقيؤ، كما ينصح الدليل حيال معظم السموم - وإن كانت شار تتقيأ بالفعل ولم تكن في حاجة إلى حثها على ذلك - ثم شرب لتر من اللبن. وعندما تجرعت شار اللبن أصيبت بالغثيان مرة أخرى.
وقالت شار بين تقلصات الألم: «لم أفعل ذلك بسبب بلايكي نوبل. لا تفكري في هذا أبدا؛ فأنا لست بتلك الحماقة، وما هو إلا منحرف تافه، وإنما فعلتها لأنني سئمت حياتي.»
قالت إت بتأثر بعدما مسحت شار وجهها: «ما الذي أصابك بالسأم من حياتك؟» «لقد سئمت تلك البلدة وكل أهلها الأغبياء، وأمي ومرضها بداء الاستسقاء، وتولي شئون المنزل وغسيل الملاءات كل يوم. لا أظن أنني سأتقيأ مرة أخرى. أعتقد أنه يمكنني شرب بعض القهوة؛ فالقهوة مناسبة الآن.»
أعدت إت إبريقا من القهوة وانتقت شار أفضل كوبين، وأخذت الاثنتان تضحكان مقهقهتين وهما ترتشفان القهوة.
قالت إت: «لقد سئمت اللاتينية، وسئمت الجبر. أظن أنني سأتجرع بعضا من مزهرة الغسيل.»
قالت شار: «الحياة كلها منغصات. أيتها الحياة، أين لدغتك؟» «بل أيها الموت، أيها الموت، أين لدغتك؟» «هل قلت الحياة؟ كنت أقصد الموت. أيها الموت، أين لدغتك؟ معذرة.» •••
في عصر أحد الأيام بقيت إت مع آرثر فيما ذهبت شار للتسوق وتغيير الكتب في المكتبة. أرادت إت أن تعد له شراب البيض، فذهبت للبحث عن جوزة الطيب في خزانة شار. ومع الفانيليا ومستخلص اللوز وشراب الرم الاصطناعي، وجدت بالخزانة زجاجة صغيرة لسائل غريب؛ فوسفيد الزنك. قرأت الملصق وقلبتها في يديها. إنه مبيد للقوارض؛ فهو سم فئران إذن. إنها لم تسمع شار وآرثر من قبل يشتكيان من متاعب مع الفئران، وهم يتركون القط توم العجوز نائما عند أقدام آرثر. فتحت إت غطاء الزجاجة واشتمتها للتعرف على رائحة السم. كان عديم الرائحة، بالطبع، ومن المؤكد أنه عديم الطعم أيضا، وإلا فلن يخدع الفئران.
أعادت الزجاجة حيث وجدتها، وأعدت لآرثر شراب البيض ثم قدمته له وشاهدته وهو يشربه. سم بطيء؛ هكذا عادت بها ذاكرتها إلى قصة بلايكي السخيفة. شرب آرثر كطفل صغير محدثا ضوضاء تنم عن إعجابه بالشراب، وهو ما أثار سعادتها أكثر من سعادة آرثر نفسه؛ فقد كان آرثر سيشرب أي شيء تقدمه له. تلك طبيعته. «كيف حالك هذه الأيام يا آرثر؟» «أوه، إت، في بعض الأيام أحس بأنني أقوى قليلا، ثم لا ألبث أن أصاب بانتكاسة. الأمر يستغرق بعض الوقت.»
ولكن لم ينقص من الزجاجة شيء، فالزجاجة تبدو ممتلئة. يا له من هراء فظيع! كتلك الأشياء التي تقرؤها في روايات أجاثا كريستي. سوف تتحدث إلى شار عن الأمر، ولا بد أن شار ستخبرها بالسبب.
ثم سألت آرثر: «هل تريدني أن أقرأ لك؟» فقال لها نعم. جلست بجوار الفراش وقرأت له من كتاب عن دوق ولنجتون. كان يقرأ من الكتاب بنفسه ولكن ذراعيه تعبتا من الإمساك به. كل تلك المعارك والحروب والفظاعات، ما الذي يعرفه آرثر عن تلك الأشياء؟ لماذا يهتم بها لهذه الدرجة؟ لم يعرف شيئا. لم يعرف لماذا حدث ما حدث، ولماذا لم يستطع الناس التصرف على نحو عقلاني. لقد كان خيرا على نحو مثالي، وقارئا للتاريخ، ولكنه لم يقرأ شيئا عما يجري أمام عينيه؛ لا في بيته ولا في أي مكان. كانت إت مختلفة عنه في معرفتها أن ثمة شيئا يجري في الخفاء، حتى وإن كانت لا تفهم السبب؛ كانت تختلف عنه في معرفة أن هناك من لا يمكنك الوثوق بهم.
لم تقل شيئا لشار على كل حال، وكلما كانت في المنزل حاولت اختلاق الأعذار للبقاء وحدها في المطبخ، حتى تستطيع فتح الخزانة والوقوف على أطراف أصابعها وإلقاء نظرة داخلها لترى الزجاجة من بين الزجاجات الأخرى حتى تتأكد من أنه لم ينقص منها شيء. أخذت تعتقد أنها ربما أمست غريبة الأطوار قليلا، كما تفعل العجائز؛ وخوفها هذا أشبه بالمخاوف السخيفة والبريئة التي تنتاب الفتيات الصغيرات في بعض الأحيان، من أنهن سوف يقفزن من النافذة، أو يخنقن طفلا بجلوسهن في عربته؛ مع أن مصدر خوفها لم يكن نابعا من تصرفاتها هي. •••
نظرت إت إلى شار وبلايكي وآرثر، وهم جلوس في الشرفة، محاولة أن تقرر ما إذا كانوا يريدون الدخول وإضاءة الأنوار ولعب الورق. أرادت أن تقنع نفسها بسخافة أفكارها. لمع شعر كل من شار وبلايكي في الظلام. وبينما أوشك آرثر على الصلع الكامل، كان شعر إت متناثرا داكنا. بدت لها شار وبلايكي من نفس الفصيلة؛ نفس الطول وخفة الوزن والقوة مع أبهة جامحة. جلسا متباعدين أحدهما عن الآخر، ولكنهما كانا ملحوظين معا. عشيقان. ليست كلمة رقيقة كما يظن الناس، بل قاسية ومدمرة. كان آرثر جالسا على الكرسي الهزاز واضعا لحافا على ركبتيه، يبدو لها غرا كشيء لم يكتمل نموه؛ غير أن من هم على شاكلة آرثر هم، بطريقة ما، السبب في معظم المتاعب. «أحب حبيبي واسمه يبدأ بحرف الراء؛ لأنه رقيق، واسمه ريكس، ويعيش في مطعم.» «أحب حبيبي واسمه يبدأ بحرف الألف؛ لأنه أليف، واسمه آرثر، ويعيش في قفص.»
قال آرثر: «عجبا يا إت! لم يخطر ذلك على بالي قط. ولكني لا أعرف إن كنت سأحب القفص.»
قالت شار: «تعتقد أننا كنا جميعا في الثانية عشرة من العمر.» •••
بعد حادثة مزهرة الغسيل أصبحت شار مشهورة؛ أخذت تشارك في الأعمال المسرحية التي تنظمها جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو، مع أنها لم تمتلك قط موهبة ممثلة أو مغنية. ودائما ما كانت تقوم بدور البطلة الباردة والجميلة في المسرحيات، أو سيدة المجتمع العصبية الفاتنة. تعلمت التدخين، وذلك بسبب اضطرارها للقيام بذلك على خشبة المسرح. في مسرحية لن تنساها إت أبدا، لعبت دور تمثال، أو بمعنى أدق، لعبت دور فتاة مضطرة للتظاهر بأنها تمثال، بحيث يقع شاب معين في حبها، ثم يكتشف في وقت لاحق، مما يصيبه بالحيرة وربما خيبة الأمل، أنها إنسان. كان على شار أن تقف مدة ثماني دقائق ساكنة تماما على خشبة المسرح، ملتحفة بملاءة بيضاء، تطل على الجمهور بسحنة جميلة لا تنقل أي مشاعر. وقد تعجب الجميع من قدرتها على أداء هذا الدور .
والذي شجعها على الانضمام إلى جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو كان آرثر كومبر، المدرس في المدرسة الثانوية الوافد حديثا إلى موك هيل، الذي كان يدرس التاريخ لإت في سنتها النهائية. كان الجميع يقولون إنه يعطيها درجة الامتياز لأنه يحب شقيقتها، ولكن إت كانت تعلم أن ذلك مرده إلى استذكارها بجد أكثر من أي وقت مضى؛ إذ تعلمت تاريخ أمريكا الشمالية كأن لم تتعلم شيئا آخر في حياتها. لم تنس قط تسوية ميسوري ورحلة ماكينزي إلى المحيط الهادي عام 1793.
كان آرثر كومبر يناهز الثلاثين من العمر أو نحو ذلك، يتميز بجبهة عالية صلعاء، ووجه أحمر مع أنه لم يقرب الشراب (اعترى وجهه الشحوب في وقت لاحق)، وسلوك أخرق أهوج؛ فقد أوقع بزجاجة الحبر من على مكتبه ولطخ أرضية حجرة التاريخ بعلامة لن تزول. «يا إلهي! يا إلهي!» قالها وهو يخر على الأرض متتبعا أثر الحبر المنتشر، ليمسحه بمنديله. أخذت إت تقلده، قائلة: «يا إلهي! يا إلهي!» وكل صيحاته الهوجاء وإيماءاته المشوشة. ثم، عندما أخذ مقالها عند الباب، ولمع وجهه الأحمر بإشراقة تنم عن اللهفة، ورحب بعملها وبها هي نفسها أيما ترحيب، شعرت بالأسف. وقد رأت إت أن هذا هو السبب الذي دفعها للعمل بجد؛ حتى تكفر عن سخريتها منه.
كان لديه عباءة أكاديمية سوداء يرتديها على بدلته وهو يلقي الدروس. حتى عندما لم يكن يرتديها، كان بمقدور إت أن تراها عليه. وعندما كان يهرول بطول الشارع إلى إحدى مهامه العديدة التي يؤديها بكل سرور، مسرعا إلى مطربي أوراتوريو، قافزا على خشبة المسرح - التي كانت ترتج تحت قدميه - ليري شيئا للممثلين في مسرحية، بدا لها وهو يقوم بذلك وكأنه يمتلك أجنحة الغراب الطويلة المضحكة تلك ترف من ورائه، الأمر الذي يجعله مختلفا عن غيره من الرجال، سخيفا ولكنه مثير للاهتمام، كقس متخرج في كلية هولي كروس. أقنعته شار بالتخلي عن العباءة تماما، وذلك بعد زواجهما؛ فقد سمعت أنه تعثر بها وهو يرتقي درجات سلم المدرسة فانبطح أرضا. وكانت تلك نهاية أمر العباءة التي مزقتها إربا. «خشيت أن يأتي يوم تتأذى منها حقا.»
لكن آرثر قال لها: «آه. لعلك اعتقدت أنني أبدو فيها أخرق.»
لم تنكر شار ذلك، مع أن عينيه الناظرتين إليها وابتسامته العريضة كانت تستجديها أن تنكره؛ إذ التوت شفتاها عند الزوايا رغما عنها، تعبيرا عن الازدراء والغضب. رأت إت - كلاهما رأيا - موجة جارفة هائلة من هذا الشعور تجتاحها قبل أن تتمكن من أن تبتسم في وجهه وتقول: «لا تكن سخيفا.» ثم حاولت جاهدة أن تبقي ابتسامتها وعينيها مثبتتين عليه، في محاولة للتشبث بصلاحه (الذي رأته، كما رآه الجميع، ولكنه لم يؤد في النهاية إلا إلى إثارة ثائرتها، في رأي إت، شأنه شأن أي شيء آخر فيه، مثل جبهته المتعرقة وتفاؤله الزائد عن الحد)، قبل أن تعاودها موجة الغليان مرة أخرى وتجتاحها تماما.
تعرضت شار للإجهاض خلال السنة الأولى من زواجها، وظلت بعدها مريضة فترة طويلة، ولم تحمل بعدها قط. في ذلك الحين لم تكن إت تعيش في المنزل؛ إذ كانت تقطن في سكن خاص في الساحة، ولكنها كانت تحضر للمنزل مرة واحدة في يوم الغسيل، لمساعدة شار في تعليق الملاءات على حبل الغسيل. حينها كان والداهما قد توفيا - توفيت أمهما قبل الزفاف أما أبوهما فتوفي بعدها - ولكن بدا لإت أن الملاءات تخص سريرين. «هذا يجعلك تغسلين كما هائلا.» «ما هذا؟» «تغيير الملاءات بطريقتك تلك.»
كثيرا ما كانت إت تذهب هناك مساء لتلعب الريمية بأوراق اللعب مع آرثر بينما تعزف شار على البيانو في الظلام في غرفة أخرى. أو تتحدث إلى شار وتقرأ من كتب المكتبة معها، بينما يعلم آرثر أوراقه. كان آرثر يوصلها إلى منزلها. فوبخها ذات مرة قائلا: «ما الذي يدعوك إلى مغادرتنا والعيش بمفردك؟ يجب أن تعودي وتعيشي معنا.» «ثلاثة معا عدد كبير.» «هذا لن يدوم طويلا؛ فلا بد أن أحدهم سيأتي يوما ويقع على رقبته.» «إذا كان هو من الحماقة لأن يقع على رقبته، فلن أقع أنا من أجله أبدا في المقابل، ومن ثم نعود من حيث بدأنا.» «لقد كنت أحمق ووقعت على رقبتي من أجل شار، وانتهى بها الأمر بالفوز بي.»
الطريقة التي نطق بها اسمها توحي بأن شار فوق وخارج كل الاعتبارات التقليدية؛ أعجوبة ولغز لا يمكن لأحد أن يأمل في حله، وأنهما محظوظان لمجرد السماح لهما بالتفكير فيها. كانت إت على وشك أن تقول: «لقد ابتلعت فاتنتك مزهرة الغسيل ذات مرة حزنا على رجل لم يكن لها»، ولكنها فكرت في أنه سيكون لذلك تأثير إيجابي عليه؛ إذ ستبدو شار أكثر روعة في عينيه، مثل بطلة بإحدى مسرحيات شكسبير. اعتصر آرثر خصر إت كما لو كان يؤكد على الإبهام الذي يكتنف علاقتهما الودية، وإكباره اللاإرادي لها، أمام أختها. شعرت بعد ذلك بشدة ضغطة أصابعه كما لو أنها قد تركت خدوشا حيث تربط تنورتها. بدا كما لو أن شخصا شارد الذهن يجرب الضغط على مفاتيح البيانو. •••
اشتغلت إت بمهنة تفصيل الملابس. كانت تمتلك غرفة ضيقة تطل على الساحة، كانت متجرا ذات يوم؛ حيث تقص القماش وتخيطه وتقيس الملابس وتكويها، أما النوم والطبخ فكانت تتدبر أمرهما خلف ستارة في نفس الغرفة. كانت تستلقي في فراشها وتحدق في مربعات القصدير المضغوط في سقف غرفتها، وشكل الورود الذي تتخذه. كل ذلك ملكها وحدها. لم يكن آرثر يحب حديثها عن تفصيل الملابس؛ لأنه يعتقد أنها أذكى من ذلك العمل. كل الجهد الشاق الذي بذلته في دراسة التاريخ أعطاه فكرة مبالغا فيها عن ذكائها. وقالت له: «إن قص القماش وقياس الملابس، إذا فعلته بالطريقة الصائبة، يتطلب من الذكاء أكثر مما يتطلبه تدريس حرب 1812؛ لأنك ما إن تدرسها حتى تعرف أحداثها وينتهي الأمر دون أن تغير فيك تلك المعرفة شيئا. أما كل قطعة ملابس جديدة فتمثل منتجا جديدا تماما.»
قال آرثر: «ما زلت مندهشا مما آل إليه حالك.»
لقد فاجأت الجميع، ولكن ليست إت نفسها، التي تغيرت بسهولة من فتاة تتقافز بحركات دائرية إلى أحد معالم البلدة؛ فقد استأثرت بسوق تفصيل الملابس على حساب الحائكات الأخريات؛ إذ كانت المشتغلات بتلك المهنة مجرد مخلوقات متواضعة غير مهمة على أي حال، يدرن على بيوت الناس، ويحكن الملابس في الغرف الخلفية ويعبرن عن امتنانهن لزبائنهن شكرا لهم على ما يقدمونه من وجبات. وطوال سنوات عمل إت لم يظهر أمامها سوى منافسة جدية، وهي امرأة فنلندية أطلقت على نفسها لقب مصممة أزياء. جربها بعض الناس؛ لأن الناس لا يرضون أبدا، لكن سرعان ما تبين أنها مجرد مظهر مخادع دون مهارة حقيقية. لم تأت إت على ذكرها قط، بل تركت الناس يكتشفون حقيقتها بأنفسهم؛ ولكن بعد ذلك، عندما غادرت هذه المرأة البلدة وذهبت إلى تورونتو - حيث ما من أحد يعرف التفصيل الجيد من السيئ بحسب ما استنتجت إت مما رأته في الشوارع - لم تعد إت تكبح جماح نفسها؛ إذ كانت تقول للزبونة التي تفصل لها: «أرى أنك لا تزالين ترتدين ذلك الثوب من القماش المقصوص على شكل رقم 7 الذي فصلته لك صديقتي الأجنبية، رأيتك في الشارع.»
فتقول لها الزبونة: «أوه، أعرف. ولكني مضطرة إلى ارتدائه حتى يبلى.» «لا تستطيعين رؤية نفسك من الخلف؛ لا فارق إذن.»
كانت الزبائن يقبلن منها هذا التقريع، بل وأصبح شيئا متوقعا بالنسبة لهن. صرن يلقبنها بالفظيعة، إت الفظيعة. دائما ما تضعهن في موقف غير مؤات، ولا عجب، فهي تحادثهن وهن في ملابسهن التحتية يرتدين مشدات الجسم. حتى السيدات اللاتي يبدون حازمات وقويات جدا في الخارج يتحولن هنا إلى نسوة مسلوبات الإرادة كاسفات البال يكشفن عن أفخاذ تدعو للرثاء مضغوطة بفعل المشدات، وثنيات طويلة مؤسفة في الثديين، وبطون انتفخت ثم فرغت فتجعدت بسبب الولادة والعمليات.
دأبت إت على إغلاق الستائر الأمامية بإحكام، مشبكة الفرجة بينها بدبوس. «هذا لمنع الرجال من التطفل.»
فتضحك السيدات بعصبية. «هذا لمنع جيمي ساندرز من أن يعرج إلينا ويتلصص علينا.»
كان جيمي ساندرز أحد قدامى المحاربين بالحرب العالمية الأولى، ويمتلك محلا صغيرا بجوار محل إت يبيع فيه سروج الأحصنة والمنتجات الجلدية. «أوه، إت. جيمي ساندرز لديه ساق خشبية.» «ولكن ليست لديه عيون خشبية، أو أي شيء آخر أعرفه.» «إت ، أنت فظيعة.» •••
حرصت إت على أن تفصل لشار ملابس تظهر جمالها. وأكثر انتقادين كانا يوجهان إلى شار في موك هيل هما أنها ترتدي ملابس أنيقة جدا، وأنها تدخن؛ نظرا لأنها زوجة معلم وينبغي لها أن تمتنع عن كلا هذين الأمرين، ولكن آرثر بالطبع سمح لها بفعل كل ما يعجبها، بل إنه اشترى لها مبسم سيجار حتى تبدو كسيدة تظهر على غلاف مجلة. كانت تدخن في إحدى حفلات الرقص بالمدرسة الثانوية، وارتدت فستان سهرة عاري الظهر مصنوعا من الساتان، وراقصت صبيا سبق له أن تسبب في حمل فتاة في المدرسة الثانوية، ولم يأبه آرثر لذلك. لم تتم ترقيته إلى منصب ناظر المدرسة؛ بعد أن تجاوزه مجلس المدرسة مرتين واستقدم نظارا من خارجها، وعندما منحوه الوظيفة في النهاية، في عام 1942، كان ذلك بشكل مؤقت فقط؛ لأن الكثير جدا من المعلمين كانوا بعيدين في الحرب.
كافحت شار كثيرا لكي تحافظ على قوامها. وما من أحد باستثناء إت وآرثر يعلم كم الجهد الذي بذلته لتحقيق تلك الغاية. وباستثناء إت فلا أحد يعلم كل شيء عن تلك المسألة؛ فقد كان والداهما بدينين، وورثت شار عنهما الميل إلى البدانة، مع أن إت دائما ما كانت نحيفة كالعصا. اعتادت شار ممارسة التمارين الرياضية وشرب كوب من الماء الدافئ قبل كل وجبة. ولكن في بعض الأحيان كانت تعكف على الأكل بنهم. كانت إت تعلم عنها أنها يمكن أن تلتهم دستة من كعك الكريمة واحدة تلو الأخرى، أو رطلا من حلوى الفول السوداني أو فطيرة ليمون المارنج كاملة، ثم لا تلبث أن تصاب بالشحوب والرعب فتقوم بابتلاع كميات كبيرة من الملح الإنجليزي بكميات تفوق الكمية المقررة بثلاث أو أربع أو خمس مرات، فتظل مدة يومين أو ثلاثة مصابة بالإعياء والجفاف للتكفير عن خطاياها، على حسب قول إت. وخلال تلك الفترات لا تستطيع النظر إلى الطعام. ويكون على إت أن تأتي وتطهو الطعام لآرثر، الذي لم يكن على علم بأمر الفطائر أو حلوى الفول السوداني أو خلافه، ولا حتى بأمر الملح الإنجليزي. كان يعتقد أنها زادت رطلا أو اثنين وتمر بمرحلة محمومة من الحمية الغذائية. كان يشعر بالقلق عليها.
دأب آرثر على أن يقول لإت: «ما الفارق، ما أهمية ذلك؟ فهي لا تزال جميلة.» «لن تؤذي نفسها.» هكذا ترد عليه إت مستمتعة بطعامها، وسعيدة لأن قلقه لم يفسد شهيته، فدائما ما تطبخ له طعام عشاء شهيا. •••
يتبقى أسبوع على عطلة عيد العمال، وقد ذهب بلايكي إلى تورونتو مدة يوم أو يومين، على حد قوله.
قال آرثر: «الجو هادئ من دونه.»
قالت إت: «لم أجد قط أنه ذلك المحاور البارع.»
قال آرثر: «إنما أعني الطريقة التي تعتادين بها على أحدهم.»
قالت إت: «ربما ينبغي لنا ألا نعتاد عليه.»
لم يكن آرثر سعيدا؛ فهو لن يعود إلى المدرسة بعد حصوله على إجازة بدون مرتب حتى نهاية عطلة الكريسماس. لم يدر بخلد أحد أنه سيعود عندئذ.
قال: «أعتقد أن لديه خططه الخاصة لهذا الشتاء.» «قد تكون لديه خططه الخاصة لهذه اللحظة؛ فأنت تعرف أن لدي زبائني من نزلاء الفندق، ولدي أصدقائي، ومنذ أن ذهبت في تلك النزهة وأنا أسمع أشياء.»
لم تعرف كيف أتاها ذلك الخاطر لتقول ما قالت، فلا تعرف من أين جاءها ذلك الخاطر. لم تخطط له، ولكنه جاءها بكل سهولة وبصدق. «أسمع أنه اصطحب امرأة موسرة إلى الفندق.»
كان آرثر يهتم لتلك الأحاديث، وليس شار. «أرملة؟» «مرتين على ما أعتقد. تماما كما ترمل هو مرتين. وقد ورثت أموالا من كليهما. كان الأمر محل شك لبعض الوقت وكانت هي تتحدث عنه صراحة. أما هو فلم يقل شيئا في المقابل. ألم يقل لك شيئا، ألم يقل لك يا شار؟»
قالت شار: «كلا.» «سمعت عصر اليوم أنه خارج البلدة في الوقت الحالي، وأنها قد غادرت أيضا. ليست تلك المرة الأولى التي يفعل فيها شيئا كهذا؛ فأنا وشار نتذكر شيئا كهذا.»
عندئذ أراد آرثر أن يعرف ما ترمي إليه، فأخبرته بقصة السيدة محركة العرائس، متذكرة حتى اسمي دميتيها، مع أنها لم تأت بالطبع على ذكر حكاية شار، التي حضرت ذلك الحوار بل وكانت تشارك فيه قليلا. «قد يرجعان، ولكني أظن أنهما قد يستشعران الحرج. قد يستشعر الحرج من المجيء هنا، على أي حال.»
قال آرثر: «لماذا؟» وقد سعد بقصة محركة العرائس، ثم أضاف: «نحن لا نمنع أي شخص من أن يتزوج.»
نهضت شار ودخلت المنزل. وبعد برهة تناهى إلى سمعهما صوت البيانو. •••
السؤال الذي دائما ما كان يلح على بال إت في السنوات الأخيرة: ما الذي كانت تعتزم فعله بشأن هذه القصة عند رجوع بلايكي؟ نظرا لأنه لم يكن لديها سبب يجعلها تعتقد أنه لن يرجع. والإجابة هي أنها لم تعد أي خطط على الإطلاق. كل ما هنالك أنها افترضت أنها ربما تثير مشكلة بينه وبين شار، تجعل شار تتشاجر معه، وتستثير شكوكها حتى لو لم تكن الإشاعات حقيقية، وتجعل شار تستنبط ما قد يفعله مرة أخرى في ضوء ما فعله من قبل. لم تكن تعرف ما تريده. كل ما أرادته أن تخلق حالة من الريبة؛ لأنها اعتقدت عندئذ أن شخصا ما عليه فعل ذلك قبل فوات الأوان.
تعافى آرثر بالقدر المتوقع ممن هم في سنه، وعاد إلى تدريس التاريخ لطلاب السنة النهائية في المدرسة الثانوية، مع العمل نصف الوقت حتى يحين موعد تقاعده. أما إت فقد احتفظت بمكانها بالساحة وحاولت أيضا النهوض وطبخ بعض الطعام والقيام ببعض أعمال النظافة لآرثر. أخيرا وبعد تقاعده عادت إت إلى المنزل، تاركة مكانها الآخر لأغراض العمل فقط، حيث قالت: «دع الناس يعيدوا ويزيدوا كما شاءوا عن عمرنا.»
عاش آرثر حياة مديدة بالرغم من ضعفه البدني وبطء حركته. مشى يوما ما إلى الساحة قاصدا إت، فاصطحبها معه وذهبا إلى المنتزه. كان الفندق قد أغلق وبيع مرة أخرى، وسرت إشاعة أنه سيتم افتتاحه مركزا لإعادة تأهيل مدمني المخدرات، ولكن البلدية تلقت عريضة احتجاج فتراجعت عن المشروع، وفي نهاية المطاف تم هدمه.
لم يعد بصر إت بنفس قوته المعتادة، مما اضطرها إلى الإبطاء في العمل، ورد بعض الزبائن، بيد أنها لا تزال تعمل كل يوم. في المساء كان آرثر إما يشاهد التليفزيون أو يقرأ، بينما هي إما تجلس في الشرفة أيام الطقس الدافئ، أو في غرفة الطعام أيام الشتاء، مسترخية على الكرسي الهزاز ومريحة عينيها. جاءت وشاهدت نشرة الأخبار معه، وأعدت له مشروبه الساخن، من الكاكاو أو الشاي. •••
لم يكن هناك أثر للزجاجة. ذهبت إت وألقت نظرة على الخزانة بأسرع ما يمكن؛ بعد أن هرولت إلى المنزل استجابة لمكالمة آرثر في الصباح الباكر، ووجدت الطبيب، ماكلين العجوز، يدخل البيت في الوقت نفسه. أسرعت وفتشت في القمامة، ولكنها لم تجد لها أثرا.
هل كان لدى شار الوقت لدفنها؟ كانت ترقد على السرير وهي متأنقة في كامل ملابسها، وشعرها ملموم بعناية. لم تكن هناك ضجة حول سبب الوفاة كما هي الحال في القصص. كانت قد اشتكت إلى آرثر من شعورها بالضعف في الليلة السابقة بعد رحيل إت، وقالت إنها تعتقد أنها ستصاب بالأنفلونزا. وهكذا قال الطبيب العجوز أزمة قلبية، وقضي الأمر. بيد أن إت لم تستطع معرفة السبب. ما الذي كان في الزجاجة ولا يترك أثرا على الجسم على الإطلاق؟ ربما ما كان في الزجاجة ليس ما هو مكتوب عليها، حتى إنها غير متأكدة أصلا من أن تلك الزجاجة كانت موجودة في الليلة الماضية؛ فقد كانت متحمسة للغاية تجاه ما كانت تقوله مما حال دون ذهابها وإلقاء نظرة، كما اعتادت أن تفعل. وربما تم التخلص منها في وقت سابق وتجرعت شار شيئا آخر، كالحبوب مثلا. وربما كانت أزمة قلبية حقا؛ فعمليات التطهير القاسية تلك من شأنها أن تضعف قلب أي إنسان.
كانت جنازتها في يوم عيد العمال بحضور بلايكي نوبل الذي قطع جولته بالحافلة. أما آرثر، وفي خضم أحزانه، فقد نسي القصة التي حكتها إت، ولم يفاجأ بحضور بلايكي، الذي رجع إلى موك هيل في يوم دفن شار، متأخرا بضع ساعات، كما في القصص. وفي خضم ارتباكها الطبيعي لم تستطع إت تذكر اسم مسرحية روميو وجولييت التي تذكرتها لاحقا. بيد أن بلايكي نوبل لم يقتل نفسه بالطبع، بل عاد إلى تورونتو. وظل مدة عام أو عامين يرسل بطاقات المعايدة في الكريسماس، ثم انقطعت أخباره تماما. وما كانت إت لتفاجأ لو ثبت في النهاية عدم صحة حكاية زواجه، فقط توقيتها هو الخاطئ.
في بعض الأحيان كان الكلام يقف على طرف لسان إت قبل أن تقول لآرثر: «ثمة سر يؤرقني كنت أعتزم إخبارك به.» فهي لم تصدق أنها كانت ستدعه يموت دون أن يعرفه. لم تكن لتسمح له بذلك. وقد احتفظ بصورة لشار على مكتبه، وهي صورة التقطت لها وهي ترتدي ملابس تلك المسرحية التي لعبت فيها دور الفتاة التمثال. غير أن إت تغاضت عن الأمر، يوما بعد يوم. وظلت هي وآرثر يلعبان الريمية بأوراق اللعب وقاما على رعاية حديقة صغيرة، مع قصب التوت. لو أنهما كانا متزوجين لقال عنهما الناس إنهما في غاية السعادة.
مادة قصصية
أنا لا أتابع كتابات هوجو، ولكن أحيانا أرى اسمه، في المكتبة، على أغلفة بعض المجلات الأدبية التي لا أقرؤها؛ فأنا لم أقرأ مجلة أدبية منذ أكثر من اثني عشر عاما والحمد لله. أو ربما أقرأ اسمه في الصحف أو أراه على ملصقات إعلانية - في هذه الحالة أيضا أكون في المكتبة أو بمتجر الكتب - وفي أحيان أخرى أرى اسمه بلوحة الإعلانات بالجامعة للإعلان عن استضافته بندوة أدبية، وذلك عندما يأتي هوجو لمناقشة موضوعات مثل وضع الرواية في العصر الحالي، أو القصة القصيرة المعاصرة، أو التحدث عن النزعة القومية الجديدة في أدبنا. حينها أتساءل هل يذهب الناس إلى الندوات الأدبية تلك حقا؟ هل يقوم الناس الذين في مقدورهم الذهاب للسباحة أو لاحتساء مشروب أو حتى المشي بالتوجه إلى الحرم الجامعي حتى يبحثوا عن القاعة ويجلسوا في صفوف متتالية من الكراسي للاستماع لهؤلاء الرجال المغرورين الذين يثيرون الزوبعات؟ رجال مترفون، مستبدون بآرائهم، وغير منظمين، نعم هكذا أراهم، رجال تدللهم الحياة الأكاديمية، وتدللهم الحياة الأدبية، وتدللهم النساء. يذهب إليهم الناس ليسمعوهم يتحدثون عن أن هذا الكاتب أو ذاك لا يستحق أن تقرأ له أي عمل بعد الآن، وأن هذا الكاتب أو ذاك يجب عليك أن تقرأ أعماله، يذهب إليهم الناس ليستمعوا إليهم وهم يقللون من شأن هذا ويمجدون في شأن ذاك، ويستمعون إليهم وهم يجادلون ويضحكون ويصدمون الناس. أقول الناس ولكني هنا أتحدث عن النساء، نساء مثلي في منتصف العمر، مرتجفات وفي حالة تأهب دائمة، يأملن في أن تكون الأسئلة التي يطرحنها أسئلة ذكية وألا يتم النظر إليهن على أنهن سخيفات؛ وفتيات ذوات شعر ناعم غارقات في العشق والوله حتى آذانهن، يتمنين أن تلتقي أعينهن مع أعين رجل من الرجال الموجودين على المنصة. تقع الفتيات، إضافة إلى السيدات، في غرام هؤلاء الرجال، معتقدات أنهم يمتلكون قوة كامنة فيهم.
وإن بحثت عن زوجات هؤلاء الرجال الموجودين على المنصة فلن تراهن في الحضور، ستجدهن يشترين الخضراوات أو ينظفن الفوضى في منازلهن أو حتى يحتسين شرابا. دائما ما تجد حياتهن متمحورة حول الطعام والبيت والفوضى والسيارات والمال. ستجد أنهن المسئولات عن كل شيء؛ فهن من يتذكرن وضع إطارات السيارة المانعة للتزحلق، وهن من يذهبن للبنك، وهن من يجمعن زجاجات الجعة الفارغة؛ ولم يجب عليهن القيام بذلك؟ لأن أزواجهن رجال مبدعون وموهوبون، رجال عجزة ينبغي العناية بهم، وذلك في سبيل الكلمات التي تخرج من عقولهم. أما السيدات اللاتي في الحضور فستجدهن زوجات لمهندسين أو أطباء أو رجال أعمال. أنا أعرفهن شخصيا، فهن صديقاتي، بعضهن اتجه لعالم الأدب على نحو غير جدي، تلك هي الحقيقة، ولكن أخريات أتين على استحياء ولديهن أمل كبير ولكنه سريع الزوال. هؤلاء النساء يمتصصن ازدراء الرجال الموجودين على المنصة كما لو كن يستحققنه، وهن يؤمن خفية بأنهن يستحققن ذلك بسبب منازلهن وأحذيتهن باهظة الثمن، وأزواجهن الذين يقرءون للكاتب آرثر هايلي.
أنا شخصيا متزوجة من مهندس يدعى جابرييل، ولكنه يفضل أن نناديه جايب. يفضل الاسم جايب في هذا البلد؛ حيث إن مسقط رأسه رومانيا، وقد عاش هناك حتى سن السادسة عشرة حتى انتهت الحرب الدائرة بها، ولكنه نسي كيفية التحدث باللغة الرومانية . كيف يمكنك أن تنسى؟ كيف يمكنك أن تنسى لغتك الأم التي قضيت طفولتك كلها تتحدث بها؟ لطالما اعتقدت أنه يدعي النسيان؛ لأن الأشياء التي رآها ومر بها خلال الفترة التي كان يتحدث فيها بهذه اللغة، أشياء مهولة ومريعة بحيث إنه يرغب عن تذكرها مرة أخرى. وقد أخبرني ذات مرة أن اعتقادي هذا غير صحيح؛ حيث أكد لي أن خبرته مع الحرب لم تكن بهذا السوء؛ فكان يصف الضجة التي كانت تحدث في المدرسة عندما يتم إطلاق صافرات الإنذار عند الغارات الجوية مؤذنة بإلغاء الدراسة، ولكني لم أكن أصدقه كليا. كنت أطالبه بأن يصبح سفيرا قادما من أوقات عصيبة وبلاد بعيدة، ثم بدأت أشك في كونه رومانيا بالفعل، وأنه مدع نصاب.
ولكن هذا الشك كان قبل أن أتزوجه، حينما كان يأتي لزيارتي ورؤيتي في شقتي الموجودة بشارع كلارك رود، الشقة التي كنت أعيش بها مع ابنتي الصغيرة كليا، ابنتي من هوجو، ولكن هوجو اضطر لتركها والتخلي عنها تماما. رزق هوجو بأبناء عديدين؛ حيث إنه سافر ثم تزوج مرة أخرى وقد أنجبت زوجته ثلاثة أطفال، وفيما بعد طلق هذه الزوجة ثم تزوج مرة أخرى، أما زوجته التالية التي كانت طالبة لديه فقد أنجبت ثلاثة أطفال آخرين، أول طفل منهم قد أنجبته وهوجو ما زال مع زوجته الثانية. في ظروف كهذه يصعب على الرجل أن يتشبث بكل شيء. أما جابرييل فكان معتادا على البقاء طوال الليل أحيانا على الأريكة التي يمكن استخدامها كسرير، فكنت أستخدمها في تلك الشقة الصغيرة الفقيرة التي كنت أمتلكها؛ وأتذكر حينها أنني حينما كنت أشاهده وهو نائم كان يدور بخلدي أنه مع علمي بهذا الشخص، إلا أنه قد يكون ألماني الجنسية، أو ربما روسيا، أو حتى مجرد مواطن كندي عادي يتصنع لكنة ويختلق ماضيا حتى يبدو شخصا مثيرا للانتباه. كان جابرييل لغزا بالنسبة لي، وحتى بعدما أصبح عشيقي بفترة طويلة وبعدما أصبح زوجي، كان ولا يزال لغزا غامضا بالنسبة لي؛ حتى بالرغم من كل الأشياء التي أعرفها عنه، من عاداته اليومية وسماته الجسدية؛ سواء قسمات وجهه مثل انحناءات وجهه الناعمة وشكل عينيه الضحلتين المرسومتين على وجهه تحت جفون وردية ناعمة، أو تلك التجاعيد المنقوشة على هذه الملامح الناعمة، هذا السطح الناعم الذي لا يمكن فهمه أو اختراقه؛ ومع ذلك تلك الملامح لم يكن لها أي تأثير؛ فجسده كبير وذو هيبة ويعطي إيحاء بالهدوء والراحة. دائما ما كنت أراه يبدو كمتزلج بارع وإن كان كسولا. يبدو أنني لا أستطيع وصف جابرييل دون أن أشعر بشعور مألوف من الخضوع والاستسلام. أنا لا أستطيع وصف جابرييل ولكني أستطيع أن أصف هوجو، إن سألني أحدهم عنه، أستطع وصفه حتى أدق التفاصيل؛ حينما كان عمره ثمانية عشر عاما - منذ عشرين عاما مضت - كان شعره قصيرا للغاية كشعر الجنود، كما كان نحيفا. وجميع عظامه وحتى جمجمته تبدو كما لو كانت مجمعة ومخيطة معا بالصدفة البحتة؛ فكان هناك شيء غير متسق وغير متوقع، وفي بعض الأحيان خطير، في الطريقة التي تتحرك بها قسمات وجهه أو حتى أسلوب حركة أطرافه. وحينما أحضرت هوجو أول مرة إلى الجامعة أخبرني زميل لي أنه يبدو كمجموعة من الأطراف تم تجميعها وربطها معا بواسطة حزمة من الأعصاب، وما قاله كان صحيحا؛ حيث دائما ما كنت أستطيع تخيل تلك الخيوط المتقدة التي تعمل على ربطه معا بعد هذا الموقف.
ومن جهة أخرى حين قابلت جابرييل في المرة الأولى التي رأيته بها أخبرني أنه يستمتع بالحياة. لم يقل إنه يعتقد أنه يستمتع بالحياة بل قال إنه يستمتع بها بالفعل. حينها شعرت بالأسف عليه؛ وذلك لأني لا أصدق الأشخاص الذين يقولون هذا الأمر أبدا. وعلى كل حال دائما ما ترتبط هذه الجملة في ذهني بالرجال الفظاظ محبي التباهي ضيقي الصدر المتململين الذين يضمرون ذلك. ولكن على ما يبدو أنها حقيقة جابرييل وأنه صادق بالفعل، فهو ليس بالنوع الفضولي، بل تجده قادرا على أخذ متعته، كما أنه قادر على الابتسام والمداعبة وأن يقول في حنو: «لماذا تقلقين بخصوص هذا الأمر؟ إنها ليست مشكلتك.» هذا إضافة إلى أنه قد نسي لغته الأم، وفي بادئ معرفتي به كانت طريقته في مطارحة الغرام تبدو غريبة علي؛ حيث إنها كانت تفتقر إلى العاطفة المتأججة؛ فهو يمارس الحب بفتور - إن جاز التعبير - دون أن تخالجه ذكرى أي ذنب أو رغبة في الفحش. فهو لا يراقب نفسه، ولن يقوم أبدا بكتابة قصيدة شعرية عن ممارسة الحب، أبدا، وستجد أنه قد نسي الأمر برمته بعد نصف ساعة بالفعل. هذا النوع من الرجال شائع الوجود، ربما. المشكلة أنني لم أكن أتعرف على أي من هؤلاء من قبل. وأحيانا ما تطرأ على ذهني تساؤلات عديدة بخصوصه مثل: هل كنت سأحبه إن تم محو لكنته الغريبة وماضيه المنسي، المنسي تقريبا؟ هل كنت سأحبه لو كان على سبيل المثال طالبا يدرس الهندسة في جامعتي في نفس السنة التي كنت أدرس أنا بها؟ أنا لا أعرف الإجابة عن تلك الأسئلة، ولا أستطيع أن أخمنها. فالشيء الذي يجذب أي شخص لرجل أو لامرأة قد يكون شيئا واهيا مثل اللكنة الرومانية أو الاستدارة الناعمة لجفن عينه، أو حتى لغزا ما واهي التبرير يحيط به.
أما هوجو فليس لديه أي لغز كهذا على الإطلاق، هذا ليس لأنني لم ألحظ هذا الأمر أو لعدم معرفتي به، ربما لأنني لم أكن لأصدق أن تحيط به مثل هذه الألغاز. ولكني حينها كنت أومن بشيء آخر تماما؛ هذا الشيء لم يكن إيماني بأني أعرفه أو أني أعرف كل شيء عنه، بل حينها كنت مؤمنة بأن ما أعرفه عن هوجو محفور في وجداني ويسري في دمي ومن حين لآخر كان يتسبب في إصابتي بطفح جلدي قاتل، ولكن لا شيء من هذا يحدث أبدا مع جابرييل؛ فهو لا يتسبب في إزعاجي أكثر مما يتسبب في إزعاج نفسه.
جابرييل هو من وجد رواية هوجو وأعطاني إياها. حينها كنا موجودين في المكتبة، وقد جاء إلي وهو يحمل في يديه كتابا ورقي الغلاف كبير الحجم وباهظ الثمن، كانت مجموعة مختارة من القصص القصيرة، ومكتوبا على الغلاف اسم هوجو. تساءلت كيف وجد جابرييل هذا الكتاب؟ وما الذي كان يفعله في قسم الروايات في المكتبة على أي حال؟ فهو لا يقرأ الروايات على الإطلاق، مما جعلني أتساءل عن كونه يزور المكتبة أحيانا ليبحث عن إصدارات هوجو؛ فقد كان جابرييل يهتم بإنتاج هوجو مثلما قد يهتم بأعمال ساحر أو مغن مشهور أو أحد الساسة ممن تربطهم به - من خلالي - صلة قوية، وذلك كدليل على واقعية هذه الصلة. أعتقد أن السبب وراء ذلك هو أن مهنته مهنة مجهولة، حيث العمل الذي يقوم به معروف لأقرانه فقط، وأنه مفتون بهؤلاء الذين يعملون بجرأة على مرأى من الجميع بدون حماية أي قواعد خاصة - لا بد أن الأمر يبدو له بهذا الشكل باعتباره مهندسا - في محاولة من هؤلاء الأفراد أن يثقوا بأنفسهم ويطوروا ما في جعبتهم من مهارات، على أمل أن يكون هذا كافيا ليجذبوا الانتباه.
بعد أن أحضر جابرييل الكتاب إلي، قال لي: «اشتريه من أجل كليا.»
فقلت: «أليس هذا الثمن باهظا على كتاب ورقي الغلاف؟»
فابتسم.
بعدها، توجهت بحديثي إلى كليا: «انظري، تلك هي صورة والدك، والدك الحقيقي، وهو من كتب هذه القصة، ربما قد ترغبين في قراءتها.» كانت كليا تقف بالمطبخ تجهز لنفسها خبزا محمصا لتأكل. تبلغ كليا من العمر الآن سبعة عشر عاما، وفي بعض الأيام قد تأكل الخبز المحمص والعسل وزبدة الفول السوداني وبسكويت الشوكولاتة والجبن المطبوخ وشطائر الدجاج والبطاطس المحمرة، وفي حال قيام أي شخص بالتعليق على الطعام الذي تأكله أو الذي لا تأكله، قد تجري إلى الطابق العلوي وتصفق باب غرفتها بقوة. «يبدو سمينا، لطالما أخبرتني أنه نحيف.» هكذا علقت كليا على الصورة ثم وضعت الكتاب على الطاولة. يبدو أن جميع اهتماماتها فيما يتعلق بأبيها تدور في فلك الاهتمامات الوراثية ونوعية الجينات التي ورثتها عنه؛ فكانت دائما ما تطرح أسئلة مثل: هل نوع بشرته من النوع الجميل أم الرديء؟ هل معدل ذكائه عال أم منخفض؟ هل تمتلك النساء في عائلته صدورا كبيرة؟
رددت عليها قائلة: «لقد كان نحيفا عندما كنت أعرفه.» ثم أردفت قائلة: «من أين يتأتى لي العلم بأحواله بعد كل هذه الفترة؟»
ولكن في حقيقة الأمر يبدو هوجو الآن كما تخيلت الحال التي سيبدو عليها بعد مرور كل هذا الوقت. عندما كنت أرى اسمه في الصحف والمجلات أو على الملصقات كنت أتخيل شخصا على هذه الهيئة؛ لقد توقعت الكيفية التي سيؤثر بها كل من أسلوب حياته والزمن على هيئته؛ فلم أفاجأ بأنه أصبح سمينا وإن لم يطل الصلع رأسه، بل ترك شعره لينمو بشكل عشوائي، وقد ربى لحية كاملة متجعدة، بينما تتهدل الأكياس السوداء تحت عينيه إلى وجنتيه حتى عندما يضحك. هو الآن يضحك للكاميرا، وقد أصبحت أسنانه أسوأ مما كانت عليه؛ فقد كان يكره أطباء الأسنان بشدة، وكان يردد أن السبب هو أن والده توفي جراء أزمة قلبية على كرسي طبيب الأسنان في العيادة، ولكن هذا الأمر كذبة بالطبع، مثل كثير جدا من الأشياء الأخرى، أو على الأقل ضرب من ضروب المبالغة. فيما سبق كان معتادا على أن يبتسم ابتسامة خفيفة أثناء تصويره؛ كي يخفي نابه الأعلى على الجانب الأيمن، ذلك الناب المكسور منذ أن قام أحدهم في المدرسة الثانوية بدفعه حتى سقط في نافورة للشراب. لكنه الآن أصبح لا يبالي بهذا على الإطلاق، إنه يضحك بحرية ويظهر تلك الجذور المتعفنة. الآن يبدو مكروبا وسعيدا في الوقت نفسه. يبدو ككاتب ساخر وناقد لاذع. ويظهر هوجو بالصورة وهو يرتدي قميصا صوفيا مقلما يظهر من تحته قميصه الداخلي، لم يعتد هوجو على لبس قميص داخلي من قبل. وجدت نفسي أوجه له عدة أسئلة مثل: هل تقوم بالاستحمام يا هوجو؟ هل رائحة فمك الآن كريهة بحالة أسنانك تلك؟ هل تنادي طالباتك من الفتيات بألقاب قذرة بغضب مفتعل كما اعتدت؟ هل تتلقى مكالمات هاتفية من آباء يشعرون بالإهانة من طريقتك؟ هل يقوم عميد الكلية أو أي شخص بشرح موقفك وأنك لم تقصد أي إهانة حقيقية، وأن المؤلفين والكتاب ليسوا كبقية البشر؟ ربما لا، ربما لا يمانع أحد هذه الأيام. يتمتع الكتاب الغاضبون هذه الأيام بالعديد من النعم؛ فهم يتنقلون ما بين نعمة وأخرى هذه الأيام، حائرين بين كل تلك النعم، كما هي الحال مع الأطفال المدللين.
لا أمتلك دليلا على هذا الكلام، لقد قمت بتخيل شخصية كاملة من محض صورة واحدة مشوشة، ولكني سعيدة وراضية عن استنتاج تلك الصور النمطية؛ فأنا لا أمتلك لا المخيلة ولا النية الطيبة تجاهه لأقوم بأي استنتاج مختلف؛ كما أنني على أي حال قد لاحظت مثلما لاحظ الجميع أنه بمجرد أن يصل الشخص لمرحلة منتصف العمر كيف تتلاشى الأقنعة التي يلبسها الأشخاص أو الهويات التي يتقلدونها، إذا أردت تسميتها هكذا، وكيف تضعف مع الوقت. في الأدب القصصي، نطاق عمل هوجو، لن تكون هذه الأقنعة أو الهويات كافية ولن تقوم بالغرض، ولكن على أرض الواقع تبدو هذه الأقنعة هي كل ما نرغب فيه بالفعل، ويبدو أنها الشيء الوحيد الذي يستطيع أي شخص القيام به. على سبيل المثال، انظر لصورة هوجو، انظر لقميصه التحتي، اقرأ التعليق المكتوب عن هوجو تحت الصورة:
هوجو جونسو: ولد في الريف واكتسب جانبا من تعليمه هناك في مدن التعدين وقطع الأشجار بشمال أونتاريو بكندا. شغل عدة أعمال منها حطاب وحامل لزجاجات الجعة وموظف ببقالة وعامل أسلاك تليفونات، إضافة إلى ملاحظ للعمال على ماكينة تقطيع الخشب؛ وذلك بالطبع بجانب انخراطه في مختلف الأوساط الأكاديمية بشكل متقطع. والآن يقيم معظم الوقت بالمناطق الجبلية شمال مدينة فانكوفر مع زوجته وأولاده الستة.
يبدو أن زوجته الطالبة تورطت في رعاية كل هؤلاء الأطفال وتربيتهم. ترى ماذا حدث لماري فرانسيس؟ هل ماتت؟ هل نالت حريتها؟ هل أصابها الجنون بسبب هوجو؟ ولكن استمع للأكاذيب، استمع لأنصاف الحقائق، استمع للحماقات المكتوبة: «والآن يقيم بالمناطق الجبلية شمال مدينة فانكوفر»، كما لو كان يعيش في كوخ بالبرية، وأكاد أجزم أنه يعيش في بيت عادي لطيف ومريح شمال أو جنوب مدينة فانكوفر التي تمتد الآن إلى المناطق الجبلية. وماذا عن قولهم: «انخراطه في مختلف الأوساط الأكاديمية بشكل متقطع»؟ ما المقصد الحقيقي من هذا الكلام؟ هل يقصدون أنه قام بالتدريس في الجامعات سنوات فترة نضوجه أو معظمها، وأن التدريس بالجامعات هو الوظيفة الوحيدة ذات المرتب المجزي التي حظي بها، فلماذا لا يكتبون هذا الأمر فحسب؟ يقومون بتصوير الأمر لتظن أنه شخص يخرج من الأدغال بين الحين والآخر كي يلقي علينا بقطوف من حكمته اللامتناهية، ليرينا كيف يكون «الكاتب»، الذكر الحقيقي و«الفنان» المبدع كما يجب أن يكون؛ من واقع صياغة هذه الجمل لن تتخيل أبدا أنه يعمل «بالمجال الأكاديمي». ليس لدي علم بما إن كان عمل حطابا أو حاملا لزجاجات الجعة أو موظفا ببقالة بالفعل أم لا، ولكني أعلم يقينا أنه لم يكن عامل أسلاك تليفونات، إنما كان يعمل بدهان أعمدة التليفونات، ولكنه ترك هذه الوظيفة في منتصف أسبوعه الثاني من العمل متذرعا بأن حرارة الشمس وتسلق الأعمدة يصيبانه بالغثيان. كان ذلك بعدما تخرجنا مباشرة في شهر يونيو، وكان الجو شديد السخونة. ربما كان على حق؛ لقد كانت كل من الشمس والحرارة يصيبانه بالغثيان حقا، فخلال تلك الفترة عاد مرتين إلى المنزل وتقيأ. لقد قمت بترك عدة وظائف من قبل؛ لأني لم أحتملها؛ ففي نفس فصل الصيف ذاك تركت وظيفتي في طي الضمادات في مستشفى فيكتوريا؛ حيث كدت أجن من الملل في تلك الوظيفة. ولكن لو كنت كاتبة وأقوم بكتابة مسيرتي المهنية وكل الوظائف المتنوعة والمختلفة التي عملت بها من قبل، فلا أعتقد أنني سأقوم بكتابة «وظيفتي في طي الضمادات»؛ لا أعتقد أن الأمانة ستحتم علي هذا.
بعد تركه هذه الوظيفة، وجد هوجو وظيفة أخرى يقوم فيها بتصحيح اختبارات الصف الثاني عشر. لماذا لم يقم بكتابة هذه الوظيفة؟ مصحح اختبارات. لقد كان يحب تصحيح ورق الاختبارات أكثر من تسلق أعمدة التليفونات، وربما يحبها أكثر من الحطابة أو حمل زجاجات الجعة أو أي من تلك الوظائف الأخرى التي عمل بها، إن كان عمل بها بالفعل. لماذا لم يكتب هذه الوظيفة؟ لماذا لم يكتب أنه كان «مصحح ورق اختبارات»؟
على حد علمي، لم يكن هوجو قط ملاحظا للعمال على ماكينة تقطيع الخشب. لقد عمل مرة في مصنع عمه في فصل الصيف الذي يسبق وقت تعرفي عليه، وكل ما كان يقوم به هو أن يحمل قطع الخشب وأن يسمع السباب من ملاحظ العمال الحقيقي الذي لم يكن يحب هوجو لأن عمه هو رب العمل. وفي المساء عندما لم يكن متعبا للغاية من عمله كان يمشي مسافة نصف ميل إلى جدول صغير ليعزف بآلة الفلوت الخاصة به. كان البعوض الأسود يزعجه، ولكنه كان يقوم بالعزف عليها على أي حال. كان يمكنه عزف مقطوعة «الصباح» لبيير جنت وبعض الألحان الإليزابيثية التي لا أذكر اسمها، ما عدا مقطوعة واحدة ما زلت أتذكرها هي مقطوعة «وولسيز وايلد»، التي تعلمت كيفية عزفها على البيانو كي نتمكن من عزفها معا. ترى ما القصد من اسم هذه المقطوعة؟ هل هي للكاردينال وولسي، وما المقصود بكلمة «وايلد»؟ هل هي رقصة؟ هيا دون تلك الهواية يا هوجو، «عازف على آلة الفلوت». كان هذا سيعد أمرا جيدا ومقبولا ويتبع أحدث الصيحات؛ فحسبما أفهم ما يدور من حولنا سنجد أن عزف آلة الفلوت وتلك الأشياء الغرائبية غير مغضوب عليها في العصر الحالي، بل على النقيض من ذلك، ستجد هذه الأنشطة متعارفا عليها ومقبولة أكثر من الحطابة وحمل زجاجات الجعة. يا إلهي، انظر لنفسك يا هوجو، ألم يكفك أن صورتك مزيفة، بل صورة عفى عليها الزمن أيضا؟ كان من الأفضل لك أن تقول إنك ذهبت للتأمل مدة عام في جبال «أتر براديش» بالهند. كان من الأفضل لك أن تقول إنك كنت تقوم بتدريس الدراما الإبداعية للأطفال المصابين بالتوحد، كان من الأفضل لك أن تحلق شعرك، وأن تحلق ذقنك وأن ترتدي قلنسوة الرهبان، كان من الأفضل لك أن تصمت يا هوجو.
عندما كنت حاملا بكليا كنا نعيش في منزل في شارع أرجايلز في مدينة فانكوفر. كان المنزل مطليا بالجص الرمادي المقبض من الداخل؛ مما جعلنا نقرر في شتاء ممطر أن نقوم بطلاء المنزل بأكمله من الداخل، جميع الغرف، بألوان زاهية غير متناسقة؛ حيث طلينا ثلاثة جدران بغرفة النوم بلون أزرق فاتح ضارب إلى الرمادي، والجدار الرابع بالأحمر الأرجواني، حينها كنا نقول إنها تجربة لنرى إذا ما كانت الألوان يمكن أن تدفع أي شخص للإصابة بالجنون يوما ما. أما الحمام فقد تم طلاؤه بلون أصفر برتقالي غامق، وعندما انتهينا من طلائه علق هوجو على الحمام قائلا: «يبدو كما لو أننا بداخل قطعة جبن؛ هذا صحيح، أليس كذلك؟» ورددت عليه قائلة: «هذه جملة جيدة يا صانع الجمل.» حينها كان سعيدا ولكن ليس بنفس مقدار السعادة التي كان سيشعر بها جراء كتابة تلك الجملة بدلا من قولها. فيما بعد، في كل مرة يقوم بها بعرض الحمام على أي شخص يقول: «انظر، هل ترى هذا اللون؟ إنه يبدو كما لو أننا بداخل قطعة جبن.» أو يقول: «كما لو أننا نقضي حاجتنا بداخل قطعة جبن.» وليس الأمر أنني لم أقم بنفس الشيء، حفظ بعض الجمل وترديدها مرارا وتكرارا، فربما قلت تلك العبارة عن قضاء الحاجة بداخل قطعة جبن، حيث كانت لدينا العديد من الجمل المشتركة؛ فعلى سبيل المثال كان كلانا يطلق على مالكة البيت لقب الدبور الأخضر؛ إذ إنها في المرة الوحيدة التي رأيناها بها كانت ترتدي رداء بلون السم الأخضر الذي نراه في القصص الخرافية، وكان يزين الرداء قطع من فراء الفئران وصحبة من ورود البنفسج؛ كان الرداء يعطي إيحاء بالشر. كانت ربة البيت تتعدى السبعين من عمرها وكانت تدير بنسيونا للرجال بوسط المدينة. أما ابنتها دوتي فكنا نطلق عليها لقب الغانية المقيمة. لا أدري لماذا اخترنا لها لقب «غانية»؛ فهذه المفردة غير مستخدمة عادة. أعتقد أننا استخدمناها بسبب كونها مفردة يبدو على طريقة نطقها الرقي، طريقة نطق راقية وتدل على الانحراف في نفس الوقت، الأمر الذي يتناقض وبسخرية مع دوتي نفسها؛ فأنا وهوجو نعشق السخرية.
كانت دوتي تعيش في قبو المنزل بشقة مكونة من غرفتين، وكان عليها دفع خمسة وأربعين دولارا لأمها كإيجار شهري لتلك الشقة، وقد أخبرتني في مرة أنها تحاول تدبير المال عن طريق عملها جليسة أطفال.
حينها فسرت لي اختيارها قائلة: «أنا لا أستطيع الخروج إلى العمل، فأعصابي لا تحتمل هذا الضغط. لقد أمضيت أكثر من ستة شهور مع زوجي السابق وهو يحتضر بسبب داء في الكليتين في منزل أمي، وما زلت مدينة لها بأكثر من ثلاثمائة دولار مقابل هذه الإقامة. كانت تجبرني على أن أصنع له شراب البيض بلبن خالي الدسم. لا يوجد يوم بحياتي لم أكن مفلسة فيه. كانوا دائما يقولون إن الصحة تغلب المال، وما دمت متمتعة بصحتي فكل شيء بخير، ولكن ماذا يحدث إذا لم يكن لديك لا صحة ولا مال؟ فمنذ الثالثة من عمري وأنا مصابة بالالتهاب القصبي الرئوي، ثم أصابتني الحمى الروماتيزمية وأنا في الثانية عشرة، وفي السادسة عشرة تزوجت زوجي الأول الذي لقي حتفه في حادث قطع أشجار، هذا إضافة إلى أني أجهضت ثلاث مرات، فأصبحت رحمي متهتكة؛ مما يجعلني أستخدم ثلاث علب من الفوط الصحية شهريا. فيما بعد تزوجت من مزارع يمتلك مزرعة ألبان في الوادي، ثم حدث أن أصابت الحمى قطيعه؛ مما جعلنا معدمين، هذا هو زوجي الذي توفي جراء داء بكليتيه. لا عجب، لا عجب على الإطلاق أن أعصابي منهارة.»
لقد اختصرت الكثير من الحوار. تم هذا الحوار على طاولة دوتي حينما دعيت لاحتساء الشاي ثم الجعة فيما بعد، وكان هذا الحوار أطول من هذا بكثير وفي الواقع في منتهى الحزن والتعاسة، وبالرغم من ذلك كان يوجد حس بالفخر والانشداه في حديث دوتي. هذه هي الحياة الواقعية بعيدا عن الكتب أو المقالات أو الصفوف الدراسية أو المناقشات. لقد كانت شخصية دوتي على النقيض من شخصية والدتها؛ فقد كانت صريحة ورقيقة ولينة ومغلوبة على أمرها، هذا النوع من السيدات الحائرات اللواتي لا يحملن ما يميزهن عن غيرهن، واللواتي تجدهن على محطات الحافلات في المدينة منتظرات للحافلة بأيديهن أكياس التسوق. في الواقع، لقد وجدت دوتي في نفس هذا الوضع تماما، حيث رأيتها على محطة الحافلات في وسط المدينة، ولم أتعرف عليها في بادئ الأمر حيث كانت ترتدي معطف شتاء أزرق باهت اللون. كانت غرفة دوتي مليئة بالأثاث الثقيل، أثاث جمعته من زواجها: بيانو عمودي، وأريكة كبيرة وكراسي متخمة، وخزانة مكسوة بخشب الجوز للآنية الخزفية، إضافة إلى طاولة لغرفة الطعام، تلك التي جلسنا إليها؛ وكان يوجد بمنتصف هذه الطاولة مصباح ضخم ذو قاعدة خزفية مزخرفة، مزود بكمة حريرية مطوية ذات لون أحمر داكن، وكانت تلك الكمة موضوعة بزاوية غريبة كما لو كانت تنورة مطوقة.
وصفت هذا المصباح لهوجو قائلة: «إنه مصباح بيت البغاء.» فيما بعد أردت أن يهنئني ويحييني على دقة هذا الوصف. وقد أخبرته أنه عليه أن يولي دوتي مزيدا من الاهتمام في حال إذا أراد أن يكون كاتبا. كما أخبرته عما حدث لزوجها ولرحمها وعن مجموعتها من الملاعق التي تباع في محلات الهدايا التذكارية، وكان رده حينها أنني لدي مطلق الحرية في متابعتهم بنفسي. كان حينها يقوم بكتابة مسرحية شعرية.
بمجرد نزولي للقبو كي أضع الحطب في المدفأة وجدت دوتي تقف على الباب مرتدية روبا من الشانيل وردي اللون، وهي تودع رجلا يرتدي زيا كالذي يرتديه العاملون في محطات البنزين أو رجال تسليم البضائع. حدث هذا الأمر في منتصف وقت العصر. لم تكن طريقتها في توديع هذا الرجل تدل على أي نوع من أنواع الفحش أو العاطفة، ولم أكن لأستنتج أي شيء يتعلق بهذا المنحى، ربما كنت سأحسب هذا الرجل مجرد قريب أو نسيب لولا أنها بدأت وهي سكرى قليلا في سرد قصة طويلة حول كيف ابتلت ملابسها بسبب المطر، وكان أن اضطرت أن تترك ملابسها في منزل والدتها ولبس فستان من فساتين والدتها التي كانت ضيقة عليها للغاية مما أدى لارتدائها هذا الروب؛ ولذلك هي تقف مرتدية إياه الآن. ثم بدأت في سرد كيف أن لاري رآها وهي مرتدية تلك الملابس أثناء توصيله لبعض الملابس التي طلب منها أن تخيطها لزوجته، وكيف أنني أراها الآن بنفس الملابس، وأنها لا تدري كيف تبدو صورتها الآن أمامنا. الأمر كله كان غريبا، حيث إنني قد رأيتها عدة مرات من قبل وهي مرتدية الروب. وأثناء ضحكها وشرحها للموقف قام الرجل بتجنب الحديث وخرج من الباب دون أن ينظر إلي أو يبتسم أو يقول أي كلمة من أي نوع أو حتى لدعم قصة دوتي حول ما حدث.
حينها أخبرت هوجو: «يبدو أن لدى دوتي عشيقا.»
فرد علي قائلا: «أنت لا تخرجين من المنزل كثيرا، والآن تحاولين جعل حياتك أكثر إثارة.»
طوال الأسبوع التالي لهذه الحادثة قمت بمراقبة المنزل لمعرفة ما إذا كان هذا الرجل قد عاود الظهور مجددا. لم يظهر مرة أخرى، ولكن ظهر ثلاثة رجال آخرين؛ واحد منهم جاء مرتين، كانوا يسيرون بسرعة ورءوسهم منكسة ولم يضطروا للانتظار أمام باب القبو أيضا. حينها لم يستطع هوجو إنكار ما يحدث، وعلق على هذا الأمر قائلا إن الواقع يقتبس من الخيال، وبعد كل تلك الغانيات السمينات ذوات الدوالي اللائي قابلهن في الكتب، كان من المحتم أن يحدث ذلك. حينها بدأنا في إطلاق لقب الغانية المقيمة على دوتي، وبدأنا نتباهى بها أمام أصدقائنا، فكانوا يأتون لزيارتنا كي يقفوا خلف الستائر في محاولة اختلاس نظرة خاطفة لها وهي تدخل منزلها أو تخرج منه.
كانوا يقولون: «ليست هي تلك! أهي تلك فعلا؟ أليست مخيبة للآمال؟ ألا تمتلك أي ملابس خاصة بالمهنة؟»
فكنا نرد عليهم أنا وهوجو قائلين: «لا تكونوا ساذجين، هل تعتقدون أنهن جميعا يرتدين الترتر وأوشحة الريش؟»
ثم لزم الجميع الصمت ليستمعوا لعزفها على البيانو، وبدأت هي في الغناء أو الهمهمة إلى جانب عزفها، لم يكن صوتها ذا وتيرة ثابتة بل ذا نبرة عالية، وكان صوتها ذلك الصوت المفعم بالتحدي والسخرية الذاتية الذي يستخدمه الناس حينما يكونون بمفردهم أو يعتقدون أنهم بمفردهم. قامت دوتي بغناء مقطوعة «وردة تكساس الصفراء» ومقطوعة «لا يمكن أن تكوني حقيقية يا حبيبتي». «على الغانيات أن يتعلمن إنشاد الترانيم.» «سوف نحاول تعليمها بعض الترانيم.»
وأثناء حديثنا علقت فتاة تدعى ماري فرانسيس شريكر، قائلة: «جميعكم مختلسون للنظر، أنتم جميعكم تتصفون بالخسة.» كانت ماري فرانسيس فتاة ذات بنية عظمية كبيرة، وجهها ذو ملامح هادئة، ولديها ضفائر سوداء تنسدل على ظهرها، وكانت متزوجة من أعجوبة علم الرياضيات إليسورث شريكر الذي كان قد أصيب بانهيار عصبي. كانت ماري فرانسيس تعمل أخصائية تغذية، ودائما ما كان هوجو يقول إنه لا يستطيع النظر إليها دون أن يتبادر إلى ذهنه كلمة «سمكة العفريت»، ولكنه اعتقد أن وجودها إلى جانبه سيغذيه، مثل عصيدة الشوفان، وفيما بعد أصبحت زوجته الثانية. لطالما اعتقدت أنها الزوجة المثالية له، ولطالما اعتقد أنها ستبقى بجواره إلى الأبد تغذيه، ولكن جاءت الطالبة وأزاحتها من موضعها.
كان عزف دوتي على البيانو هو وسيلة الترفيه التي نقدمها لأصدقائنا، ولكنه كان أمرا كارثيا في الأيام التي يوجد فيها هوجو بالمنزل يحاول أن يعمل. كان من المفترض أن يعمل على بحثه، ولكنه في واقع الأمر كان يعمل على مسرحيته، وكان يعمل في غرفة نومنا على طاولة معدة للعب الورق موضوعة بجوار النافذة المواجهة للسياج. وحينما تعزف دوتي على البيانو كان يخرج للمطبخ ويقرب وجهه من وجهي ويتحدث بصوت ونبرة منخفضة توضح مدى غضبه ومحاولته للسيطرة عليه، قائلا: «انزلي إليها وأخبريها أن تتوقف عن ذلك فورا.» «فلتنزل أنت إليها.»
فيصرخ: «اللعنة، هي صديقتك أنت، أنت من تحثينها، أنت من تشجعينها.» «ولكني لم أقل لها أن تعزف على البيانو!» «لقد رتبت جدولي كي أتفرغ عصر هذا اليوم للعمل، لكن لم أتمكن من العمل قط. لقد رتبت جدولي. أنا في مرحلة حرجة. فهذه المسرحية إما أن «تحيا» وإما أن «تموت». إذا ذهبت أنا إليها أخشى أن أقوم بخنقها.» «إذن لا تنظر «إلي». لا تخنقني «أنا». أرجوك سامحني على تنفسي وكل ما أقوم به.»
ولكني عادة ما كنت أنزل إلى القبو، هذا أمر مفروغ منه، ثم أطرق الباب وأطلب من دوتي إذا كان من الممكن ألا تعزف البيانو في الوقت الحالي حيث إن زوجي بالمنزل ويحاول أن يعمل. لم يحدث قط أن قلت «يكتب»؛ فقد دربني هوجو ألا أقول هذا أبدا، وكانت تلك الكلمة كالسلك العاري في علاقتنا. وفي كل مرة كانت دوتي تعتذر؛ حيث إنها كانت تخاف من هوجو وتحترم عمله وذكاءه، وكانت تتوقف عن العزف على البيانو، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أنها قد تنسى وتبدأ في العزف مرة أخرى بعد ساعة أو نصف الساعة. كانت إمكانية حدوث هذا الأمر دائما ما تشعرني بالتوتر والبؤس؛ حيث إنني كنت حاملا وقتها وأرغب في تناول الطعام طوال الوقت، وكنت أجلس إلى طاولة الطعام أتناول الطعام بنهم وتعاسة، وكنت حينها أتناول وجبات دافئة مثل طبق الأرز الإسباني. عندئذ كان هوجو يشعر بأن العالم يقف أمام كتاباته، كان يشعر أنه ليس سكان العالم من البشر فقط هم من يعادونه بل أيضا ضوضاؤه وملهياته والفوضى اليومية جميعها متفقة ضده، يمنعونه عن قصد من عمله بشكل شيطاني خبيث. وكانت وظيفتي هي أن أحول بينه وبين العالم الواقف ضده، ولكن للأسف فشلت في أداء تلك الوظيفة، ربما كان السبب وراء هذا الفشل هو اختياري أن أكون فاشلة فيها أكثر من كوني غير كفء لأدائها. فأنا لم أكن أومن بهوجو، ولم أكن أستوعب مدى أهمية أن أومن به. لقد كنت مقتنعة بأنه شخص ذكي وموهوب، أيا كان المقصود بالذكاء والموهبة هنا، ولكني لم أكن مؤمنة بأنه سوف يصبح كاتبا، فهو لم يكن يمتلك الملكات التي يجب أن يتحلى بها الكاتب، حسبما أراه؛ إذ كان عصبيا للغاية، وسريع الغضب مع كل الناس، ومغرورا أكثر من اللازم. وكنت أرى أنه يجب على الكاتب أن يكون هادئ الطباع، وأن يكون شخصا حزينا، وأن يتمتع بالكثير من المعرفة. كنت مؤمنة أن هناك فرقا شاسعا بينهما، حيث كنت أرى أن هناك صفة واضحة ومهمة يجب أن يتحلى بها الكتاب ويفتقر إليها هوجو. لطالما اعتقدت أنه سيحين اليوم الذي سيدرك فيه هذه الأمر، ولكن في الوقت نفسه كان هوجو يعيش في عالم خاص به، عالم له امتيازات وعواقب غريبة، ولا أدرى عنها شيئا، كما لو كان شخصا مجنونا. فكان يجلس لتناول العشاء شاحب اللون ويبدو عليه الاشمئزاز، وكان ينكب على الآلة الكاتبة في جنون بغرفة النوم عندما كنت أدخل لإحضار شيء منها، وأحيانا أخرى كان يقفز في غرفة المعيشة ويسألني أن أحزر من يكون (وحيد قرن يعتقد أنه غزال، أو الرئيس ماو تسي تونج يرقص رقصة الحرب في حلم يحلم به وزير الخارجية جون فوستر دالاس)، وفجأة يبدأ في تقبيل عنقي وحنجرتي مصدرا أصوات شخص جائع يقوم بالتهام الطعام، ولكني لم أكن أدرى ما هي أسباب أو مصدر نوبات غضبه أو سعادته، ولم يكن يخبرني، ولم أكن عاملا مؤثرا في تلك النوبات. أحيانا كنت أقول له مغيظة إياه: «فلنفترض أنه بعد ولادة الطفل نشب حريق بالمنزل وكان كل من الطفل والمسرحية بداخل المنزل، فأيهما ستحاول إنقاذه؟»
فيرد قائلا: «كليهما.»
فأقول: «ولكن فلنفترض أنه يمكنك أن تنقذ واحدا فقط منهما، فأيهما ستختار؟ دع عنك الطفل، فلنفترض أنني بخطر، كلا، فلنفترض أنني أغرق «هنا» وأنت أيضا «هنا» ولا يمكنك أن تنقذنا نحن الاثنين ...»
فيرد قائلا: «أنت تصعبين هذه المسألة علي كثيرا.» «أدري ذلك، أنا أدري أنني أصعبها عليك، ألا تكرهني؟» «بالطبع أكرهك.» بعد ذلك قد نذهب إلى الفراش مثارين ونصطنع الشجار ونلعب ونصيح. لقد كانت حياتنا كلها - الجزء الناجح من حياتنا معا - عبارة عن مجموعة من الألعاب. فأحيانا كنا نختلق الأحاديث بالحافلة لنثير اندهاش الناس. وذات مرة ذهبنا إلى حانة وقام بتوبيخي على تركي للأطفال وحدهم في المنزل لكي أخرج مع رجال آخرين بينما هو يعمل في الأدغال كي يقوم بتأمين معيشتنا، ثم يتضرع إلي كي أتذكر دوري كزوجة وكأم، فأنفث أنا دخان السجائر في وجهه والناس من حولنا يبدو عليهم الجدية والرضا. وعندما نخرج من الحانة نضحك حتى لا نستطيع الوقوف، ونضطر إلى أن يمسك أحدنا بالآخر متكئين على الحائط. وكنا نلعب بالفراش أدوار السيدة تشاترلي ومستر ميلرز (أبطال رواية عشيق السيدة تشاترلي)، وكنا نقتبس حوارات من الكتاب.
فيقول لي هوجو بصوت أجش: «أين ذهب هذا النذل جون توماس؟ أنا لا أستطيع أن أجد جون توماس!»
فأرد عليه بشكل راق وأرستقراطي: «أنا في قمة الأسف، يبدو أنني قد ابتلعته.» •••
كانت هناك مضخة مياه بالقبو، وكانت تصدر طرقات عالية منتظمة. لم يكن البيت بعيدا عن نهر فراسر، وكانت أرضه منخفضة قليلا عما حولها؛ لذا كان على هذه المضخة العمل معظم الوقت، في الأجواء الممطرة، لتحول دون غرق القبو تحت الماء. شهر يناير في فانكوفر دائما ملبد بالغيوم وغزير الأمطار، كذلك شهر فبراير الذي يليه. كنت أشعر أنا وهوجو بالاكتئاب؛ مما يجعلني أنام كثيرا، على العكس من هوجو الذي لم يكن يستطيع النوم، كان يدعي أن صوت المضخة هو ما يجعله مستيقظا طوال الليل، ويمنعه من العمل طوال النهار. كانت ضوضاء المضخة تحل محل صوت عزف دوتي على البيانو، وهو ما أثار حنقه وأغاظه على نحو أكبر؛ ليس فقط بسبب صوتها المزعج، ولكن أيضا بسبب تكلفتها؛ حيث إن معظم دخلنا كان يذهب لفاتورة الكهرباء، مع أن دوتي هي المقيمة في القبو، وتعتبر هي المستفيدة الوحيدة منها؛ حيث تمنع عنها دخول الماء. قال هوجو إنه يجب علي التحدث مع دوتي بهذا الشأن، لكني أجبته بأن دوتي لا يمكنها الوفاء بنفقاتها؛ فقال إنه يمكنها أن تستقبل المزيد من الرجال، فقلت له أن يخرس. فمع تقدمي في أشهر الحمل، وإذ صرت أثقل وزنا وحركتي أبطأ، تعودت على دوتي أكثر وأكثر، وأصبحت أحبها وأحفظ كلامها عن ظهر قلب، وأردده، كنت أشعر وأنا معها بأنني في بيتي أكثر من شعوري بذلك مع هوجو أو أصدقائنا.
قال هوجو: لا بأس، علي أن أهاتف ربة المنزل. فأخبرته أن عليه فعل ذلك، فأجاب بأنه لديه الكثير ليفعله. في الحقيقة كنا نحن الاثنين نعزف عن مواجهة ربة المنزل لعلمنا مسبقا بأنها ستربكنا وتهزمنا بهزل حديثها المزعج المراوغ.
استيقظت ذات مرة في نصف الليل في منتصف أسبوع مطير متسائلة ما الذي أيقظني؟ اكتشفت أنه الهدوء. «هوجو، استيقظ، لقد تعطلت المضخة، لا أستطيع سماع صوتها.»
فأجاباني: «أنا مستيقظ.» «المطر ما زال منهمرا والمضخة لا تعمل، يبدو أنها تعطلت.» «كلا، إنها ليست معطلة ، لقد أطفأتها.»
فاعتدلت في جلستي وأضأت المصباح، لأجد هوجو مستلقيا على ظهره، وعيناه تقدحان شرارا ويحاول النظر إلي بحدة في نفس الوقت، فقلت له: «أنت لم تطفئها.» «حسنا لم أطفئها.» «أنت فعلت ذلك؟» «أنا لا أستطيع تحمل تلك التكاليف الملعونة أكثر من ذلك، لا أحتمل حتى مجرد التفكير بها، ولا أتحمل الضوضاء أيضا، أنا لم يغمض لي جفن منذ أسبوع.» «سيغرق القبو.» «سوف أشغلها في الصباح، كل ما أحتاجه بضع ساعات من الهدوء والسكينة.» «سوف يكون هذا بعد فوات الأوان، المطر ينهمر بغزارة.» «كلا، إنها لا تمطر بشدة.» «اذهب لترى من الشباك.» «إنها تمطر، لكن ليس بغزارة.»
أطفأت المصباح ورقدت بجانبه، وقلت بصوت هادئ وحازم: «هوجو، استمع لي، اذهب وشغل المضخة، دوتي ستغرق.» «في الصباح.» «يجب أن تذهب وتشغلها الآن.» «حسنا، لن أذهب.» «إن لم تذهب، فسأذهب أنا.» «كلا، لن تذهبي.» «بل سأذهب.»
لكني لم أتحرك من مكاني، فقال بحدة: «لا تهولي الأمر دون داع.» «هوجو.» «لا تصيحي.» «ستتلف المياه حاجاتها.» «هذا أفضل شيء ممكن حدوثه لها. على كل حال، لن تتلف.» استلقى بجواري، دون حراك، ولكن في ترقب، على ما أعتقد، كان ينتظر مني أن أنزل، وأحاول أن أكتشف كيف أشغل المضخة، وبعدها، ماذا سيفعل؟ هو لن يضربني؛ فأنا في شهور حملي الأخيرة، وهو لم يضربني قط، إلا إذا بدأت أنا بذلك. من الممكن أن يذهب ويطفئها مرة أخرى، وأذهب أنا لأشغلها ثانية، وهكذا، إلى متى سيستمر هذا؟ ربما يعوق طريقي، لكني إذا قاومته كثيرا فسيخاف أن يؤذيني، من الممكن أن يسبني ويغادر البيت، لكننا لا نمتلك سيارة، إنها تمطر بغزارة، ولن يستطيع الانتظار بالخارج طويلا. من الممكن أن يستشيط غضبا ويعبس، أو أن آخذ أنا البطانية وأنام على الأريكة بغرفة الجلوس بقية الليل. أعتقد أن أي امرأة ذات شخصية حازمة ستفعل ذلك، أعتقد أن أي امرأة تريد لهذا الزواج أن ينتهي ستفعل ذلك، لكنني لن أفعله، بدلا من ذلك، حدثت نفسي أنني لا أعرف كيف أشغل المضخة، وأنني خائفة من هوجو، حدثت نفسي باحتمالية أن هوجو محق؛ لا شيء سيحدث، لكني أردت أن يحدث شيء ما؛ أردت أن يتراجع هوجو عن رأيه.
عندما استيقظت كان هوجو قد رحل، وكانت المضخة تطرق كالعادة، كانت دوتي تقرع الباب المؤدي لدرجات القبو بعنف. «لن تصدقي عينيك إذا رأيت ما هنا، إني غارقة في الماء لركبتي. ما إن وضعت رجلي من السرير على الأرض حتى غرقت هكذا. ماذا حدث؟! أسمعت صوت المضخة يتوقف؟»
قلت لها: «كلا.» «لا أعرف ما الذي حدث، أعتقد أنها تعطلت، لقد تناولت زجاجتي بيرة قبل النوم ورحت في سبات عميق كأني سافرت. كنت سأشعر إن حدث مكروه، أنا دائما أنام نوما خفيفا، لكني كنت نائمة هذه الليلية كالميتة، وبمجرد أن أنزلت قدمي عن السرير ... يا إلهي! لحسن حظي أنني لم أضئ المصباح في نفس الوقت، كنت سأصعق بالكهرباء. كل شيء يطفو على الماء.»
لم يكن هناك شيء يطفو، فالماء لن يصل لركبة شخص بالغ؛ كان بارتفاع حوالي خمس بوصات في بعض المواضع، وبارتفاع بوصة أو اثنتين في مواضع أخرى، فالأرض غير مستوية بشكل كبير. وصل الماء أسفل الأريكة والكراسي وترك أثره عليها، وتسرب إلى الأدراج السفلية والخزانة، وحجب قاعدة البيانو. وتخلخل الماء بلاطات الأرض، وتشبعت السجاجيد تماما بالماء، وكانت أطراف الشراشف تقطر ماء، وأصاب سخانها الأرضي التلف.
ارتديت ملابسي، ولبست حذاء هوجو طويل الرقبة، وأخذت الممسحة ونزلت إلى أسفل. بدأت في نزح الماء باتجاه البالوعة خارج الباب، أما دوتي فصنعت لنفسها كوبا من القهوة بمطبخي، وجلست بعض الوقت على الدرجة العليا تشاهدني، تتفوه بنفس العبارات؛ لقد شربت زجاجتي بيرة وغطت في نوم عميق، على غير العادة، ولم تسمع المضخة تتوقف عن العمل، ولا تعرف لماذا تعطلت، وإذا تعطلت فكيف ستشرح لوالدتها أنها تعطلت، وهي بالتأكيد ستحملها المسئولية وتحملها التكاليف. ارتأيت أنا أن هذا من حسن حظنا (حسن «حظنا»؟) فتوقع دوتي القليل من سوء الحظ، واستساغتها له، جعلها أبعد عما كان سيقوم به أي شخص آخر من تحري ما حدث من خطأ. وبعدما انخفض منسوب الماء قليلا، ذهبت دوتي إلى غرفة نومها وارتدت ملابسها ولبست حذاءها - اضطرت لتنشيفه أولا - وأحضرت ممسحتها، وأتت لمساعدتي. وقالت:
هذه الأشياء لا تحدث لي، أليس كذلك؟ أنا لم ألجأ لقراءة طالعي قط. كان لي صديقات يلجأن إلى قراءة طالعهن دائما، وكنت أقول لا عليكن بي، فأنا أعرف ما سيحدث لي، وهو ليس بالشيء الجيد.
صعدت إلى أعلى، واتصلت بالجامعة بحثا عن هوجو، أخبرتهم أنه أمر طارئ، ووجدوه في المكتبة، فقلت له: «لقد غرقت.» «ماذا؟» «لقد غرقت؛ شقة دوتي تحت الماء.» «لقد شغلت المضخة.» «يا لطيب ما فعلت! لقد شغلتها هذا الصباح.» «انهمر المطر بغزارة هذا الصباح، ولم تستطع المضخة استيعابه. كان ذلك بعد أن شغلت المضخة.» «لم تستطع المضخة استيعابه الليلة الماضية؛ لأن المضخة لم تكن تعمل الليلة الماضية، ولا تقل لي مرة أخرى إن المطر انهمر بغزارة.» «حسنا، لكنه بالفعل انهمر، أنت كنت نائمة.» «إنك لا تدرك ما الذي تسببت به، أليس كذلك؟ إنك حتى لم تحمل نفسك عناء البقاء لتشاهد ما حدث. كان يجب أن أرى ما حدث، كان يجب أن أتعامل مع الأمر، كان يجب أن أستمع لتلك المسكينة.» «سدي أذنيك.» «اخرس أيها الأحمق عديم الأخلاق.» «آسف، كنت أمزح، آسف.» «آسف! أتقول تلك الكلمة اللعينة الآن! أنت من تسببت في هذه الفوضى، وقد حذرتك من هذا، تأتي الآن لتقول مجرد كلمة لعينة.» «يجب أن أذهب إلى ندوة، آسف. لا أستطيع التحدث الآن، لا طائل من التحدث إليك الآن، لا أعرف ما الذي تحاولين دفعي لقوله.» «أنا فقط أحاول أن أجعلك «تدرك» ما حدث.» «لا بأس، أنا أدرك ذلك، ولكني لا أزال أعتقد أنه حدث هذا الصباح.» «أنت لا تدرك، ولن تدرك شيئا.» «أنت تهولين الأمر.» «أنا أهول!»
وانتهى نصيبنا معا إلى هذا الحد. أما والدة دوتي فلم تكن مثلها يمكن أن تتغاضى عن تفسيرات لما حدث، ففي النهاية ما تلف من بلاطات الأرض وورق الحائط هو لها. لكن والدة دوتي كانت مريضة، فهذا الجو البارد الرطب هد قواها، وانتقلت إلى المستشفى لإصابتها بالتهاب رئوي هذا الصباح، في حين ذهبت دوتي إلى منزل والدتها لرعاية المقيمين به. كانت رائحة القبو عفنة ومقززة. انتقلنا نحن أيضا من المكان بعد مدة قصيرة؛ كان هذا قبل ولادتي كليا، ونزلنا بيتا شمال فانكوفر، يمتلكه بعض أصدقائنا الذين سافروا إلى إنجلترا. تراجع الشجار ما بيننا في غمار الانتقال، لكنه في الواقع لم يحل قط؛ لم يتنازل أحدنا عن المواقف التي اتخذها أثناء المحادثة الهاتفية؛ حينما قلت له أنت لا تدرك، ولن تدرك، وقال لي ما الذي تدفعينني لقوله؟ وتساءل بعقلانية: لم كل هذه الجلبة بشأن هذا الموضوع؟ وقد يتساءل أي شخص هذا التساؤل. بعد فترة طويلة، رحلت بعيدا عنه، وتساءلت أيضا؛ كان من الممكن أن أشغل المضخة كما قلت، وأتحمل مسئولية كلينا، وأتصرف كامرأة واقعية وصبورة - أي امرأة متزوجة بحق كانت ستفعل ذلك - كما أنني متأكدة من أن ماري فرانسيس كانت ستفعل ذلك، بل فعلته عدة مرات طوال مدة زواجها التي استمرت عشر سنوات؛ أو كان من الممكن أن أخبر دوتي حقيقة ما حدث، مع أنها ليست فكرة جيدة. كان يمكن أن أقول لشخص ما، إذا كان ذلك مهما، مسببة لهوجو المتاعب، وأتركه يتجرع مرارة التعب، لكني لم أفعل، لم أستطع حمايته حماية كاملة أو رفع الغطاء عنه وتركه عاريا، ظللت فقط أجلده بسوط اللوم، أو سوط اليأس أحيانا، وأنا أشعر أنني سأغرس أظافري برأسه وأفتحه، وأصب به وجهة نظري وتصوري عما يجب عليه فهمه. يا للغطرسة! يا للجبن! يا لسوء النية! شيء لا يمكن تجنبه. «مشكلتكما هي الاختلاف.» هذا ما قاله لنا مستشار الزواج بعد ذلك، ضحكنا حتى البكاء في القاعة الموحشة بمبنى البلدية بشمال فانكوفر، حيث تجرى مباشرة استشارات الزواج، قلنا إنه من المريح أن نعرف مشكلتنا؛ إنه الاختلاف. •••
لم أقرأ قصة هوجو هذه الليلة؛ تركتها مع كليا، التي لم تقرأها أيضا كما اكتشفت فيما بعد. قرأتها عصر اليوم التالي؛ فقد عدت إلى المنزل حوالي الساعة الثانية من مدرسة البنات الخاصة؛ حيث أعمل هناك مدرسة تاريخ بدوام جزئي. أعددت كوبا من الشاي كعادتي، وجلست بالمطبخ لأستمتع بالساعة المتبقية قبل عودة الأولاد من المدرسة؛ أبناء جابرييل. رأيت الكتاب لا يزال فوق الثلاجة، فأخذته وبدأت في قراءة قصة هوجو.
كانت القصة بالطبع عن دوتي، لقد تغيرت بالطبع في بعض المواضع غير المهمة، كما كان الحدث الأساسي بها مختلقا، أو نستطيع القول إنه منقح قليلا عن الحقيقة. لكن المصباح مذكور هنا، وثوب الشانيل الوردي، وأيضا أمر آخر كنت قد نسيته بخصوص دوتي: عندما تتحدث إليها تستمع إليك وفمها مفتوح قليلا، وتومئ برأسها، ومع آخر كلمة من الجملة التي تقولها تصدر صوتا كأنها تتابع الكلام، إنها عادة مؤثرة ومزعجة. كانت تتعجل بالموافقة، كانت تتمنى فهم الموضوع. تذكر هوجو ذلك جيدا، ولكن متى تحدث هوجو إليها؟
هذا لا يهم، المهم هو أن هذه القصة التي كتبها هوجو جيدة جدا بالفعل، هذا مبلغ ما يمكنني أن أصفها به. لكم أجدها صادقة وبديعة، هذا ما وجدت القصة عليه وأنا أقرؤها. يجب أن أعترف أنني تأثرت تأثرا جما بقصة هوجو، وكنت ولا أزال سعيدة بها، ولم أتأثر بحيله. وإذا تأثرت بها فإنها حيل جيدة ولطيفة وصادقة. فأجد دوتي كأنها انتقلت هنا بكيانها من الحياة، بارزة في تلك الهالة البديعة الواضحة التي قضى هوجو طوال حياته يتعلم كيف يرسمها. إنه سحر لا سبيل إلى مقاومته، من الممكن أن تقول إنه نوع خاص من الحب السخي دون عواطف، نوع رقيق من الإحسان سعيد الحظ من يحظى به. كانت دوتي إنسانة محظوظة، والناس الذين يفهمون ويقدرون هذا الفعل يعلمون ذلك (بالطبع لن يفهم كل شخص أو يقدر هذا الفعل)؛ كانت محظوظة لتعيش بالقبو هذه الشهور القليلة ليئول بها المطاف إلى هذا، مع أنها لا تعي ما حدث، ولا تهتم به، غالبا، حتى إن عرفته. لقد دخلت عالم الأدب، وهذا لا يحدث لكل الناس.
لا تستأ، فالاعتراضات التهكمية من عاداتي؛ وأخجل من هذه العادة قليلا، فأنا أحترم ما حدث، وأحترم النية، وأحترم المجهود، وأحترم النتيجة. تقبل شكري.
اعتقدت أنني سوف أكتب خطابا إلى هوجو. وطوال الوقت الذي أعددت فيه العشاء، وتناولته، وتحدثت فيه مع جابرييل والأولاد، كنت أفكر أني سأقول له: كم من الغريب أننا تشاركنا، وما زلنا نتشارك، نفس المخزون من الذكريات، وأن التوافه والخلافات، ما اعتبرته سقط متاع؛ كانت له شيئا يانعا، وصالحا، وقابلا للاستثمار. وأيضا أود أن أعتذر له - ليس بالمطلق - عن أنني لم أصدق أنه سيصبح كاتبا؛ في الواقع هو اعتراف، وليس اعتذارا، هذا ما أنا مدينة له به، بعض عبارات الامتنان.
في نفس الوقت، على العشاء، كنت أنظر إلى زوجي جابرييل، وتوصلت إلى أنه وهوجو ليسا على قدر كبير من الاختلاف أحدهما عن الآخر؛ فكلاهما قرر ما الذي يجب أن يفعله فيما يصادفه من أمور على مدار الحياة، وما الموقف الذي يجب أن يتخذه تجاهها، وكيف يتجاهلان الأشياء أو ينتفعان بها؛ كل منهما لديه سيطرة على حياته بطرائقه المحدودة والمجازفة، فهما «ليسا تحت رحمة» هذه الأمور، أو يعتقدان ذلك. لا أستطيع لوم أحدهما في اتخاذ التدابير التي يرتئيها.
بعدما ذهب الأولاد للنوم، وذهب كل من جابرييل وكليا لمشاهدة التليفزيون، وجدت ورقة وقلما أمامي، فانقضت يدي عليهما لكتابة الخطاب. بدأت في كتابة جمل قصيرة متقطعة، لم أخطط لها:
هوجو، هذا ليس كافيا، تعتقد أنه كاف، لكنه ليس كذلك، أنت مخطئ يا هوجو.
إنها ليست برسالة ذات معنى لإرسالها بخطاب.
أنا ألومهم، أحسدهم وأزدريهم.
أتى جابرييل للمطبخ قبل أن يخلد للنوم، رآني جالسة بالأقلام وكومة الورق التي حاولت كتابة الخطاب عليها أمامي. اعتقدت أنه كان آتيا للتحدث معي، لطلب قهوة أو لطلب شيء ما يشربه، لكنه كان مقدرا لحزني، مثلما يفعل دائما؛ لذا فقد احترم تظاهري بأني مشغولة ولست حزينة، ومثقلة بمحاولات كتابتي للخطاب؛ فتركني وشأني وذهب.
كيف التقيت زوجي!
كنا وقت الظهيرة حين سمعنا صوتا صاخبا لطائرة تحلق في السماء اخترق نشرة الأخبار التي كنا نستمع إليها، وكنا متأكدين من أن الطائرة ستصطدم بالمنزل؛ فركضنا جميعا إلى الفناء، حيث رأيناها تحلق بالقرب من قمم الأشجار، وكانت مطلية باللونين الأحمر والفضي؛ إنها أول طائرة أراها عن قرب. فصرخت السيدة بيبلز.
وصاح ولدها الصغير جووي: «إنه هبوط اضطراري!»
قال الدكتور بيبلز: «لا بأس، فهو يدرك جيدا ما يفعله.» كان الدكتور بيبلز طبيبا بيطريا، ولكنه كان يتحدث بتلك النبرة الهادئة التي يتحدث بها جميع الأطباء.
كنت أعمل لدى آل بيبلز، وكانت تلك هي الوظيفة الأولى في حياتي. اشترى آل بيبلز بيتا قديما في جادة فيفث لاين التي تبعد حوالي خمسة أميال عن المدينة؛ وكان هذا عندما جرت العادة أن يشتري أهل المدينة مزارع قديمة، ليس لتشغيلها وإدارتها ولكن ليعيشوا بها.
شاهدنا الطائرة تهبط على الجانب الآخر من الطريق حيث ساحة كانت تقام بها المعارض والأسواق فيما مضى. كانت الساحة مهبطا ممتازا للطائرة، ومضمار سباق قديما رائعا ومستويا؛ وقد أزيلت الحظائر ومخازن العروض لتستخدم أخشابها بحيث لم يكن هناك ما يعيق طريق الطائرة. حتى المدرجات القديمة احترقت.
قالت السيدة بيبلز بسرعة كعادتها عندما تتعصب: «حسنا! لنعد إلى المنزل، لا داعي للوقوف هنا والتحديق كالفلاحين البلهاء.»
لم تقل ذلك لتجرح مشاعري؛ فهي لم تتعمد ذلك قط.
كنت أضع أطباق الحلوى عندما أتت لوريتا بيرد لاهثة أمام الباب السلكي، وصاحت قائلة: «خلت الطائرة ستصطدم بالمنزل وتقتلكم جميعا!»
كانت لوريتا بيرد تعيش في الجوار، واعتقد آل بيبلز أنها فلاحة، لكنها على العكس من ذلك لم تكن يوما هي أو زوجها من المزارعين؛ فزوجها جوال في عمله، والتصقت به سمعة سيئة جراء معاقرته الخمر. كان لديهما من الأبناء سبعة، ولم يمتلكوا من المال ما يكفي لشراء حاجاتهم الأساسية من بقالة هاي واي. عندما أتت لوريتا حياها آل بيبلز على أنها فلاحة، كما قلت، وعرضوا عليها الحلوى.
لم تكن الحلوى شيئا مهما بالنسبة لهذا المنزل، فطبق من الجيلي أو شرائح الموز أو الفاكهة المعلبة هو أقصى ما يقدمونه كحلوى. كانت أمي تقول دائما: «بيت بدون فطير التوت، معاب حتى الموت»، لكن عند آل بيبلز كان الأمر يسير على نحو مختلف.
عندما رأتني لوريتا بيرد أحضر إليها علبة من شرائح الخوخ صاحت: «أوه، لا داعي لذلك؛ فمعدتي لا تتحمل محتويات تلك العلب، أستطيع فقط تناول الأطعمة المجهزة بالمنزل.»
أراهن أنها لم تذق طعم الفاكهة في حياتها، لو كان الأمر بيدي لصفعتها على وجهها!
أضافت لوريتا بيرد: «أعلم لماذا أتى هذا الطيار هنا، فهو يمتلك تصريحا ليهبط على هذه الأرض ويأخذ الناس في رحلات. الفرد الواحد مقابل دولار. إنه الطيار نفسه الذي كان يحلق فوق بالميرستون الأسبوع الماضي، وحلق أيضا فوق البحيرة من قبل. أنا لن أركب هذا الشيء أبدا ولو أعطوني مالا.»
قال دكتور بيبلز: «عن نفسي سأقفز على متنها مع أول فرصة تواتيني، لكم أود أن أرى الجوار وأنا محلق في السماء.»
وقالت السيدة بيبلز إنها ستقفز بالطائرة حالما تراها. وقال الطفلان جووي وهيذر إنهما يرغبان في الصعود أيضا؛ كان جووي في التاسعة من عمره وهيذر في السابعة.
سألتني هيذر: «وماذا عنك إيدي؟»
أجبتها بأنني لا أعلم؛ فقد كنت خائفة ولكني لا أستطيع البوح بذلك، خاصة أمام الطفلين اللذين أتولى رعايتهما.
قالت لوريتا بيرد: «يأتي الناس هنا في سياراتهم ويثيرون التراب ويخربون ممتلكاتكم، لو كنت مكانكم لتقدمت بشكوى.» جلست لوريتا بيرد على الكرسي وشبكت رجليها حول رافدة الكرسي، حينها علمت أننا بصدد زيارة طويلة. ذهب الدكتور بيبلز إلى مكتبه أو خرج لمكالمة ما، وذهبت السيدة بيبلز لقيلولتها المعتادة، بعدها لم يتبق لي سوى لوريتا بيرد تتسكع حولي وأنا أحاول غسل الأطباق. هذه المرأة لا تجد حرجا أبدا في انتقاد آل بيبلز هنا في منزلهم. «لو كان لديها سبعة من الأبناء مثلي، لما استطاعت ترك كل شيء والنوم في منتصف النهار هكذا.»
ثم أخذت تسألني عن أشياء خصوصية مثل: هل يتشاجران؟ وهل يستخدمان وسائل لمنع الحمل؟ وقالت إنهما إذا فعلا ذلك فهما مذنبان. تظاهرت أنا بعدم معرفتي عم تتحدث.
كنت في الخامسة عشرة من عمري، وكانت تلك أول مرة في حياتي أعيش بعيدا عن منزلي. بذل والداي جهدا كبيرا لكي ألتحق بالمدرسة الثانوية، واستمر ذلك عاما واحدا، ولكني لم أحب الدراسة هناك. كنت أخجل من الغرباء، وكانت الدراسة صعبة، ولم يكن المدرسون يشرحون بالطريقة التي يشرحون بها الآن، أو يذللون لك الأمور. في نهاية العام نشرت الجريدة درجات الطلاب، وجاءت درجاتي في ذيل القائمة؛ 37 بالمائة، قال أبي إنه يكفيني هذا القدر، ولم ألمه قط؛ فآخر شيء كنت أتمناه هو إكمال دراستي وأن تنتهي بي الحال مدرسة بمدرسة. في ذلك اليوم، عندما نشرت الجريدة تلك الفضيحة كان الدكتور بيبلز حاضرا لدينا للعشاء؛ حيث قد ساعد لتوه إحدى البقرات لدينا في ولادة عجليها الصغيرين، وأبدى إعجابه بذكائي، وقال إن زوجته تبحث عن فتاة تساعدها، فهي تشعر بأن الطفلين قيدا حركتها منذ انتقالهم من المدينة. حينها وافقت أمي متصنعة التهذيب، حسبما أعتقد، مع أنني أستطيع الجزم من ملامح وجهها بأنها تتساءل متعجبة عما يجعل امرأة ليس لديها سوى طفلين وغير مسئولة عن أي أعمال في الحظيرة تشتكي!
عندما كنت أعود إلى المنزل، وأحكي لهم ما أؤديه من عمل عند آل بيبلز يضحك الجميع. تمتلك السيدة بيبلز غسالة ومنشفة أوتوماتيكية، وكانت الأولى التي أراها في حياتي؛ أمتلك مثلها في منزلي منذ مدة طويلة لدرجة أنه بات من العسير علي تذكر كم كان الأمر كالمعجزة بالنسبة لي؛ حيث إنني لم أكن لأضطر إلى بذل مجهود مضن لتشغيل العصارة، وتحريكها إلى أعلى وأسفل، فضلا عن عدم اضطراري لتسخين الماء. كما لم أكن عادة أخبز في هذا المنزل. تقول السيدة بيبلز إنها لا تعرف كيف تصنع الفطيرة العادية؛ الاعتراف بهذا القول كان أغرب شيء من الممكن أن أسمعه من امرأة؛ فبالطبع أستطيع أنا صنع تلك الفطيرة كما أستطيع أيضا صنع البسكويت والكعك الأبيض وبالشوكولاتة، لكن السيدة بيبلز لم ترد مني صنع ذلك في منزلهم، وقالت إنهم يحافظون على وزنهم من الزيادة. في الواقع إن الشيء الوحيد الذي لم أكن أحبه في عملي لدى آل بيبلز هو شعوري بشيء من الجوع معظم الوقت؛ فكنت أحضر علبة من الدوناتس المصنوعة بالمنزل وأخفيها تحت سريري، حتى اكتشف الطفلان وجود الدوناتس، ولم أمانع قط في إعطائهما بعضا منه، ولكني شعرت بعد ذلك أنه يجب إخفاء الأمر عنهما.
في اليوم التالي لهبوط الطائرة أخذت السيدة بيبلز طفليها بالسيارة إلى تشيسلي؛ فقد كانت تريد تصفيف شعرها عند نفس السيدة الماهرة التي اعتادت الذهاب إليها هناك، ومعنى ذلك أنها ستبقى في الخارج فترة لا بأس بها. كان عليها اختيار يوم لن يحتاج الدكتور بيبلز السيارة فيه خارج المدينة؛ فلم تكن اشترت سيارة؛ إذ كان لا يزال هناك نقص في المطروح من السيارات بعد الحرب.
أحببت فكرة وجودي وحدي بالمنزل والقيام بأعمالي دون استعجال. كان المطبخ مطليا باللونين الأبيض والأصفر البراق، ومضاء بلمبات الفلورسنت. كان هذا قبل أن يفكر آل بيبلز في تغيير ألوان أدوات المطبخ، بل حتى الخزائن جعلوها بلون أسود كالخشب القديم، فحجبت الإضاءة. لقد أحببت الإضاءة كثيرا، وأحببت الحوض المزدوج، شأني شأن أي شخص لم يعرف سوى الغسيل في طبق كبير سد ثقب فيه بقطعة قماش بالية وذلك على منضدة مغطاة بمشمع، على ضوء مصباح الكيروسين. كنت أجعل كل شيء لامعا.
أحببت الحمام أيضا. في الواقع كان مسموحا لي بالاستحمام هناك مرة في الأسبوع، ولم يكن آل بيبلز ليمانعوا إذا استحممت مرة أخرى من وقت لآخر، لكن بدا الأمر لي كأنني أكثر من الطلبات، أو ربما سأخاطر بالانتقاص من متعته. كان كل شيء في الحمام بلون وردي؛ الحوض والبانيو والمرحاض، وكانت هناك أبواب زجاجية لغلق البانيو مرسوم عليها طيور البشروش، حتى الإضاءة كانت وردية. وكانت قدمي تغوص في حاشية الأقدام كأنها الثلج، غير أنها كانت تبعث على الدفء. كانت المرآة تغطي ثلاثة جدران، وكان البخار يعلو المرايا ويفوح الجو بسحابة معطرة من أشياء سمح لي باستخدامها؛ فكنت أقف على جانب البانيو معجبة بشكلي عارية بالمرآة، من الاتجاهات الثلاثة. أحيانا كنت أفكر في معيشتي بمنزل أهلي ومعيشتي هنا، وأنه كيف من الصعب جدا أن يتخيل المرء العيش بطريقة مختلفة تماما، لكني كنت لا أزال أعتقد أن من عاش بالطريقة التي كنت أعيش بها في منزلنا سيكون من الأسهل عليه أن يتخيل أمورا مثل الدفء وحاشية الأقدام وطيور البشروش، من أن يكون العكس. ترى ما السبب؟
أنجزت عملي في وقت وجيز، وقشرت الخضراوات للعشاء وتركتها جانبا في ماء بارد. بعدها ذهبت إلى غرفة نوم السيدة بيبلز. كنت قد دخلتها قبل ذلك مرات عديدة لأنظفها، وكنت دائما أنعم النظر إلى خزانتها، إلى الملابس التي تعلقها فيها. لم أكن لأنظر في أدراجها الخاصة، لكن الخزانة كانت مفتوحة لأي أحد ينظر ما بداخلها. الحقيقة أنا أكذب! كنت أنظر في أدراجها الخاصة، لكني كنت أشعر بعد ذلك بالذنب، وأرتعب من فكرة أنها قد تعلم بما فعلته.
كانت السيدة بيبلز تلبس بعضا من الملابس المعلقة في خزانتها طيلة الوقت؛ لدرجة أني اعتدت رؤيتها بها، والبعض الآخر لم تلبسه قط وأصبح منسيا في خلفية الخزانة. خاب أملي حين لم أجد فستان الزفاف؛ لكن كان هناك فستان طويل، لم أستطع رؤيته كاملا، فلم أر منه سوى تنورته، وكنت أتوق دائما لرؤيته كاملا. والآن عرفت أين هو معلق، فأخرجته من الخزانة؛ كان من الساتان، ذا وزن معقول، ناعم الملمس، لونه أخضر مزرق، ذا طبقة لامعة. وكان وسطه مضبوطا تماما ومفصلا بدقة، وله تنورة طويلة، وله غطاء يتدلى على الكتفين ليخفي أكمامه القصيرة.
لم أجد صعوبة فيما فعلته بعد ذلك؛ خلعت ملابسي ثم تركته ينزلق على جسمي. كنت آنذاك وأنا في الخامسة عشرة أنحف مما يتخيل من يعرفني الآن، وكان الفستان مناسبا لي على نحو بديع. كان الفستان يحتاج لصدرية بدون حمالات، لكن بالطبع لم أكن أمتلك واحدة؛ لذا أخفيت حمالات صدريتي تحت الفستان. بعدها بدأت في تثبيت شعري بدبابيس الشعر، لتبدو الصورة متكاملة. وأخذت كل خطوة تجرني إلى أخرى؛ وضعت أحمر الخدود وأحمر الشفاه واستخدمت محدد العيون من تسريحتها. وبينما أضع الرتوش الأخيرة شعرت بالعطش؛ فثقل الساتان، وإحساسي بالإثارة لما أفعله جعلني أشعر بالعطش، فذهبت بالفستان إلى المطبخ لأحضر من الثلاجة كأسا من شراب الزنجبيل مع مكعبات الثلج. طوال اليوم يشرب آل بيبلز ذلك الشراب أو مشروبات الفاكهة مثل الماء، وبطبيعة الحال اعتدت على ذلك أيضا! كان الثلج موجودا بكثرة، وكنت أنا مولعة بوضعه على أي شيء حتى كوب الحليب!
حينما التفت لإعادة مكعبات الثلج مكانها، رأيت رجلا يراقبني من خلال الباب السلكي. من حسن حظي أني لم أسكب شراب الزنجبيل من فرط المفاجأة. «لم أقصد إخافتك، لقد طرقت الباب، ولكنك كنت تخرجين مكعبات الثلج ولم تسمعيني.»
لم أستطع رؤيته جيدا؛ فكان يبدو كالشبح كهيئة أي شخص يقف أمام الباب ومن خلفه ضوء النهار المبهر. كل ما استطعت إدراكه أنه ليس من أهل المنطقة. «أنا كريس واترز، قادم من تلك الطائرة هناك، وكنت أتساءل إن كان بإمكاني استخدام تلك المضخة.»
اعتاد الناس في ذلك الوقت استخدام المضخات للحصول على الماء، وكانت مضخة المنزل موجودة في الفناء، ولاحظت حينها أنه يحمل دلوا.
قلت: «على الرحب والسعة! يمكنني أن أملأ لك الدلو من الحنفية، وأوفر عليك عناء الضخ.»
أعتقد أني قلت ذلك فقط لأعلمه أننا نستخدم الحنفية ولا نضخ الماء بأنفسنا. «لا مانع من ممارسة بعض التمارين.» ومع ذلك لم يتحرك من مكانه، بل أردف في النهاية: «هل أنت ذاهبة لحفل راقص؟»
كنت قد نسيت تماما ماذا كنت أرتدي من فرط مفاجأتي برؤية هذا الغريب. «أم هذه هي الملابس التي تعتاد السيدات في هذه البلدة ارتداءها وقت العصر؟»
لم أستطع ممازحته؛ فقد كنت محرجة جدا. «هل تقيمين هنا؟ هل أنت سيدة هذا المنزل؟» «أنا الخادمة.»
تتغير نظرة بعض الناس لي عندما يعرفون ذلك ويتغير أسلوب كلامهم تماما، لكنه لم يفعل ذلك. «حسنا، فقط أردت أن أقول كم تبدين لطيفة، لقد انبهرت عندما نظرت عبر الباب ورأيتك؛ لأنك بحق لطيفة وجميلة.»
آنذاك لم أكن ناضجة بعد بقدر يجعلني أعي ما معنى أن يقول رجل لامرأة إنها «جميلة»، ولم أكن ناضجة بعد بقدر يمكنني من الرد عليه، أو في الواقع بقدر يمكنني من أي شيء إلا أن أتمنى في تلك اللحظة أن يتلاشى تماما، ليس لأنه لم يعجبني، ولكن بسبب شعوري بالبلاهة وهو ينظر إلي وأنا أقف أمامه أفكر في أي كلمة لأقولها.
ويبدو أنه أدرك ذلك؛ فحياني، وشكرني، ثم ذهب ليملأ الدلو من المضخة. وقفت أنا لأراقبه من وراء ستائر حجرة الطعام البندقية. وعندما رحل، عدت إلى غرفة النوم وخلعت الفستان ووضعته مكانه، وارتديت ملابسي، ونزعت الدبابيس من شعري وأعدته كما كان، وغسلت وجهي لإزالة ما عليه، ومسحته جيدا بمنديل ورقي، ثم ألقيت المنديل في سلة المهملات. •••
عندما عاد آل بيبلز سألوني عن ذلك الرجل؛ كيف كان شكله؟ شاب أم في منتصف العمر؟ قصير أم طويل؟ ولم أكن أنبس ببنت شفة.
قال الدكتور بيبلز مغيظا لي: «هل هو وسيم؟»
لم يستطع عقلي التفكير في أي شيء إلا أنه من الممكن أن يعود ليملأ دلوه مرة أخرى، وحينها سيتجاذب أطراف الحديث مع الدكتور بيبلز والسيدة بيبلز، ومن الممكن أن تتكون صداقة بينهم، ويذكر لهما أنه رآني بذلك الفستان وقت العصر. لم لا؟ من الممكن أن يعتقد أنها مزحة لطيفة، ولا يعلم ما الذي سأجنيه أنا من مشكلات جراء ذلك.
بعد العشاء ذهب السيد والسيدة بيبلز بالسيارة إلى السينما، حيث أرادت السيدة بيبلز الذهاب لأي مكان لتستمتع بشعرها المصفف اليوم، في حين جلست أنا بالمطبخ المضيء أفكر ماذا أفعل، وأعلم جيدا أنه لن يغمض لي جفن. إذا علمت السيدة بيبلز بهذا الأمر فقد لا تطردني، ولكن نظرتها لي وطريقة معاملتها لي ستتغير تماما؛ فمع أن هذا المكان هو أول مكان أعمل به، لكني استطعت معرفة كيف يشعر الناس حيال من يعملون لديهم؛ فهم يحبون ألا يجدوك فضوليا، فليس الأمر أن تكون أمينا وحسب، فهذا لا يكفي، فهم يحبون الشعور بأنك لا تلحظ ما يدور حولك، وألا تفكر أو تسأل في شيء إلا عن رغبة أهل البيت في طعام اليوم، وكيف يريدون الملابس مكوية، وما إلى ذلك. لا أعني بذلك أنهم لم يعاملوني جيدا؛ بالعكس؛ فقد كنت أتناول طعامي معهم على نفس المائدة، (وللأمانة توقعت ذلك، فلم أكن أعرف أن ثمة عائلات لا تفعل ذلك)، بل وكانوا في بعض الأحيان يصطحبونني بالسيارة؛ ولكن هذا لا يغير من الأمر شيئا.
ذهبت للتأكد من أن الطفلين نائمان، ثم خرجت. يجب أن أفعلها. عبرت الطريق، ودلفت عبر بوابة أرض المعارض القديمة. بدت الطائرة غير مألوفة وهي قابعة هناك وهي تلمع تحت ضوء القمر. وبعيدا عند الجانب الأقصى من الساحة حيث تكثر الشجيرات رأيت خيمته.
كان يجلس خارجها ويدخن سيجارة. رآني مقدمة عليه. «مرحبا، هل تودين الركوب في رحلة بالطائرة الآن؟ أنا لن أبدأ الرحلات قبل الغد.» نظر لي مرة أخرى متفحصا وقال: «أوه، هذا أنت، لم أعرفك بدون الفستان الطويل.»
كان قلبي ينبض بشدة لدرجة أني شعرت أنه سيقفز خارج صدري. حاولت الحديث، لكن لساني كان متيبسا، وحلقي مغلقا تماما، فلم أستطع أن أنبس ببنت شفة. «هل أردت ركوب الطائرة؟ تفضلي بالجلوس، هاك سيجارة.»
لم أستطع حتى أن أهز رأسي لأقول لا؛ فأعطاني واحدة، وأردف قائلا: «ضعيها في فمك، أو يمكنني إشعالها لك، من الجيد أني معتاد على التعامل مع السيدات الخجولات.»
وضعتها بفمي، في الواقع لم تكن هذه السيجارة الأولى التي أدخنها؛ فلقد اعتدت أنا وصديقتي ماريل لوير التدخين حينما كانت تسرقها من أخيها. «انظري ليديك، إنهما ترتعشان، هل أتيت لمجرد الحديث أم أن هنالك شيئا آخر؟»
انفجرت دفعة واحدة، قائلة: «أتمنى ألا تقول لأحد إنك رأيتني بذلك الفستان.» «أي فستان، آه، ذاك الفستان الطويل.» «إنه يخص السيدة بيبلز.» «من؟ آه، السيدة التي تعملين لديها؟ هكذا إذن! انتهزت فرصة عدم وجودها بالمنزل ولبست فستانها، صحيح؟ لبسته ولعبت دور الملكة. لا ألومك على هذا أبدا. أنت لا تدخنين هذه السيجارة بطريقة صحيحة، لا تنفثي الدخان بسرعة، بل اسحبيه ببطء. ألم يعلمك أحد من قبل كيف تدخنين؟ أنت خائفة من أن أشي بك؟ أليس كذلك؟»
كنت خجلى عندما ذهبت لأسأله التستر على ما فعلت، ولم أستطع حتى هز رأسي بالإيجاب، فقط نظرت إليه وفهم أني أقول نعم. «حسنا، لن أفعل ذلك، لن أقول أي شيء من الممكن أن يحرجك لأي سبب من الأسباب، هذه كلمة شرف.»
لم أستطع حتى قول شكرا لك، فغير الموضوع تماما لمساعدتي في التغلب على إحراجي. «ما رأيك بهذه اللافتة؟»
كانت لافتة خشبية موجودة تحت قدمي ومكتوب عليها:
شاهد العالم من السماء بصحبة طيار ممتاز، التذكرة بدولار للبالغين، وخمسين سنتا للأطفال. «تلك اللافتة القديمة أصبحت مملة جدا، أعتقد أنه يتعين علي كتابة واحدة جديدة، وهذا ما أمضيت فيه يومي.»
لم تكن اللافتة مخطوطة بطريقة جيدة بالمرة، كنت سأصنع أفضل منها في نصف ساعة. «لم أكن يوما خبيرا بكتابة اللافتات.»
قلت: «إنها جيدة جدا.» «إني لا أحتاجها للدعاية، فالإعلان شفاهة كاف عادة؛ لدرجة أني قمت برحلتين اليوم، ولم أعد أبذل جهدا كبيرا في الدعاية. لكني لم أعلم أن السيدات سيأتين لزيارتي.»
تذكرت الطفلين، فشعرت بالرعب مرة أخرى خوفا من أن يستيقظ أحدهما وأنا بالخارج. «هل أنت مضطرة للمغادرة بهذه السرعة؟»
تذكرت أن أتحلى ببعض الخلق، فقلت: «شكرا على السيجارة.» «لا تنسي، لقد أعطيتك كلمة شرف.»
نهبت الطريق نهبا، وارتعت من فكرة أن أرى السيارة متجهة إلى المنزل. واختلط إحساسي بالوقت ولم أعرف كم أمضيت في الخارج. عندما وصلت أدركت أن كل شيء على ما يرام، فلم يتأخر الوقت بعد، وما زال الأطفال نائمين. استلقيت على السرير، وأخذت أفكر في أحداث اليوم، وشكرت الله أن اليوم انتهى على ما يرام بعد كل ما حدث، وأهم ما شكرت الله عليه هو أن لوريتا بيرد لم تكن الشخص الذي رآني بالفستان. •••
في اليوم التالي كان الزحام كثيفا حول المنزل، بيد أنه لم يصل إلى حد أن يطأ الناس فناء المنزل أو حدوده الخارجية. كانت اللافتة معلقة على بوابة الساحة. أتى أغلب الناس بعد العشاء للذهاب في تلك الرحلة، لكن أتى عدد لا بأس به وقت العصر أيضا. أتى أبناء آل بيرد دون نقود التذاكر وتعلقوا بالبوابة. اعتدنا على إثارة إقلاع الطائرة وهبوطها، فلم يعد الأمر مثيرا كما كان. لم أذهب إلى هناك مجددا، بعد تلك المرة الأولى، لكني كنت أراه عندما يأتي ليملأ الماء. وقتها أكون جالسة على الدرج وأعمل بما لا يحتاج مني الوقوف، كإعداد الخضراوات، إن تمكنت من ذلك. «لماذا لا تأتين لركوب الطائرة؟ سآخذك معي في رحلة.»
قلت له: «أنا أدخر المال»؛ لأني لم أجد شيئا آخر أجيبه به. «لماذا؟ للزواج؟»
هززت رأسي نفيا. «سآخذك مجانا إذا أتيت في وقت يقل فيه وجود الركاب، أعتقد أنك ستأتين، ولن تمانعي أخذ سيجارة أخرى؟»
رسمت على وجهي تعبيرا صارما لأسكته، فلا يمكنني أن أحزر متى سيتسلل الأطفال هنا خفية من الشرفة، أو أن تسمع السيدة بيبلز ذلك بنفسها؛ حيث تأتي أحيانا لتتحدث معه قليلا، وكان يخبرها بأشياء لا يخبرني بها، لكني لم يخطر ببالي أن أسأله عنها؛ فقد قال لها إنه خبر الحرب وتعلم آنذاك قيادة الطائرات، ومن حينها لم يستطع العيش بطريقة طبيعية؛ فهو يعشق الطيران في الجو. قالت إنها لا تتخيل أن هناك من يحب أن يعيش بهذه الطريقة، مع أنها صرحت له أن شعورها بالملل هنا من الممكن أن يدفعها لتجربة شيء كهذا، فهي لم تولد للعيش في الريف، إنها فكرة زوجها على حد تعبيرها. لم أكن أعرف هذا الأمر من قبل.
قالت له: «ربما عليك أن تعطي دروس الطيران.» «أتريدين أن أعلمك؟»
اكتفت بالضحك دون الرد. •••
كان يوم الأحد مليئا بالرحلات؛ مع أن عظتين بالكنيسة نهتا عن ذلك. كنا جميعا نجلس بالخارج لنشاهد الطائرة، يقف كل من هيذر وجووي على السور مع أبناء آل بيرد؛ حيث سمح لهما أبوهما بالذهاب بعدما ظلت أمهما رافضة طوال الأسبوع.
في ذلك الحين جاءت سيارة وتجاوزت السيارات المتوقفة، وتوقفت بالطريق الصغير المؤدي إلى المنزل. ترجلت لوريتا بيرد من السيارة، وعليها تبدو أمارات الأهمية، في حين خرجت من وراء عجلة القيادة سيدة أخرى ترتدي نظارة شمسية. تحركت برزانة عن لوريتا بيرد.
قالت لوريتا: «هذه السيدة تبحث عن قائد الطائرة؛ لقد سمعتها تسأل عنه في مقهى الفندق عندما كنت أشرب زجاجة من شراب الكولا؛ لذا أتيت بها إلى هنا.»
قالت السيدة: «آسفة على الإزعاج، أنا أليس كيلينج، خطيبة السيد واترز.»
كانت تلك المدعوة أليس ترتدي بنطلونا واسعا منقوشا بمربعات بيضاء وبنية، وبلوزة صفراء. بدا صدرها لي متهدلا يتقافز مع حركتها. ترك القلق آثاره على وجهها، وشعرها مموج، إلا أن أثر التموج بدأ يزول، وكانت تضع عصابة صفراء لتبقي ما تدلى منه بعيدا عن وجهها. لا شيء مطلقا يبدو جميلا بها أو حتى يجعلها تبدو صغيرة السن، لكن يستطيع المرء - من خلال أسلوبها في الحديث - إدراك أنها من المدينة، أو متعلمة، أو كلاهما.
وقف الدكتور بيبلز، وقدم نفسه وزوجته وعرفها بي، ثم دعاها إلى الجلوس، وقال: «إنه الآن يحلق في الهواء، لكن بإمكانك الجلوس وانتظاره، فهو يأتي ليضخ الماء الذي يحتاجه من هنا، وهو لم يأت بعد؛ وعادة ما يأخذ استراحته في الساعة الخامسة.»
قطبت أليس كيلينج جبينها بينما تنعم النظر إلى السماء، ثم قالت: «هذا هو إذن؟»
قال الدكتور بيبلز ضاحكا: «هو لم يعتد الهرب منك مستعيرا اسما جديدا؟» كان الدكتور بيبلز من قام بضيافتها - وليس زوجته - وعرض عليها شرب الشاي المثلج، أما السيدة بيبلز فقد أمرتني بإعداد الشاي المثلج مكتفية بابتسامة. كانت تضع نظارة شمسية هي الأخرى.
قالت: «لم يذكر السيد واترز أن له خطيبة.»
من الجدير بالذكر أن الدكتور بيبلز كان لا يقرب الخمر، على الأقل هنا في المنزل؛ وإلا لما سمح لي بالعمل هنا طيلة هذه الفترة. كنت أحب تجهيز الشاي المثلج وأضع له الكثير من الثلج مع شرائح الليمون في الأكواب الطويلة، وكان يتعين علي تحضير كوب آخر للوريتا بيرد مع أن ذلك عكر صفوي، عندما أتيت بالشاي وجدتها قد جلست على كرسي، تاركة درجات السلم لي للجلوس عليها. «لقد علمت من أول نظرة لك في المقهى أنك ممرضة.» «كيف عرفت شيئا كهذا؟» «أستطيع معرفة الناس بالحاسة السادسة، هل قابلت السيد واترز من خلال عملك، أثناء تمريضه؟» «كريس؟ نعم، نعم، إنه كذلك.»
قالت السيدة بيبلز: «أوه، أكان هذا وأنتم خارج البلاد؟» «كلا؛ فقد كان ذلك قبل أن يسافر، كنا لا نزال في زمن الحرب، وكان هو مرابطا في سنتريليا عندما انفجرت زائدته الدودية؛ حينها كنت أنا من أمرضه. تقدم لخطبتي في ذلك الحين، وسافر بعد ذلك خارج البلاد. يا إلهي، كم هو منعش ذلك المشروب بعد قيادة تلك المسافة الطويلة.»
قال الدكتور بيبلز: «سيسر بالطبع لوجودك، لكنها حياة صاخبة تلك؛ أن يتنقل المرء من مكان لآخر دون الاستقرار في مكان وتكوين صداقات.»
سألتها لوريتا بيرد: «هل أنتما مخطوبان منذ فترة طويلة؟»
أكملت أليس كيلينج حديثها كأن لم تسمعها، قائلة: «كنت أنوي المكوث في الفندق، لكن عندما قادني البحث عن كريس إلى هنا أتيت مباشرة، هل لي أن أحادثهم بالهاتف؟»
أجاب الدكتور بيبلز: «لا داعي لذلك، ستكونين على بعد خمسة أميال عن السيد واترز إن مكثت بذلك الفندق، أما هنا فما عليك إلا قطع الطريق. بإمكانك المكوث معنا، البيت كبير ويسع الجميع.»
بالقطع إن دعوة الناس للمكوث بهذه الطريقة هي عادة أهل القرى، ويبدو أنها أصبحت مألوفة للدكتور بيبلز الآن، لكن ليس للسيدة بيبلز؛ إذ بدا ذلك جليا من الطريقة التي قالت بها: «نعم، لدينا العديد من الغرف.» ويبدو أنه لم يكن مألوفا لأليس كيلينج أيضا التي لم تنفك تعترض، وفي النهاية أعياها الاعتراض. انتابني شعور أن ذلك كان إغراء لها، لتكون بذلك القرب من كريس. وبينما كانوا يتحدثون، كنت أحاول أنا اختلاس النظر إلى خاتم الخطبة بيدها، كانت تضع طلاء أحمر على أظافرها، وكانت أصابعها مجعدة وبها نمش، وكان حجر الخاتم صغيرا جدا. لقد رأيت خاتم ابنة عم صديقتي موريل لو، وكان يكبره بمرتين.
أتى كريس آخر النهار ليملأ الماء، في نفس الوقت الذي توقعه الدكتور بيبلز بالضبط، ولا بد أنه علم بوجودها حين رأى سيارتها بالخارج فأقبل مبتسما.
قالت له أليس كيلينج: «ها أنا أقوم بملاحقتك لأرى ماذا ستفعل!» نهضت من جلستها وأقبلت عليه لتقبله قبلة خاطفة أمامنا جميعا.
قال لها كريس: «بهذه الطريقة ستنفقين كل ما لديك على البنزين.»
دعاه الدكتور بيبلز إلى العشاء، بعد أن علق كريس اللافتة المكتوب عليها «لا رحلات حتى الساعة السابعة.» وطلبت مني السيدة بيبلز أن أقدم العشاء في الفناء، بالرغم من وجود حشرات هناك. كان تناول الطعام بالخارج أمرا لم يألفه أهل الريف. كنت قد أعددت سلطة البطاطس مسبقا، وأعدت السيدة بيبلز سلطة الجيلي، أحد الأطعمة التي تستطيع إعدادها؛ لذا لم نقدم سوى هذين الصنفين مع شرائح اللحم والخيار وأوراق الخس الطازجة. أخذت لوريتا بيرد تتسكع قليلا قائلة: «حسنا، أعتقد أنني يجب أن أعود أدراجي إلى هؤلاء البؤساء، مع أن الجلسة معكم لطيفة ولا أريد القيام من مجلسي.» ومع ذلك لم يدعها أحد للمكوث، وهو ما سرني، وأخيرا اضطرت إلى الرحيل.
في تلك الليلة خرج كريس وأليس معا بالسيارة إلى مكان ما بعد انتهائه من الرحلات الجوية. أما أنا فاستلقيت على السرير دون أن يغمض لي جفن حتى عادا. عندما رأيت أنوار السيارة تضيء سقف غرفتي، قمت لأشاهدهما من النافذة مختبئة وراء الستار، لا أعلم تحديدا ما الذي دفعني فضولي لرؤيته. عندما كنت أذهب إلى موريل لو ببيتها اعتدنا معا النوم بشرفة المنزل الأمامية لنتمكن من رؤية أختها وصديقها وهو يودعها. بعدها لا نستطيع النوم، بل نجلس معا وكل منا مشتاقة لشخص يقبلها ويداعبها، ونسترسل في الحديث سارحين بخيالنا أن الواحدة منا على قارب مع صبي ولن يعيدها إلى الشاطئ حتى تمارس الحب معه، أو أن أحدهم يوقع بها في الحظيرة، وحينها لن يكون خطأها، بل ستكون مضطرة. وكانت تحكي موريل لي أن إحدى بنات عمها تمثل دور الصبي بينما تمثل الأخرى دور محبوبته. بالطبع لن نفعل شيئا كهذا؛ فأقصى ما نفعله هو الاستلقاء وترك العنان لخيالنا يسرح بعيدا.
كل ما حدث عندما نظرت من الشباك أن كليهما خرجا من السيارة باتجاه مختلف، حيث اتجه كريس ناحية الساحة، في حين اتجهت هي إلى المنزل . عدت إلى السرير وتخيلتني أعود معه من مكان ما، وبالطبع لم نفترق هكذا.
في صباح اليوم التالي استيقظت أليس كيلينج متأخرة، وذهبت أنا لتحضير كوب من الجريب فروت لها كما علمتني السيدة بيبلز، التي كانت بدورها تجلس لضيافة أليس واحتساء كوب آخر من القهوة. كانت السيدة بيبلز تبدو سعيدة بوجود رفقة معها. قالت أليس كيلينج إنها تعتقد أنه من الأفضل أن يفعلا شيئا آخر غير الجلوس فقط والفرجة على كريس يهبط بالطائرة ويعلو بها، وأجابتها السيدة بيبلز أنها لم تقترح شيئا لأنها لا تملك السيارة الآن والبحيرة تبعد قرابة خمسة وعشرين ميلا، وكان اليوم مناسبا جدا للنزهة.
أعجبت أليس كيلينج تلك الفكرة، وعندما دقت الساعة الحادية عشرة كانتا بالسيارة، مصطحبين جووي وهيذر، وكنت قد صنعت لهم بعض الفطائر للغداء. لكن لم يكن كريس قد هبط بالطائرة بعد لتبلغه إلى أين هم ذاهبون.
فقالت السيدة بيبلز: «ستذهب إيدي له وتخبره. لا مشكلة.»
قطبت أليس كيلينج جبينها قليلا، ثم وافقت قائلة لي: «تأكدي من إبلاغه، سنعود قبل الساعة الخامسة!»
لم أعتقد أن شيئا كهذا من الممكن أن يكون مهما له أن يعرفه، فقط شرعت أفكر أنه ربما الآن يأكل شيئا يطبخه لنفسه على الموقد الصغير، وحيدا؛ لذا قررت أن أصنع له كعكة مخبوزة، أثناء إنجازي لباقي الأعمال المطلوبة. عندما بردت الكعكة قليلا غطيتها بمنشفة. لم أفعل شيئا بنفسي إلا أني خلعت مريلة المطبخ ومشطت شعري. كنت أحب أن أضع بعضا من مساحيق التجميل، ولكني تراجعت، خوفا من أن يتذكر أول مرة رآني بها، الأمر الذي سيحط مني مرة أخرى.
عندما عاد تلك المرة وضع لافتة مختلفة مكتوب عليها: «معذرة، لا رحلات هذا المساء.» شعرت بالقلق من أن يكون متعبا؛ لم يكن هناك أثر له، وكان غطاء الخيمة مسدلا، فطرقت عمود الخيمة. «تفضل بالدخول.» قالها بطريقة كمن يقول «ابق بالخارج».
رفعت الغطاء. «أوه، إنه أنت، آسف، لم أكن أعرف.» لم يكن يفعل شيئا سوى الجلوس بجانب السرير والتدخين. لماذا لا يخرج ليدخن في الهواء الطلق؟
قلت له: «لقد أعددت لك كعكة، وآمل ألا تكون مريضا.» «مريض! لماذا؟ آه، إنها اللافتة بالخارج. لا عليك، فقط أعياني الحديث مع الناس، لا أقصدك أنت، تفضلي بالجلوس.» ثم رفع غطاء الخيمة قائلا: «لندع بعض الهواء النقي يدخل ها هنا.»
جلست على حافة السرير، فلم يكن هناك مكان آخر غيره، كان من نوعية السرائر الخفيفة النقالة، ثم تذكرت، وأخبرته برسالة خطيبته.
أكل بعضا من الكعكة وقال: «إنها لذيذة.» «احتفظ بالباقي لتأكله عندما تجوع ثانية.» «سأخبرك بسر، أنا لن أبقى هنا طويلا.» «ستتزوج؟» «ها ها. متى قلت إنهم سيعودون؟» «الساعة الخامسة.» «حسنا، عندما تحين تلك الساعة سأكون قد غادرت، فالطائرة أسرع من السيارة.» أكل قطعة أخرى من الكعكة وهو شارد الذهن. «لا بد أنك الآن عطشان.» «هناك بعض الماء في الدلو.» «لن يكون باردا، أستطيع أن أحضر لك بعضا آخر، وأحضر مكعبات الثلج معه.»
فقال: «كلا، لا أريدك أن تذهبي، أريد أن أقضي معك وقتا لطيفا طويلا لأودعك.»
أعاد الكعكة مكانها بحرص ثم جلس بجواري وشرع في تلك القبلات الصغيرة الرقيقة للغاية، لا يمكنني مطلقا أن أنساها، كانت الرقة بادية على وجهه، وفي قبلاته الحلوة التي تنصب على رموشي وعنقي وأذني، كلها، ثم بادلته أنا أيضا التقبيل قدر استطاعتي (لم يسبق لي أن قبلت صبيا من قبل سوى مرة واحدة لأثبت أني قادرة على ذلك؛ وقبلت يدي مرة من أجل التمرين). بعدها رقدنا على السرير وتضاغطنا معا، ولكن برفق، وفعل هو أشياء أخرى، ليست سيئة ولا بطريقة سيئة. كان الأمر رائعا بالخيمة ونحن نشتم رائحة العشب ورائحة قماش الخيمة التي تلفحها شمس النهار بلهيبها، ثم قال بحنان: «ما كنت لألحق بك ضررا من أي نوع.» وما إن اعتلاني وصرنا نهتز معا فوق السرير، حتى قال برقة: «أوه، كلا.» وحرر نفسه وقفز مبتعدا نحو دلو الماء، رش بعضه على رقبته ووجهه، ورش الباقي علي وأنا راقدة هناك. «هذا لكي نهدأ قليلا يا آنستي.»
عندما حانت لحظة الوداع لم أكن حزينة ؛ حيث أمسك وجهي بين يديه قائلا: «سأكتب لك خطابا لأعلمك مكاني، ويمكنك أن تأتي لتريني، ألا تحبين ذلك؟ حسنا، انتظري الخطاب.» كنت جد سعيدة حتى في لحظة الوداع، كان الأمر كأنه يغمرني بهدايا لن أشعر بسعادتي بها إلا وحدي. •••
لم يلحظ أحد اختفاء الطائرة من الوهلة الأولى؛ فقد ظنوا أنه ربما يكون محلقا بشخص ما، وبدوري لم أقل شيئا. اتصل الدكتور بيبلز وأخبرنا أن هناك بعض الأمور التي تحتم ذهابه للقرية؛ لذا لن يتبقى سوانا للعشاء، ثم أتت لوريتا بيرد وأقحمت رأسها بالباب قائلة: «أعتقد أنه رحل.»
صاحت أليس كيلينج وهي تدفع كرسيها للخلف: «ماذا؟» «قال لي الأولاد إنهم رأوه آخر النهار وهو يحل خيمته، أتعتقدين أنه سيذهب إلى العمل في الأنحاء المجاورة؟ إنه لن يرحل دون إخبارك، أليس كذلك؟»
قالت أليس كيلينج بنبرة متوترة: «سيرسل لي لإخباري، من المحتمل أن يتصل الليلة، إنه غير مستقر أبدا منذ تلك الحرب.»
سألتني السيدة بيبلز: «إيدي، ألم يقل لك ذلك، هل قال؟ عندما أبلغك الرسالة؟»
أجبتها محاولة اصطناع الصراحة إلى أقصى حد: «نعم.»
تحولت الأنظار جميعها نحوي وسألتني السيدة بيبلز: «لماذا لم تذكري هذا من قبل؟ أقال إلى أين هو ذاهب؟» «قال إنه من الممكن أن يجرب حظه في بايفيلد.» لا أعلم ما الذي جعلني أحيك تلك الكذبة؛ فلم أكن أنتوي ذلك.
قالت أليس كيلينج: «بايفيلد، كم تبعد عن هنا؟»
أجابت السيدة بيبلز: «حوالي ثلاثين أو خمسة وثلاثين ميلا.» «إنها ليست بعيدة، أوه، حسنا، إنها ليست بعيدة على الإطلاق، تقع عند البحيرة، أليس كذلك؟»
قد تعتقدون أنني سأخجل من نفسي لأنني ضللتها، لكني فعلت ذلك لأمنحه مزيدا من الوقت. لقد كذبت لأغطي عليه، ويجب أن أعترف أنني كذبت لأغطي على نفسي أيضا. أدركت الآن أن المرأة يجب أن تقف بجوار المرأة، ولا تفعل مثلما فعلت، ولكني لم أدرك ذلك حينها. لم أكن لأتخيل نفسي في هذا الموقف مثلها، أو أن أقع يوما ما في مأزق من هذا النوع.
لم ترفع أليس كيلينج عينها من علي، أعتقد أنها تشك بأني أكذب.
فسألتني: «متى ذكر لك ذلك؟» «صباحا.» «هل كنتما على متن الطائرة؟» «نعم.»
اتجهت نحوي مبتسمة، ولكن ليست ابتسامة لطيفة، قائلة: «بالتأكيد تجاذبتما أطراف الحديث، وجلست معه بعض الوقت.»
قلت لها: «لقد أخذت له كعكة.» اعتقادا مني أني بذكري بعض الحقيقة لن أضطر لسرد باقي الحقيقة.
قالت السيدة بيبلز بحدة: «لم تكن لدينا كعكة.» «لقد خبزت واحدة.»
قالت أليس كيلينج: «لقد كان هذا سخاء منك.»
وقالت لوريتا بيرد: «هل سمح لك أحد بذلك؟ هؤلاء الخادمات، لا نعرف ماذا من الممكن أن تفعل الواحدة منهن بعد ذلك! إنهن لا يقصدن إيقاع تلك الأضرار، بل هن جاهلات.»
تدخلت السيدة بيبلز، قائلة: «ليس موضوعنا الآن عن الكعك. إيدي، لم أكن أعلم أنك على معرفة جيدة بكريس.»
لم أعرف ماذا أقول.
قالت أليس كيلينج بصوت عال: «أنا لست مندهشة؛ فقد عرفت أنها من تلك النوعية بمجرد أن رأيتها للمرة الأولى؛ إني أرى أمثالها الكثير بالمستشفى طوال الوقت.» نظرت لي بعنف وبتلك الابتسامة المصطنعة، واستطردت قائلة: «يأتي أولئك النسوة بأطفالهن، ونضطر إلى وضعهن في قسم خاص بالمستشفى بسبب الأمراض اللائي يحملنها، لسن إلا حثالة الأرياف، لا تتعدى الواحدة منهن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها. لا بد أن تروا الأطفال الذين يحملنهن.»
تدخلت لوريتا بيرد قائلة: «يوجد واحدة من هؤلاء النسوة سيئات السمعة هنا في القرية، لديها طفل مرضه يجعل عينيه تنزان صديدا.»
قالت السيدة بيبلز: «لحظة من فضلكم، ما هذا الحديث يا إيدي؟ ما الذي حدث بينك وبين السيد واترز؟ هل أقمت معه علاقة حميمية؟»
قلت: «نعم.» قلتها وأنا أتذكر ما حدث عندما استلقينا على السرير وتبادلنا القبل، أليست تلك حميمية؟ أنا لن أنكر ما حدث.
سكت الجميع دقيقة وكأن على رءوسهم الطير، حتى لوريتا بيرد.
ثم قالت السيدة بيبلز بهدوء محدثة أليس كيلينج: «حسنا، أنا مندهشة، أعتقد أني بحاجة إلى سيجارة الآن، إنها المرة الأولى التي أرى منها مثل هذه الأفعال.»
قالت أليس كيلينج وهي تحدق في ودموعها منهمرة: «أيتها العاهرة الصغيرة، عاهرة صغيرة، ألست كذلك؟ لقد عرفت ذلك بمجرد أن رأيتك. الرجال يحتقرون أمثالك. نال مبتغاه منك ومن ثم ألقى بك، ألا تعرفين ذلك؟ البنات أمثالك لا شيء، أنت لا شيء سوى متاع عام، أيتها القذرة الصغيرة!»
قالت السيدة بيبلز: «يا إلهي!»
قالت أليس كيلينج وهي تجهش بالبكاء: «قذرة، أيتها القذرة الصغيرة!»
ازدردت لوريتا بيرد لعابها بسعادة لوجودها بذلك الموقف، وقالت لأليس كيلينج: «لا تحزني، كل الرجال صنف واحد.»
قالت السيدة: «إيدي، أنا لا أزال مندهشة بشدة، لقد اعتقدت أن أبويك صارمان، أنت لا تودين إنجاب أطفال بهذه الطريقة، أليس كذلك؟»
ما زلت خجلة مما تلا ذلك؛ حيث فقدت سيطرتي على نفسي وبدأت في النحيب كطفلة في السادسة من عمرها قائلة: «لن أنجب أطفالا من فعل ذلك!»
فقالت لوريتا بيرد: «أرأيت، بعضهن على هذه الدرجة من الجهل.»
لكن السيدة بيبلز هبت من مكانها، وأمسكتني من ذراعي، وهزتني قائلة: «اهدئي، لا تفقدي عقلك هكذا، فقط اهدئي، وكفي عن البكاء، دعيني أسألك؛ هل تعرفين معنى الحميمية؟ أجيبيني، ماذا تعتقدين المقصود بتلك الكلمة؟»
صرخت قائلة: «التقبيل!»
أفلتتني السيدة بيبلز من يديها قائلة: «أوه، إيدي، كفي عن ذلك، لا تكوني حمقاء، لا بأس، هذا سوء تفاهم، الحميمية تعني أكثر من ذلك. أوه، كم كنت «مندهشة»!»
قالت أليس كيلينج سريعا: «إنها تحاول التمويه على فضيحتها الآن، نعم، إنها ليست غبية، لقد أدركت أنها في مأزق حقيقي.»
فقالت السيدة بيبلز: «أنا أصدقها، يا له من مشهد مروع!»
قامت أليس كيلينج قائلة: «حسنا، هناك طريقة واحدة لمعرفة الحقيقة، فأنا بعد كل شيء ممرضة!»
تنفست السيدة بيبلز بعمق وقالت: «كلا، كلا، اذهبي إلى غرفتك يا إيدي، أوقفوا هذه المهزلة، هذا مثير للاشمئزاز.»
اتجهت إلى غرفتي، وبعد قليل، سمعت صوت السيارة، حاولت الكف عن البكاء، ممسكة نفسي في كل مرة تبدأ فيها نوبة بكاء. أخيرا نجحت في السيطرة على نفسي واستلقيت على السرير مهدئة من روعي.
أتت السيدة بيبلز ووقفت عند الباب.
وقالت : «لقد رحلت، وتلك المرأة لوريتا أيضا، بالطبع أصبحت تدركين أنه لم يكن مسموحا لك بالاقتراب من هذا الرجل، وهذا هو سبب تلك المشكلة. أشعر بالصداع الآن. في أقرب فرصة تقوين فيها على النهوض؛ اغسلي وجهك بماء بارد، ومن ثم اتجهي مباشرة لغسيل الصحون، لن نتحدث في هذا الموضوع ثانية.» •••
وهذا ما حدث بالفعل. لم أكن أتصور حتى سنوات لاحقة فداحة المأزق الذي نجوت منه. لم تعد السيدة بيبلز لطيفة وودودة معي بعد ذلك، ولكنها لم تظلمني في شيء. إن قولي «إنها لم تعد لطيفة وودودة معي» وصف غير دقيق لها؛ فهي لم تكن قط لطيفة وودودة. كل ما في الأمر أنها أصبحت مضطرة لأن تراني أمامها طوال الوقت، وكان هذا في حد ذاته يزعجها، قليلا.
وبالنسبة لي؛ فقد صرفت كل هذا من عقلي كأنه كابوس، وانصبت حياتي على انتظار الخطاب. كان البريد يصل يوميا عدا يوم الأحد، في حدود الساعة الواحدة والنصف والثانية ظهرا؛ وكان هذا الوقت مناسبا جدا لي؛ حيث إنه ميعاد القيلولة للسيدة بيبلز. فأذهب لتنظيف المطبخ، ثم أذهب لأجلس على العشب بجوار صندوق البريد، كنت في قمة سعادتي، وأنا منتظرة، وتناسيت كل ما حدث: أليس كيلينج وبؤسها وكلامها الجارح، برود السيدة بيبلز معي، وإحراجي من احتمال إطلاع الدكتور بيبلز على ما حدث، وجه لوريتا بيرد وهي تثرثر بالحديث عن مشكلات الآخرين؛ تناسيت كل ذلك. كنت أبتسم دائما عندما يصل ساعي البريد، وأظل مبتسمة حتى بعدما أتحقق من البريد وأجد أن الخطاب الذي أنتظره لم يصل اليوم. كان ساعي البريد من كارميكال، عرفت من وجهه؛ فكثير منهم كانوا يقطنون بجوارنا، ويتميز عدد كبير منهم بشفة عليا بارزة قليلا (كان شابا خجولا لكنه بشوش، يمكن لأي شخص سؤاله عن أي شيء)، فسألته عن اسمه وقلت له: «عرفتك من وجهك.» سر عندما سمع مني ذلك، ودائما ما كان يسر عندما يراني، وبدأ في التخلص من خجله شيئا فشيئا، وكان دائما ما يصيح من شباك سيارته قائلا لي: «ابتسامتك هي كل ما أنتظره طوال اليوم.»
لم يخطر بذهني لحظة أن الخطاب لن يصل، ولو حتى بعد طول انتظار؛ فقد كنت أوقن بأنه حتما سيصل، تماما كما أوقن بإشراق الشمس كل صباح. كنت أنام بنفس اليقين، وأستيقظ وكلي أمل بحدوث مرادي اليوم التالي، حتى بدأت نباتات الذهب في النمو حول صندوق البريد، وعاد الأطفال إلى المدرسة، وبدأت أوراق الشجر في التساقط، وكان علي ارتداء كنزة وأنا أنتظر البريد. ذات يوم لم يصل إلى البريد سوى فاتورة الماء، قبضت عليها يدي وأنا أنظر باتجاه تلك الساحة، بدت نباتات الصقلاب والدبساسية في أوج تفتحها، معلنة حلول الخريف، حينما خطر على ذهني فكرة أن «الخطاب لن يصل أبدا». كانت فكرة من المستحيل تصديقها. كلا، ليست مستحيلة. كلما تذكرت وجه كريس وهو يعدني بأنه سيراسلني، لم تكن فكرة مستحيلة، لكن عندما أنسى ذلك وأنظر لصندوق البريد، فارغا، تبدو الفكرة حقيقة واضحة. مع ذلك واصلت انتظار البريد، لكن قلبي كان ممتلئا بحزن وهم ثقيل، كنت أبتسم فقط لأجل ساعي البريد، فابتسامتي هي ما يهون عليه يوم عمل شاق مع قدوم فصل الشتاء.
حتى طرأ لي ذات يوم أن هناك نساء مثلي يفعلن ذلك بحياتهن؛ يضعن حياتهن رهن الانتظار. هناك نساء ما برحن ينتظرن وينتظرن بجانب صناديق البريد من أجل خطاب أو خطاب آخر. تخيلت نفسي مثل واحدة منهن، أنتظر وأنتظر، يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، حتى بدأ الشيب يدق رأسي. وهنا بدأت أفكر أنني يجب ألا أصير مثلهن؛ لذا توقفت عن انتظار البريد؛ إذا كانت هناك من النساء من ينتظرن كل ذلك، وهناك من لا وقت لديهن للانتظار، فأنا أعلم جيدا من أود أن أكون. ومع أن النساء من النوع الثاني قد يفوتهن أشياء، لكن ذلك أفضل من انتظار السراب.
فوجئت عندما اتصل ساعي البريد بمنزل آل بيبلز، وسأل عني، قال إنه افتقدني، وطلب مني الذهاب معه إلى جودريتش حيث يعرض هناك فيلم مشهور، نسيت اسمه الآن، فوافقت. ظللت أخرج معه عامين إلى أن طلبني للزواج ، وتمت خطبتنا عاما آخر أجهز فيه أشيائي، ثم تزوجنا. ودائما ما يحكي لأطفالنا كيف كنت أطارده بالجلوس بجانب صندوق البريد كل يوم، وكنت أكتفي أنا بالضحك وأدعه يكمل حكايته؛ لأنني أحب أن يعتقد الناس فيما يحبونه ويجعلهم سعداء.
المشي على الماء
لا تزال هذه البقعة من البلدة مأهولة بالكثير من كبار السن، بالرغم من انتقال العديد منهم إلى البنايات الشاهقة على الجانب الآخر من المنتزه. وكان لدى السيد لوهيد عدد من الأصدقاء، أو إن شئنا الدقة، عدد من المعارف الذين كان يقابلهم يوميا أو نحوا من ذلك في طريقه إلى وسط البلدة أو عند محطة الحافلات أو على كورنيش البحر. في بعض الأحيان كان يلعب معهم الورق في غرفهم أو شققهم. كان عضوا في نادي البولينج وفي ناد كان يجلب أفلام الرحلات ويعرضها في قاعة بوسط البلدة خلال فصل الشتاء. وقد انضم لهذه الأندية ليس رغبة منه في الانفتاح الاجتماعي بقدر ما كان إجراء احترازيا للتغلب على ميوله الطبيعية التي ظن أنها ربما تقوده إلى العزلة المفضية إلى نوع من الرهبنة. إبان سنوات عمله في الصيدلية تعلم كيف يجتاز كل أنواع المحادثات مع كل أنواع البشر، والمرور عبرها بدماثة خلق مع احتفاظه بأفكاره الخاصة لنفسه. وفعل الشيء نفسه مع زوجته. وكان هدفه من ذلك أن يعطي الناس ما يعتقدون أنهم يريدونه، فيما يحافظ هو على عزلته دون أن يقض أحدهم عليه مضجعه. وباستثناء زوجته، لم يشك إلا قليل من الناس فيما كان يضمره. أما الآن وبعد أن كان غير مضطر لأن يعطي أي شخص أي شيء، بالطريقة اليومية العادية؛ فقد وضع نفسه في موقف يجعله مضطرا إلى ذلك من حين لآخر؛ إذ كان يؤمن بطريقة أو أخرى أن هذا خير له لا محالة. فلو ترك الخيار بيده، من ذا الذي سيتحدث إليه؟ لن يكون أمامه سوى يوجين. وهذا من شأنه أن يمثل مصدر إزعاج ليوجين.
على كورنيش البحر سمع السيد لوهيد للمرة الأولى عما يطرحه يوجين. «يقول إن بمقدوره المشي على الماء.»
كان السيد لوهيد متأكدا أن يوجين لم يقل شيئا كهذا. «إنه يرى أن الأمر مرتبط كلية بطريقة تفكيرك في وزن جسمك، وما من شيء لا يمكنك التحكم فيه إذا عزمت على ذلك. هذا ما يقوله.»
كان هذا الحديث يدور بين السيد كليفورد والسيد موري الجالسين على المقعد الحجري يلتقطان أنفاسهما. «العقل فوق المادة.»
وجها الدعوة للسيد لوهيد للجلوس معهما، لكنه بقي واقفا. كان طويلا ورفيعا، وإذا حافظ على وتيرة معقولة من سرعة الحديث لا تنقطع أنفاسه.
قال لهما: «يتحدث يوجين كثيرا عن هذا الشيء، ولكنه من باب التفكر وحسب.» لم يهتم لرأيهما في يوجين بالرغم من معرفته بأنه مبرر في جزء منه. واستطرد: «إنه ذكي جدا. إنه ليس معتوها أخرق.» «سيتعين علينا أن ننتظر إثباتا لتحديد قرارنا حيال ذلك.» «واحد منا معتوه أخرق إما أنا أو هو، وإلا فهو يسوع المسيح.»
قال لوهيد بحذر وبنبرة متوجسة: «أي إثبات تنتظران؟» «إنه ذاهب لإثبات المشي على الماء قبالة رصيف روس بوينت.»
قال السيد لوهيد إنه واثق من أن يوجين كان يمزح، ولكن السيد كليفورد والسيد موري أكدا له أنها ليست مزحة، بل مسألة جدية (السيد كليفورد والسيد موري كانا يضحكان قليلا ويهزان رأسيهما بمرح وهما يقولان إنها مسألة جدية، بينما كان السيد لوهيد مقطب الجبين ومتحفظا وهو يقول إنها مزحة). كانوا في يوم الجمعة، والوقت المحدد صبيحة يوم الأحد، في تمام الساعة العاشرة حتى يتمكن بعض الناس من الذهاب إلى الكنيسة بعد انتهاء عرض المشي بالنجاح أو الفشل. ولكن، وكما شك السيد لوهيد، فلا السيد كليفورد ولا السيد موري قد سمعا فعلا بتلك الترتيبات التي يجري إعدادها، وإنما سمعا بها من شخص آخر؛ لقد سمع السيد موري عنها وهو يلعب الورق مع الأصدقاء، أما السيد كليفورد فسمع عنها في غرفة القراءة البريطانية الإسرائيلية. «الجميع يروجون للأمر في كل مكان.»
قال السيد لوهيد باقتضاب: «حسنا، ولعل حديثهم عن الأمر سيتوقف أيضا عندئذ؛ لأن يوجين ليس بأحمق، أو على أي حال ليس بتلك الحماقة.» ثم استأنف المشي، وعاد إلى المنزل عبر طريق مختصر غير الذي اعتاد أن يسلكه. •••
طرق السيد لوهيد باب يوجين الذي كان في الجهة المقابلة من بابه عبر الردهة، فرد يوجين بصوت خفيض وإن حمل نبرة تحذيرية: «ادخل.»
فتح السيد لوهيد الباب، فلفحت وجهه رياح باردة قادمة من المحيط مباشرة إلى نافذة يوجين التي كانت مفتوحة تماما.
كان يوجين أمام النافذة، جالسا على الأرضية الجرداء، عاقدا ساقيه بطريقة تبدو غير طبيعية، قال بعد ذلك إنها طبيعية تماما بالنسبة له. لم يكن يرتدي سوى بنطلون من الجينز. تأمل السيد لوهيد نحول الجزء العلوي من جسم هذا الشاب ورقته. أي عمل يمكنه القيام به؟ وكم رطلا يمكنه رفعه؟ يمكنه فعل كل تلك الحركات والالتواءات، وثني ومد جسمه في أشد الأوضاع إيلاما، تلك الأوضاع التي كان يدعي أنها ممتعة، بالطبع. كان يفخر بذلك.
قال يوجين: «اجلس، فأنا في سبيلي إلى الخروج.»
قصد أنه في سبيله إلى الخروج من حالة التأمل التي ينهي بها تمارينه. في بعض الأحيان كان يجلس ويتأمل دون أن يكلف نفسه عناء غلق بابه. وحينما يمر أمامه السيد لوهيد، دائما ما كان يحول عينيه بعيدا حتى لا يرى التعبير المرتسم على وجه يوجين. سابح في عالم آخر! هل تلك هي الحالة التي يفترض أن يكون عليها؟ كان يبدو مشدوها ومروعا في قرارة نفسه كما لو كان يشاهد شخصا يمارس الحب.
وقد حدث هذا أيضا.
ففي الطابق السفلي بالمنزل كان يعيش ثلاثة شبان، أسماؤهم: كالا وريكس وروفر. كان من الواضح أن اسم روفر قد أطلق على سبيل المزاح على فتى نحيل وعليل الجسم في الثانية عشرة من عمره، وإن كان في بعض الأيام يبدو بوجه كهل في الخمسين من عمره. رآه السيد لوهيد نائما على سجاد الصالة، ككلب. لكن ريكس وكالا كانا اسمين غريبين أيضا، يطلقان في العادة على حيوان وزهرة؛ فهل يعقل أن يسميهم آباؤهم تلك الأسماء؟ فوجئ السيد لوهيد بوصولهم هنا دون آباء، دون أي خبرة بالمقاعد المرتفعة أو الدراجات ثلاثية العجلات أو العربات؛ بدوا وكأنهم نبتوا فجأة من جوف الأرض، ولا شك أن هذا كان ظنهم بأنفسهم.
ذات يوم، دخل البيت فوجد باب شقة الدور السفلي مفتوحا، ويبدو أن أحدهم قد خرج منه مهرولا للتو. وفي مؤخرة الردهة - في مكان مكشوف منها وليس تحت السلم - وجد خيال شخصين متشابكين معا. كانا ريكس وكالا. كانت الفتاة ترتدي تنورة طويلة كالعادة وبدت راقدة على أربع وهي تصرخ وتقاوم وكأنها دفعت دفعا. كانت التنورة ملقاة لأعلى على وجهها، لتجعلها شبه مقيدة ومكتوفة بملابسها. لم ير السيد لوهيد أكثر من جزء صغير من مؤخرة الفتاة البضة التي سرعان ما كان جسم الفتى الذي يعتليها يغطيه. ولعل ملاحظته لوجود السيد لوهيد هو ما تسبب في أن تند عنه آهة - تنم عن المتعة الممزوجة بالدهشة - والوقوع إلى الأمام بحيث انبطح هو والفتاة أرضا وقد انفض اتصالهما في الوقت الحاضر؛ بيد أنهما راحا يضحكان معا بطريقة بدت للسيد لوهيد ليست خالية من الحياء وحسب، بل ومشبعة بالسخرية أيضا. كان من الواضح أنه الطرف الذي توجه له السخرية؛ نظرا لأنه شهد جماعهما وصدم لرؤيته.
تمنى السيد لوهيد أن يخبرهما أنه لم يصدم بذلك؛ فعندما كان صبيا يرتاد مدرسة كان يطلق عليها «ستون سكول» بجادة فيفث لاين في كيلوب تاونشيب، كان واحدا من جمهور المتفرجين الذين يدفعون أموالا من أجل مشاهدة عرض أحد فتية آل بروير وأخته الصغرى. كان ذلك العرض يقام في مدخل مرحاض البنين، ذلك المكان الكريه. لم يكن الأمر محض محاكاة، وما من أحد كان بحاجة إلى الاعتقاد بأنهما اخترعا هذا العمل.
ولكن إن لم يكن مصدوما، فبم كان يشعر إذن؟ كان قلبه يخفق بشدة، وشعر بالدماء تحتقن بشدة في رأسه، مما اضطره إلى الجلوس في غرفته. أخذت ضحكاتهما تتناهى إلى مسامعه بعض الوقت. تخيل أعضاءهما المشعرة يحتك أحدها بالآخر بقوة تؤدي لتورمها مع صدور أصوات بفعل احتكاك جسميهما، تنتهي بالضحك. كالحيوانات. كلا، تراجع عن تلك الفكرة؛ فالحيوانات تمارس حياتها الجنسية بوقار ودون محاولة جذب الانتباه. قال ليوجين إن ما يعترض عليه في هذا الجيل هو أنهم لا يستطيعون فعل شيء دون استعراض؛ لا يستطيعون زرع جزرة دون أن يهنئوا أنفسهم عليها.
على سبيل المثال، كان هناك متجر صغير في الطريق إلى وسط البلدة اعتاد زيارته؛ لأنه أحب منظر السلال المتراصة على طول الرصيف، مليئة بالخضراوات الممتلئة مع قليل من الطين الذي لا يزال عالقا بها. ذكرته هذه الخضراوات بتلك التي كان يراها في المحلات عندما كان طفلا، وفي قبو بيته. ولكن الشباب في المحل، بشعرهم الطويل الأشعث وعصابات رءوسهم الهندية وأزيائهم المكونة من أردية مخططة وملابس تحتانية مثقوبة (هل كان ذلك سوى زي؟ ما من فلاح في كامل قواه العقلية، مهما كان فقره، يرضى أن يلبس شيئا كهذا في المدينة)، ومناقشاتهم الساخنة حول أعمال البستنة والطعام؛ كل ذلك أزعجه كثيرا، حتى إنه قرر الكف عن الذهاب إليه. كانوا فخورين أكثر من اللازم بأنفسهم. ليسوا هم أول من خبز الخبز أو أول من زرع اللفت. كان الأمر مصطنعا، بطريقة أو أخرى كان مصطنعا على نحو يفوق محلات السوبر ماركت.
قال يوجين بعقلانية: «أعتقد أنهم مملون أكثر من كونهم مصطنعين. مثل المسيحيين الأوائل، فبالتأكيد كانوا مملين.» «لن يستمروا طويلا، ولسوف يئول عملهم في المنتجات الزراعية إلى الفشل.» «ربما. ولكن بعض الناس يبنون حياتهم العملية على فلسفة معينة ويصيبون نجاحا بالغا؛ مثل الهوتريت والمينونايت.»
قال لوهيد: «هؤلاء لديهم عقلية مختلفة.» لم يكن غافلا عن الصورة التي يبدو عليها: عجوز مشاكس عنيد.
والآن عندما خرج يوجين من حالة التأمل التي كان مستغرقا بكامل حواسه فيها، وقف ومدد عضلات جسمه وسأل السيد لوهيد إن كان يحب شرب بعض الشاي، فأجابه السيد لوهيد بالموافقة. أوصل يوجين غلاية الشاي الكهربية وتنقل في الغرفة مرتبا أغراضه. كانت غرفته مرتبة بدقة. كان ينام على مرتبة مفروشة على الأرض، ولكنه وضع الملاءات عليها وكانت نظيفة؛ فقد كان يأخذها إلى غرفة الغسيل. وكانت كتبه إما على رفوف خشبية مرفوعة على طوب أو مكدسة على الأرض والنوافذ. كان لديه مئات الكتب، وكلها تقريبا ذات غلاف ورقي، وكانت المعلم الرئيسي في الغرفة. كثيرا ما كان السيد لوهيد يحدق في عناوينها، مع شعور يمزج ما بين الرهبة والعبث. من هايدجر إلى كانط، وكان بالطبع يعرف من هو كانط مع أنه لم يقرأ له شيئا من قبل، باستثناء ما قرأه عنه في «قصة الفلسفة». ولربما قرأ شيئا ذات مرة عن هايدجر، لكنه لا يعرف الآن؛ فهو لم يلتحق بجامعة، ففي أيامه لم يكن المرء مضطرا للالتحاق بالجامعات لكي يصبح صيدلانيا، بل يكفيه التدرب مع مهني محترف، كما فعل هو مع عمه. لكنه في وقت لاحق انخرط فترة من الزمن في القراءة الجادة؛ بيد أنه لم يقرأ شيئا كهذا؛ فقد عرف ما يكفي لأن يدرك الأسماء وحسب؛ مايستر إيكهارت، سيمون ويل، تلار دي شاردان، لورين إيزلي؛ الأسماء المعروفة، الأسماء اللامعة. المهم أن يوجين لم يكتف بجمع كل تلك الكتب وحسب، بل وخطط لقراءتها كلها يوما ما. كلا! فقد قرأها يوجين، لقد قرأ فعليا كل ما يمكن قراءته حول الموضوعات الأكثر أهمية والأكثر إلحاحا، من فلسفة وأديان وتصوف وعلم نفس وعلوم. كان يوجين في الثامنة والعشرين من عمره، ويمكن القول إنه قضى العشرين عاما الأخيرة من حياته في القراءة، ونال درجات علمية وحصل على منح دراسية وفاز بجوائز، هزأ منها جميعها، أو على الأقل رفضها بنوع من الاعتذار. وقد عمل في حقل التدريس على فترات، ولكن لم يكن له عمل آخر ثابت على ما يبدو. وفي مرحة ما من حياته تعرض للانهيار في أزمة دامت طويلا ربما يعتقد أنه لا يزال يتعافى منها حتى الآن. بلى فقد كان في حالة توحي بأنه شخص يمر بفترة نقاهة؛ فقد كان فاتر الحماس يتوخى التأني في كل حركاته وسكناته، حتى في طيشه. كن يصفف شعره تصفيفة «بايدج بوي» كما لو كان في العصور الوسطى. كان شعره ناعما زغبا بنيا مائلا للاحمرار، وعيناه لامعتين ماكرتين. كان شاربه صغيرا، الأمر الذي جعله يبدو أصغر من سنه الحقيقية.
قال السيد لوهيد في لهجة حاول أن تبدو مازحة: «لقد سمعت ما يقال عن المشي على الماء.» «أتحب العسل على الشاي؟» قالها يوجين وهو يضع منه مقدارا كبيرا في شاي السيد لوهيد.
قبل السيد لوهيد ملعقة دون تفكير، مع أنه يحب الشاي دون تحلية. «لم أصدق ذلك.»
قال يوجين: «أوه، نعم.» «لقد قلت إنك لست بتلك الحماقة.» «لقد كنت مخطئا.»
ابتسم كلاهما. كانت ابتسامة السيد لوهيد خفيفة لكنها مستبشرة ومحسوبة، فيما كانت ابتسامة يوجين صريحة ولطيفة. ولكن ماذا كانت تلك الصراحة؟ فهي لم تكن طبيعية بل مصطنعة؛ إذ إن يوجين الذي قرأ عن التاريخ العسكري والتصوف وعلم الفلك والأحياء، والذي يستطيع مناقشة الفن الهندي (الهنود الحمر وهنود آسيا) أو فن التسميم، يوجين الذي كان بمقدوره تكوين ثروة في أيام عروض الألغاز كما قال له السيد لوهيد ذات مرة (عندها ضحك يوجين قائلا إنني أحمد الله لأنه من علي بأن جعل تلك الأيام تولي بغير رجعة)، يوجين في كل حركاته وسكناته وفي كل صروف الدهر وتقلباته التي مر بها كان يهدف إلى إنجاز مهمة محددة، مهمة لم يأت على ذكرها. أهي السبب وراء انهياره؟ معرفته المتفجرة؟ فهمه؟
قال السيد لوهيد: «حسنا، لا أعلم إن كنت قد فهمت الأمر على نحو خاطئ؛ إذ إنني فهمت أن الموضوع هو المشي على الماء.» «هو كذلك بالفعل.» «وما الغرض من هذا؟» «الغرض هو المشي على الماء، إن أمكن. هل تعتقد أنه ممكن؟»
لم يستطع السيد لوهيد إيجاد إجابة. «إنه ضرب من المزاح؟»
قال يوجين وهو لا يزال باسما: «قد يكون كذلك، ولكنه مزاح جاد.»
سرحت عينا السيد لوهيد نحو رف عليه نوعية أخرى من الكتب التي قرأها يوجين، والتي بدت له غير ذات صلة بالنوع الأول. كانت تلك الكتب من تأليف أصحاب النبوءات وعن نبوءاتهم، كانت كلها عن أجرام سماوية وتجارب نفسية وقوى خارقة للطبيعة وشتى أنواع الخدع والسحر، إن أردت أن تطلق عليه هذا الاسم. حتى السيد لوهيد استعار بعض تلك الكتب وغيرها من يوجين بيد أنه لم يتمكن من قراءتها؛ فقد حال التشكك بينها وبين عقله. ومستخدما كلمة من سنين شبابه، أخبر يوجين أن كل هذا يسبب له الحيرة. ولم يستطع تصديق أن يوجين يأخذ الأمر على محمل الجد، حتى عندما سمع يوجين يؤكده له.
بعد فترة وجيزة من الحادث الذي وقع في صالة الطابق السفلي رجع السيد لوهيد ذات يوم إلى المنزل ليجد علامة مرسومة على بابه. كانت شيئا أشبه بزهرة ذات بتلات حمراء رقيقة مرسومة بطريقة غير حرفية، وتتخللها بتلات سوداء مستدقة الطرف بطريقة خاطئة، وفي منتصف الزهرة دائرة حمراء وأخرى سوداء وثقب أسود بداخلهما. حينما لمس الطلاء وجد أنه لا يزال رطبا، ولكن ليس رطبا جدا؛ فلديهم هذه الأيام دهانات تجف بسرعة فائقة. دعا يوجين للخروج وإلقاء نظرة عليها.
قال يوجين: «هذا شيء بسيط، على الأقل شيء لا يدعو للقلق. أنا لا أعرف ماذا يعني، وربما كان مجرد شيء اختلقوه.»
استغرق السيد لوهيد دقيقة أو اثنتين ليستوعب معنى هذا.
فقال يوجين مفسرا: «إنها ليست علامة.»
قال السيد لوهيد: «علامة!» «كتعويذة مثلا؛ فهناك فرق بين هذا وبين العلامة الحقيقية، تماما كالفرق بين اللغو الفارغ والتعويذة الحقيقية، مع أنهما قد يبدوان أشبه بلغو فارغ للجاهلين.»
قال السيد لوهيد مستجمعا شتات نفسه: «لم يساورني القلق حيال كونها ع ... علامة. هل هذا ما تعنيه، ضرب من العلامات السحرية؟ غاية ما هنالك أنني استأت من تشويه منظر بابي. فما لهم هم والمجيء ها هنا؟ وما شأنهم والرسم على بابي؟» «حسنا، أظنهم اعتقدوا أنها مزحة، أو لعلهم فعلوها من باب التحدي؛ فأفعالهم صبيانية جدا، لا سيما ريكس وكالا، فسلوكياتهما صبيانية بشكل لا يصدق. أما روفر فتبدو سلوكياته صبيانية بعض الشيء، حيث يعتريه شيء من الغموض. ربما كانت تتلبسه روح عجوز.»
لم يكن السيد لوهيد مهتما بسن الروح التي تتلبس روفر، كل ما كان مهتما به هو إمكانية أن يكون لهذا الشيء؛ أي العلامة التي على الباب، معنى حقيقي لشخص ليس بأحمق تماما، الأمر الذي استحوذ عليه تماما. فسأل بصوت يغلفه فضول شديد لا يمكن كبته: «هل ... أكانت ستقلقك علامة على بابك؟ أتعتقد أن شيئا كهذا يمكن أن يكون له تأثير حقيقي؟» «مطلقا.»
قال السيد لوهيد: «وهذا شيء يستحيل تقريبا أن أصدقه.» ثم فكر وتنهد وأضاف بمزيد من الحزم: «يستحيل أن أصدقه.»
قال يوجين مؤمنا على كلامه: «أجل، مستحيل.»
رأى السيد لوهيد أنه كان عليه أن يدرك حينها، كان عليه أن يدرك مدى هذا النوع من التفكير، ولن يفاجأ الآن.
كان يوجين يقول في ثقة: «إن العالم الذي نقبله - الواقع الخارجي، كما تعلم - ليس ثابتا بالشكل الذي قيل لنا عنه؛ إذ إنه يستجيب لطرق كثيرة من طرق تحكمنا فيه تفوق استعدادنا لقبولها.» عند شرح شيء للسيد لوهيد غالبا ما كان يستخدم تلك العبارات الرصينة الجزلة، أما عندما يتحدث إلى ثلاثي الطابق السفلي فكان يستخدم لغة بسيطة وجذابة وغامضة بما فيه الكفاية للتواصل معهم، بمستوى قريب من مستوى فهمهم. فواصل قائلا: «وما يسمى بالقوانين ليست قواعد نهائية؛ فالقانون الذي تفكر فيه يقول إن جسما كهذا» وربت على كتف السيد لوهيد، مستطردا: «لا يمكن أن يتحرك على المياه؛ لأنه لا يمكنه أن يصل إلى حالة انعدام الوزن.»
لا يزال الأمر قابلا لأن يكون مزحة. «هل تعتقد أن أشخاصا بعينهم مشوا على فحم ساخن ولم يحترق جلدهم؟» «قرأت عنه.» «إنه أمر شائع. هل رأيت صورا؟ هل تصدقه؟» «يبدو لي حقيقيا.» «لكن أقدامهم من لحم ودم ومغطاة بجلد، ووفقا لما نعرفه جميعا من المفترض أن يحترق! والآن ألا ينبغي أن نعترف بأن العقل يمكن أن يعمل بطريقة أو بأخرى على التحكم في المادة إلى الحد الذي يعطل بعض القوانين؟» «أود أن أراه يتحكم في قانون الجاذبية.» «لقد فعلها، فعلها بالفعل. فهناك أناس قادرون على الارتفاع عن الأرض عدة بوصات دونما مساعدة من أي نوع.»
قال السيد لوهيد بقناعة تامة مع أنه حاول أن يبدو طيب المزاج: «حتى أرى بأم عيني هاتين سلة المهملات تلك وهي ترتفع وتطير فوق رأسي، فلن أصدق شيئا من هذا القبيل.»
قال يوجين: «الطريق إلى عمواس.»
حتى الكتاب المقدس يعرفه! إنه الشخص الوحيد الذي لم يتجاوز الأربعين من عمره ويقرأ في الكتاب المقدس من بين كل من قابلهم السيد لوهيد. هذا إذا استثنينا شهود يهوه. «سلة المهملات لا تستطيع التحكم في نفسها، ومن ثم لا تستطيع تسخير الطاقة. ومع ذلك فإذا كان بإمكان شخص ما يجلس في مكانك الآن تسخير نوع معين من الطاقة ...»
واصل نقاشه متحدثا عن امرأة في روسيا تستطيع تحريك أثاث ثقيل في الغرفة دون أن تلمسه. كانت تقول إن طاقتها في ضفيرتها الشمسية.
قال السيد لوهيد: «ولكن ما الذي يجعلك تعتقد أن لديك تلك القوى؟ وأنك قادر على تسخير الطاقة أو تعطيل الجاذبية أو ما شابه؟» «إذا أردت تعطيل أي شيء فسيكون ذلك لأضيق مساحة من الوقت، بضع ثوان فقط. فما أنا إلا مبتدئ. ولكن سيكفي ذلك لأحفز الناس على التفكير. كما أنني مهتم أيضا بترك الجسم؛ فلم أستطع قط ترك هذا الجسم.» «ينبغي أن تتأكد من قدرتك على العودة.» «باستطاعة الناس ذلك، لديهم القدرة على ذلك. يوما ما قد يكون شيئا نتعلمه، تماما مثل التزلج على الجليد. والآن لنفترض أنني خطوت على الماء ووضعت جسمي الظاهري - «هذا» الجسم - فغرق كالحجر، فثمة احتمال أن يطفو جسمي «الآخر»، لأتمكن من النظر في الماء ومشاهدة نفسي.»
قال السيد لوهيد: «تشاهد نفسك!» فضحك يوجين ولكن ليس بطريقة مطمئنة تماما.
إن ما أراد السيد لوهيد معرفته هو الغرض من وراء ذلك؛ فلا بد أن هناك غرضا ما وراءه، كالسخرية أو لعبة لم يستطع فهمها. لو أن كالا أو ريكس قالا كلاما كهذا - بفرض أن بمقدورهما قول كلام مثله - لما شك في غرضهما. فالسذاجة حين تصدر عن شخص مثل يوجين توحي بأن في الأمر خدعة، ولو أنها مسيطرة عليه بالفعل فيه فلا بد أن في الأمر خدعة بطريقة أو أخرى. «إذن، فالغرض من هذا هو إعطاء الناس هزة، إذا جاز التعبير؟ لتشكيكهم في حواسهم؟» «ربما يؤدي الأمر إلى ذلك.» «كيف أقحمت نفسك في هذا الموضوع؟» «بدأ الأمر كمزحة؛ إذ كنت أتحدث مع السيدتين - الشقيقتين، كما تعرف - العمياء والأخرى، لا أعرف اسميهما ...» «أعرفهما.»
دأب يوجين على تجاذب أطراف الحديث مع العجائز، فهم يحبون حديثه؛ وكانوا ينظرون إليه كسفير لطيف من أرض الشباب الموحشة. «كنا نناقش أشياء كهذه وقلت لهما إنها ممكنة الحدوث. والمشي على الماء حقيقة وقعت بالفعل. أعني مؤخرا. وسألتاني إن كنت على استعداد لأن أجرب ذلك بنفسي، فقلت لهما نعم.»
قال لوهيد في تمعن ومكر: «لعل غرورك هو الذي حدا بك إلى قبول تلك المحاولة.» «نعم، أعرف ذلك. ففي تلك الليلة حينما كنت أتأمل أخذت أفكر مليا في هذا السؤال: هل أفعل ذلك بدافع من غروري؟ وتبين لي أن تلك مسألة لا تهم في شيء. الداعي الذي يحدوني لفعله لا يهم في شيء. يجب أن أثق فيما غرس تلك الفكرة في ذهني، أيا كان. ربما كان فعلا له غرض ما من ورائه. أعرف كيف يبدو ذلك. لكنني أهب نفسي فحسب وأجعلها رهن الاستخدام. وأخذ الموضوع يتطور بسرعة؛ فقد كنت أنوي فعل ذلك من أجل هاتين السيدتين فقط، ولكني لم أستطع فعله مباشرة؛ لأنني كنت بحاجة إلى بعض الوقت لكي أستعد، وهكذا حددنا يوم الأحد، وها أنا الآن أسمع الناس في الشارع يحدثونني عنه. أناس لا أعرفهم إطلاقا. لكم أنا مندهش!» «ألا تزعجك فكرة أنك قد تجعل من نفسك أضحوكة أمام كل هؤلاء الناس؟»
هذا تعبير لا يعني شيئا بالنسبة لي، فعلا. «تجعل من نفسك أضحوكة!» كيف يتأتى لأي إنسان أن يفعل ذلك؟ كيف تجعل من نفسك أضحوكة؟ أظهر الأضحوكة، نعم، أخرج الأضحوكة، ولكن أليست الأضحوكة هي نفسك ذاتها؟ أليست موجودة معك طوال الوقت؟ أظهر نفسك. ما الذي يمكنك فعله خلاف ذلك؟
كان بمقدور السيد لوهيد أن يقول لا يزال في إمكانك الرجوع إلى عقلك، إن أمكن، ولكنه لم يفكر في ذلك حتى وقت لاحق. وحتى لو فكر فيها حينذاك؛ فقد فات أوان قولها. •••
في صبيحة يوم الأحد وأمام باب غرفته وجد السيد لوهيد طائرا ميتا. كان مستعدا لأن يصدق أن قطا هو ما أحضره إلى هنا؛ فالقطط تأتي إلى المنزل وتطعمها كالا أو روفر، مخلفة رائحة برازها في ردهة الدور السفلي. أمسك بالطائر وحمله إلى الطابق السفلي ومنه إلى الفناء الخلفي. إنه طائر القيق الأزرق. أعجب بألوانه غير المبهرجة، مع أن طيور القيق تلك لم تكن طيورا محبوبة؛ فقد نشأ في مزرعة ولم يستطع تجاوز مثل تلك الأحكام على كل أنواع الأحياء النباتية والحيوانية. تذكر إحدى زائرات المزرعة، سيدة ليست بالشابة، تصيح مثنية على جمال حقل حافل بالخردل البري. كانت تعتمر نوعا من القبعات البيج أو الوردية المتربة، والشيفون، إذا صح أن يطلق عليه شيفون، علاوة على أن الحماقة اللافتة للقبعة ممزوجة بحماقة سعادتها؛ كل ذلك حفر في ذهنه، وظل محفورا حتى يومنا هذا. وبطبيعة الحال كانت مظاهر الكبار، وفي وقت لاحق كلماتهم، هي ما تعرفه مكمن الحماقة.
كان يعتزم دفن الطائر، لكنه لم يستطع إيجاد شيء يحفر به حفرة هناك. كان باب القبو قد خلع من مكانه، وعادة ما توجد هناك أدوات حفر، لكنه افترض أنها غير موجودة. كذلك كانت أرض الحديقة متحجرة كالإسمنت على أي حال، وكانت الأحجار والزجاج المكسور منتشرة في كل مكان. فما كان منه إلا أن وضع الطائر النافق في صندوق القمامة.
عاش السيد لوهيد في ذلك البيت اثني عشر عاما، منذ أن باع صيدليته وجاء إلى هنا للعيش بالقرب من ابنته المتزوجة. ومع أن ابنته وعائلتها انتقلوا بعيدا فإنه بقي حيث هو. وكان المنزل والفناء في حالة متهالكة حتى قبل الاثني عشر عاما، مع أنه لم يكن أحد يتوقع أن يكونا في الحالة التي أصبحا عليها اليوم. كان المكان ملكا للآنسة موسجريف، التي كانت أسرتها واسعة الثراء. كانت حينذاك لا تزال تعيش في غرف الطابق السفلي حيث يعيش ريكس وكالا وروفر اليوم. بعد فترة وجيزة من انتقال السيد لوهيد اشترى منجلا جز به العشب الطويل في زوايا الفناء . كان يعتزم تهذيبه ليتحول إلى مرج جميل، بما يرضي الجميع. لكن بعد مرور وقت يسير على البدء في عمل ذلك سمع طرقا عنيفا على النافذة وصوتا عاليا، لا يشبه صوت السيدات، في الواقع صوت شخص مخمور، يدعوه للابتعاد. «هذه أملاك الآنسة موسجريف!»
كانت تلك الآنسة موسجريف، المرأة المصابة بالجنون، لكن بطريقة مألوفة. في أيام عمله بالصيدلية تعامل مع سيدات مثلها يضعن أحمر الشفاه بطريقة مقززة ويعتمرن قبعات بنفس الطريقة، ويمارسن الاحتيال والتملق والكذب ويحصلن على الإهانات في المقابل عند صرف وصفاتهن الطبية. في الوقت الحالي كان قد مر على وفاة الآنسة موسجريف فترة طويلة، كما أنه افتقد مثل هذا الجنون المألوف، وترك مع الزمرة الحالية، التي لم يعد في مقدوره الحكم على ما إذا كانوا مجانين أم لا، ولم يكن ذلك في مقدوره مطلقا، ولا حتى يوجين. الأهم من ذلك كله يوجين.
حاول الناس كثيرا إقناعه بمغادرة هذا المكان؛ فما الذي يدعوه إلى البقاء فيه؟ كان يقول إنه لا يحب البنايات السكنية، ولا يحب الارتفاعات، ولا يريد أن يعرض نفسه لمنغصات الانتقال، وغيرها من الأسباب. ومهما كان ما تعلمه ها هنا فلم يندم على تعلمه إياه يوما، فقد استمع إلى أقرانه وهم يتحدثون، وحسب أن أدمغتهم كانت ستتصدع مثل البيض لو عرفوا معشار ما يجب معرفته. وأخيرا، فلم يندم على رؤيته فعلة ريكس وكالا، أو قراءته للصحيفة التي يبيعها روفر، وتوجيهه له ذات يوم دفعة على سبيل المزاح. كان يقرأ كل كلمة منها بالرغم من طباعتها غير الواضحة المؤذية لعينيه. سوء الطباعة والأخطاء الهجائية وبعض الرسومات المبقعة وربما البذيئة، علاوة على الاحتياجات الواردة في الإعلانات المبوبة ومقال افتتاحي يهاجم مجلس المدينة - الذي نعتوا أعضاءه بالممثلين القذرين والأغبياء - كل هذا أثار قلقه وهيج أعصابه؛ لكنه واصل القراءة، مع ترقب عجيب من أن تومض أمامه رسالة لا تلحظها العين من شدة سرعتها، على غرار بعض الإعلانات التجارية التي شاهدها على شاشات التليفزيون.
لكن كان عرض يوجين المزعوم هذا هو الشيء الوحيد الذي اعتزم عدم مشاهدته؛ فقد استاء منه كثيرا وأصابه باضطراب بالغ. أعد إفطاره المكون كالمعتاد من شريحتين من الخبز المحمص البني والبيض المسلوق والشاي. لم يسمع يوجين، فافترض أنه خرج في وقت مبكر. وبينما كان يتناول طعامه تذكر الشعور الذي انتابه في الفناء الخلفي وهو يمسك الطائر ويفكر في السيدة المعتمرة قبعة من الشيفون وحقل الخردل ووالديه. كان يتذكر شيئا آخر، مما سبقه، ويمكنه الآن أن يقول إنه كان يتذكر حلمه حينذاك. عرف أنه لا بد أن نفس الحلم قد راوده مرة أخرى الليلة الماضية، وبدا له أنه ليس أمامه خيار سوى الجلوس ومحاولة معرفة أي جزء منه يمكن استدعاؤه إلى الذهن.
كان مبتدأ هذا الحلم، الذي ظل يراوده من حين لآخر منذ منتصف العمر، حادثة حقيقية وقعت عندما كان طفلا يعيش في المزرعة مع أخيه الأكبر والتر وشقيقته ماري التي ماتت بالدفتيريا وهي في الثامنة عشرة. في منتصف الليل سمع رنين الهاتف، ثلاث رنات طويلة. كان لكل عائلة على طول الطريق رقم خاص بها من عدد الرنات - كان عدد رناتهم التي لا يزال السيد لوهيد يتذكرها حتى الآن رنتين طويلتين واثنتين قصيرتين - ولكن الرنات الثلاث الطويلة كانت تمثل تنبيها عاما، إشارة لجميع من على الخط بالتقاط سماعات هواتفهم. كان والد السيد لوهيد يصيح في الهاتف، الذي كان في المطبخ الواقع تحت غرفة نوم الأولاد مباشرة. لم يكن مقتنعا قط بنظام الهاتف، وبدا وكأنه يعتمد على قوة صوته في نقل الأخبار والكلام مهما بعدت المسافة. مع صياحه استيقظ الجميع ونزلوا لرؤية والدهم ينتعل حذاءه الطويل ويلبس سترته - فقد كانوا في شهر مايو، في فصل الربيع، ولكن الجو كان باردا بالليل - ومع أن السيد لوهيد لا يستطيع تذكر ما قيل، فإنه يعلم أن والده قال لهم شيئا عن المكان الذي سيذهب إليه، وأن أخاه والتر طلب الإذن بالانضمام إليهم وحصل عليه، تماما كما طلب هو الإذن نفسه ولكنه قوبل بالرفض على أساس أنه صغير جدا ولا يمكنه مسايرتهم.
كانوا في طريقهم لمطاردة صبي مجنون، شاب في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره يعيش في الجهة المقابلة من البلدة. لا يستطيع السيد لوهيد تذكر المعلومات التي ذكرها له والده حول هذا الصبي بخلاف اسمه (فرانك ماكرتر). كان فرانك ماكرتر أصغر أبناء عائلة فقيرة ولكنها كبيرة العدد وكريمة المحتد تدين بالمذهب الكاثوليكي. وقد أبعد عن المنزل فترة من الزمن إثر سلسلة من النوبات المرضية ولكنه عاد معافى، وعاش هناك بهدوء متوليا رعاية والديه العجوزين، بعد مغادرة أشقائه وشقيقاته. لا يعتقد السيد لوهيد أن والده قد ذكر له في ذلك الحين أن سبب استدعاء كل الرجال لتعقب فرانك ماكرتر هو أنه، أي فرانك، في وقت مبكر من ذلك المساء، ربما قبل حلول الظلام (وقبل الحلب بالتأكيد؛ لأن خوار البقر المهتاج هو ما لفت انتباه جار يمر على الطريق)، قد قتل والده في الحظيرة، باستخدام مذراة ومجرفة، ثم قتل والدته في المطبخ مستخدما نفس المجرفة التي لا بد أنه قد جلبها من الحظيرة لهذا الغرض.
تلك هي الحقائق التي احتواها الحلم، بحسب ما يتذكر، دون أن يكشف عنها النقاب. في حال اليقظة كانت ذاكرته تختزن كل هذه المعلومات عن جريمة القتل والقتيلين، مع أنه لا يعرف متى ولا كيف أعطيت له. أما في الحلم فلم يتسن له قط أن يفهم بوضوح السبب الداعي إلى حالة الاستنفار والضجة المثارة، كل ما عرفه أن عليه إيجاد حذائه الطويل والإسراع مع والده وشقيقه (إذا أسرع في الحلم، فلن يغادروا دون اصطحابه معهم). لم يعرف إلى أين هو ذاهب، وما كان له أن يعرف حتى يمضي في صحبتهما فترة من الزمن بحيث يكتشفون شيئا هناك. ربما كان تعاقب الحلم في البداية سهلا ومبهجا، ولكنه غالبا ما يتباطأ شيئا فشيئا بسبب قوى خفية محيرة ومشتتة، ومن ثم يجد السيد لوهيد نفسه وحيدا يقوم بأشياء على غرار تركيب وصفة طبية في صيدليته أو تناول العشاء مع زوجته. ثم مع شعور عميق بالندم وبعد فوات الأوان، مرورا بالجيران الذين يوجهون له اللوم والتقريع دون أن يقدموا له يد المساعدة، ودائما في طقس ضبابي لا يفصح عن الكثير، يحاول العودة إلى حيث يجب أن يكون. لم يكمل الحلم حتى النهاية قط، أو لعله أكمله، ولكنه لا يتذكر، هذا هو الاحتمال الأكبر. في أول مرة رأى فيها الحلم كان أبواه وشقيقته ميتين، أما شقيقه فكان لا يزال على قيد الحياة، في وينيبيج، وقد فكر في مراسلته، يسأله عن فرانك ماكرتر وما إذا كانوا قد عثروا عليه في تلك الليلة أم لا. كانت هناك فجوة في ذاكرته عند تلك النقطة. لكنه لم يراسله قط، أو عندما راسله، لم يسأله هذا السؤال؛ لأنه نسي، وإذا تذكر، فربما شعر بأنه من الحماقة أن يسأله سؤالا كهذا على أي حال، ثم توفي شقيقه.
دائما ما يترك هذا الحلم هما ثقيلا على ذهنه، وقد افترض أن ذلك إنما يرجع إلى أنه لا يزال يحمل، لجزء من اليوم، ذكرى أناس ميتين، أبيه وأمه وأخيه وأخته، الذين لا يستطيع تذكر وجوههم بوضوح وهو في حال الاستيقاظ. كيف يصف تماسك وتعقيد وواقعية هذه الذكريات، إن كان لديه من يصفها له؟ بدا له أنه لا بد أن هناك مكانا تنتقل فيه بحرية مطلقة دون قيد خارج عقله؛ كان من الصعب عليه أن يصدق أنه هو من ابتدعها. إنها تجربة مألوفة. تذكر أمه وهي جالسة إلى مائدة الإفطار قائلة في صوت مفعم بالدهشة أقرب إلى الشكوى: «لقد حلمت بجدتك! أوه، لقد كانت هي!»
ثمة شيء آخر دفع إلى التفكير فيه دفعا؛ وهو الفرق بين ذلك العهد والعصر الحالي. لقد كان فرقا شاسعا، ليس بمقدور أحد الانتقال من عهد كهذا إلى عهد آخر، وكيف فعلها هو؟ كيف يمكن لرجل أن يعرف والد السيد لوهيد وأمه ويعرف الآن ريكس وكالا؟ خطر له - وهو ليس بالخاطر الجديد - أن ثمة ما يقال على كل حال بشأن التعامل مع الأمور بالطريقة التي يبدو أن معظم من هم في سنه يتعاملون بها. ربما كان من المعقول أن يكف عن الملاحظة، ليصدق بأن هذا العالم لا يزال هو نفس العالم الذي كانوا يعيشون فيه، مع بعض الانحرافات المروعة وإن كان يمكن علاجها، وعدم محاولة فهم كيف تغير تنظيم العالم بأكمله بهذا الشكل.
كان الحلم قد جعله على اتصال بعالم جعل العالم الذي يعيش فيه الآن مجرد نسخة عفوية؛ من حيث الملمس، إن جاز لنا القول، وفي الحدة، وفي التكوين. لا شك أن حواسه بالطبع قد أصيبت بالضعف، بيد أن هموم الحياة وأهميتها قد تلاشت بطريقة أو أخرى. أضحت المناسبات تقام الآن على مساحات صغيرة وهي كلها لها نفس القدر من الأهمية أو لا أهمية لها. وخلال ركوبه الحافلة عبر شوارع المدينة أو حتى خلال الريف لم يكن السيد لوهيد يندهش كثيرا لدى رؤيته أي شيء؛ كمسجد، مثلا، أو دب أبيض. أيا كان ما يبدو أمام عينيك، فسوف يتبين لك أنه شيء آخر. فالفتيات في السوبر ماركت يرتدين تنانير مكسوة بالعشب لبيع الأناناس، كما رأى عاملا في محطة الغاز، يمسح الزجاج الأمامي للسيارات، يرتدي على رأسه قبعة حمقاء بها أجراس. وتأخذ الدهشة تقل وتقل.
في بعض الأحيان في التسجيلات التي كانوا يشغلونها في الطابق السفلي كان يتناهى إلى سمعه مقطوعة موسيقية عذبة مألوفة وغير مزعجة. وكان يعلم ما سيحدث، حيث السخرية منها والتلوي حولها بحركات جنونية خالية من أي نوع من التقدير. كما كانت هناك نكات مماثلة في كل مكان، ولا بد أن الناس وجدوها مرضية. •••
خرج رصيف روس بوينت من الخدمة منذ فترة طويلة؛ إذ انهار الرصيف واختفى كلية بفعل موجات المد والجزر حتى ابتلعه المحيط عن آخره. أقبل السيد لوهيد من عند منعطف كورنيش البحر - كان لزاما عليه أن يأتي على كل حال؛ إذ ضاق صدره لدرجة تجعله غير قادر على البقاء بعيدا - وهو يتوقع ألا يرى أحدا هناك ويكتشف أن الأمر كله كان من بنات خياله هو، أو أنه مجرد خدعة متقنة حاكها الآخرون وانطلت عليه، وهذا هو الاحتمال الأكبر. ولكن سرعان ما تبين له أن الأمر ليس كذلك مطلقا ؛ فقد احتشد الناس، ولم يجد درجات للجلوس عليها، كانت هناك درجات شاغرة على بعد ربع ميل إلى الخلف وعلى مسافة قريبة إلى الأمام بعد روس بوينت، بيد أن السيد لوهيد سار إلى جنوب الضفة، متعلقا بأجمات الوزال، دون التفكير في خطر كسر العظام حتى وقت لاحق. ثم أسرع على طول الشاطئ.
أول من رآهم من الناس كانوا يجرون بطول الرصيف ويقفزون من واحدة من قطع الخرسانة المتهدمة إلى أخرى؛ ريكس وكالا وروفر وعدد من أصدقائهم الذين يتعذر عليه تمييزهم. كانت كالا ملفوفة في ما بدا وكأنه - وقد كان فعلا - غطاء فراش قديم من الشانيل، وكان نصف خصلاته الوردية والبنية باليا. أخذوا يتواثبون حفاة الأقدام ويقفزون في الماء. كان هناك صبي على الشاطئ يعزف على الفلوت، أو آلة مثل الفلوت، نفس الآلة التي كانت لدى يوجين. كان يعزف بشكل جيد، على الرغم من رتابة عزفه. كانت الأختان العجوزان هناك، الأخت العمياء وعصاها البيضاء التي ترفعها حين تتحدث، وتشير بها إلى الماء؛ حيث تذكرك بموسى قبالة البحر الأحمر. كانت الأخرى تتحدث إليها شارحة لها. أما السيد كليفورد والسيد موري وعدد قليل آخر من الرجال كبار السن المتصفين بالرزانة والحصافة فقد أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، وجلسوا بمكان ليس بقريب للغاية. ربما كان إجمالي عددهم يبلغ نحو ستة وثلاثين شخصا كلهم تجاوزوا الستين أو تحت الثلاثين. كان يوجين يجلس بعيدا على الرصيف، وحده. رأى السيد لوهيد أنه ربما من الأفضل أن لو ارتدى يوجين لباسا خاصا لهذه المناسبة، رداء من قماش متين، أو مئزرا، إذا كان بمقدوره العثور على شيء كهذا، لكنه كان يرتدي سرواله الجينز المعتاد وقميصا أبيض.
أخرج أحد العجائز ساعة من جيبه وصاح في تلقائية كما لو كان لا يوجه كلامه إلى شخص بعينه، قائلا: «إنها الساعة العاشرة الآن.»
صاح ريكس الذي كان قد قفز في الماء ونصفه العلوي عار تماما ومبتل حتى الفخذين: «الساعة العاشرة يا يوجين!»
كان يوجين يعطي الجميع ظهره، ثانيا ركبتيه، واضعا رأسه عليهما. «يا إلهي، يا إلهي، يا إلهي.» قالها ريكس مرتلا، وراميا رأسه الأشعث إلى الوراء، وفاردا ذراعيه عن آخرهما.
قالت فتاة: «ينبغي أن نغني.»
في نفس الوقت كان هناك سيدتان تعتمران قبعتين وتقفان أمام السيد لوهيد تتحدثان معا: «لم أتوقع حضور هذا العدد الكبير من الناس هنا.» «لم آت إلى هنا لأسمع هذا الدنس.»
بدأت الفتاة في الغناء وحدها، على أنغام مشغل موسيقى. دارت حول نفسها بعدم ثبات على الشاطئ، مغنية من دون كلام، ووشاحها الناعم ذو الألوان العديدة يرفرف حول رقبتها. بعد قليل نظرت السيدتان الواقفتان أمام السيد لوهيد إحداهما إلى الأخرى، تنحنحتا، وأومأتا برأسيهما، وشرعتا تغنيان بصوت مرتعش حلو يعلوه التواضع:
نحن هنا مجتمعون معا تجمعنا نعمة الرب،
إنه يؤدب، ويعجل، حتى تعرفنا مشيئته ...
صاح السيد موري بصوت صاخب: «هيا بنا نشاهد العرض من على الطريق!»
قالت الأخت العمياء: «ما الذي حدث؟ هل مشى على الماء؟»
وقف يوجين ومشى بعيدا على الرصيف، ثم مشى دون تردد في الماء الذي غطى كعبيه، ثم ركبتيه، ثم فخذيه.
قال السيد موري: «إنه يمشي في الماء وليس عليه. اتل صلاتك أيها الفتى!»
جلس روفر القرفصاء على الحجارة وأخذ يدندن بصوت عال: «أوم، أوم، أوم، أوم ...»
قالت الأخت العمياء: «ماذا حدث؟ ماذا حدث؟» وتوقفت الفتاة التي كانت تغني فترة طويلة عن الغناء، ثم أخذت تصيح: «أوه، يوجين! يوجين!» بصوت حنون ينم عن اليأس والإنكار:
وهكذا من البداية، نفوز في معركتنا حتى النهاية ...
مشى يوجين حتى وصل الماء إلى وسطه، ثم إلى صدره، فهتف السيد لوهيد بصوت ظن أنه فقده: «يوجين، اخرج من هذه المياه!»
صاح السيد موري في الوقت نفسه: «انعدام الوزن! فكر في انعدام وزنك!»
أحنى يوجين رأسه وغاص تحت الماء.
أطلقت الفتاة المغنية صرخة مفعمة بالإثارة.
نزل السيد لوهيد إلى الرصيف وتجاوزه قليلا، وقال لكالا، الملفوفة في غطاء الفراش كامرأة من الكتاب المقدس: «هل تعرفين إن كان بمقدوره السباحة؟»
صاح ريكس، ذلك المهرج: «اسبح! اسبح!» وهوى في الماء، في حين أخذت الأخت غير العمياء تدور حول نفسها صارخة: «لينقذه أحدكم! أنقذوه! لا تدعوه يغرق!»
ظهر يوجين متشبثا بالجزء البارز من الرصيف. ثم وقف على قدميه والماء يقطر منه، كان يقف هناك محتفظا بتوازنه وهو يزيح الشعر عن عينيه، في حين صرخت فتاة قائلة: «وحش البحر! وحش البحر!» فدوى تصفيق الرجال، بقيادة السيد موري، هازئين.
لم يتوقف مشغل الموسيقى خلال أي من هذه الحوادث.
قال السيد موري: «هذا ما أوصلنا إليه. المشي على الماء.»
قالت الأخت العمياء: «إياكم أن يقرعه أحد؛ فقد بذل كل ما بوسعه.»
مشى يوجين نحوهم ببطء مبتسما، وقال: «أنا حتى لا أعرف السباحة.» قالها ملوحا بيديه في الهواء بسرور. بدا كما لو أنه خرج منتصرا. واستطرد: «لقد زحفت على امتداد الرصيف. كان بإمكاني الوقوف سريعا ولكنني أحببت كوني تحت الماء.»
قال السيد لوهيد: «عد إلى المنزل وغير ملابسك إذا كنت لا تريد الإصابة بالتهاب رئوي.»
قالت إحدى السيدتين المنشدتين: «هل كان الأمر مجرد مزحة إذن؟» ومع أنها لم توجه حديثها إلى السيد لوهيد، فإنه استدار نحوها وقال لها بحدة: «ماذا كنت تحسبينه؟» نظرت السيدتان إحداهما إلى الأخرى، وضغطتا على شفاههما تعبيرا عن امتعاضهما من فظاظته.
قال يوجين بصوت مرتفع قليلا، ناظرا حوله: «أنا آسف إذا لم يكن هذا ما كنتم تأملونه جميعا. الخطأ خطئي وحدي؛ فأنا لم أصل بعد إلى النقطة التي تمنيت الوصول إليها في التحكم بنفسي. ولكن إذا كان هذا قد خيب آمالكم فقد كان بالنسبة لي مثيرا ورائعا ولقد تعلمت منه شيئا مهما. أريد أن أشكركم.»
صفقت السيدات بلطف هذه المرة، وانضم إليهن بعض الشباب مصفقين بمبالغة أكثر. رأى السيد لوهيد أن الناس قد انقسموا إلى مجموعتين تجمعهما قواسم مشتركة أكثر مما يظنون. لم تكن أي من المجموعتين لتقر بذلك، لكن ألم تكن توقعاتهما تسير في نفس الاتجاه؟ وما الذي غذى مثل تلك التوقعات في نفوسهم؟ إنه اليأس، كان هو اليأس في الحقيقة، إلا أن الاعتزاز بالنفس يمنع المرء من الاعتراف به.
دون أن يتحدث إلى أي شخص ذهب السيد لوهيد وحده. سار على طول الشاطئ وارتقى الدرجات متسائلا كيف استطاع النزول من الضفة دون أن يكسر ساقه - الأمر الذي كان كفيلا بالقضاء عليه في سنه هذه - من أجل هذا الهراء. مشى مسافة ميل أو نحوه على طول البحر وصولا إلى مقهى يعرفه يظل مفتوحا أيام الأحد. جلس فترة طويلة يرتشف فنجانا من القهوة ثم رجع سيرا على الأقدام. تناهى إلى سمعه صوت الموسيقى القادمة من النوافذ المفتوحة بالطابق السفلي في المنزل، من نوافذ الآنسة موسجريف؛ نفس الموسيقى التي يشغلونها دائما. صعد إلى الطابق العلوي وطرق باب يوجين، مناديا: «أردت فقط معرفة ما إذا كنت قد غيرت تلك الملابس المبللة!»
لكنه لم يرد عليه. وبعد برهة فتح الباب الذي لا يغلقه يوجين أبدا. «يوجين؟»
لم يكن يوجين موجودا في الغرفة ولا حتى ملابسه. رأى لوهيد الغرفة من قبل ويوجين ليس موجودا بها، عندما أعاد له كتابا كان قد استعاره منه. بيد أن منظرها لم يزعجه كما أزعجه الآن؛ فالنافذة مشرعة عن آخرها لأعلى لسبب ما، وعادة ما يغلقها يوجين قبل خروجه، خشية أن تبلل الأمطار كتبه أو تبعثرها الرياح، وكانت هناك رياح الآن بعثرت الأوراق من فوق أرفف الكتب وتناثرت على الأرض. بخلاف ذلك كان المكان مرتبا. كانت البطانية والملاءة مطويتين في نهاية المرتبة، كما لو أنه ينوي ألا ينام عليها مجددا.
طرق السيد لوهيد باب الطابق السفلي، فجاءته كالا. «يوجين ليس في المنزل؛ هل تعرفين أين هو؟»
استدارت كالا، وصاحت في الغرفة المظلمة بسبب الستائر الحمراء والأرجوانية، والشراشف المصبوغة، المسدلة دائما: «هل رأى أحدكم يوجين؟» «لقد توجه نحو ملعب الجولف. كان متوجها شرقا.»
قال ريكس بود، متكئا على كتف كالا: «ماذا تريد منه؟»
صاح أحدهم في الخلفية، قائلا: «اسأليه إن كان أعجبه الرسم على بابه.» «اسأليه إن كان أحب الحالة التي وجد عليها طائره.»
إذن، ليس القط هو من فعلها. ابتسمت له كالا. كان وجهها كبيرا أبيض وجميلا، وخداها بيضاوين تنتشر عليهما العديد من البثور الصغيرة الملتهبة.
قال لوهيد متجاهلا ريكس: «شكرا لك.»
قال صوت آخر في الخلفية، لعله روفر، فصوته له رنين كرنين المعدن: «ما الذي يريده من يوجين؟» على إثر هذا الصوت قفز إلى ذهن السيد لوهيد تخمينا تظاهر على الفور وفيما بعد ذلك بأنه لم يطرأ عليه.
قالت كالا: «هل تريد تناول التين؟» •••
أخذ كلامهم على محمل الجد، فليس أمامه شيء آخر يمكنه فعله. ذهب شرقا، ماشيا بمحاذاة البحر، مقتفيا أثر الطريق الذي سلكه صباح هذا اليوم. تجاوز الرصيف، المهجور الآن، ثم تجاوز المقهى الذي شرب فيه قهوته، مواصلا إلى ملعب الجولف. كان عصر هذا اليوم لطيفا، وكان هناك الكثير من الناس يتمشون. في بعض الأحيان كان يخيل إليه أنه رأى يوجين. بدا أن نصف الشبان في العالم يرتدون الجينز والقمصان البيضاء، وأنهم قصار القامة نحاف الجسم طوال الشعر. وجد نفسه يتفرس وجوه الناس ويهم بأن يسألهم: «هل شاهدتم الشاب؟» ظن أنه قد يلتقي شخصا كان على الرصيف صباح هذا اليوم. بحث عن السيد كليفورد أو السيد موري، ولكن كانت تلك المنطقة بعيدة جدا، بعيدة عن حيهما.
على الجانب الآخر من ملعب الجولف كانت هناك مساحة من الأجمات البرية بارتفاع قامة الرجل. كانت هناك صخور بارزة من الماء. لا شواطئ هنا. بدت المياه عميقة إلى حد ما. كان هناك رجل يقف على الصخور يمسك بخيط طائرة ورقية. كانت هناك قوارب صغيرة على المياه ذات أشرعة حمراء وزرقاء. هل يمكن أن يسقط رجل هنا دون أن يلاحظه أحد؟ هل يمكن أن ينزلق رجل في هدوء دون إحداث أي ضجة، وينتهي أمره؟
في وقت سابق من اليوم، في الواقع بينما كان يجلس يرتشف قهوته في ذلك المقهى، جاءه خاطر، المشهد الذي اعتاد أن ينتهي به حلمه. كان مشهدا واضحا ومفصلا استرجعه بسهولة من مكان ما، إما من الحلم أو من ذاكرته، رغم أنه لا يدرى كيف يمكن أن يأتي من ذاكرته.
كان يسير خلف أبيه وسط عشب طويل رمادي اللون. كان رماديا لأن الليل كان في سبيله لينجلي ويمكن رؤية كل شيء بوضوح، ولكن كانت الشمس لم تشرق بعد. بدوا وكأنهما قد انفصلا عن باقي الرجال الباحثين عن الصبي. كانا بالقرب من نهر، وفي فترة وجيزة تسلقا إحدى ضفتيه وصولا إلى طريق موحل يفضي إلى جسر على النهر، وبما أن السيد لوهيد كان طفلا بطبيعة الحال في هذا المشهد، فقد أسرع الخطى لاجتياز الجسر، ولكن بعد نحو ثلث الطريق فوجئ أن الجسر غير آمن؛ إذ كانت بعض ألواح أرضيته مفقودة، وبدت عوارضه وكأنها قد سحقت بطريقة أو أخرى، وكأنه جسر لعبة داس عليه أحدهم. نظر إلى الوراء مستغيثا بأبيه، ولكنه لم يجده هناك؛ وكان هذا متوقعا. عندئذ كان عليه أن ينظر إلى أسفل من خلال أرضية الجسر حيث أحد الألواح المفقودة، وفي المياه الضحلة للنهر الذي انساب بين الحجارة البيضاء رأى جثمان صبي ممدد فيها ووجهه لأسفل. بدا هذا المشهد في الحلم - إن كان هذا ما بدا عليه - مشهدا طبيعيا للغاية.
ولكن في حال اليقظة بالطبع ليس بمقدوره أن يرى هذا المنظر بهذا الشكل العرضي. وسأل نفسه إذا كان ذلك الصبي هو فرانك ماكرتر؛ إذا كان هذا الشاب بعد أن قتل والديه قد ألقى بنفسه في النهر. لم يعد هناك سبيل لمعرفة ذلك في الوقت الحالي.
ذات مرة عانى مما قال الطبيب في وقت لاحق إنها سكتة دماغية خفيفة، وفي تلك الحالة كان يرى خطا أبيض متعرجا مبهرا يتراقص في زاوية رؤيته ثمان وأربعين ساعة أو نحو ذلك، ثم يختفي. لم يكن هناك أي ضرر، ولم تكن مثل هذه الأمور غير مألوفة على حد قول الطبيب. وها هو الآن الحلم، أو نهاية للحلم، يواصل فعل الشيء نفسه في ذهنه. كان يتوقع أن يختفي من حياته بعد فترة من الوقت. وثمة شيء آخر يأمل أن يبتعد عنه عندما يئوب إلى نفسه، وهي تلك المخاوف أو الأفكار الغريبة عن نزول يوجين في الماء؛ فالانتحار لن يكون الكلمة التي يصف بها تلك الفعلة، ليس يوجين؛ ولا شك أنه كان سيجد طريقة متكلفة ومراوغة لوصفه؛ ولربما لم يكن عرض هذا الصباح سوى بروفة أو محاكاة عملية له.
كان مرهقا للغاية، وأخيرا وجد مقعدا خاليا فجلس هناك فترة طويلة، متسائلا إن كان بمقدوره استجماع قواه للعودة إلى المنزل ماشيا. •••
قال لكالا: «باب يوجين مفتوح ونافذته مشرعة عن آخرها.» كان الصمت يغلف الغرفة من خلفها هذه المرة؛ فابتسمت له كما فعلت من قبل. فكر في النظر إلى عينيها، ولكنهما كانا عاديين حسبما رأى. كان مرهقا للغاية ويشعر بدوار شديد، حتى إنه اضطر إلى التشبث بقائم السلم.
قالت كالا: «دائما ما يترك باب غرفته مفتوحا.»
قال السيد لوهيد مرتجفا: «لدي من الأسباب ما يثير قلقي عليه. أعتقد أنه علينا إبلاغ السلطات.»
قالت كالا بصوت خفيض يكسوه الرعب: «الشرطة؟ أوه، لا يمكنك فعل ذلك. لا يمكنك فعل ذلك أبدا.» «أعتقد أن خطبا ألم به.» «لعله غادر البلدة.» «لو فعلها، لما ترك كل متعلقاته.» «لعله فعلها. لعله غادر وحسب؛ ربما فكر فجأة في الرحيل كما تعلم، ومن ثم رحل.» «أعتقد أن عقله كان مشوشا. أحسب أنه ربما فكر في ... لعله ذهب إلى الماء مرة أخرى.»
قالت كالا: «هل تظن ذلك؟» كان يتوقع أن تفاجأ، أن تصيح معترضة على ذلك، أو حتى أن تجعلها تلك الفكرة تبتسم، ولكنها بدلا من ذلك بدت وكأنها تترك الاحتمالية تتطور ببطء وعلى مهل في رأسها. «هل تظن أنه قد يفعلها؟» «لا أدري. أعتقد أنه كان مضطربا. أعتقد ذلك، لكنني أجد صعوبة في الحكم بما إذا كان أحدكم مضطربا أم لا.»
قالت كالا: «إنه ليس واحدا منا؛ فهو أكبر سنا إلى حد ما.»
وأردفت: «لكنه ربما أراد أن يفعل ذلك.» ثم سكتت لدقيقة لتقول: «إن رغبته في فعل ذلك شيء آخر تماما؛ فإذا كان هذا هو ما ينوي القيام به، فما لأحد أن يمنعه، أليس كذلك؟ أو يشعر بالحزن عليه؛ فأنا لم أكن لأشعر بالحزن على أي شخص.»
استدار السيد لوهيد مبتعدا، وقالت كالا بلهجة مقنعة: «والآن طاب مساؤك. أنا آسفة إذا ساءك ما وجدته على بابك.»
وللمرة الأولى في حياته ظن السيد لوهيد أنه قد لا يستطيع ارتقاء درجات السلم. شك حتى في قدرته على ذلك. ربما عليه الذهاب إلى بناية سكنية، مثل بقيتهم، إذا أراد أن يبقى على قيد الحياة.
تسامح عائلي
كثيرا ما كنت أفكر: هب أنني اضطررت للذهاب إلى طبيب نفسي، وأراد بطبيعة الحال أن أحكي له عن خلفيتي العائلية، فاستهللت حديثي معه بإخباره عن أخي؛ فحينها لن ينتظر حتى أكمل حديثي للنهاية، وسيأمر بإيداعي المصحة النفسية.
حكيت ما جال بخاطري لأمي فضحكت قائلة: «أنت قاسية جدا على هذا الولد يا فال.»
صحت قائلة: «الولد! تقصدين الرجل.»
ضحكت مرة أخرى وأومأت برأسها اعترافا بذلك، واستطردت: «لكن تذكري، الأطفال أحباب الله.» «كيف عرفت ذلك؟ حسبتك ملحدة.»
بعض الأشياء التي جعلتني مستاءة منه لم يكن له يد في حدوثها؛ فعلى سبيل المثال صادف يوم ولادته أول يوم لي في المدرسة! ويا له من توقيت! كنت خائفة وأنا وحدي، لم يكن النظام الدراسي آنذاك مثل الآن حيث يذهب الأطفال إلى الحضانة أو الروضة أولا بضع سنوات. كنت ذاهبة إلى المدرسة لأول مرة وأنا أرى كل الأطفال الآخرين بصحبة أمهاتهم. لكن أين أمي؟ إنها في المستشفى تضع مولودها. وكان هذا مصدر إحراج لي، فحينها صاحب تلك الأمور حرج شديد.
لم يكن خطأه أنه ولد في هذا اليوم، كما لم يكن خطأه أن يتقيأ في حفل زفافي، ولك أن تتخيل، تقيأ على كل شيء؛ الأرض، والطاولة، حتى إنه وصل إلى الكعكة. لم يكن مخمورا كما اعتقد بعض الناس، لكنه كان يعاني من أنفلونزا شديدة جدا، وأصابتني عدواها أنا وهارو بعد ذلك؛ كان هذا في شهر العسل! لم أسمع قبل ذلك عن أحد مريض بالأنفلونزا يتقيأ بهذا الشكل على طاولة عليها مفرش من الدانتيل وعلى الشمعدانات وكعكة الزفاف. تستطيع أن تقول إن هذا سوء حظ؛ فأي شخص ربما يأتيه الشعور بالتقيؤ وهو قريب من الحمام. وأيضا أي شخص آخر ربما يحاول قليلا منع نفسه من التقيؤ. هذا لأن هذا الشخص الآخر ليس مميزا مثل أخي الصغير، وهذا الشخص الآخر ليس محور الكون مثل أخي الصغير. إنه طفل بداخله، كما قال عن نفسه بعد ذلك.
لن أتحدث عما حدث بين ولادته ويوم تقيأ في حفل زفافي، باستثناء أنه كان مريضا بالربو، مما جعله يغيب عن المدرسة أسابيع طويلة، وفي هذه الأثناء كان يقضي وقته في الاستماع إلى المسلسلات الدرامية. في بعض الأحيان عندما نعقد هدنة بيننا، أجعله يقص علي ما حدث في مسلسل «الأخت الكبرى» ومسلسل «طريق الحياة» وذلك المسلسل الذي تظهر فيه جيجي والأب ديفيد. كان يتمتع بذاكرة قوية جدا تمكنه من تذكر كل الشخصيات وسرد الأحداث بالتفاصيل المملة، ومن الجدير بالذكر أنه كان يقرأ كثيرا في سلسلة «الأبواب لعالم الكتب»، تلك المجموعة اللطيفة التي اشترتها لنا أمي، والتي هربها من البيت ذات مرة ليبيعها لتاجر الكتب المستعملة مقابل عشرة دولارات. كانت أمي دائما تقول إنه لو أراد أن يصبح نابغة في المدرسة لكان له ذلك، وكانت تقول: أخوك هذا داهية، دائما ما يفاجئنا بأفعاله، وهو بالفعل كذلك.
لم يعد يذهب إلى المدرسة نهائيا عندما كان بالصف العاشر، كان ذلك بسبب ضبطه ضمن مجموعة تغش، كانوا يسرقون امتحانات الرياضيات من مكتب المدرس؛ حيث كان يخدع البواب ليدعه يدخل المدرسة بعد انتهاء الدوام، بحجة أنه يعمل على مشروع خاص. هكذا كان أخي. كانت أمي تبرر ذلك بأنه يريد أن يكون محبوبا وسط زملائه لإصابته بالربو وعدم استطاعته المشاركة في الألعاب الرياضية.
الآن، سأتحدث عن أخي بالعمل. يستحسن أولا أن أصرح باسمه، إنه كام، اختصارا لكاميرون؛ وهو الاسم الذي اختارته أمي له؛ حيث إنه يناسب اسم رئيس جامعة، أو رجل أعمال شريف من كبار رجال الأعمال (هذا ما كانت تخطط له وتتمنى حدوثه). السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يمكن أن يفعله شخص مثل أخي لكسب عيشه؟ حتى وقت قريب لم تكن الدولة تدفع إعانة لمن لا يملك المال الكافي ولا يعمل؛ لذا كان يجب على كل شخص العمل ليجد قوت يومه. استطاعت أمي أن تجد له وظيفة مرشد بالسينما، حيث كانت تعرف صاحب العمل الذي كان مديرا للمسرح الدولي القديم بشارع بلاك ستريت. اضطر أخي إلى ترك العمل؛ لأنه يعاني فوبيا الظلام، كما قال؛ فهو يشعر أن شكل الناس الجالسين بالظلام مريب ومرعب. ظهرت مشكلته مع الظلام في عمله مرشدا، لكن عندما يذهب إلى السينما مشاهدا فإنه لا يشعر بأي خوف، فهو مغرم بالأفلام؛ في الواقع، كان يقضي أياما بأكملها في التنقل بين دور السينما؛ فيجلس بواحدة ليشاهد نفس العرض مرتين، ثم ينتقل إلى أخرى ويشاهد ما يعرض هناك كما يحلو له. من المؤكد أنه كان يفعل شيئا يشغل به وقته، حيث كنا نعتقد جميعا، إضافة إلى أمي، أنه يعمل بمكتب محطة حافلات جريهاوند بعدما استقال من السينما. كان يخرج صباحا بميعاد العمل ويعود ليلا بميعاد نهاية الدوام، ويحكي لنا عن الرجل العجوز المسئول عن المكتب، وكيف أنه حاد الطبع، كما يحكي لنا عن تلك المرأة العجوز منحنية الظهر التي تعمل هناك منذ عام 1919، وكيف أنها تثور ثائرتها من البنات اللاتي يمضغن اللبان. أوه، يا لها من قصة محكمة التفاصيل تنبض بالحياة تصلح لأن تكون حبكة لمسلسل درامي؛ ما لم تكتشف أمي أنه يخدعنا، كان هذا عندما اتصلت تشكو من عدم استلامه لراتبه - بسبب خطأ مطبعي في حروف اسمه، حسب قوله - وهنا اكتشفت أنه استقال في منتصف اليوم الثاني لعمله هناك.
كل ما قالته أمي تعليقا على هذا: حسنا، الذهاب للسينما أفضل من الجلوس في الحانات، فهو على الأقل لم يتعاط مع العصابات الإجرامية. سألته ما الفيلم المفضل لديه، وقال إنه «سبع عرائس لسبعة إخوة»، ثم قالت لي معقبة: أرأيت؟ إنه يحب الحياة في الهواء الطلق، فهو لم يخلق للجلوس على مكتب. لذا أرسلته للعمل لدى بعض أقاربها الذين يمتلكون مزرعة في فرايز فالي. ومن الجدير بالذكر هنا أن والدي أنا وكام متوفى، كان متوفى في الوقت الذي كان كام فيه مصابا بالربو ويجلس بالبيت ليستمع إلى المسلسلات الدرامية. وفي الواقع لم تشكل وفاته فارقا كبيرا في حياتنا؛ فقد اعتدنا غيابه الدائم بسبب عمله محصلا لشركة الغاز والكهرباء، عندما بدأت نشاطها في سكواميش، كما عاش لبعض الوقت في ليلويت. فلم يتغير أي شيء؛ حيث كانت أمي تذهب إلى عملها عند آل إيتون كما كانت قبل ذلك دائما، كانت تذهب بالمعدية ثم تستقل الحافلة؛ وبينما كنت أحضر أنا العشاء، كانت هي تصعد التل في تثاقل في ظلمة الشتاء.
رحل كام من المزرعة بزعم أن أقارب أمي كانوا متدينين جدا، وكانوا دائما يحاولون إجباره على التجاوب معهم في هذا، وتفهمت أمي مشكلته، فهي التي قامت بتربيته ليكون صاحب رأي. سافر بعد ذلك متطفلا إلى الشرق، وكان يرسل لنا خطابا من آن لآخر. ذات مرة طلب أموالا حيث عرض عليه عمل في كيبيك إذا استطاع الحصول على المال للذهاب إلى هناك، فأرسلت له أمي المال. وكتب إلينا يخبرنا بأنه بدأ العمل، لكنه لم يرد المال. لقد أنشأ هو واثنين من أصدقائه مزرعة للديوك الرومي؛ وأرسلوا لنا خطط دراسة الجدوى والمقايسات، وكان من المفترض أن يعملوا لحساب شركة بيورينا، ومن ثم لن يكون هناك مجال للخسارة. بعدما أرسلت أمي له المال - وأرسلنا له نحن أيضا رغم إدراكنا أن هذا ليس قرارا حكيما - علمنا بأن الديوك قد غرقت جميعا جراء الفيضان. قالت أمي إن أي مكان يحل هذا الولد به يتحول لكارثة. وإذا قرأت عما حدث في قصة من القصص فلن تصدقها. وعلى قدر ما هو أمر فظيع فإنه مضحك في ذات الوقت.
كانت أمي على علم بذلك. اعتدت زيارتها كل أربعاء - يوم عطلتها - ذاهبة إليها أدفع عربة الأطفال وبها كارين، ثم وبها تومي حيث أصبحت كارين تسير على قدميها وتمشي إلى جواري، وكنا نتخذ طريق لونسدال، وطريق كينجز رود وصولا إليها. ترى ما الذي كنا نتحدث عنه طوال الوقت؟ كانت أمي تقول: سأترك هذا الصبي، بالتأكيد سأتخلى عنه في يوم من الأيام. وتساءلت: إلى متى سيظل يعتمد علي في كل شيء؟ لم أنبس ببنت شفة بشأن هذا الموضوع؛ فهي أولا وأخيرا تعلم رأيي فيه تماما، وكل مرة تنهي حديثها عنه قائلة: «مع ذلك فهو رفيق جيد بالمنزل، وصحبته لطيفة، فهو يجعلني دائما أضحك.»
أو تقول: «مسكين؛ لديه الكثير من المشاكل التي يصارعها؛ فهو يتيم الأب، ويعاني من الربو، هذا الولد لم يقصد في أي وقت أن يجرح مشاعر أحد.»
وقالت ذات مرة: «الشيء الحسن الذي فعله في حياته هو تلك الفتاة، يمكنك أن تقولي إنها نقطة تحول في حياته.»
كانت تقصد تلك الفتاة التي أتت إلينا قائلة إنها خطبت إليه في هاميلتون، أونتاريو، واستمرت هذه الخطبة إلى أن قال لها إنه لا يمكن أن يتمم الزفاف؛ لأنه يعاني مرضا وراثيا قاتلا بكليته. أرسل لها خطابا بهذا؛ فأتت لتطمئن عليه وتخبره أن هذا لا يهم. كان جمالها معقولا، وكانت تعمل في شركة بيل للهواتف. قالت لها أمي إنه حاك تلك الكذبة البيضاء لكيلا يجرح مشاعرها بأنه لن يتزوجها، في حين قلت إن هذا لطف كبير منها أن تتحمل الوقوف بجانبه بقية حياته.
كانت هذه الفتاة ستسهل علينا الأمور قليلا.
لكن كان هذا ماضيا وذهب، ونحن أبناء اليوم، وكما نعرف جميعا لا شيء يبقى على حاله. أصبحت الأمور أيسر بالنسبة لكام؛ حيث استقر بالمنزل مدة عام ونصف، بدأ شعره يتساقط من الأمام؛ ليس غريبا على رجل بسن الرابعة والثلاثين، وبدأ اللون الرمادي ينتشر في شعره الأشعث. كان يرتدي ثوبا بني اللون ذا خامة قاسية؛ يخيل لي أنه مصنوع من الخيش (سألت هارو إن كانت ملابسه من الخيش)، كان يعلق على صدره كل أنواع السلاسل، والميداليات، والصلبان، وسن الأيل أو ما شابه، وكان ينتعل صندلا من السيور، صنعه له أحد أصدقائه. كان كام يحصل على إعانات البطالة، ولم يطلب أحد منه أن يعمل، ومن ذا الذي يتجرأ على ذلك؟ كان إذا طلب منه أن يكتب وظيفته فإنه يكتب قسيسا.
هذه حقيقة! إذ كانت هناك مجموعة كاملة تضم من هم على شاكلته ، ويسمون أنفسهم قسيسين، كانوا يمتلكون بيتا في كيتسيلانو؛ حيث يمكث كام هناك أحيانا كثيرة. كانوا في منافسة مع رابطة هير كريشنا، الفرق الوحيد أنهم لا ينشدون الترانيم، فهم يمشون مبتسمين فقط. كانت نبرة صوت كام غير محتملة؛ إذ كانت نبرة رفيعة جدا وناعمة وذات وتيرة واحدة، ولدى سماعي له أتمنى الوقوف بوجهه قائلة: «هناك زلزال في تشيلي، ومائتا ألف شخص لقوا حتفهم لتوهم هناك، وهناك قرية أخرى في فيتنام احترقت، وضربت المجاعة الهند كالعادة.» فقط لأرى هل سيظل ينشد بتلك النبرة الناعمة قائلا: «لطيييف جدددا، لطيييف جدددا.» بالطبع هو لا يأكل اللحوم الآن، فكل طعامه أصبح من الحبوب الكاملة والخضراوات الورقية. ذات مرة دخل المطبخ بينما أقطع بعضا من البنجر - وكان محرما لأنه من الخضراوات الجذرية، الخضراوات الورقية فقط هي المسموح بها لديه - فقال لي: «أتمنى لو تدركين أنك ترتكبين جريمة قتل بفعلتك هذه.»
نظرت إليه شزرا قائلة: «كلا، لكن سأمهلك دقيقة لتخرج من هنا، وإلا ارتكبت جريمة قتل بحق.»
كما ذكرت، كان يبيت بالمنزل بعض الوقت، وقد كان موجودا في مساء الاثنين عندما أحست أمي بإعياء شديد. كانت تتقيأ. قبل هذا بيومين كان قد أقنعها ببدء رجيم الخضراوات - كانت دائما تعده بتجربة الأمر - وكان يقنعها بأنها تتقيأ كل السموم القديمة التي اختزنتها بجسدها جراء تناول اللحوم والسكريات وغيرها. وقال لها إن هذا علامة طيبة، وإنها حينما تتقيأ كل هذا ستشعر بتحسن، لكن على العكس من ذلك؛ فقد استمرت في التقيؤ، ولم تشعر يوما بأي تحسن. كان عليه أن يذهب، حيث يعقد لقاؤهم الأسبوعي في مساء يوم الاثنين بمنزل القسيسين، حيث ينشدون ويشعلون البخور ويحتفلون بالقداس الأسود، على حد علمي بذلك. مكث هناك معظم الليل، وعندما عاد وجد أمي مغشيا عليها بالحمام.
فاتصل بي: «فال، أعتقد أنه من المستحسن أن تحضري الآن وتحاولي مساعدة أمي.» «ماذا حدث لها؟» «إنها ليست على ما يرام.» «ماذا حدث لها؟ دعني أحدثها.» «لا تستطيع.» «لم؟»
أقسم أنه ضحك ضحكة مكبوتة، ثم قال: «حسنا، أخشى أنها قد رحلت.»
اتصلت من فوري بالإسعاف وأبلغتهم بعنوانها، وهكذا نقلت إلى المستشفى في الخامسة صباحا. اتصلت بطبيب العائلة، الذي أتى مصطحبا الدكتور إليس بيل، أحد أفضل أطباء القلب المشهورين في المدينة، وشخصا الحالة على أنها مشكلة بالقلب. ارتديت ملابسي على الفور وأيقظت هارو وأخبرته بما حدث، ثم قدت السيارة مباشرة لمستشفى لايونز جيت حيث لم يسمحوا لي بالدخول إليها قبل الساعة العاشرة؛ فقد كانت بالعناية المركزة. جلست بغرفة الانتظار، غرفة صغيرة بشعة ورطبة، بها كراسي حمراء زلقة، ذات أغطية رخيصة، ومقعد كبير مغطى بالحصى وأوراق الشجر البلاستيكية. جلست هناك والوقت يمر ثقيلا، ساعة بعد ساعة، أتصفح مجلة ذا ريردز دايجيست، أقرأ صفحة الفكاهة، وأنا أفكر: هل هذا يحدث بالفعل؟ حقا؟ هل أمي تحتضر؟ الآن، خلف هذه الأبواب أمي تحتضر. لا شيء يستطيع منع هذا من الحدوث، ولا شيء يمنعني من الإحساس بالأمر بهذا الشكل. بدأت أفكر بكل تفاصيل حياة أمي منذ أن بدأت أعي الأشياء؛ كانت تذهب إلى العمل كل يوم، في البداية بالمعدية وبعد ذلك بالحافلة؛ كانت تتسوق بمتجر ريد آند وايت القديم قبل افتتاح سوبر ماركت سيفواي الجديد. الجديد! كان افتتاحه من خمسة عشر عاما! كانت تذهب إلى المكتبة يوما واحدا بالأسبوع وتصطحبني معها، كنا نعود بالحافلة محملين بمجموعة ضخمة من الكتب وكيس من العنب نشتريه من السوق الصيني ليكون حلوانا. في أيام الأربعاء بعد الظهيرة، كان أطفالي صغارا وكنت أزورها لأحتسي معها كوبا من القهوة، وكانت هي تلف لنا السجائر على تلك الأداة العجيبة لديها. لم أكن أظن أن تلك الأحداث هي الحياة؛ فعندما تنخرط في القيام بها، تكون مجرد أمور تقوم بها، أحداث روتينية تملأ أيامك بها، والآن عندما تفكر أن تلك الأشياء من الممكن أن تزول، حينها فقط تدرك أن تلك هي الحياة. ولكن ليس هذا ما تود حدوثه؛ أن تزول تلك الأشياء وتجد نفسك في خضم الحياة، فأنت مرتاح للكيفية التي تجري بها الأمور، لكنك تتوقع حدوث ذلك. ثم تحتضر أنت، تحتضر أمي ، ويبقى كل شيء كما هو: الكراسي البلاستيكية كما هي، النباتات البلاستيكية كما هي، الحياة العادية بالخارج مع الناس الذاهبين للبقالات، والمتوجهين للمكتبة، هكذا. والآن تبدو العودة بالحافلة محملة بالكتب والعنب تستحق الرغبة فيها. يا إلهي، ليس الآن، أنا مستعدة للتضحية بأي شيء لأستعيد تلك اللحظات.
عندما سمحوا لي بالدخول لرؤيتها، كان وجهها مزرقا، لم تكن عيناها مغلقتين تماما، لكن جفونها مسبلة تاركة فرجة صغيرة لا يظهر منها إلا بياض العينين. دائما ما كانت تبدو مريعة عندما تخلع طقم الأسنان، على كل حال، لم تكن تسمح لنا قط بأن نراها هكذا، ولطالما حاول كام إغاظتها لكبريائها المفرط، أما الآن فلا وجود له؛ لذلك كنت أعتقد أن هذا هو شكلها دائما حتى عندما كانت أصغر، كانت ستبدو مثل هذا.
لم يعطوني أملا بالمستشفى، وعندما أتى هارو نظر إلي وأحاط كتفي بذراعيه قائلا بتأثر: «فال، يجب أن تكوني مستعدة لما سيحدث.» كان سليم النية، لكني لم أستطع محادثته، إنها ليست أمه، إنه لا يستطيع تذكر أي شيء عنها. أعلم أن هذا ليس ذنبه، لكني لم أرد التحدث معه، لم أرد أن أسمعه يقول لي إنه من الأفضل أن أكون مستعدة. ذهبنا لتناول شيء في كافتيريا المستشفى.
عندئذ قال لي هارو: «من الأفضل أن تتصلي بكام.» «ولم؟» «أظن أنه سيرغب في معرفة ما حدث.» «لماذا تظن أنه سيرغب في معرفة ما حدث؟ لقد تركها وحدها مريضة ليلة أمس، ولم يخطر بباله حتى أن يطلب لها الإسعاف عندما وجدها بحالتها هذه هذا الصباح.» «في كل الأحوال أعتقد أن من حقه أن يعرف أين هي، أعتقد أنك يجب أن تخبريه حتى يأتي.» «قد يكون منشغلا عنا الآن؛ لأنه يجهز لجنازة تليق بجماعته من الهيبيين.»
استطاع هارو إقناعي كالعادة، فذهبت مجبرة لمهاتفته، اتصلت ولم يرد أحد، شعرت براحة لأني اتصلت، وبذلك بررت ما كنت أقوله بشأن عدم وجود كام إلى جوارنا. فعدت مكاني أنتظر وحدي.
حوالي الساعة السابعة ذلك المساء ظهر كام، لم يكن وحده؛ فقد أحضر معه زمرة من القسيسين زملائه، أعتقد أنهم من نفس المنزل. كانوا جميعا يرتدون نفس الثياب، تلك الجلاليب البنية المصنوعة من الخيش، وتلك السلاسل، والصلبان، والأدوات المقدسة، وكانوا جميعهم طوال الشعر. كانوا يبدون جميعا في عمر أصغر من كام، ما عدا رجلا واحدا، كان عجوزا جدا، شعره مجعد، ولديه لحية رمادية مموجة، وكان حافي القدمين - في شهر مارس - وبلا أسنان. أعتقد أنهم التقطوه من جيش الخلاص وألبسوه تلك الثياب؛ لأنهم احتاجوا إلى رجل عجوز لجلب الحظ، أو لأنه يمنحهم قدرا أكبر من القدسية، أو شيئا كهذا.
قال كام: «هذه أختي، فال. هذا الأخ مايكل، الأخ جون، وهذا الأخ لويس.» قدمهم إلي جميعا. «لم يقل أحدهم شيئا يبعث على الأمل يا كام، إنها تحتضر.»
قال كام بابتسامته الخفية: «نأمل ألا يكون الأمر هكذا، لقد قضينا اليوم كله نعمل من أجلها.»
قلت متسائلة: «أتقصد تصلون؟» «إن كلمة «نعمل» تصف ما نفعله أفضل من كلمة «نصلي»، هذا إذا كنت تدركين ما نفعل.»
حسنا، بالطبع لن أدرك، فظللت صامتة، في حين استطرد: «ما الصلاة الحقة إلا عمل. صدقيني.» فابتسموا لي جميعا نفس ابتسامته في ذات الوقت. لم يستطع أحدهم الوقوف ثابتا بمكانه، كانوا مثل الأطفال عندما يودون قضاء حاجتهم؛ فهم يهتزون ويميلون يمنة ويسرة بخطوات صغيرة مضطربة.
أضاف كام بنبرة عملية: «والآن أين غرفتها؟»
لم أفكر في شيء إلا أن أمي تحتضر بغرفتها، ومن تلك الفرجة الصغيرة بين جفونها - من يدري، لعلها ترى من حين لآخر - ربما تفتح عينيها لترى ذلك الحشد من الشياطين يقيمون الصلوات حول سريرها. فقدت أمي إيمانها المسيحي منذ أن كانت في الثالثة عشرة من عمرها وانضمت للكنيسة الوحدانية، ثم تحولت عنها لاحقا عندما انقسموا حول شطب اسم الله من الترانيم (كانت هي مؤيدة لذلك)، أقول إذا رأتهم أمي فستقضي الدقائق الأولى من وعيها في محاولة فهم ما يجري، ربما تعتقد أنها عادت بالتاريخ إلى العصور التي يتقافز فيها المختلون أثناء إقامة مراسمهم الجنونية، وتحاول جاهدة تنظيم شتات آخر أفكارها العقلانية وسط ما يفعلونه.
أحمد الله أن الممرضة رفضت دخولهم، وأرسلوا في طلب الطبيب المقيم الذي أجاب بالرفض أيضا. لم يصر كام على الدخول، بل ابتسم وأومأ برأسه لهم كأنه إيذان لهم ببدء شيء ما، بعد ذلك عاد بجماعته إلى غرفة الانتظار، أمام عيني مباشرة، وبدءوا مراسمهم. وضعوا الرجل العجوز بالمنتصف، وبدوره أحنى رأسه وأغمض عينيه - وكان عليهم أن ينقروه ليذكروه بما عليه فعله - ثم جلسوا جميعهم القرفصاء في دائرة غير منتظمة، ووجوههم للداخل والخارج بالتعاقب. بعد ذلك أغمضوا أعينهم، وبدءوا في التمايل للأمام والخلف، ينوحون بكلمات بأصوات ناعمة جدا، لكن ليس جميعهم يقولون نفس الكلام، فكما يبدو، كل منهم يردد كلمات مختلفة عن أخيه، ولم تكن الإنجليزية هي اللغة التي ينوحون بها؛ إذ بدا أنها اللغة السواحلية، أو السنسكريتية أو شيء من هذا القبيل. بدأت أصواتهم تعلو بالتدريج، ثم وقفوا وارتفعت أصواتهم بالغناء بوتيرة واحدة، عدا الرجل العجوز، ظل جالسا وبدا كأنه قد نام، بدءوا يرقصون في هرج، ويصفقون بأيديهم، لكن ليس على نحو متزامن. ظلوا بهذه الحالة فترة طويلة، ومع أن الجلبة التي يحدثونها لم يكن صوتها عاليا بشدة، فإنها استرعت انتباه الممرضات ومعاونيهن، وبعض الناس القليلين المنتظرين مثلي. نظر إليهم الجميع ولم يع أحد ما يحدث؛ فقد كان بحق شيئا لا يصدقه عقل، فعلا جنونيا جدا، بغرفة الانتظار الصغيرة تلك. كل الموجودين كانوا يحدقون كأنهم نائمون ويحلمون بشيء ما يتوقعون الإفاقة منه بين لحظة أو أخرى، ثم أتت ممرضة خارجة من العناية المركزة قائلة: «غير مسموح بكل هذا الإزعاج هنا، ماذا تظنون أنكم فاعلون؟»
ثم أمسكت بواحد منهم من كتفه وهزته؛ إذ ما كانت لتسترعي انتباه أحدهم دون ذلك، أو توقفه عما يفعل.
قال لها: «نحن نعمل لمساعدة امرأة مريضة جدا.» «لا أدري ما الذي تدعي أنه عمل، لكنك لا تساعد أحدا بذلك. الآن أطلب منك ومن أعوانك الانصراف من هنا. معذرة، أنا لا أطلب، بل آمرك.» «أنت مخطئة إذا كنت تظنين أن صوتنا من الممكن أن يضر أو يزعج أحدا هنا، فهذه الشعيرة معدة خصوصا لتلقى بطبقة صوت تصل العقل الباطن وتريح صاحبه، وتستخرج الأعمال الشيطانية التي أودت به إلى هنا، من جسده. إنها شعيرة تمارس منذ خمسة آلاف عام.»
قالت الممرضة، وقد اتسعت حدقتا عينيها عن آخرهما من فرط الدهشة: «يا إلهي! من هؤلاء الناس؟»
اضطررت أن أعلمها أن هذا أخي، ومن معه يمكنك أن تسميهم أصدقاءه، وأنا لا دخل لي بالشعيرة التي يمارسونها، أنا أريد أن أسأل عن أمي، إذا كان هناك تغير بحالتها.
قالت: «لا يوجد تغير.» ثم سألت: «ما الذي يمكننا فعله لنخرجهم من هنا؟»
قال أحد الممرضين: «افتحي خرطوم الماء عليهم.» وطوال هذا الوقت لم يتوقف الرقص أو الطقس الجاري أبدا، أما الشخص الذي توقف للحظات ليشرح للممرضة ما يفعلونه فقد عاد مرة أخرى لموقعه بالرقص. فاستأنفت حديثي للممرضة: «سوف أتصل لأطمئن على حالتها، سأذهب إلى المنزل لبعض الوقت.» خرجت من المستشفى، وفوجئت حينما وجدت أن الظلام قد حل، واكتشفت أني مكثت هنا يوما كاملا، من ليلة إلى الليلة التي تليها. وقفت في ساحة الانتظار وبدأت أبكي، وقلت لنفسي، كام حول المستشفى إلى سيرك لمصلحته، وقلتها بصوت عال عندما عدت إلى المنزل.
أعد لي هارو مشروبا.
قلت: «أمام كام فرصة كبيرة للشهرة، سيصبح مادة خصبة للصحف.»
اتصل هارو بالمستشفى، ليستقصي عن أخبار جديدة، لكن لم يكن هناك جديد: «هل وجدتم صعوبة في إقناع هؤلاء الشباب بترك غرفة الانتظار؟ هل رحلوا بهدوء؟» هارو يكبرني بعشر سنوات، رجل رصين، وصبور جدا مع كل الناس. كنت أحيانا أعتقد أنه يعطي كام نقودا لا أعلم عنها شيئا.
قال لي: «لقد رحلوا بهدوء. لا تقلقي بشأن الصحف، وخذي قسطا من النوم.»
لم أقصد أن أنام على الأريكة، ولكن هذا ما حدث، بعد اليوم الطويل وبعد الشراب. استيقظت على صوت جرس الهاتف، ورأيت نور الصباح ينفذ من الشباك ليضيء الحجرة. تعثرت في طريقي إلى المطبخ، أجر خلفي البطانية التي وضعها هارو علي. استرقت نظرة على ساعة الحائط، وجدتها السادسة إلا الربع. كل ما خطر في بالي أنها قد توفيت.
كان على الهاتف طبيبها الخاص.
قال إن لديه أخبارا مبشرة بالخير؛ فقد تحسنت كثيرا ذاك الصباح عن أمس.
سحبت كرسيا ليسقط جسمي عليه، وارتميت بيدي ورأسي على منضدة المطبخ لألتقط أنفاسي. رفعت سماعة الهاتف مرة أخرى لأسمعه يقول إنها ما زالت بحالة حرجة، وأن الثماني والأربعين ساعة القادمة هي ساعات الحسم، التي ستحدد وضعها بالضبط، وقد أرادني فقط أن أعرف أنها تستجيب للعلاج مبدئيا، دون أن أرفع سقف آمالي. قال إن هذا تطور مفاجئ، نظرا لوصولها المستشفى بحالة متأخرة جدا، وأن ما فعلوه لمساعدتها في البداية بدا أنه غير ذي تأثير كبير، إلا أن تجاوزها الساعات الأولى كان بالتأكيد علامة مبشرة. جال بخاطري أنه لم يعلمني أحد بالأمس عن تلك العلامة المبشرة.
جلست مدة ساعة على الأقل بعدما أغلقت الخط، أعددت كوبا من القهوة سريعة التحضير، كانت يداي ترتعشان لدرجة أني صببت الماء في الفنجان بصعوبة، ولم أستطع بعد ذلك رفعه إلى فمي، فتركته حتى برد. أخيرا أتى هارو مرتديا منامته، ألقى علي نظرة سريعة وقال: «على رسلك يا فال، هل توفيت؟» «كلا، بل أصبحت أفضل إلى حد ما، إنها تستجيب للعلاج.» «لكن منظرك يوحي بالعكس.» «كل ما هنالك أني مندهشة.» «لم أكن لأراهن على نجاتها أمس.» «أعرف، أنا أيضا لا أصدق.»
قال هارو: «إنه التوتر، أعلم ذلك؛ فقد هيأت نفسك لحدوث شيء سيئ، وعندما لم يحدث شعرت بذلك الإحساس الغريب، لم تشعري بالسعادة لدى سماعك لهذا، هذا الإحساس يشبه خيبة الأمل تقريبا.»
خيبة الأمل! ظل معنى تلك الكلمة يلازمني. كنت سعيدة بحق، وممتنة، لكن بأعماقي كنت أفكر، فبعد كل ذلك لم يتسبب كام في قتلها، بإهماله وجنونه وتجاهله لها، هو لم يقتلها، بل أنا كنت أقتلها! نعم كنت أقتلها. شعرت بأسى كبير يعتري جزءا مني عندما اكتشفت أن تلك هي الحقيقة. أعلم أن هارو يدرك ذلك، لكنه لن يتحدث معي أبدا بهذا. هذه هي الحقيقة التي صدمتني، وجعلتني لا أكف عن الارتعاش على هذا النحو؛ لا علاقة للأمر بأن أمي ستموت أو ستكتب لها النجاة، بل بما عرفته عن حقيقتي بجلاء.
تحسنت أمي، نجت من وعكتها، وبعدما استعادت قواها، لم تنتكس مرة أخرى. ظلت بالمستشفى ثلاثة أسابيع، ثم عادت إلى المنزل واستمرت بفترة نقاهة ثلاثة أسابيع أخرى، ثم عادت إلى العمل، وأنقصت من عدد ساعات عملها؛ حيث أصبحت تعمل من العاشرة حتى الرابعة، بدلا من الدوام الكامل؛ ما يطلق عليه دوام ربات البيوت. ومن حينها أخذت تحكي لكل الناس عن كام وأصدقائه عندما أتوا للمستشفى، كانت تقول أشياء من قبيل: «حسنا، لم ينجح ابني في أي شيء إلا أنه يمتلك موهبة لإنقاذ الأرواح، يجب على المرء الاعتراف بذلك.» أو تقول: «ربما يجب على كام العمل بمجال المعجزات، فما فعله معي معجزة بكل تأكيد.» أما كام فكان يقول حينئذ، كما يقول الآن، إنه غير مطمئن تماما لهذا الدين؛ فقد سئم من هؤلاء القساوسة، وسئم من عدم أكله اللحوم، والخضراوات الجذرية. كان يقول إنها مرحلة في حياته، وإنها تجربة سعد بخوضها، وكانت مرحلة لاستكشاف الذات. ذات يوم عندما كنت بالمنزل وجدته يقيس حلة من ملابسه القديمة وربطة عنق، قال إنه سيجرب الالتحاق ببعض دورات تعليم الكبار؛ إذ يفكر في أن يصبح محاسبا.
كنت أنا نفسي أفكر كيف أنني تغيرت، وأنني أصبحت إنسانة مختلفة تماما عما كنت عليه، كنت بالفعل أتأمل ذلك، قرأت كتابا اسمه «فن الحب»، وأثناء قراءتي له بدأت الأمور تتكشف لي أوضح، لكن بعد فترة من قراءتي له عدت كما كنت تقريبا. كان هارو يقول لي على كل حال ما الذي اقترفه كام ليجرحك بهذا الشكل، وكيف أنني صرت أفضل حالا منه بعد ما مررت بذلك الإحساس في الليلة التي كتبت فيها النجاة لأمي ولم تمت! قطعت وعدا على نفسي أني سأحاول. ذهبت إليهم ذات يوم، وأحضرت لهم كعكة مخبوزة - التي يأكلها كام الآن بسعادة غامرة مثل أي شخص آخر - فسمعت أصواتهم في الفناء؛ إنه الصيف حيث يحبون الجلوس تحت الشمس، وسمعت أمي تقول لأحد الزائرين: «أوه، كنت على وشك أن ألقى نحبي، ثم أتى كام، ذلك المعتوه، أتى ليرقص أمام الباب مع أصدقائه المجانين ...»
زمجر كام قائلا: «يا إلهي، كم مرة أقول لك يا امرأة إنهم أعضاء رابطة قديمة مقدسة.» لكن يمكن القول إنه لم يعد يبالي الآن.
كان لدي إحساس غريب، كنت أشعر كمن يمشي على الجمر ويجرب تعويذة كي لا يحترق بلهيب النار.
التسامح العائلي هو لغز بالنسبة لي، كيف يتحقق وكيف يستمر؟ لا علم لي.
قل لي نعم أو لا
دائما ما أتخيلك ميتا.
لقد قلت لي إنك أحببتني منذ سنوات مضت، منذ سنوات. وقلت لك إنني أحبك أيضا، كنت واقعة في حبك حينذاك. كانت تلك مبالغة. •••
في تلك الأيام كنت فتاة صغيرة، ولكن لم أكن أدرك ذلك؛ لأن الأعراف كانت مختلفة آنذاك. فبينما ترسل فتيات هذه الأيام شعرهن إلى خصورهن، ويسافرن عبر أفغانستان، متنقلات في خفة وسلاسة - كما يبدو لي - بين عشاقهن العابرين المتنوعين والأبرياء، كان النعاس يغلبني وأنا أغسل الحفاضات، مرتدية روبا قطنيا أحمر واجهته مبللة، وكنت أدفع عربة أطفال على طول الطريق المؤدي إلى المتجر (ومن كثرة اعتيادي على دفع العربة كنت أشعر من دونها بخفة مثيرة للقلق وبضرورة إعادة توزيع وزن جسمي فأميل إلى الخلف). كنت أقرأ وأروح في النوم على الأريكة في المساء. كانت أحوالنا نحن النساء في عصري يرثى لها لما نقوم به من عمل شاق، ونحن ذاتنا كنا نشعر بالرثاء لأنفسنا، ولكن، للحقيقة، لم يكن الأمر سيئا دائما، بل كان في بعض الأحيان مريحا؛ الأعمال المعتادة، والمكافآت الصغيرة من القهوة والسجائر، وتبادل الأحاديث المحبطة والفكاهية التي نحاول إضفاء الرسمية عليها مع نساء أخريات، وأحلام النوم المترفة.
في ذلك الحين كنا نعيش في مجتمع يسمى الأكواخ، على حافة الحرم الجامعي، التي كانت في الحقيقة معسكرات للجيش تستخدم مأوى للطلبة المتزوجين. أخذت أقرأ رواية «الجبل المسحور» طوال شتاء كامل؛ إذ كنت أروح في النوم فتقع الرواية على صدري. في بعض الأحيان كنت أقرأ بصوت لدوجلاس، عندما يكون مرهقا للغاية بحيث لا يستطيع بذل مزيد من الجهد، وعندما أنهيت قراءة «الجبل المسحور» كنت أعتزم قراءة رواية «البحث عن الزمن المفقود». كنا نترنح وصولا إلى السرير يحتضن كل منا الآخر يجمعنا الاشتياق إلى النوم، ولكني كنت أقوم عن الفراش من حين لآخر في وقت لاحق وأدخل الحمام لأضع العازل الأنثوي حتى لا يحدث حمل. ولو نظرت من النصف العلوي لنافذة الحمام خلال الفجوة في الستائر البلاستيكية لاستطعت رؤية الأنوار في نوافذ بعض حمامات المستعمرة الأخرى، ويمكنني تخيل الزوجات الأخريات وهن يؤدين نفس مهمتي في المساء ويضعن العازل الأنثوي. فالمخلوقات ذوات الاستخدام النهاري اللاتي لا تراهن بعيدات عن الرضع ومواقد الكيروسين وأحواض الغسيل يتحولن الآن إلى الاستخدام المسائي لهن بما يصاحبه من شعور - سرعان ما يخبو - بالذنب والتألق في الوقت ذاته. أتذكر في ذلك الزمن البعيد - من أربع أو خمس سنوات؛ إذ تبدو تلك الفترة مدة طويلة في الواقع بالنسبة لي - كيف أن الجنس كان يبدو لي مروعا (كنا نقرأ أعمال لورانس، وكانت العديدات منا عذارى حتى سن العشرين). أما الآن فقد تقلصت تلك العلاقات إلى علاقات خاطفة رتيبة تحتضنها بشكل مناسب بما فيه الكفاية هذه المآوي ولا تخرج عنها. لم أشعر بشيء ملموس جدا في حياتي كما شعرت بالحرمان. وببساطة شعرت بالتغيير كما يشعر المرء بتضاؤل بهجة الكريسماس. ظننت أن مثل تلك التغييرات قد حدثت لأنني كبرت وصارت الأمور مملة بالنسبة لي. الكلمة التي دأبنا على استخدامها هي «ناضج»؛ حيث كنا نلتقي شخصا كنا نعرفه منذ بضع سنوات مضت فنقول إن هذا الشخص قد نضج كثيرا. لعلك تعرف كما يعرف الجميع الأوهام التي كنا نشترك فيها جميعا في الخمسينيات؛ فمن السهل جدا أن تسخر منهم، وأن تقول إن من علامات النضج امتلاك غسالات أوتوماتيكية وكتمان السخط السياسي وإدمان إنجاب الأطفال واقتناء السيارات. سهل جدا ولكنه ليس الحقيقة كاملة؛ لأنه يتغافل عن شيء كان جذابا، كما أعتقد، في منطقة ثقلنا وسيطرتنا: حبنا للحدود.
لم يكن للخيانة مكان في الأكواخ ولا في أي مكان آخر كنت أعرفه. كان يعيش كل منا بالقرب من الآخر، وكنا فقراء ومشغولين لأبعد الحدود. كان هناك قليل من ومضات الشهوة في الحفلات، وربما لم يكن بمقدورنا تحمل مصاريف الشرب بما يكفي لتطور الأمر. تقول إنك واقع في حبي فأرد عليك بأنني واقعة في حبك، ولكن الحقيقة مختلفة بالتأكيد. من المرجح أننا كنا نستشف فكرة ما، من خلالنا، فكرة لم نفكر بها من قبل؛ نحيتها أنت جانبا أو لم أكتشفها أنا بعد.
تذكرت نفس اليوم الذي تذكرته أنت، عندما التقينا قبل عامين بشكل غير متوقع تماما في مدينة لم يكن أي منا يعيش فيها. تحدثنا عن الأمر بعدما شربنا الكثير من النبيذ على غدائنا المرتجل. «ذات يوم ذهبنا للتمشية، واضطررت إلى رفع ذلك الشيء ...» «عربة أطفال، كانت فيها جوسلين حينذاك.» «فوق الصخور والوحل كما أتذكر.»
في يوم مشمس، يوم جميل دافئ في فصل الربيع بشهر أبريل أو ربما مارس، ذهبت إلى الصيدلية في مركز التسوق بالحرم الجامعي مرتدية معطفي الشتوي الثقيل؛ لأنني لم أكن أعتقد أنه يوم دافئ كما بدا في الظاهر، وما إن رأيتك حتى تمنيت لو أني رجعت إلى المنزل وصففت شعري من جديد بعناية أكبر وارتديت معطفي الرمادي الصوفي الأنيق. لم يكن بمقدوري خلع معطفي الشتوي الثقيل؛ لأنني كنت أرتدي حينذاك قميصا سكبت عليه جوسلين عصير البرتقال.
أنا لا أعرفك جيدا؛ فقد كنت تعيش في أقصى الجهة الأخرى من الأكواخ. كنت أكبر سنا من معظمنا، وقد عدت إلى الجامعة معيدا، آتيا من الحرب وعالم العمل الواقعي (وقد أخطأت إذ لم تبق هناك، فاستقلت وحصلت على وظيفة في مجلة بعد ذاك اليوم الذي تمشينا فيه). كانت زوجتك تستقل سيارتها كل صباح للتدريس في مدرسة الرقص. كانت صغيرة سمراء البشرة ذات طابع غجري وواثقة بنفسها إلى حد بعيد مقارنة بالزوجات الناعسات المشوشات المقيمات بالمنزل.
تجاذبنا أطراف الحديث أمام الصيدلية، وقلت إن الجو اليوم ألطف من أن نمضيه في العمل، وأنه يجدر بنا التمشية. لم نتوجه إلى الحرم بطرقه الواسعة المعبدة، بل ذهبنا إلى رقعة برية تكسوها الغابات جزئيا تطل على النهر؛ حيث دأب الطلاب - غير المتزوجين بالطبع - ممارسة الحب على عجل بالنهار وممارسته كاملا بالليل. لم يكن هناك أحد ذلك اليوم؛ فقد كنا لا نزال في وقت مبكر من العام، وكان سخاء الطقس مفاجأة للجميع، كما كنا في مكان يصعب المشي فيه بعربة أطفال، وكما قلت، كان عليك رفعها فوق الصخور والطرقات الموحلة. واضطررنا إلى أن يتمحور حديثنا حول صعوبات متشابهة. لم نقل شيئا ذا أهمية، لم يلمس أينا الآخر، أخذ ضيقنا يزداد شيئا فشيئا بعدما تبين لنا أن مشيتنا تلك لن تسفر عما تظاهرنا بأننا نريد فعله - الاستمتاع بساعة من الصحبة البريئة في نهار يوم جميل - ولا عما كنا نريد فعله في الحقيقة. كان هذا النوع من التوتر جديدا علي في ذلك الحين، ولم يكن بمقدوري تقييم الموقف والاحتيال كما اعتدت لاحقا مع غيرك من الرجال، ولم يكن بمقدوري حتى التيقن من أن الأمر يتجاوز حدودي الشخصية. ودعتك وأنا أشعر كما لو أنني تصرفت بطريقة خرقاء مملة في تلك المواعدة. في اليوم التالي أو الذي يليه عندما كنت أقرأ كالعادة على الأريكة، شعرت بخيالي يسرح بعيدا وأنا أفكر فيك، وكانت تلك البداية، على ما أعتقد؛ إدراك المزيد مما لا يزال مخبأ لي؛ ومن ثم قلت لك: «لقد وقعت في الحب.»
هل تريد أن تعرف كيف تلقيت نبأ وفاتك؟ ذهبت إلى مطبخ الكلية لأعد لنفسي كوبا من القهوة قبل فصل الساعة العاشرة، فدخلت علي دودي تشارليز التي تخبز شيئا دائما وأحضرت معها كعكة كرز متناسبة المكونات (الشيء الذي نجيده نحن جيل الخبرة، في خضم تلك الفانتازيا، هو أهمية التفصيل والتماسك؛ نعم، كعكة كرز متناسبة المكونات). كانت الكعكة ملفوفة في ورق شمعي ثم في ورقة جريدة، جريدة ذي جلوب آند ميل وليس الجريدة المحلية التي كنت قد قرأتها. كنت أنظر متكاسلة إلى تلك الجريدة التي مضى على تاريخ صدورها أسبوع كامل منتظرة غليان الماء، فرأيت عنوانا مكتوبا بخط صغير يقول: «وفاة صحفي معاصر للحرب». فكرت في عبارة «معاصر للحرب»؛ هل يقصد بها شخص خاض حربا بالفعل أم أنها مجرد صفة تفيد عمله الطويل؟ مع أنها في هذه الحالة قد تشتمل على كلا المعنيين حسبما أعتقد، بما أن العنوان يقول إن المتوفى كان مراسلا صحفيا في زمن الحرب؛ ثم رأيت الاسم: إنه اسمك. ثم المدينة التي عشت ومت فيها، بسبب أزمة قلبية.
اعتدت حمل آخر رسالة لك في محفظتي أينما ذهبت، وعند وصول الرسالة التالية أستبدلها بها وأضع الرسالة القديمة في صندوق بخزانتي مع كافة الرسائل السابقة. وكنت أحب إخراج الرسالة الجديدة من محفظتي وقراءتها من حين لآخر، وأنا جالسة في المقهى مثلا أو أثناء انتظاري في عيادة طبيب الأسنان، وبمضي الزمن لا أخرجها من محفظتي مطلقا، بل وأكره منظرها وهي مطبقة وحوافها مثنية تذكرني بالأسابيع والشهور التي مرت وأنا أنتظر رسالتك الجديدة. ولكني أتركها هناك، لم أضعها في الصندوق. لم أجرؤ.
الآن وبعد أن درست لفصلي وتناولت الغداء مع زملائي وقابلت طلابي وفعلت كل ما هو مطلوب مني، عدت إلى البيت وأخرجت تلك الرسالة - الرسالة الأخيرة - من محفظتي، ووضعتها مع باقي الرسائل وأبعدت الصندوق بعيدا عن ناظري. لقد فعلت ذلك عامدة ودونما شعور بالذنب تقريبا؛ نظرا لأنني فكرت في تلك الخطوة من قبل. أعد مشروبا وأواصل حياتي.
كل يوم عندما أعود من التدريس أرى صندوق البريد، وحقيقة أشعر بنوع من السعادة نابع من عدم الانتظار؛ إذ ظل ذلك الصندوق الصغير محور حياتي مدة عامين، والآن فإن مجرد رؤيته كشيء عادي مرة أخرى - رؤيته كشيء لا يعد بشيء أو يخفي شيئا ذا أهمية كبيرة - أشبه بالشعور باختفاء ألم مبرح. ما من أحد يعرف أنني فقدت شيئا، ما من أحد يعرف ذلك الجزء من حياتي، إلا في العموم عن طريق القيل والقال؛ فعندما جئت أنت إلى هنا لم نكن نرى الناس؛ لذا فأنا قادرة على مواصلة حياتي كما لو أن شيئا لم يحدث، ولكن بعد فترة من الزمن أخبرت أحدهم، رجلا يعمل معي اسمه جوس ماركس انفصل مؤخرا عن زوجته ويصطحبني إلى الغداء ونظل نشرب حتى يحكي كل منا قصصه، وبعدها غالبا ما نذهب إلى الفراش بدعوة مني. جوس رجل مشعر وحزين، أما أنا فمهتاجة، وهو ما فاجأني. منذ بضعة أيام دعاني على فنجان قهوة قائلا: «قلقت عليك، وتساءلت إذا ما كان عليك زيارة ... أحدهم.» «تقصد طبيبا نفسيا؟» «حسنا. لمجرد التحدث معه.» «سأفكر في الأمر.»
ولكنني ضحكت عليه في سريرتي؛ لأنني كنت أضمر خطة أخرى. فبمجرد انتهاء الفصل الدراسي في أواخر أبريل كنت أعتزم زيارتك وزيارة المدينة التي مت فيها، والتي لم أزرها قط؛ فهذا لم يكن واردا على الإطلاق. كان التطلع إلى تلك الرحلة يبقيني سعيدة أيما سعادة. اشتريت نظارة شمسية على أحدث طراز وملابس جديدة متألقة.
الحب ليس شيئا لا مناص منه؛ فالاختيار جزء منه. كل ما هنالك أنه من الصعب معرفة متى يقع الاختيار ولا متى يصبح لا رجعة فيه، حتى إن بدا حبا طائشا. فما من إشارات تحذيرية تسبق ذلك. أتذكر جلوسي معك على الغداء وحينما قلت لي: «أحبك. أحبك الآن.» عندها تجاهلتك وأنا أنظر لنفسي في مرآة المطعم وشعرت بالإحراج منك. فكرت: يعلم الله لم تتصنع الشهامة؛ ولم آخذ كلامك على مجمل الجد، وفكرت في أنك في لحظة ما ستنظر إلي وترى أنك قلت هذا للمرأة الخطأ، لامرأة فقدت كل مقومات الجمال وباتت لا تصلح لتلك الصفات؛ فقد طرحت من ذهني منذ وقت طويل علاقات الحب والقصص العصيبة التي يمكن أن تتقاطع مع سير حياتي الطبيعي. أقلعت عن استخدام أصباغ الشعر السوداء ولم أعد أضع على وجهي خلطات شد البشرة مثل بياض البيض أو الشوفان المخلوط بالعسل أو كريمات الهرمونات، ولا أحمر الشفاه أو أي شيء من هذا القبيل.
ثم فهمت أنك كنت تعني ما قلته، وبدا لي أكثر من أي وقت سابق أنك مخطئ بالتأكيد.
فسألتك: «أأنت متأكد من أنك لا تقصد شخصا آخر؟»
فأجبت : «لم تتدهور حالتي العقلية إلى هذا الحد.»
قبل هذا كنا نتحدث في سهولة، وقد سألت عن زوجتك. «لم تعد تمارس الرقص بسبب عملية جراحية في ركبتها.» «لا بد أن توقفها عن النشاط والحركة كان صعبا عليها.» «إنها مشغولة الآن؛ فلديها مكتبة.»
سألتني عن دوجلاس وأخبرتك أننا تطلقنا. أخبرتك أن الطفلين رحلا بعيدا عني، كلاهما رحلا هذا العام وللمرة الأولى؛ فأخبرتني أنك ليس لديك أطفال. كنت أنا ثملة قليلا حتى إنني أخبرتك كيف أن دوجلاس في العامين الأخيرين كان يكلم نفسه طوال الوقت، وأنني كنت أختبئ خلف الستائر وأشاهده يكلم نفسه ويقهقه ضاحكا، ويلوي قسمات وجهه لصنع تعبيرات تنم عن التقدير أو النفور وهو يجزز العشب. والأنكى من كل ذلك حديثه مع نفسه الذي ينهمك فيه بكل جوارحه أثناء حلاقة ذقنه، مع ما تفعله ماكينة الحلاقة الكهربية من حجب صوته والتشويش عليه. وقد أخبرتك أنني أدركت أخيرا أنني لا أريد معرفة ما يقول.
أقلعت طائرتي في الساعة الرابعة والنصف، في حين اصطحبتني أنت بسيارتك من المدينة إلى المطار. لم أشعر بالحزن لفكرة تركك وعدم رؤيتك مرة أخرى، مع أنني كنت جد سعيدة بالركوب بجانبك في السيارة. كنا في شهر نوفمبر وسرعان ما أصبحت السماء ملبدة بالغيوم بعد الساعة الثالثة فأضأت مصابيح السيارة. «أتعلمين، يمكنك استقلال الطائرة التالية.» «لا أعلم.» «يمكنك المجيء معي إلى الفندق والاتصال بالمطار لإلغاء الحجز، والحجز في الرحلة التالية.» «لا أعرف. كلا، لا أعتقد أنني أستطيع فعل ذلك، فأنا متعبة للغاية.» «أنا لا ألح عليك كثيرا.» «كلا.» كان كل منا يمسك يد الآخر طوال الطريق في السيارة. خلصت يدي وأومأت بإشارة تعني أنني متعبة من شيء آخر - تجربة مررت بها؟ - وأعدتها بيسر مرة أخرى. لم أكن متأكدة أنا نفسي مما أعنيه، ولكنني توقعت أنك ستفهم، وكنت عند حسن ظني.
استدرنا بالسيارة متجهين إلى طريق سريع شمال المدينة؛ وحينما سلكنا طريقا جانبيا منه اتجهنا غربا. كانت خطوط الأفق بين الغيوم تتلون باللون الوردي الناري. بدت أضواء السيارات وكأنها تشكل نهرا جاريا، ميلا بعد ميل. كان كل شيء أشبه برؤية العالم - رؤية غير ثابتة هادئة ومطمئنة تماما - الرؤية التي اعتدتها وأنا في حالة سكر. قلت لنفسي، ولم لا؟ جاءني خاطر يحثني على الثقة فيك، الطفو فوق اللحظة الحاضرة، الأمر الذي قد يمتد إلى ما لا نهاية. لم أكن ثملة. كنت ثملة على الغداء، ولكن لم أعد كذلك. «لم لا؟» «لم لا، ماذا؟» «لم لا نذهب إلى فندق ونتصل بالمطار لإلغاء الحجز والحجز في رحلة تالية؟»
قلت لي حينئذ: «هذا ما رجوته منك.»
هل تعتقد أن تلك هي لحظة الاختيار، لحظة أن رأيت السماء وأضواء السيارات؟ لم تبد لحظة جادة بأي حال من الأحوال. كان الفندق/النزل مبنيا بحجارة بيضاء، وكانت الجدران في الداخل كما في الخارج تماما، حتى إن الستائر والسجاجيد الموحية بالثراء والأثاث الثقيل المقلد ذا الطراز الإسباني كانت تبدو على نحو لا ذوق فيه ينم عن التنافر، وكأن الحجرات مآو مؤقتة جرداء. كانت الصورة التي يمكننا رؤيتها ونحن بالسرير تظهر قوارب برتقالية، ومباني قاتمة وأخرى برتقالية تنعكس على صفحة الماء الزرقاء الداكنة. وحكيت لي قصة الرجل الذي اشتهر بالتخصص في رسم الصور للفنادق، فكان يرسم القوارب وطيور البشروش وصور العراة الذين لفحتهم الشمس، لا أكثر ولا أقل. وقلت لي إنه جنى الكثير من المال من ذلك العمل.
دوت الطائرات فوق رءوسنا في سماء المنطقة، في بعض الأحيان لم أستطع سماع ما قلته، حتى عندما كان وجهك ملامسا لوجهي، ولم أستطع أن أطلب منك تكرار ما قلته؛ إذ كنت سأشعر بسخافة تلك الفكرة. وعلى أي حال فإن مثل تلك الأشياء غير قابل للتكرار في العادة. ولكن ماذا لو سألتني سؤالا، ومع عدم سماعك جوابا مني لم تقدر أن تعيد علي السؤال؟ عذبني هذا الاحتمال كثيرا في وقت لاحق، عندما أردت أن أعطيك كل الإجابات التي كنت تأملها.
ارتعشنا معا في آن واحد، واستطعنا السيطرة على أنفسنا بالكاد؛ إذ كان يغمرنا - نحن الاثنين - شعور بالامتنان والدهشة، طوفان من الحظ والسعادة غير المستحقة، غير المشروطة، وغير المصدقة تقريبا. توقفت الدموع في أعيننا، هذا شيء لا يمكن إنكاره. نعم.
لو كنت رجلا التقيته ذلك اليوم أو في ذلك الوقت من حياتي، أكنت سأحبك؟ ليس كثيرا. لا أعتقد ذلك. ليس كثيرا. لقد أحببتك لأنك تربطني بماضي، بشبابي وأنا أدفع عربة الأطفال على طول طرقات الحرم الجامعي، وأنا بريئة دون أي جريرة اقترفتها. لو كان بمقدوري إذكاء شرارة الحب حينذاك وحملها معي الآن، لكنت بددت من حياتي أقل مما أعتقد، أقل كثيرا مما أعتقد. إن حياتي لم تنهر تماما، بل ضاعت بين السكك والدروب. •••
ثم قررت الرحيل في الأول من مايو، وبذلك يكون أمامي ما يقرب من الشهرين دون أي مسئوليات قبل عودة الأطفال، وقبل بدء مدارس الصيف. وأطير إلى المدينة التي كنت أرسل منها رسائلي طوال هذا الوقت، رسائلي الفرحة، رسائلي الحافلة بالثرثرة والأسرار الخاصة، رسائلي القلقة والمتوسلة، التي كنت سأواصل إرسالها لو أنني لم أكن لماحة بما يكفي لأن ألاحظ نبأ وفاتك.
إنها المدينة التي عشت أنت فيها، والتي وصفتها لي في تهكم وإن كان عن رضا عنها في رسائلك. تلك المدينة التي تعج بالعجائز وبالسائحين الحيارى؛ كلا، بل العجائز، «مثلي»، على حد وصفك، مدعيا كالعادة أنك أكبر من سنك الحقيقي. لطالما أحببت فعل ذلك، أي التظاهر بالإرهاق والكسل، وإظهار لامبالاتك. وقد رأيت أن إخبارك بالحقيقة فيه شيء من التصنع. الشيء الذي لم أستطع تصديقه، الذي لم يكن لدي من الخيال ما يكفي لتصديقه، هو أن ذلك قد يكون حقيقيا؛ فقد أخبرتني ذات مرة أنك لا تهتم على الإطلاق بموتك في القريب العاجل أو امتداد العمر بك خمسا وعشرين سنة قادمة. مجرد تجديف من عاشق ولهان. أخبرتني أنك لا تفكر في السعادة، وأن العالم كله لا يساوي عندك شيئا. كنت أرى أن مثل تلك الآراء إنما تنم عن غطرسة بينة، لا سيما وأنها تصدر عن رجل مسن مثلك وكأنك في ريعان شبابك، بيد أنني لم أكن أرغب في إقلاق نفسي لفهم رجل كانت هذه التصريحات بالنسبة له حقيقة مؤكدة، رجل لديه قدر من الطاقة المستهلكة أو المنسية كليا. مع أنني قد توقفت عن صبغ شعري وحسبت أنني تعلمت أن أعيش بمستوى بسيط من التوقعات، إلا أنني كنت أؤمل فيك كثيرا، آمالا كبارا. لقد رفضت رفضا قاطعا، وما زلت أرفض، أن أراك كما ترى نفسك فيما بدا لي.
كتبت لي ذات مرة، قائلا:
كلما فكرت فيك شعرت أنك تغمرينني بفيض من الدفء والأحاسيس، ولما كنت إنسانا كغيري من البشر فقد خشيت أن أغرق في أعماق فيضانك.
فكتبت ردا عليك أنني مجرد نهير صغير يمكنك خوضه بكل بسهولة. وعلى العموم أنت أدرى.
لكم حاولت أن أفتنك وأضللك، حتى ذلك الحين، سواء في رسائلي أو عندما التقينا معا! أصبح نصف اهتماماتي في الحب منصب على كيفية إخفاء الحب، جعله غير ضار ومبهجا. ويا لها من تمثيلية مهينة! أما أنت فكنت تبتسم بطريقة معينة، طريقة لطيفة: أعتقد أنك كنت خجلا للغاية من أجلي.
وجدت بناية سكنية على مقربة من البحر، يرجع تاريخها إلى العشرينيات فيما أعتقد، مبنى مطلي بالجص الأصفر الكريمي، ذو نوافذ متهالكة، تعلو بابه ميدالية خالية من النقوش والكتابة ومخطوطة يصعب تفسير رموزها. كثير من العجائز، كما قلت لي، يمشون في ضوء البحر المتلألئ. خرجت إلى الشوارع ومشيت في كل مكان. لا أريد تجشم عناء الذهاب إلى المقبرة؛ فأنا لا أعرف في أي مقبرة أنت مدفون، على أي حال. مشيت على الأرصفة التي ربما مشيت أنت عليها ذات يوم وأخذت أنظر إلى الأشياء التي نظرت إليها بالتأكيد، والنوافذ التي ارتسم انعكاس صورتك عليها قد عكست صورتي كذلك عليها. إنها لعبة. أجد هذه المدينة مختلفة تماما عن المدن التي اعتدتها؛ فشوارعها شديدة الانحدار، وبيوتها المطلية بالجص الباهت، الكثير منها مسطح الأسطح ومبني على ذلك الطراز الغريب الذي يشبه طراز محطات البنزين والمسمى قبل الحرب العالمية الثانية بالطراز «الحديث». أما نوافذ الزينة المستطيلة فهي من الطوب الزجاجي السميك. في بعض الأحيان تجد سقفا مبنيا على الطراز الإسباني، أو بوابات أو أرضيات لا تتناسب مع ما حولها. الحدائق الشهيرة التي تمتاز بزهور الوردية والأزالية والكوبية بألوانها الحمراء والبرتقالية والأرجوانية التي تبهر العيون، وزهور التيوليب الكبيرة مثل الكئوس تتباهى في جمال لانهائي. أما المحال التجارية فهي غريبة جدا بالنسبة لأي شخص قادم من مدينة صناعية أو جامعية، بالرغم من وجود الملابس المبهرجة بمراكز التسوق، غريبة لشخص اعتاد قدرا من الاحتشام والمهنية: محال الآيس كريم المواكبة للقرن العشرين، وبضائع الغرب الجامح الرياضية، وأزياء هاواي الفضفاضة المزينة بأشجار النخيل، إضافة إلى مقاهي تيودور التي تزدان أسقفها بالجملونات المستدقة، والصنادل ذات السيور في متاجر أشبه بالكهوف تصدر منها أصوات مسجلة لضوضاء الغابة. إلى جانب محال السكاكر المصممة واجهتها على شكل قلاع صغيرة، وينتشر هذا الطراز التنكري ويتنوع إلى حد الضجر منه. ذات يوم ذهبت إلى السوبر ماركت لشراء بعض الخبز والبرتقال فوجدت موظف تحصيل النقدية فتاة ترتدي كيسا من الخيش ووجهها ملطخ بالطين وطلاء أحمر، كما أنها تضع عظمة بلاستيكية مغروسة بشعرها. كانوا يسعون إلى ترويج الزبيب واللحم البقري الأسترالي، لكنها ابتسمت في وجهي ابتسامة إنسانية تشي بالضجر من بين الطين والطلاء، مما طمأنني بأن هناك شخصا في أغلب هذه الأماكن يمكنه الشعور بذلك.
وجدت نفسي أبحث في تلك الشوارع عن بعض ذكرياتك؛ إذ بحثت ذات مرة عن إشارات في مقالاتك التي كتبتها للصحف والمجلات، في الكتب التي ألفتها بحرفية لخدمة قضايا الآخرين، وليس لشخصك. لكم كانت كتاباتك مسلية وحافلة بالمعلومات حيث كنت على قدر عظيم من المهارة أهلك لتحظى بأسلوب بديع، إلا أنك تراجعت، حتى عن ذلك. سمعت نفسي أتساءل، أهذا كل ما هنالك؟ فيما كنت أنت تستغرق في الضحك وتقول: وهل هناك من مزيد؟ غير أنني لم أقتنع، فظللت وراءك، رغبة مني في أن تشفي ما يجول داخلك.
لو كان علي أن أصفك، كما أراك في سريرتي، لقلت إنك عنيد، وحينئذ كنت ستسارع قائلا بنفاذ صبر إنك كنت متساهلا طوال حياتك. ولكن ليس هذا ما أعنيه؛ فما أقصده أنك عنيد، قاس على نحو مبالغ فيه (جسمانيا وروحيا)، عفيف ولطيف، ولكنك لست شفوقا. أود أن أؤكد على أنك تتمتع بشيء من الشهامة، وأتوقع منك - شأنك شأن الفرسان النبلاء - أن تنتهج سلوكيات عفى عليها الزمن تنم عن التضحية بالنفس، وأيضا عن سلوكيات وحشية مثيرة للإعجاب، تقوم بكل منهما بأسلوب ينم عن انتمائك لمنظمة سرية.
من ناحية أخرى، فإنك كنت ستصف نفسك بالأنيس، الفاسد، الأناني عادة والمحب للمتع. كنت ستنظر إلي من فوق نظارتك كما لو كنت مدرسا دمث الخلق متصلب الرأي أثار أسلوبي المتطرف حنقه. وسيكون علينا حينئذ أن ننظر إلى وقوعي في الحب، بالطريقة التي أحب بها، كما لو كان تهورا ستساعدني على الشفاء منه، اقتراحا ستفرضه علي بما لك من سلطة في مقال من المقالات.
بطبيعة الحال، كنت أعرف منذ البداية أن الحياة بتلك الطريقة أمر بالغ الخطورة؛ فالعلاقات قابلة للانهيار في أي لحظة، وقد انهارت بالفعل، وليس بمقدور أحد كائنا من كان أن يضع يده على مكمن الفشل، شئنا أم أبينا؛ وليس هناك أحد أستطيع أن أشكو له وأبوح إليه. وكالعادة تصل النجدة في آخر لحظة: رسالتي الساخطة الموجزة المعبرة عن يأسي الشديد، ثم رددت علي برسالة اعتذار مفعمة بروح الدعابة تفيض بالرقة إلى حد ما، تقول لي فيها ليس هناك أي خطر. كنت أقف على أرض صلبة طوال الوقت ما لم تتركني وحدي. كما لو أن هذه الحفرة التي وقعت فيها، والمتمثلة في غيابك الدائم، ليست سوى حلم أخوف نفسي به، أو في أسوأ الأحوال مكان لا أملك إلا أن أصرخ منه بصوت عال بما يكفي طلبا للمساعدة، مؤمنة بقدوم المساعدة، وتأتي المساعدة.
وجدت نفسي أقرأ مقالات في المجلات النسائية، تجارب سابقة مرت بها النساء. عندما أستعيد روحي المعنوية، أتخطى تلك القصص، أما عندما تنخفض معنوياتي، فإنني أقرؤها لعلي أجد فيها سلواي؛ لأن اكتشاف المرء أنه لا يحمل الكرب وحده أمر يبعث على الارتياح؛ فالمصيبة إذا عمت هانت. كما أن قصص النساء الأخريات تبين كيف أنهن استطعن التعافي وتقدم تشجيعا لغيرهن. فهذه مارثا تي ظلت عشيقة لرجل مدة خمس سنوات، خدعها وسخر منها وأسرها، حيث تقول: لقد وقعت في حبه؛ لأنه بدا لي لطيفا للغاية. وهذه إميلي آر التي لم يكن حبيبها متزوجا كما ادعى. كثيرا وأنا أتحدث إلى كل من الرجال والنساء أسمع نفسي أتابع هذا الموضوع بطريقة مضحكة تدعو للرثاء؛ كيف تبني النساء قصورا على أساسات واهية تكاد لا تتحمل أكثر من عش صغير، وكيف أن النساء يخدعن أنفسهن ويعانين دون جدوى، ويضعن أنفسهن موضع استغلال بسبب الفراغ في حياتهن ولخلل ما فيهن، وإن كان خللا غير معروف ويمكن علاجه في الوقت ذاته! وغير ذلك الكثير والكثير مما يعلمه الجميع في هذه الأيام وباتوا يحفظونه عن ظهر قلب كأغنية خفيفة، وفي الوقت نفسه صار قلبي مكسورا كقلب تحكي أغنية عنه، ليظل قلبا جافا ومشققا مثل أرض قاحلة تنتشر بها الأخاديد. أبكي مع مارثا تي وإميلي آر وأتساءل ما الطرق التي استطاعتا اتباعها لعلاج آلامهما؛ هل عن طريق تعلم صنع المكرمية؟ أم بالتنفس العميق؟ ذات مرة قالت لي إحدى صديقاتي - صديقة بالطبع لا صديق - إنه بما أن الألم لا يلحق بالمرء إلا إذا نظر إلى الوراء في الماضي أو إلى الأمام في المستقبل فقد استطاعت القضاء على المشكلة برمتها عبر عيش كل لحظة بلحظتها؛ فكل لحظة، على حد قولها، مفعمة بالصمت المطبق. وقد جربت هذه الطريقة، ولسوف أجرب أي شيء من شأنه أن يقلل من معاناتي تلك، ولكنني لا أفهم كيف تؤتي ثمارها.
اشتريت خريطة، واستطعت العثور على الشارع الذي تقطن فيه والمربع السكني الذي يقع به منزلك، ولم يكن ببعيد للغاية عن شقتي، حيث كان على بعد عشرة مربعات سكنية أو نحو ذلك سيرا على الأقدام. لم أذهب هناك بعد، وإنما مشيت مسافة مربع أو مربعين في اتجاهه ثم عدت أدراجي. إنه منزل لم تكن لتريني إياه مطلقا (الأماكن التي أعيش بها على العكس تماما؛ حيث أزينها وأجملها على أحسن وجه عند مجيئك لزيارتي) وها أنا الآن بمقدوري رؤية منزلك لو أردت. يمكنني أن أسير على الجهة المقابلة الأخرى من الشارع متجاوزة إياه وقلبي يخفق غير قادرة إلا على استراق النظر إليه مرة أو مرتين، ثم أصبحت أكثر جرأة فاستطعت المشي ببطء. الغسق هو وقتي المفضل للتسكع عن قرب من النوافذ المفتوحة، لاستراق السمع للموسيقى أو للأصوات. تخيل هذا حقيقيا، منزلا حقيقيا، حيث يغسل الناس الأطباق ويغطون في النوم. وفي الليل، إن لم تسدل زوجتك الستائر، يمكنني التلصص على غرفتك. هل تلك الصور من اختيارك، أم من اختيارها؟ لا. كلاكما. لم يسبب لي ما اكتشفته سوى الألم المعتاد.
ذات مرة قرأت قصة، قصة واقعية، في مجلة - قد تكون واحدة من المجلات التي عملت بها - عن امرأة فقدت بنتيها الصغيرتين في حادث سيارة، وفي كل يوم عندما يقفل الأطفال الآخرون راجعين من المدرسة، كانت تخرج وتمشي على طول الشوارع كما لو أنها تتوقع مقابلة بنتيها. لكنها لم تذهب قط إلى المدرسة، لم تنظر قط في فصولهما الفارغة، لم تستطع قط أن تعرض نفسها لذلك.
ذهبت إلى مكتبة زوجتك، وهذا هو ما يمكنني القيام به. لم أكن أعرف اسم المكتبة فبحثت عن المكتبات في دليل الهاتف، وأخيرا وجدت مكتبة باسم «باربرا بوك مارت»، لا بد أن تلك هي مكتبتها. ومن اسمها توقعت شيئا بسيطا وعتيق الطراز، بيد أنني دهشت حينما وجدتها مكتبة كبيرة جدا، فاخرة، مزدحمة مثل سائر المكتبات الكبيرة. لم تكن هناك حلي وزخارف القرون الوسطى أو لمسات العصر التيودوري، لا زخارف من أي نوع؛ فهي أشبه بمشروع ثابت يعمل على مدار السنة، دون الحاجة إلى التأنق لجذب السياح.
عرفتها لحظة أن وقعت عليها عيناي، مع أنها تغيرت؛ إذ اكتسى شعرها باللون الرمادي، صار رماديا أكثر من شعري، وعقصته على هيئة كعكة. ملامحها أقل حدة عما كانت عليه، لا تضع مساحيق تجميل، شاحبة الجلد، غير أنها لا تزال تحتفظ بمسحة من الجمال والجاذبية، إلى جانب أسلوبها السريع المضحك سريع الانفعال. كانت ترتدي ثوبا فضفاضا أرجوانيا فاتحا له أربطة موشاة بالتطريزات الهندية. كانت حركتها متصلبة، بعد أن كان عليها تعلم المشي من جديد عقب إزالة الغضروف في إحدى ركبتيها. لقد صارت أثقل وزنا، كما قلت؛ إنها امرأة في منتصف العمر ممتلئة الجسم.
جاءت من مؤخرة المكتبة تحمل كتابين من الكتب الفنية الكبيرة، ثم ذهبت وراء مكتبها ووضعتهما على أحد الأرفف، وتحدثت إلى البائعة كما لو أنها تكمل محادثة كانت قد بدأتها في وقت سابق: «حسنا، أنا لا أعرف كيف ... الفاتورة ... هاتفيهم وأخبريهم أننا لا نتعامل هنا بتلك الطريقة ... يجب أن نعيد البضاعة اللعينة كلها.»
ما زلت أتذكر صوتها، نفس الصوت الذي سمعته منذ زمن بعيد في حفل أو اثنين؛ صوت واضح مفعم بالتحدي يبدو لي أنه يستعيد مستواه الطبيعي عند وصولها لمستوى معين من الغضب، صوت يبرع في قول: «يا إلهي ما ظن هؤلاء البلهاء بي!» هب أنها تعرفت على صوتي أو على وجهي؟ أنا لا أعتقد ذلك. لا أحسبها من النوعية التي تتذكر شخصا هامشيا في حياتها، ولطالما كانت هي في المركز، وليس لديها أي معلومات عني، أليس كذلك؟ لا أظنها تتوقع مجيئي هنا.
ومع ذلك فقد شعرت بأنني ملحوظة لها، كما شعرت بالذنب، وأني غريبة هنا؛ بيد أنني ظللت فترة طويلة أتجول في شتى أرجاء المكتبة دونما هدف واضح، ويا لها من مكتبة مخيفة! فهي زاخرة بكثير من الكتب. ويبدو أنني كنت دائمة التوقف أمام الكتب التي تخبر الناس بطرق مختلفة كيف يبلغون السعادة، أو السلام على أي حال. ليس لديك أدنى فكرة - حسنا ربما كانت لديك فكرة - حول عدد الكتب الموجودة هنا من هذه النوعية. وأنا لا أستهجن ذلك، بل أعتقد أنه ينبغي علي قراءتها كلها أو على الأقل قراءة بعض منها، ولكن كل ما يمكنني فعله هو التحديق بها في اندهاش. ثمة كتب أخرى عن السحر؛ فهناك مئات الكتب حول الساحرات والتعويذات والاستبصار والطقوس ومختلف أنواع الحيل والعجائب. كل تلك الكتب تبدو لي كتابا واحدا - كتب السعادة والسلام وكتب السحر والعجائب - فهي لا تبدو كتبا مختلفة على الإطلاق، وهذا هو السبب في عدم اقترابي منها؛ فهي متراصة معا في جميع أرجاء المكتبة كنهير رائع متنوع الألوان، أو نهر واسع، ولم يعد بمقدوري حقا فهم ما بداخلها تماما كما لا يمكنني التنفس تحت الماء.
دأبت على المجيء يوما بعد يوم. اشتريت بعض الكتب ذات الأغلفة الورقية، بعد أن أتصفحها، كما يظنون، لساعات. ذات مرة تطلعت في وجهي وابتسمت، لكنها ليست سوى تلك الابتسامة العابرة التي تبتسمها لعملائها، فيما أسترق السمع لها وهي تتحدث مع البائعات، وتضحك، وتصنع المقالب إضافة إلى جديتها أيضا وعدائيتها مع أحدهم على الهاتف، كذلك سمعتها وهي تطلب الشاي مع العسل، وتدعي الاستقامة ساخرة برفض الكعك. سمعتها وهي تستأسد على العملاء، بطريقة ساحرة أحيانا. يمكنني أن أتصور نفسي صديقتها التي تبوح لها بأسرارها. أشعر بالخجل من هذا الخيال، أشعر بالحسد في حضورها، وبأنني انتصرت عليها انتصارا عارضا، كما أشعر بهذا الفضول اليائس التافه. لكم أشعر بالخجل من كل هذا عندما أتذكره.
كنت آتي في المساء؛ حيث تظل المكتبة مفتوحة حتى التاسعة مساء، ولكنها لا تكون موجودة عادة. وذات مساء جئت فوجدتها هناك وحدها، لم يكن هناك غيرها. توجهت إلى الغرفة الخلفية وعادت حاملة شيئا، ثم قدمت نحوي مباشرة، قائلة: «أعتقد أنني أعرف من تكونين.»
نظرت في وجهي مباشرة، فكان عليها أن ترفع ذقنها إلى أعلى نظرا لأنها أقصر مني. «لقد لاحظنا جميعا كثرة ترددك على المكتبة. في البداية حسبتك سارقة، فنبهت الجميع على ضرورة الحذر منك ومراقبتك، ولكنك لست سارقة، أليس كذلك؟» «بلى.»
أعطتني ما في يدها، كيسا ورقيا بني اللون مليئا بالأوراق. «لقد مات.» قالتها وهي تبتسم لي كمعلمة تضبطك ترتكب خطأ بشعا في المدرسة، ثم أضافت مفسرة: «ولذلك لم تتلقي منه أخبارا مؤخرا. توفي في مارس إثر إصابته بأزمة قلبية وهو جالس إلى مكتبه بالمنزل، ووجدته حينما رجعت إلى المنزل في وقت العشاء.»
لم يمكني الرد عليها، ورأيت أنه لا ينبغي ذلك. «هل ينبغي أن أقول آسفة وأنا أطلعك على هذا الخبر؟ لست آسفة؛ فما تشعرين به لا يهمني في شيء، لا يهمني مطلقا، ولا أريد أن أراك هنا مجددا! إلى اللقاء!»
غادرت المكتبة دون أن أرد عليها بكلمة واحدة. وفي شقتي فتحت الكيس وأخرجت الرسائل. كانت رسائل خارج مظاريفها. هذا ما اعتقدت أنني سأراه، عرفت أنني سأجد رسائلي. لا أريد قراءتها، خشيت قراءتها، اعتقدت أنني سأنحيها جانبا، ولكنني لاحظت عندئذ أنه ليس خطي؛ فشرعت في قراءة الرسائل. تلك الرسائل لا تخصني، فأنا لم أكتبها. تصفحت كل واحدة منها بسرعة وأنا مرعوبة حتى وقعت عيني على التوقيع المذيلة به الرسائل: باتريشيا، بات، بي. فعاودت قراءتها بعناية رسالة تلو الأخرى:
حبيبي العزيز
لقد تركتني وأنا في قمة السعادة. ذهبت إلى المنتزه بصحبة سامانتا وكان يوما جميلا. أركبتها على الأرجوحة وراقبتها على المزلجة، وجال بخاطري أنني سأحب هذا المنتزه إلى الأبد؛ لأنني ذهبت هناك وأنا سعيدة وبعدما كنت معك.
قرة عيني
هل تذكر ذلك العجوز المجنون بالجوار؟ فقد جاء وأكل تلك الأشياء من على الشجرة الوردية في الحديقة، أقصد شجرة البرقوق المزروعة بغرض الزينة، لا بد أنه انجذب إلى ثمار البرقوق بألوانها البراقة، إنها صلبة كالحجر ولا يمكن لأحد أكلها. أنا متأكدة من ذلك، ولكنني رأيته يقطفها ويبتلعها حفنة حفنة. كنت أجلس على الأرضية في الغرفة الزجاجية على الوسائد القرمزية، حيث كنت أنا وأنت ...
نور عيني
حلمت بك الليلة الماضية. كان حلما غريبا جميلا. كنت تمسك شعري بين يديك وتقول: كل هذا الشعر ثقيل بالنسبة إليك، عليك أن تقصيه؛ لأنه سيستنزف قوتك. والطريقة التي قلت بها ذلك كانت جميلة جدا، عاطفية جدا، كما لو كنت تعني شيئا آخر وليس شعري فقط. كيف يمكنني يا حبيبي أن أحكي لك ما تقوله لي في أحلامي إن لم تكتب لي؟ لذا أرجو أن تكتب وتحكي لي، تحكي لي ما تقوله لي في أحلامي ...
حبيبي
أحاول جاهدة أن أكف عن الكتابة إليك؛ لأنني أعتقد أنني يجب أن أعطيك الخيار، لا أريد أن أطاردك وأعذبك بإلحاحي لكن اختفاءك هكذا فجأة أمر بالغ القسوة على نفسي، فأنا أشعر بشعور فظيع حينما تتركني وحيدة. ولو أنك أخبرتني أنك لا تريد رؤيتي أو حتى مراسلتك مجددا لتقبلت الأمر، أعتقد أنني أستطيع، أما عدم معرفتي الحقيقة فهو الأمر المريع. يمكنني تدبر أمر مشاعري إن اضطررت إلى ذلك كما يمكنني الشفاء من حبك، ولكن يجب أن أعرف أولا إن كنت تحبني وتريدني في حياتك بعد ذلك؛ لذا أرجوك، أرجوك قل لي نعم أو لا.
أما الرسالة الأخيرة فلم تكن رسالة في الواقع، بل شخبطات كبيرة على الورقة دون أي تحيات أو توقيع:
أرجوك اكتب لي أو هاتفني، فأنا أكاد أصاب بالجنون. أكره أن أكون هكذا ولكن الأمر يفوق قدرتي على الاحتمال؛ لذا أتوسل إليك. «لم أكتب تلك الرسائل.» «ألست أنت من كتبتها؟» «كلا. لا أعرف من كتبتها. لا أعرف.» «فلماذا أخذت الرسائل إذن؟» «لم أفهم الأمر. ولم أعرف عما كنت تتحدثين. لقد مررت بصدمة مؤخرا وفي بعض الأحيان لا أستطيع ... لا أستطيع الانتباه.» «لا بد أنك اعتقدت أنني مجنونة.» «كلا. كل ما هنالك أنني لم أعرف ما يجري من حولي.» «لعلك رأيت إذن أن زوجي قد توفي. توفي في مارس. حسنا، لقد أخبرتك بذلك من قبل، وما زلت أتلقى تلك الرسائل، ولا يوجد عليها عنوان لإرجاعها لصاحبتها عليه. فهي مغفلة التوقيع. خاتم البريد يعود إلى فانكوفر، ولكن فيما يفيدني ذلك؟ كنت أترقب حضورها؛ فقد استشعرت من رسائلها إقدامها على عمل متهور.» «نعم.» «هل قرأت كل الرسائل؟» «نعم.» «هل كان الأمر يستلزم قراءتها كلها لتعرفي أن ثمة خطأ؟» «كلا، ولكن الفضول هو ما دفعني لقراءتها كلها.» «تبدين مألوفة لي. الكثير من الناس يبدون لي كذلك، بسبب طبيعة عملي في المكتبة؛ حيث أرى الكثير من الناس.»
أخبرتها باسمي، اسمي الحقيقي، ولم لا؟ فذلك لا يعني لها شيئا. «أرى الكثير جدا من الناس.» ثم أمسكت بكيس الرسائل ورفعته فوق سلة المهملات وتركته يسقط فيها، مضيفة: «لا أستطيع الاحتفاظ بها أكثر من ذلك.» «صحيح.» «سأكتفي بتركها تعاني.» «في النهاية ستعرف الحقيقة.» «وماذا لو لم تعرف؟ هذا أمر لا يعنيني في شيء.» «صحيح.»
لم تعد لدي رغبة في مواصلة التحدث معها، لم تعد لدي رغبة في مواصلة سماع قصصها. يبدو لي الجو حولها خانقا، كما لو أنها كانت تشع ضوءا يتضاءل ويتخافت.
تفرست في وجهي، قائلة: «لا أدري لماذا خطرت لي فكرة أنك قد تكونين أنت صاحبة الرسائل، مع أنك لا تبدين أصغر مني سنا بكثير، ولطالما فهمت أنهن أصغر سنا.»
ثم تنهدت، مستطردة: «إن ما تعرفينه عن حياتي يفوق ما تعرفه الفتيات اللاتي يعملن معي أو أصدقائي أو أي شخص آخر، إلا أنني أرسم لها صورة في مخيلتي. أنا آسفة، ولكني حقا لا أود رؤيتك مجددا.» «أنا لا أعيش هنا، وسوف أرحل بعيدا. في الحقيقة قد أرحل في الغد.» «هكذا هي الحياة كما تعلمين، وهذا شيء معتاد وحسب. ليس الأمر أننا لم نكن نعيش حياة سعيدة معا. لم يكن لدينا أطفال، ولكننا فعلنا ما أردنا. كان رجلا رقيق الحاشية، طيب المعشر، وناجحا في عمله. لطالما شعرت أن بإمكانه أن يكون أكثر نجاحا، لو ضغط على نفسه. ولكن مع ذلك إن قلت لك اسمه فلربما عرفته.» «لا داعي لذلك.» «أوه، حسنا، لا داعي لذلك.»
كزت على أسنانها وبدا وجهها محتقنا بشعور يشي بالإحساس بالمرارة، مطبقة شفتيها بشكل هزلي تعبيرا عن رغبتها في التخلص مني. فاستدرت في ذات اللحظة تقريبا حتى لا أرى منها ذلك.
خرجت إلى الشارع ولم تكن الشمس قد غابت تماما في رحم المساء الطويل. مشيت ومشيت. في تلك المدينة التي تسكن مخيلتي، أمشي متجاوزة الجدران الحجرية مع صعود وهبوط التلال المنحدرة، وأرى بعين عقلي تلك الفتاة باتريشيا. امرأة فتية، ذلك النوع من النساء الذي يسمي ابنته سامانتا؛ رشيقة جدا، سمراء، ترتدي ملابس عصرية، عصبية قليلا، متكلفة قليلا، شعرها أسود طويل غير ممشط، وجهها تعلوه البثور. تجلس في الظلام، تذرع كل الغرف جيئة وذهابا، تحاول أن تبتسم لانعكاس صورتها في الزجاج، تحاول وضع مساحيق التجميل. تسر بما يجيش بداخلها لامرأة ما، لديها عشيق ما. تأخذ ابنتها إلى المنتزه، ولكن ليس نفس المنتزه. تتجنب بعض الشوارع، ولا تقرأ مجلات معينة. إنها باختصار تعاني وفق قواعد نعلمها جميعا، قواعد لا معنى لها، لكنها مطلقة. عندما أفكر فيها أرى كل هذا النوع من الحب الذي رأيته أنت بكل تأكيد، أو أراه، كشيء يحدث على مسافة مني؛ تبديد غريب للجهد، لا يدعو حتى للرثاء؛ طقس غامض في عقيدة غير معروفة. هل أنا محقة، هل أقترب منك، هل هذا صحيح؟
ولكنك أنت، وهو ما أنساه دائما، أنت من قالها أولا.
كيف لنا أن نفهك؟
لا تبال؛ فأنا من اختلقتها. أنا من اختلقتك، بقدر ما يخدم أغراضي. أنا اختلقت محبتي لك وأنا من اختلقت موتك. لدي ما يكفي من الحيل والفخاخ أيضا. لا أفهم أفاعيلها في الوقت الحاضر، ولكن يجب أن أتوخى الحذر، لن أنتقدها أو أتحدث عنها بسوء.
مغامرة القارب
في نهاية كل من شارع بيل ستريت وشارع مكاي ستريت وشارع مايو ستريت، كان الفيضان. فنهر واواناش يفيض كل ربيع. وفي بعض فصول الربيع - لنقل فصلا من كل خمسة فصول - كان الفيضان يغطي الطرقات بهذا الجانب من المدينة ويغمر الحقول، مخلفا بحيرة ضحلة تعلوها الأمواج. كان الضوء المنعكس على صفحة الماء يجعل كل شيء براقا وباردا، كما هي الحال في البلدات الواقعة على ضفاف البحيرات، ويوقظ أو يحيي في الناس ترقبا غامضا بوقوع كارثة. خلال وقت متأخر من الظهيرة وأول المساء في الغالب، يخرج البعض زرافات للفرجة على البحيرة والجدل حول إن كان منسوبها سيواصل الارتفاع، وإن كانت ستغزو البلدة هذه المرة. بشكل عام، كل من تقل أعمارهم عن الخامسة عشرة و/أو تتجاوز الخامسة والستين كانوا متيقنين أشد اليقين من أن هذا هو ما سيحدث.
خرجت إيفا وكارول للتنزه على دراجتيهما. تركتا الطريق في نهاية شارع مايو ستريت حيث لا وجود لأي منزل، واتجهتا إلى أحد الحقول خلف سياج سلكي وقع بأكمله على الأرض من وطأة الثلوج المنهمرة في الشتاء، ثم سارتا بموازاة الساحل قليلا قبلما يوقفهما العشب الطويل، فنزلتا عن دراجتيهما وتركتاها على الأرض ذاهبتين إلى الماء.
قالت إيفا: «علينا أن نجد جذع شجرة والركوب عليه.» «يا إلهي، ستتجمد سيقاننا.»
علق عليها أحد الصبية الواقفين هناك على حافة المياه، قائلا: «يا إلهي، ستتجمد سيقاننا!» قالها بذلك الأنين الكريه الذي يصطنعه الأولاد لتقليد الفتيات مع أنه لا يشبه طريقة كلام الفتيات في شيء. كان أولئك الصبية الثلاثة جميعا في نفس فصل إيفا وكارول بالمدرسة، وكانتا تعرفانهم بالاسم: فرانك، بود، كلايتون؛ ولكن إيفا وكارول، اللتين رأتاهم وعرفتاهم من على الطريق، لم تتحدثا أو حتى تنظرا إليهم، بل لم تصدر عنهما أي إشارة تدل على ملاحظتهما لوجودهم. بدا أن الأولاد يحاولون صنع طوافة من قطع الخشب التي انتشلوها من الماء.
خلعت إيفا وكارول أحذيتهما وجواربهما وخاضتا في المياه، فوجدتا المياه باردة للغاية حتى إنها آلمت سيقانهما، فكانت كشرر كهربائي سرى عبر أوردتهما، ولكنهما واصلتا الخوض في المياه، رافعتين تنورتيهما لأعلى مع شدهما من الأمام مما أدى إلى تجسيم مؤخرتيهما؛ فصاح أحد الصبية: «انظروا إلى هاتين البطتين ذواتي المؤخرتين السمينتين.»
فضحك أحدهم، مرددا: «عاهرتان ذواتا مؤخرتين سمينتين.»
وبطبيعة الحال، لم تصدر عن إيفا وكارول أي إشارة تدل على سماعهما تلك السخرية، بل أمسكتا جذع شجرة وركبتا عليه، آخذتين معهما لوحين طافيين فوق الماء للتجديف. فدائما ما تطفو أشياء على سطح مياه الفيضان؛ من فروع وجذوع الأشجار وقضبان الأسيجة وعلامات الطريق وأخشاب قديمة، وأحيانا غلايات وأحواض غسيل وأوان ومقال، أو حتى مقعد سيارة أو كرسي محشو، وكأن الفيضان قد مر على مقلب نفايات.
أخذتا تجدفان مبتعدتين عن الشاطئ، متوجهتين إلى البحيرة الباردة. كانت المياه صافية تماما، حتى إنها تمكنهما من رؤية الحشائش البنية السابحة في القاع. تصورت إيفا أنهما تخوضان بحرا كذلك الذي غرقت تحته مدن وبلدان مثل جزيرة أطلانطس المفقودة. تصورت أنهما تركبان أحد قوارب الفايكنج - قوارب الفايكنج المبحرة في المحيط الأطلسي كانت أوهن بناء وأضيق مساحة من جذع الشجرة هذا المبحر في مياه الفيضان - وأسفلهما أميال من مياه البحر الصافية، ثم مدينة غارقة، لا تزال بحالها لم تمسسها يد من قبل كجوهرة لا مثيل لها في قاع المحيط. فعبرت إيفا عن أفكارها تلك، قائلة: «إنه أحد قوارب الفايكنج، وأنا النقش على مقدمته.» نفخت صدرها للأمام واشرأبت بعنقها محاولة الانحناء بجسمها راسمة الجدية على وجهها ومخرجة لسانها من فمها، ثم استدارت، ولأول مرة نظرت إلى الأولاد، صائحة في وجوههم: «أيها الأوغاد! إنكم تخشون المجيء إلى هنا، فعمق المياه عشرة أقدام!»
أجابوها دونما اهتمام: «كاذبة.» وهي كاذبة فعلا.
أدارتا جذع الشجرة حول صف من الأشجار، متجنبتين أسلاكا شائكة عائمة، ودخلتا في خليج صغير نشأ نتيجة تجويف صنعته الطبيعة في الأرض. وحيث يقع الخليج الآن ثمة بركة تمتلئ بالضفادع في وقت لاحق في فصل الربيع، وبحلول منتصف الصيف ستتبخر المياه كلها، مخلفة مساحة متشابكة منخفضة الارتفاع من القصب والشجيرات الخضراء، ويظل الطين الرطب عالقا حول جذورها، فيما تنمو شجيرات أكبر وأشجار الصفصاف حول الضفة المنحدرة لهذه البركة ويظل جزء منها خارج الماء. كفت إيفا وكارول عن التجديف لدى رؤيتهما شيئا عالقا على مقربة منهما.
إنه قارب أو جزء من قارب. زورق قديم تحطم الجزء الأكبر من أحد جانبيه، أما سطحه الذي كان يتخذ مقعدا فيتدلى خارجه. كان الزورق محشورا بين فروع الأشجار، ملقى على جانبه المحطم، إن كان لديه جانب من الأساس، فيما ارتفعت مقدمته لأعلى.
خطرت على بالهما الفكرة نفسها في الوقت ذاته دون تشاور بينهما، فصاحتا: «يا شباب! أنتم أيها الشباب!» «لقد وجدنا لكم قاربا!» «كفوا عن صنع طوافتكم الغبية تلك وتعالوا وانظروا إلى القارب!»
ما فاجأهما في المقام الأول هو مجيء الأولاد بالفعل مهرولين برا، حيث أخذوا يعدون متعثرين أحيانا، وأحيانا أخرى ينزلقون على ضفاف البحيرة من فرط لهفتهم على رؤية القارب الغارق. «مرحى، أين؟» «أين هو؟ لا أرى قوارب هنا.»
وما فاجأهما في المقام الثاني هو أنه عندما رأى الأولاد القارب المقصود بالفعل، ذاك الزورق المتهالك الذي جرفه الفيضان فعلق بين فروع الأشجار، لم يفهموا أن الأمر مجرد خدعة وبلعوا الطعم وانطلت عليهم الحيلة؛ إذ لم تبد عليهم مظاهر خيبة الأمل ولو للحظة واحدة، بل بدوا سعداء بالاكتشاف كما لو كان القارب سليما وجديدا. كانوا حفاة الأقدام بالفعل؛ نظرا لأنهم كانوا يخوضون في الماء لجمع الأخشاب، وقد واصلوا الخوض حتى تلك البقعة دون توقف، محيطين بالقارب ومبدين إعجابهم به غير مبالين بإيفا أو كارول - حتى ولو من باب التحقير - اللتين كانتا تتمايلان لأعلى ولأسفل على جذع الشجرة الذي تركبانه، فاضطرتا إلى الصراخ فيهم: «كيف هيأ لكم خيالكم أن بمقدوركم ركوبه؟» «لن يطفو على أي حال.» «ما الذي يجعلكم تظنون أنه سيطفو على سطح الماء؟» «سوف يغرق بكم والماء يبقبق فيه.»
بيد أن الأولاد لم يجيبوهما؛ نظرا لانشغالهم الشديد بمعاينة القارب، مقتربين منه على نحو استكشافي ليروا كيف يمكن سحبه وتعويمه دون إلحاق ضرر به. فرانك - أفضل الثلاثة قراءة وكتابة وأكثرهم حديثا وأقلهم كفاءة - أخذ يشير إلى القارب بصيغة المؤنث، وهو تصنع قابلته إيفا وكارول بزم شفاههما كأفواه الأسماك تعبيرا عن ازدرائهما لما يقول: «إنها محشورة في موقعين، عليكم بتوخي الحذر لكيلا تحدثوا ثقبا في قاعها؛ فهي أثقل مما تظنون.»
اعتلى كلايتون ظهر القارب وحرره، أما بود، ذاك الفتى الطويل البدين؛ فقد حمل ثقل القارب على ظهره ليعيده إلى الماء بحيث يستطيعون تعويمه قليلا وحمله قليلا إلى الشاطئ. كل ذلك استغرق بعض الوقت. في تلك الأثناء كانت كل من إيفا وكارول قد نزلتا عن جذعهما وخاضتا خارجتين من الماء. سارتا على البر للبس جواربهما وانتعال حذاءيهما وركوب دراجتيهما. لم تكونا بحاجة إلى العودة من هذا الطريق، ولكنهما جاءتا منه. وقفتا أعلى التلة متكئتين على دراجتيهما. لم تعودا إلى المنزل، لكنهما أيضا لم تجلسا جلسة تنم بوضوح عن رغبتهما في المشاهدة. كانتا تقفان ووجهاهما متقابلان مع اختلاس النظر إلى أسفل نحو الماء والأولاد الذين يعانون مع القارب، كما لو أنهما توقفتا لحظة واحدة فقط من باب الفضول، فبقيتا فترة أطول مما كانتا تنويان، بغرض رؤية ما سيسفر عنه هذا المشروع غير الواعد.
في حوالي الساعة التاسعة مساء عندما خيم الظلام تقريبا - خيم على من في بيوتهم، ولكنه لم يخيم تماما على من هم في الخارج - عادوا جميعا إلى البلدة، يسيرون جنبا إلى جنب بشارع مايو ستريت فيما يشبه الموكب. سار كل من فرانك وبود وكلايتون وهم يحملون القارب مقلوبا رأسا على عقب، فيما سارت إيفا وكارول من ورائهم مشيا على الأقدام ممسكتين بدراجتيهما. اختفت رءوس الأولاد تقريبا أسفل القارب المقلوب الذي تفوح منه رائحة الخشب المشبع بالمياه في مستنقعات المياه الباردة. كان بمقدور الفتاتين النظر إلى الأمام ورؤية أضواء الشوارع في عاكسات الضوء بدراجتيهما، عقد من الأنوار يمتد بطول شارع مايو ستريت، وصولا إلى الصنبور، ثم انعطفوا إلى شارع بيرنز ستريت متجهين إلى منزل كلايتون، أقرب منزل ولد فيهم. لم يكن هذا الطريق يصل إلى بيت إيفا ولا كارول، ولكنهما واصلتا السير مع الأولاد، ربما كان الأولاد مشغولين في حمل القارب لدرجة أنهم نسوا أن يقولوا لهما هيا اذهبوا بعيدا. كان بعض الأطفال الصغار لا يزالون في الخارج يلعبون، يلعبون الحجلة على الرصيف بالرغم من صعوبة الرؤية؛ ففي هذا الوقت من السنة كان الرصيف المكشوف لا يزال شيئا بديعا يدخل السرور على الأطفال. أفسح هؤلاء الأطفال الطريق وشاهدوا القارب يمر من أمامهم مشيعيه بنظرة تنم عن الإكبار؛ ثم صاحوا مرددين الأسئلة في إثره، رغبة منهم في معرفة من أين جاءوا به وما سيفعلونه به. لم يجبهم أحد. رفض أي من إيفا أو كارول أو الأولاد إجابتهم أو حتى النظر إليهم.
دخل خمستهم فناء بيت كلايتون، وتوقف الأولاد وكأنهم يهمون بإنزال القارب عن أكتافهم؛ فسارعت كارول قائلة: «يستحسن أن تحملوه إلى الخلف بحيث لا يراه أحد.» وكان هذا أول ما قاله أحدهم منذ أن دخلوا البلدة.
لم يقل الأولاد شيئا ولكنهم واصلوا المسير متخذين ممرا موحلا بين بيت كلايتون وسور خشبي مائل، وتركوا القارب في الحديقة الخلفية.
قالت لهم إيفا في محاولة منها لتشتيت انتباههم: «تعلمون أنه قارب مسروق. لا بد أنه ملك لأحدهم، وأنتم سرقتموه.»
فرد عليها بود لاهثا: «أنتما إذن من سرقه؛ فأنتما من رآه أولا.» «ولكن أنتم من أخذه.» «نحن جميعا متورطون إذن. إذا وقع أحدنا في مشكلة فهذا يعني أننا كلنا واقعون في نفس المشكلة.»
تساءلت كارول: «فهل ستخبرون أحدا بما حدث؟» فيما كانت هي وإيفا تهمان بركوب دراجتيهما للعودة إلى المنزل عبر الشوارع الغارقة في الظلام بين الأضواء والحفر التي خلفها الشتاء. «الأمر يرجع إليكما. أنا لن أخبر أحدا إن لم تفعلا أنتما.» «وأنا لن أخبر أحدا إن لم تفعلوا أنتم.»
ركبتا دراجتيهما في هدوء وهما تشعران أنهما تخليتا عن شيء ما، ولكن دون سخط. •••
بفناء بيت كلايتون الخلفي كان هناك الكثير من القوائم لدعم السور الخشبي، أو لمحاولة دعمه، وعلى تلك القوائم أمضت إيفا وكارول عدة أمسيات جلوسا، بمرح ولكن ليس بشكل مريح للغاية، أو تكتفيان بالاتكاء على السور في حين يعمل الأولاد على إصلاح القارب. خلال أول أمسيتين كان أطفال الحي ينجذبون لأصوات الدق محاولين الوصول إلى الفناء لمعرفة ما يجري، ولكن إيفا وكارول كانتا تسدان عليهم الطريق. «من قال لكم أن تأتوا إلى هنا؟» «نحن جئنا بأنفسنا وحسب.»
غدا المساء أكثر طولا، وصار الهواء أكثر اعتدالا. بدأ الأطفال يلعبون نط الحبل على الأرصفة. كذلك على طول الشارع كان هناك صف من شجر القيقب الصلب الذي كان هدفا للأطفال؛ حيث يشربون سوائله بمجرد سقوطها في الدلاء. أما الرجل والمرأة العجوزان اللذان يمتلكان الأشجار، واللذان يعتزمان صنع شراب القيقب، فكانا يهرولان من المنزل محدثين ضجة كما لو كانا يحاولان إخافة الغربان. وأخيرا، وفي كل ربيع، يقف الرجل العجوز في شرفة منزله ويطلق النار من بندقيته في الهواء، ومن ثم يتوقف الأطفال عن سرقتهما.
لم يكلف أحد ممن يعملون على إصلاح القارب نفسه عناء سرقة الشراب، مع أن هذا كان ديدنهم الموسم الماضي.
كانوا يجمعون الأخشاب اللازمة لإصلاح القارب من هنا وهناك من الممرات الخلفية. ففي هذا الوقت من العام تتوافر الأشياء في شتى الأرجاء؛ من ألواح خشبية وفروع أشجار وقفازات مشبعة بالماء وملاعق جرفتها مياه غسل الصحون وأغطية علب الحلوى، وكل الحطام الذي يمكن أن يسلم وينجو من فصل الشتاء. هذا وقد استعانوا بأدوات من قبو كلايتون - التي يفترض أنها كانت ملك والده قبل وفاته - ومع أنه لم يكن هناك من يقدم لهم المشورة، إلا أن الأولاد بدوا على معرفة بكيفية بناء القوارب، أو إعادة بنائها. كان فرانك يستعين بالرسومات من الكتب ومجلة بوبيولار ميكانيكس. كان كلايتون ينظر في تلك الرسومات ويستمع لفرانك وهو يقرأ التعليمات؛ ومن ثم ينطلق مقررا تنفيذ ما يجب فعله بطريقته الخاصة. أما بود فكان أبرعهم في نشر الخشب. فيما اكتفت إيفا وكارول بالفرجة من عند السور موجهتين النقد ومفكرتين في أسماء للقارب، مثل: زنبق الماء، حصان البحر، ملكة الفيضانات، وأخيرا كارو-إيف على اسميهما؛ لأنهما هما من عثرتا عليه. ولم يبد الأولاد رأيهم في أي الأسماء نال إعجابهم من بين تلك الأسماء، إن كان أي منها نال إعجابهم من الأساس.
كان يجب طلاء القارب بالقطران. أخذ كلايتون يسخن وعاء القطران على موقد المطبخ، ثم أحضره خارجا وأخذ يدهن القارب ببطء، متوخيا الدقة، وجالسا منفرج الساقين فوق القارب المقلوب، فيما كان الولدان الآخران ينشران لوحا من الخشب لصنع مقعد جديد. فقد القطران حرارته واكتسب ثخانة، حتى إن كلايتون لم يستطع تحريك الفرشاة به أكثر من ذلك، فالتفت إلى إيفا وناولها الوعاء، قائلا: «ادخلي المنزل لتسخين هذا الوعاء على الموقد.»
أخذت إيفا الوعاء وصعدت السلم الخلفي. بدا لها المطبخ حالك السواد بعد مجيئها من الخارج، ولكن لا بد أنه كان مضيئا بما يكفي لأن يرى المرء بداخله؛ نظرا لأن أم كلايتون كانت تقف على طاولة الكي وتكوي. كانت تفعل ذلك من أجل لقمة العيش، حيث تقوم بالغسيل والكي. «رجاء سيدتي، هل يمكنني وضع وعاء القطران على الموقد؟» قالتها إيفا بأدب جم، ولا عجب فقد تربت على احترام الكبير، حتى المشتغلات في الغسيل والكي ، فلسبب ما أرادت ترك انطباع إيجابي لدى والدة كلايتون.
أجابتها والدة كلايتون، قائلة: «عليك إذن أن تكبسي الموقد حتى تشعلي النار.» وكأنها تشك في أن إيفا تعرف كيف تفعل ذلك، إلا أن إيفا فهمت المراد، وأمسكت غطاء الموقد وأخذت المكبس وظلت تكبس حتى أوقدت اللهب، ثم شرعت تقلب القطران حتى خف قوامه؛ مما جعلها تشعر بالسعادة عندئذ وفيما بعد. قبل أن تخلد إلى النوم طاف في خيالها صورة كلايتون؛ رأته يجلس منفرج الساقين فوق القارب، يدهنه بالقطران بهذا التركيز، والدقة، والاستغراق. فكرت فيه وهو يتحدث معها، من منعزله، بتلك النبرة الآمرة ولكن بشكل عفوي مسالم لا تملك إلا أن تستجيب له. •••
في الرابع والعشرين من مايو، وهو يوم عطلة من المدرسة في منتصف الأسبوع، حمل الأولاد القارب خارج البلدة، قاطعين الآن شوطا طويلا عبر الحقول والأسوار التي تم إصلاحها، إلى حيث تدفق النهر بين ضفافه الطبيعية. تناوب كل من إيفا وكارول، وكذلك الأولاد، حمل القارب، الذي انطلق في الماء من بقعة قاحلة داستها الأبقار بين شجيرات الصفصاف التي أنبتت وريقاتها حديثا. ذهب الأولاد أولا، وصاحوا صيحة النصر عندما طفا القارب، وجرى مع تيار النهر على نحو مثير للدهشة. كانوا قد دهنوه باللون الأسود من الخارج، وباللون الأخضر من الداخل، مع دهان مقاعده باللون الأصفر، فيما أحاطوه بخط أصفر على طول محيطه من الخارج. لم يكن عليه أي اسم على كل حال؛ إذ رأى الأولاد أنهم ليسوا بحاجة لتسميته لتمييزه عن القوارب الأخرى في العالم.
ركضت إيفا وكارول على طول الضفة، حاملتين حقائب مليئة بشطائر زبدة الفول السوداني والمربى والمخللات والموز وكعك الشوكولاتة ورقائق البطاطس ومقرمشات جراهام، إضافة إلى شراب الذرة وخمس زجاجات كولا لتبريدها في مياه النهر. كانت الزجاجات تصطدم بأرجلهما. صاحتا إنه دورهم، وصرخت كارول حانقة: «إن لم يعطونا دورنا فما هم إلا أوباش.» ثم صاحتا معا: «نحن من وجدتاه! نحن من وجدتاه!»
لم يرد عليهما الأولاد، ولكن بعد فترة من الزمن جاءوا بالقارب ليجدوا كارول وإيفا تهرولان إليهم وتسألانهم: «هل تسرب إليه الماء؟» «كلا، لم يتسرب إليه الماء حتى الآن.»
فصرخت كارول: «لقد نسينا علبة نزح الماء.» إلا أنها قفزت في القارب مع إيفا، ودفعهما فرانك، صائحا: «مرحبا بكما في القبر المائي!»
مشكلة الركوب في قارب ليست أنه يتمايل بقوة، مثل جذوع الأشجار، ولكن مشكلته أنه مقعر، ومن ثم فإن ركوبه لا يعني أنك فوق شيء في الماء، بل يعني أنك في الماء نفسه. سرعان ما تناوبوا ركوب القارب في أدوار مختلفة: صبيان وفتاة، فتاتان وصبي، فتاة وصبي، حتى اختلط عليهم الأمر وبات من المستحيل معرفة من عليه الدور ليركب. وعلى أي حال لم يلق أحد بالا لتلك المسألة. دخلوا في أعماق النهر فيما أخذ هؤلاء الذين لم يركبوا يركضون على طول الضفة حتى لا يبعدوا عنهم. مروا تحت جسرين أحدهما حديدي والآخر أسمنتي. ذات مرة رأوا سمكة شبوط كبيرة مسترخية - بدت وكأنها تبتسم لهم - في المياه التي ينعكس عليها ظل الجسر. لم يعرفوا كم أبحروا في النهر، ولكن التضاريس تغيرت؛ إذ أمست المياه أكثر ضحالة، فيما أخذ القاع شكلا مسطحا. وعبر حقل خال رأوا مبنى بدا وكأنه منزل مهجور. فما كان منهم إلا أن سحبوا القارب خارج الماء وربطوه على الضفة وانطلقوا عبر الحقل.
قال فرانك: «تلك هي المحطة القديمة، إنها محطة بيدر ستيشن.» كان الآخرون قد سمعوا بهذا الاسم من قبل ولكنه كان يعرفه؛ لأن والده كان وكيل المحطة في البلدة. وقال إن هذه المحطة كانت على خط فرعي تم إلغاؤه، وأنه كان يوجد مصنع لتقطيع ونشر الخشب هنا، ولكن منذ فترة بعيدة.
داخل المحطة كان الظلام الدامس يخيم على المكان والجو باردا، وكانت جميع النوافذ محطمة، وشظايا الزجاج المكسور متناثرة على هيئة قطع كبيرة إلى حد ما على الأرض. جالوا في أرجاء المحطة باحثين عن قطع الزجاج الكبيرة ليدوسوا عليها ويحطموها، كان الأمر مثل تكسير الجليد على البرك. كانت بعض الحواجز لا تزال في مكانها، حتى إنه يمكن للمرء رؤية مكان شباك التذاكر. كان هناك مقعد مقلوب على جانبه. كان الناس يأتون هنا، يبدو كما لو أنهم كانوا يأتون طوال الوقت، مع أن المحطة كانت بعيدة عن أي مكان. زجاجات البيرة والكولا متناثرة في الأرجاء، وكذلك علب السجائر والعلكة وأغلفة الحلوى ولفائف أرغفة الخبز. كانت الجدران مغطاة بكتابات جديدة وأخرى باهتة بأقلام الرصاص والطباشير ومنحوتة بالسكاكين:
أحب روني كولز.
أريد المضاجعة.
كيلروي كان هنا.
روني كولز أحمق تافه.
ماذا تفعل هنا؟
أنتظر قطارا.
داونا ماري-لو باربارا جواني.
كان الدخول إلى هذا المكان الواسع المظلم الفارغ أمرا يبعث على الشعور بالإثارة، لا سيما مع الضوضاء العالية لصوت تكسير الزجاج وصدى صوتهم أسفل السطح. قلبوا زجاجات البيرة القديمة على أفواهها، وهو ما ذكرهم بأنهم يعانون من الجوع والعطش، فقاموا بتطهير مكان في وسط الأرض وجلسوا وراحوا يأكلون وجبة الغداء. شربوا الكولا كما هي فاترة؛ أكلوا كل ما معهم ولعقوا بقايا زبدة الفول السوداني والمربى من على الورق الذي لفت فيه الشطائر.
لعبوا لعبة الجرأة أو الصراحة. «أتحداك أن تكتب على الحائط: أنا غبي أحمق، وتوقع باسمك.» «قل الحقيقة، ما أسوأ كذبة نسجتها في حياتك؟» «هل بللت فراشك من قبل؟» «هل سبق لك أن حلمت بأنك تسير بقارعة الطريق عاريا؟» «أتحداك أن تخرج وتتبول على إشارة السكة الحديدية.»
فرانك هو من كان عليه أن يفعل ذلك. لم يستطيعوا رؤيته ولا حتى رؤية ظهره لكنهم تيقنوا من أنه فعلها؛ فقد سمعوا صوت بوله. جلسوا جميعا يخيم عليهم الصمت تعلو وجوههم الحيرة وغير قادرين على التفكير في التحدي التالي.
فقال لهم فرانك من عند المدخل: «أتحداكم جميعا، أتحداكم ... جميعا.» «فيم؟» «أن تخلعوا ملابسكم.»
صرخت إيفا وكارول. «كل من لا يفعل ذلك عليه أن يمشي، بل ويزحف على الأرض على يديه ورجليه.»
خيم الصمت عليهم جميعا، حتى قالت له إيفا بنبرة تنم عن الرضا تقريبا: «ما الذي نخلعه أولا؟» «الأحذية والجوارب.» «إذن، يتعين علينا الخروج أولا؛ فهناك الكثير من الزجاج هنا.»
خلعوا أحذيتهم وجواربهم في المدخل في ضوء الشمس المبهر الذي أصابهم بالعمى المؤقت. كان الحقل أمامهم براقا كالماء تماما، فأخذوا يركضون على الممرات عبره.
قالت كارول: «هذا يكفي، هذا يكفي! احذروا الأشواك!» «قمصانكم! اخلعوا قمصانكم جميعا!» «لن أفعل، نحن لن نفعلها، أليس كذلك يا إيفا؟»
لكن إيفا أخذت تستدير يمينا ويسارا في الشمس على الممر، قائلة: «لا يهمني، لا يهمني! الجرأة أو الصراحة! الجرأة أو الصراحة!»
فكت أزرار قميصها وهي تستدير ذات اليمين وذات الشمال كأنها لم تكن تعرف ما تفعله يداها، حتى خلعته. «السراويل!»
لم ينبس أحد ببنت شفة هذه المرة، بل انحنوا جميعا وجردوا أنفسهم من سراويلهم، وكانت إيفا أول من تعرى، ثم ركضوا في الحقل، ركضوا هم الخمسة عراة بين العشب الدافئ الواصل حتى ركبهم، ثم ركضوا نحو النهر. لم يبالوا حينئذ بأن يضبطهم أحد وهم في هذه الوضعية، بل قفزوا وأخذوا يتصايحون للفت الانتباه إليهم، إن كان هناك من يسمعهم أو يراهم. شعروا كأنهم سيقفزون من قمة جبل ويطيرون في السماء. شعروا بأن ثمة شيئا يحدث لهم مختلفا عن أي شيء حدث لهم من قبل، شيئا له علاقة بالقارب والماء وضوء الشمس والمحطة المتهالكة الغارقة في الظلام الدامس وبتفاعلهم بعضهم مع بعض. لم ينظر بعضهم إلى بعض الآن كأجسام أو بشر، بل كصرخات مدوية، وكانعكاسات؛ اتسمت جميعها بالجرأة والصخب، واكتست بالبياض، وكانت سريعة كالسهام. أخذوا يركضون دون توقف في الماء البارد، وعندما وصل إلى أعلى أرجلهم تقريبا سقطوا فيه وأخذوا يسبحون، مما أوقف ضوضاءهم، فاعتلاهم الصمت والمتعة سريعا؛ وأخذوا يغطسون ويطفون وينفصلون في خفة ورشاقة.
وقفت إيفا في النهر يقطر الماء من شعرها وينحدر على وجهها. كان الماء يصل إلى خصرها، فيما تقف على حجارة ملساء وقدماها متباعدتان إلى حد ما، ينساب الماء بين ساقيها. على بعد ياردة تقريبا منها وقف كلايتون أيضا، وكانا ينثران الماء عن عيونهما، وينظر أحدهما إلى الآخر. لم تستدر إيفا أو تحاول الاختباء؛ كانت ترتعش من برودة الماء، ولكن أيضا في كبرياء وخزي وجرأة وابتهاج.
هز كلايتون رأسه بقوة، كما لو أنه يريد أن يخرج منها شيئا، ثم انحنى وملأ فمه من ماء النهر، ثم اعتدل واقفا ووجنتاه منتفختان عن آخرهما، ثم نفث الماء عليها كما لو أنه يخرج من خرطوم، فأصابها مباشرة في أحد ثدييها ثم في الآخر. انحدر الماء من فمه على جسدها، وعندئذ صاح ساخرا لرؤيته، كان صوته عاليا بشكل غير متوقع منه؛ فنظر الآخرون من أماكنهم في المياه ثم اقتربوا للفرجة.
انحنت إيفا وانزلقت في الماء حتى غطى رأسها، ثم سبحت في اتجاه التيار، وعندما أخرجت رأسها، كانت كارول قادمة بعدها مباشرة، فيما كان الصبية على ضفة النهر بالفعل يركضون على العشب، وتظهر ظهورهم النحيلة ومؤخراتهم البيضاء المسطحة. كانوا يضحكون ويقولون أشياء بعضهم لبعض ولكنها لم تستطع سماعهم، بسبب وجود الماء في أذنيها.
فسألتها كارول: «ماذا فعل؟» «لا شيء.»
تسللتا إلى الشاطئ، واقترحت عليها إيفا، قائلة: «دعينا نبق خلف الأجمات حتى يذهبوا؛ فأنا أكرههم على أي حال. أكرههم حقا. ألا تكرهينهم أنت؟»
قالت كارول: «بلى، بالتأكيد.» ثم انتظرتا، ليس طويلا، حتى سمعتا الأولاد ولا تزال أصواتهم صاخبة ومنتشية تبتعد رويدا رويدا عكس مجرى النهر حيث كانوا قد تركوا القارب. سمعتاهم يقفزون فيه وشرعوا في التجديف.
قالت إيفا، وهي تحيط جسدها بذراعيها وترتجف بشدة: «سيجدون صعوبة كبيرة في العودة عكس التيار. من يهتم؟ على أي حال فهو لم يكن يوما زورقنا.»
علقت كارول: «وماذا لو أفشوا سرنا؟» «سنقول إن الأمر كله كذب في كذب.»
لم تفكر إيفا في هذا الحل حتى نطقت به، ولكن ما إن فعلت حتى شعرت برعونته مرة أخرى. كما أن سهولته وسخافته جعلتهما تنفجران في الضحك، وتصفع كلاهما الأخرى وتتبادلان رش المياه مستغرقتين في نوبات من الضحك، وما إن ترهق إحداهما من كثرة الضحك تنفجر الأخرى ضاحكة وتبدآن نوبة الضحك من جديد. لم تستطيعا السيطرة على نفسيهما، لم تستطيعا ذلك بحق. كانتا متواجهتين وكل منهما متشبثة بالأخرى كما لو كان الفراق سيؤلمهما أشد الإيلام.
الجلادون
هيلينا الحقيرة الوضيعة.
أبوها سكران كل ليلة.
ما كان هذا لأبكي بسببه؟ لا أعرف إن كنت قد بكيت حقا، فأنا لا أتذكر شيئا. كنت قد تعودت على منظر أرصفة الشوارع، وعلى شكل الأرض أسفل الأشجار، تلك الأشياء التي لا ملامح لها كنت أراها وأنا ناظرة إلى أسفل. ولا أقصد بذلك أي إساءة. ولقد تعجبت من طريقة بعض كبار السن في عدم التأثر بأي شيء؛ لا بحول عيني، ولا أخي الصغير الأحمق، ولا المنزل المتسخ الذي أعيش فيه بجوار السكك الحديدية. كنت أنا على النقيض تماما منهم، فكنت بالغة الحساسية كما قالت روبينا. كنت أتوقع اللوم في كل لحظة:
مع السلامة هيلينا.
مع السلامة هيلينا.
مع السلامة هيلينا.
مع السلامة هيلينا.
اعتاد الأطفال الاحتشاد خلفي وأنا راجعة من ربوة المدرسة. كانت لهم أصوات عذبة وصريحة، يتغنون ببراءة شديدة. ليتني كنت أعرف كيف أتصرف، ليتني كنت أعرف كيف أواجه الموقف. هذا شيء لا يمكن تعليمه. إنها موهبة، تماما مثل ملكة عزف الموسيقى.
ملابسي كانت غريبة، وكان هذا من جملة أشياء أخرى؛ فكنت أرتدي سترة كحلية اللون، تشبه ذلك الزي الذي يرتدونه في المدارس الخاصة (التي كان من الممكن أن ترسلني أمي إلى واحدة منها بكل تأكيد فقط لو كان لديها المال اللازم لذلك) وجوارب طويلة بيضاء، شتاء أو صيفا، دون أن أعبأ بالوحل الموجود على طريقنا. وفي الشتاء كانت تظهر الطيات المتكتلة من الرداء التحتي الطويل الذي كنت مجبرة على لبسه أسفل ملابسي. وأعلى رأسي شكل شعري قبة كبيرة، وكانت أطرافه شديدة الجفاف كالحديد، وتكونت تموجات صغيرة جراء تمشيطه بمشط مبلل بالماء. لم تكن تلك التصفيفة المفضلة لأي شخص آخر. ولكن ماذا عساي أن ألبسه ويبدو لائقا؟ ذات مرة اشتريت معطفا شتويا جديدا، اعتقدت أنه جميل جدا، كانت له ياقة كبيرة من فرو السنجاب، فأخذ الأطفال يصيحون خلفي: «فراء الفأر، فراء الفأر، سلخت الفأر وارتدت فراءه!» كانوا يصيحون بهذا من خلفي وأنا ماشية. وبعد هذا لم أحب الفراء على الإطلاق، لم أحب ملمسه؛ فقد كان ناعما أكثر مما ينبغي، وشخصيا ، ومهينا.
تعودت أن أبحث عن أماكن للاختباء. في الأبنية، وفي الأبنية العامة الكبيرة، كنت أبحث عن نوافذ صغيرة عالية، أماكن مظلمة. كان لمبنى البنك التجاري القديم برج وكنت مولعة به. تخيلت نفسي مختبئة هناك، أو في أي حجرة صغيرة وعالية بعيدا، آمنة في منتصف البلدة، مجهولة ومنسية، إلا من شخص يطل علي في المساء ويحضر لي الطعام. •••
كان هذا هو حال أبي بالفعل؛ إذ كان بعيدا عني في معظم الأوقات، يتلقى العلاج، مقيما في مصحة لعلاج الإدمان، خارج البلاد. قبل ولادتي كان عضوا في البرلمان، ولقد عانى من هزيمة ثقيلة في عام 1911، العام الذي خرج فيه لورييه من البرلمان. بعد ذلك بكثير، عندما عرفت بأمر اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، اكتشفت أن هذه الهزيمة كانت مجرد جزء من نكبة قومية (لو أنك في الواقع تميل إلى اعتبارها نكبة)، ولكن عندما كنت طفلة لطالما اعتقدت أن أبي جرى نبذه والاستهزاء به شخصيا بشكل مخز. كانت أمي تشبه ما حدث بصلب المسيح، وقد حاول أبي الخروج إلى الشرفة في فندق كوينز هوتيل، لكي يلقي خطبة، يعترف فيها بهزيمته، ولكنه منع من ذلك، وتعرض للاستهزاء والسخرية من قبل أعضاء حزب المحافظين، حاملين مقشات تشتعل بها النار. لم يكن عندي أدنى فكرة، فقط سمعت عن هذا، تلك المشاهد كان على السياسيين مواجهتها أحيانا. أرخت أمي سقوطه منذ هذا التاريخ، مع أنها لم تحدد الشكل الذي اتخذه هذا السقوط. لم تكن كلمة مدمن كحوليات لتقال في منزلنا، ولا أعتقد أنها كانت تقال كثيرا في أي مكان آخر حولنا في هذا الوقت. سكير هي الكلمة التي كانت تستخدم كثيرا في هذا الوقت، ولكن هذا ما كان يحدث في البلدة.
لم تعد أمي تذهب لتتسوق مرة أخرى في هذه البلدة، إلا لشراء البقالة فقط، التي تطلبها لها روبينا بالتليفون، ولم تعد تتحدث مع الكثير من السيدات، زوجات أعضاء حزب المحافظين الذين يسخرون من أبي.
لن أطأ عتبتها أبدا.
هذا ما كانت تقوله عن الذهاب إلى كنيسة ، أو المحال التجارية، أو بيت إحداهن.
ثم تعقب قائلة: «هو أفضل من أن يكون معهم.»
لم يكن لديها أي شخص آخر باستثناء روبينا لتقول له هذه الأشياء، ولكن روبينا كانت كافية على نحو ما. كانت امرأة لديها قائمة بأشخاص لا تتكلم معهم، ومحال تجارية لا تذهب إليها أبدا. «كلهم جاهلون في هذه الأنحاء، هم من ينبغي أن يكنسوا بالمقشات.»
دأبت على استهلال كلامها بالحديث عن بعض الظلم الذي وقع على أخويها جيمي ودوفال، اللذين اتهما بالسرقة في حين أنهما كانا فقط يحاولان تجربة مصباح يدوي. •••
تاركة المباني في البلدة من خلفي، كان لزاما علي أن أمشي ميلا كاملا على أحد الطرق الريفية. كان منزلنا في نهاية هذا الطريق، منزل كبير مبني بالقرميد له نوافذ كبيرة بارزة علوية وسفلية. وهذه النوافذ كانت دائما تبدو كريهة في نظري، تبرز للخارج مثل عيون الحشرات. فرحت كثيرا عندما هدموا هذا المنزل بعدها بسنوات، وقاموا ببناء مطار البلدة على أرضنا. على طول الطريق لم يكن هناك سوى منزلين أو ثلاثة منازل أخرى، واحد منها ملك لشخص يدعى ستومب تروي.
كان ستومب تروي يمارس التهريب، وقد فقد ساقيه في حادثة بمصنع رايان. ويقال إن عائلة رايان ساندته في التهريب بعد هذه الحادثة وأبقته بعد ذلك بعيدا عن أي مشكلات أو متاعب؛ لكيلا يرفع أي دعوى قضائية ضدهم للمطالبة بالتعويض. وبالتأكيد ازدهرت تجارته غير الشرعية ولم يجرؤ أي شخص على معارضته. كان لديه ابن اسمه هاوارد، وكان يذهب إلى المدرسة وينقطع عنها - كان يتصرف وفقا لنزواته هكذا - وكان يوضع في أي فصل فيه مكان شاغر له، مع إجلاسه في الخلف وترك مقاعد شاغرة حوله إن أمكن؛ حتى لا تشتكي أي أم من وجوده في هذا الفصل. لم يكن الموظف المسئول عن غياب الطلاب - إن كان له وجود حينها - ليقلق بشأن هذه الحالة. في تلك الأيام كان المتوقع، وربما الضروري، أن يظل الناس كما هم مع عدم محاولة تقويم سلوكهم أو تغييره. أما المدرسون فكانوا يطلقون النكات على هاوارد تروي في حضوره وفي غيابه، ولم تكن تلك مسألة غريبة أو قاسية بالمرة، وفيما عدا ذلك يتركونه في حاله.
وخلال إحدى مرات حضوره إلى المدرسة كان في فصلي، جالسا خلفي بشكل غير معتدل، وقد أسديت إليه معروفا، وعرفت بعد ذلك - بل في ذلك الحين - أن ما قمت بفعله شيء خاطئ. كنا ننقل من على السبورة، ولم يكن هاوارد تروي ينقل. كان يجلس هناك بدون قلم أو ورقة، لم يكن يفعل أي شيء على الإطلاق؛ فقد جاء إلى المدرسة بدون أي أدوات مدرسية؛ إذ إن حمل أقلام الرصاص أو الورق أو الممحاوات أو أقلام الشمع يعتبر عنده ضربا من ضروب المستحيل. كان ينظر إلى الأمام مباشرة، ربما كان ينظر إلى السبورة محاولا قراءة أو فهم معنى ما هو مكتوب عليها، أو ربما كان لا ينظر إلى أي شيء على الإطلاق. فيم كان يفكر؟ حاولت أن أفكر في هذا. لم أكن أحب أن أشعر بأنه لا يزال هناك خلفي، يراقب، يتفحص خلال كل الأشياء، ولا يهتم بأي شيء، ذلك الغباء والقبح المطبوعان فيه واللذان يلقيان القبول من جانبه، وأصبح الآخرون يعتقدون اعتقادا راسخا فيهما بحيث لم تعد هناك أي أهمية الآن لوجودهما بداخله أو عدم وجودهما. لم أكن أعتقد أنه كان يشبه حالتي، لم يشتط بي التفكير إلى هذا الحد، كنت فقط خائفة منه لدرجة لم تحدث لي من قبل.
عيناه كانتا في نفس لون عيون القطة، وكانتا مستديرتين، دقيقتين، متقاربتين.
فتحت دفتري من المنتصف، حتى أستطيع فصل ورقة منه دون تمزيق أي شيء آخر، ومررتها إليه ومعها قلم رصاص حاد السن. لم يستطع الوصول إلي لأخذهما، فوضعتهما على مكتبه. لم يكلف نفسه حتى توجيه الشكر لي أو إلقاء بال، ولكن بعد ذلك رأيته على الأقل يستخدم القلم على الورقة؛ ربما كان للنقل من السبورة أو لرسم صور أو لمجرد الشخبطة، ليس عندي أدنى فكرة عن ذلك.
ذلك كان الخطأ الذي ارتكبته، هذا هو الشيء الذي جذب انتباهه إلي، إضافة إلى المصادفة - لم تكن مصادفة، ولكن هذا ما بدا لي! - في كوننا نسكن بنفس الطريق. كان ينبغي أن أتعلم درسا، لعله اعتقد هذا، بسبب العجرفة أو بسبب تصرفي بتسامح معه، أو ربما كان قد رأى في ضعفا غير مألوف فاجأه وأثار اهتمامه. •••
تراكم الجليد على جانبي الطريق الذي بدا وكأنه نفق محفور بينهما، وتحت الثلج الحديث كانت هناك طبقات صلبة رمادية اللون من الثلج القديم، وعلى طول الممرات المجروفة كان بول الكلاب. أما ممر عضو حزب المحافظين ستومب تروي فدائما ما يتم نزح الجليد منه. لمصلحة من؟ على حد قول روبينا التي كانت تطرح أغلب أسئلتها بصوت ينم عن معرفتها الإجابة مسبقا. كنت أمشي ومعي سكين في جيبي، سكين تقشير كنت قد سرقتها من مطبخ روبينا، وقمت بخلع قفازي لكي أتحسسها. كان هاوارد تروي يختبئ خلف الجليد، في الدرب الخاص بمنزلهم، مرة أسبوعيا، مرتين أسبوعيا، لم أعرف قط متى كان يحدث هذا، كان هاوارد ينتظرني، فيخرج من مخبئه لكي يعترض سبيلي في الطريق الضيق:
اللعنة.
لم لا تعبثين معي أيتها اللعينة.
كنت أمر أمامه منكسة الرأس وأنا ألهث من فرط الخوف كما لو كنت أجتاز جدارا من النيران المشتعلة. كان من المهم ألا أنظر إليه مباشرة، وألا أسرع الخطى أيضا، وأن أتحسس شفرة السكين التي في جيبي. لم أكن أعتقد أنه سيجرؤ على تعقبي. إذا لم يقم بأي حركة خلال تلك اللحظة، إذن فلن يقوم بأي حركة على الإطلاق. الخطر كله كان يكمن في بشاعة هذه الكلمة.
كل هذا يتجاوز الشرح الآن. كنت أسمع الأطفال الصغار يقولونها بأريحية «اللعنة، ما أهمية ذلك؟» وهم يركبون دراجاتهم، كنت أسمع أيضا أبا يصيح في أبنائه: «أبعدوا آلة تجزيز العشب اللعينة بعيدا عن طريق السيارة!» هذه الكلمة يمكن أن يوجهها أحدهم إليك وتصيبك بالجمود في مكانك. أما الإذلال فكان أكيدا، وإن كان موجودا من قبل بالفعل، في سماع هذه الكلمة، وإجبارك على التوقف مكانك، والاضطرار إلى التسليم لها، وما تسببه من عار له أن يشعرك بالاختناق. أعني أنه ليس خلال هذه اللحظة حيث لا شيء يشغل بالك إلا أن تبقى آمنا وأن تتجاوز الموقف بسلام، ولكن بعد ذلك، حيث يعتريك شعور عارم بالخجل والعار، ويا لها من أسرار مؤرقة لا يمكن نسيانها! الضعف في حد ذاته عار. إننا مخلوقات يجللها الخزي والعار.
لم أكن لأخبر أحدا عن هذا، ولم ألتمس من أحد المساعدة قط. كان بإمكاني أن أتحمل أي أخطار، أتحمل أي نوع من العنف، أو إهانة شديدة، بدلا من ترديد ما قيل لي، أو الاعتراف به. ولقد رأيت في هذا الموقف أنني لا أستطيع التماس أي مساعدة، أو أي قوة تساندني. ولقد فكرت بالطبع أن هذا كل ما قد يقال لي، وأن هاوارد تروي سيعرف ما يمكنه تهديدي به، وأن هذه كانت مجرد إشارة. ولذلك كان يجب أن أخفي الأمر وأخرجه من ذهني تماما، سريعا، سريعا، وكأنه لم يحدث لي قط، ولكني لم أستطع عمل كل هذا في نفس الوقت، فهو عالق في ذاكرتي بشكل لا أستطيع طرده منها دفعة واحدة، كانت كأنها ذكريات مكبوتة ثم تدفقت كلها في مكان آخر في عقلي. •••
اعتادت روبينا أن تصحبني إلى المنزل معها. كنا نسير عبر الغابة، خلف المكان حيث المطار حاليا، على بعد ميل أو ربما ميل ونصف من المزرعة الصغيرة التي كانت توجد بها أكوام من الحجارة في منتصف الحقول. كنا نذهب إلى هناك في الشتاء، وقد أرتني روبينا أيضا ما أطلقت عليه طريق الذئاب. كانت تعرف حادثة تعرض لها طفل صغير كان موضوعا في مزلجة الجليد يجرها كلب، وعندما سمع الكلب الذئاب تعوي في الغابة، أسرع بكل قوته لكي ينضم إليها، وكان الطفل لا يزال معلقا به في المزلجة. وعندما ذهب الكلب إلى المكان الذي كانت فيه الذئاب، تحول هو أيضا إلى ذئب، وتجمعوا كلهم فأخرجوا الطفل من المزلجة ونهشوه نهشا.
عندما كنا نمشي في الغابة كانت روبينا تزيد من سلطتها علي، أو تكتسب نوعا آخر من السلطة مختلفا عما تتمتع به في مطبخ أمي، حيث كان كل ما تحمله هناك هو لقب الخادمة غير الملائم الذي يعطي عنها انطباعا مضللا تماما. جسدها الطويل المسطح كان يبدو متراخيا، يتمايل مثل باب يتأرجح على مفصلاته، محكوم، ولكنه خطير جدا إذا اعترضت طريقه. أظن أنها كانت في العشرين من عمرها في ذلك الحين، ولكنها كانت تبدو بالنسبة لي أكبر سنا كما لو كانت في عمر أمي، كانت تبدو كبيرة كمدرسات المدرسة القويات الكبيرات في السن، والسيدات العجائز المسئولات عن المتاجر. كان شعرها مقصوصا قصيرا، داكن اللون، مسحوبا بإحكام حول جبهتها وممسوكا بدبابيس الشعر. كانت رائحتها كرائحة المطبخ، وملابسها معبقة برائحة العرق الجاف. كان هناك شيء قاتم مكفهر فيها؛ في بشرتها وشعرها وملابسها ورائحتها. ولكن لا شيء من هذا كله يمكن الاعتراض عليه. من ذا الذي يستطيع الاعتراض على روبينا؟ من ذا الذي بمقدوره أن يكون بهذا التهور؟
كان علينا أن نعبر جسرا لم يكن مكونا إلا من ثلاثة جذوع خشبية، موضوعة بغير انتظام. أخذت روبينا تلوح بذراعيها لحفظ التوازن، وكم قميصها نصف المطوي يتخبط كجناح طائر مصاب فوق الماء.
كانت حكايتها الأكثر أهمية هي كيف اعتادت أن تتبع خطى أمها، التي كانت تعمل خادمة في منازل سيدات البلدة منذ سنوات مضت. في أحد المنازل كانت هناك غسالة وعصارة كهربائية، كانت اختراعا جديدا في ذلك الحين. كانت روبينا، التي كانت في الخامسة من عمرها في ذلك الوقت، تقف فوق كرسي لتضع الملابس في العصارة (ومن ذلك أيضا فهمت أنه لم يكن بمقدورها أن تترك أي شيء على حالته، كان يجب أن تظهر نفسها أنها القائدة في أي عملية تجرى). بيد أن العصارة أمسكت بيدها، ثم بذراعها، وبترت ذراعها من المنطقة بين المعصم والكوع. لم تظهر هذا الجزء قط، وكانت دائما تلبس فستانا أو قميصا بأكمام طويلة، ولكن يخيل إلي أن هذا لم يكن نوعا من الإحساس بالخجل، كان شيئا تفعله لزيادة الغموض والأهمية حولها. أحيانا في الطريق كان الأطفال الصغار يلاحقونها، قائلين: «روبينا، روبينا، أرينا ذراعك!» كانت طلباتهم تلك نابعة من رغبة حقيقية في الاكتشاف، وبمنتهى الاحترام، بيد أنها تتركهم يستمرون في التوسل إليها قبل أن تقوم بإبعادهم مثل الدجاج. كانت هي القائدة لكل هؤلاء الذين ذكرتهم. من ذا الذي يمكنه أن يحول الإعاقة إلى شيء محل حسد، والسخرية إلى إعجاب؟! أما أنا فلم أفكر في هذه الذراع المبتورة إلا كشيء قامت هي باختياره، كدليل على العناد والقوة.
لكم تقت إلى رؤيتها، كنت أعتقد أنها قد قطعت كلية، مثل قطعة خشب، كاشفة العظم والعضلات والأوعية الدموية والأنسجة والغضاريف بوضوح. كنت أعرف أن فرصتي لرؤية هذه الذراع مثل فرصتي في النظر إلى الجانب المعتم من القمر.
بقية القصص كانت معنية بأفراد أسرتها. «عندما كان دوفال صغيرا كان يعتلي سطح المنزل طوال اليوم، حيث يساعدهم في كساء السطح بالأخشاب. كان من المفترض ألا يكون هناك؛ لأن بشرته كانت فاتحة وحساسة، أفتح بشرة في عائلتنا. كل عائلتي شقراء، إلا أنا وفيندلي، أكبر وأصغر أبناء الأسرة. لم يفكر أحد في تأثير حرارة الشمس على دوفال أو أن يضع قبعة فوق رأسه. أنا الوحيدة التي كنت سأفكر في هذا، ولكني لم أكن موجودة في المنزل. ولكن حتى لو قمت بوضع قبعة فوق رأسه كان هو سيقوم بخلعها، ربما لأنه يعتقد أنه أذكى من أن يلبس قبعة إذا كان الرجال الآخرون لا يلبسون قبعات. وبعد العشاء استلقى على الأريكة كالنائم، وبعد قليل فتح عينيه وقال بصوت عال جدا: «انزعي هذا الريش عن وجهي.» حسنا، لم نر أي ريش، ومن ثم تعجبنا جميعا، بعد ذلك جلس مكانه وأخذ يدقق النظر باتجاهنا، لم يستطع التعرف علينا، قائلا: «جدتي، أحضري لي كوبا من الماء. أرجوك يا جدتي، أحضري لي كوبا من الماء.» لم تكن جدتي هنا على الإطلاق، كانت متوفاة، ولكن لو سمعه أحدهم وهو يقولها لحسب أنها تجلس بجواره تماما ولم يكن معه بالغرفة أي أحد منا على الإطلاق أو في أي مكان يستطيع رؤيته.»
فسألتها متأثرة: «هل أصيب بضربة شمس؟»
أجابتني: «بل شاهد رؤيا من السماء.»
كان صوتها نافيا وصارما.
بالنسبة لأي من أفراد أسرتها، بدءا من دوفال مرورا بجيمي الذي أتى إلى الدنيا بعدها مباشرة نزولا إلى فيندلي ذي الخمس سنوات، عندما كانت روبينا تتحدث عنهم فإنها كانت تتحدث دائما بجدية واحترام خاصين، لكي تعرفك أنه لا يمكنك الاستخفاف بأي شيء مما حدث لهم، سواء أكان مرضا أو خلافا أو مغامرة يومية أو قولا اعتادوا قوله أو شيئا دأبوا عليه. كانت تبرز أهميتها من خلالهم، أو تبرز أهميتهم من خلالها هي. لقد فهمت أني لم أكن لأحظى بأهمية كبيرة بالمقارنة بهم، ومع ذلك كنت أنا الطفلة في المنزل الذي كانت روبينا تعمل به، وهذا كان يعني شيئا واحدا: لم أكن أغار منهم قط.
بينما كنا نمشي عبر الغابة كنا نسمع أصوات تساقط ثمار الجوز والصنوبر من الأشجار، على مسافة منا، وكانت روبينا تقول عن هذا: «ربما كان هذا دوفال أو جيمي أو الاثنين معا يهزان شجرة.» وكنت إلى حد ما متحمسة للتفكير في أننا داخل نطاق وجودهما، في المنطقة التي تقع بها جولاتهما ومغامراتهما. كنت أنظر إلى الأمام كما كانت تفعل روبينا إلى منظر المنزل المتداعي غير المطلي جزئيا، وغير المظلل بأشجار قريبة منه، المطل على الحقول العشبية، أما في الشتاء فيطل على الجليد، كان بعيدا عن الغابة، مثل قارب بائس في مستنقع. كان الأطفال يهرعون خروجا منه إذا رأونا قادمتين، فيما عدا فيندلي أبيض الشعر، الذي كان يمشي حافي القدمين إلى أن تتجمد الأرض بشدة في الشتاء. كانوا يصيحون بأصوات عالية ويتباهون ويتدلون من ذراع مضخة الماء، وقد يتعمدون إثارة عواصف من التراب وريش الدجاج في الساحة.
لم يذهبوا إلى المدرسة في البلدة. كانت مدرستهم على بعد ميل أو اثنين عبر الغابة، في اتجاه مختلف، ووفقا لما كانت تقوله روبينا فهم يشكلون الجزء الرئيسي من تعداد المدرسة. كنت أستطيع تخيل أنهم قد جعلوا المدرسة امتدادا آخر للمنزل بشكل أو بآخر، مشبكين أيديهم تحت المضخة لكي يحصلوا على شربة ماء، ثم الجلوس فوق السطح لكي يستمتعوا بالمنظر من أعلى.
هذا كان يعني أنني جئت إليهم بإرادتي الحرة، بوصفي شخصا غريبا وجديدا عليهم. معهم لم أكن نفس الشخص الذي كنت عليه من قبل. كنت ألبس معطفي الجديد، وسألوني إن كان بإمكانهم لمس الفرو، فاختلت أمامهم لدى سماعي ذلك. كان هذا كالسحر، كالشعور بالثمالة. ألقيت عليهم الألغاز، وعلمتهم قواعد الألعاب المختلفة، التي عرفتها من المشاهدة: القرصان المتجول الأحمر، خذوا خطوة كبيرة، التماثيل. كانت لديهم الجرأة والمشاكسة، ولكن كانوا لا يزالون خائفين من البلدة، كانوا رثي الثياب، ولكن لم يوغر الحسد قلوبهم، اتخذوا مني قائدا لهم، وقبلت هذا. كان هذا يبدو طبيعيا. لعبة الاستغماية، لعبة خالتي خالتي فوق العشة. كان معهم دائما حبل وإطار للتأرجح. وكان بمقدورهم تسلق أي مكان، وكذلك كنت أنا أفعل عندما أكون معهم. وضعنا لوحا خشبيا على فوهة بئر مفتوحة، ومشينا فوقها. كنت سعيدة أيما سعادة، أو هكذا أعتقد الآن. المشكلة الوحيدة التي واجهتها كانت مع الطعام. كانت روبينا في مطبخ أمي تقدم لنا أنواعا متعددة من حلوى الكاسترد والمعجنات التي لا مثيل لها، والبطاطس المهروسة بديعة القوام، ومختلف الأطعمة التي تذوب في الفم، لكن هنا اقتصر الأمر على قطعة من الخبز بداخلها قطعة من اللحم المقدد المدهنة، باردة قليلة التسوية، يلتهمها الأطفال بسرعة بمضغها ثم ابتلاعها ثم يطلبون المزيد؛ كانوا دائما جوعى. كان من الممكن أن أعطي أي واحد منهم قطعتي، ولكن القواعد المتبعة كانت تقتضي منهم أن يرفضوا ذلك.
كان جيمي ودوفال ضخمي الجسم، كما لو كانا رجلين كبيرين ولكنهما ما زالا متصابيين، لا يمكن التكهن بتصرفاتهما؛ فلربما طاردانا ثم أمسكانا ثم أرجحانا عاليا بين أذرعهما حتى نطير عاليا. في بعض الأحيان لا يقولان أي كلمة، وتبدو عليهما الصرامة طوال الوقت؛ وفي أحيان أخرى كانا يأتيان إلي ويقف كل منهما على أحد جانبي ويتساءلان: «أليست هذه هي الفتاة التي لا يمكن دغدغتها؟» «لا أعرف. لا أتذكر إن كانت هي.» «أعتقد أنها هي، أعتقد أنها هي الفتاة.»
ثم يومئان إيماءة كبيرة في اتفاق، ثم يتحركان نحوي، كل من جهة كما لو كانا سيطبقان علي؛ مما يجعلني أنفجر بالصراخ من شدة متعتي الممزوجة بالذعر. لم أكن أصرخ فقط من قيامهما بدغدغتي، أو من تهديدي بالدغدغة، بل كانت فرحتي تنبع من الاعتراف بوجودي، هذا التهديد كان يبدو لي نوعا من الاعتراف بوجودي وإعطائي فرصة أخرى؛ لم أكن خائفة قط من دوفال وجيمي على الرغم من ضخامة جسميهما، لم أكن أمانع عندما تفهمت من خلال رزانتهما أن ما يفعلانه كان من أجل التضاحك علي. كنت أرى أنهما قويان، خيران، وغامضان أيضا، تماما مثل المهرجين في السيرك. كانا في الواقع يستطيعان القيام بخدع كما يفعل المهرجون في السيرك. فكانا أحيانا يؤديان عروضا في صمت، بشكل عجيب، بالساحة المتربة، حيث يقومان بالتدحرج كالعجلات، ويقلدان وثبات الضفادع. قالت روبينا إنهما ماهران بما فيه الكفاية ليعملا بالسيرك، ولكنهما ما كانا ليتركا المنزل للعمل هناك، كانا يحبان المنزل جدا. لم يذهبا إلى المدرسة أيضا. لم يعودا إلى هناك منذ اليوم الذي أقدمت فيه المدرسة على ضرب جيمي لقيامه برمي ممسحة الطباشير خارج النافذة، فما كان من جيمي ودوفال - على حد قول روبينا - إلا أن اعتديا بالضرب على تلك المدرسة. كان هذا منذ سنين مضت.
قال الاثنان: «حبيبة من هذه الفتاة؟» إنها لي. إنها لي. ثم مثلا أنهما يتشاجران من أجلي، وأخذني كل منهما بين ذراعيه القويتين. لكم أحببت رائحتهما، التي علقت بهما من الحظائر والمحركات وتبغ فاين كات من باكنجهام.
كان لديهما أعداء لا يمكن التخلص منهم بسهولة مثل تلك المدرسة، فهناك أصحاب المحال الذين وجهوا لهما اتهامات بالسرقة، وهناك ستومب تروي الذي كان معروفا لدي كعدو لجيمي ودوفال - وبكل تأكيد، عدو لروبينا أيضا - منذ وقت طويل قبل أن يصبح ابنه هاوارد عدوا لي أيضا. ولكني لم أكن أعير هذا الموضوع أي اهتمام حتى ذلك الحين.
قالت روبينا إن ستومب تروي أبلغ الشرطة عن جيمي ودوفال متهما إياهما بسرقة البنزين من إحدى السيارات التي كانت مركونة أمام منزله مساء أحد أيام السبت. كانا قد سرقا البنزين فعلا - إلا أنهما سرقاه من السيارة القديمة المعطلة التي تترك دائما مفتوحة في الممر الجانبي - لكنهما سرقاه من سيارة رجل لم يعطهما قط أجرا عن أي عمل قاما به من أجله، وكانت تلك هي طريقتهما الوحيدة في الانتقام منه. وحتى قبل هذا الوقت كان ستومب تروي ينشر الأكاذيب عنهما، على حد قول روبينا، وكان هو الشخص الذي دفع أموالا لعصابة بأكملها قدمت من دنجانون لكي ينتظروا جيمي ودوفال ويضربوهما ضربا مبرحا - فحتى جيمي ودوفال لا يستطيع الواحد منهما أن يضرب أكثر من ثلاثة رجال منفردا - وذلك خارج قاعة بارامونت دانس هول للرقص.
أعتقد الآن أنهما ربما كانا خصميه، أو شريكيه، قبل أن تدب بينهم خلافات، في عمله بالتهريب. كانت أمي من المعادين لشرب الخمور، وكان هذا طبيعيا في مثل حالتها، وكانت روبينا في مطبخ أمي على ما يبدو تشاركها وجهة نظرها. قالت إن عائلتها جميعها على العهد الذي أخذته عليهم جدتهم بعدم الاقتراب من الخمر. قد تكون هذه مجرد مبالغة منها. مهما كانت الحقيقة، فقد أوقع ستومب تروي كلا من جيمي ودوفال في الكثير من المتاعب، وكانت لديه الوسائل التي يستطيع بها إيقاعهما في المزيد من المتاعب، وكانا يكرهانه كثيرا. «أوه، إنهما يكرهانه جدا! إذا كانا بالخارج في ليلة مظلمة ووجدا ذاك العجوز على الطريق، فسيجعلانه يندم أشد الندم على معرفتهما في يوم من الأيام!» «وأنى له الخروج إلى الطريق؟» «من حسن حظه أنه لا يستطيع هذا.»
قالت روبينا متنهدة: «جيمي ودوفال! طيبان بالفطرة. إنهما ليسا من الشباب السيئ، ولكنهما لا يستطيعان النسيان عندما يدبر أي شخص مكائد سيئة ضدهما. وإذا أقدم أحدهم على فعلها، فلن يتهاونا معه أبدا.» •••
مختلف أنواع العقاب. تخيلت نفسي أمشي فوق عيون هاوارد تروي، وأضع المسامير فيهما، كانت المسامير أسفل نعل حذائي وأنا أمشي فوقه، وكانت هذه المسامير طويلة وحادة، وكانت مقلتا عينيه تجحظان للخارج، بدون أي وقاية لهما، كانتا كبيرتين جدا كطبقين مقلوبين، وكنت أمشي فوقهما، أثقبهما ، أدهسهما، أدميهما، وأنا أتقدم بخطى ثابتة فوقهما. لم يكن هناك أي شيء جميل أو جيد مما تخيلته بشأنه، فلم أقل له أي كلمات لائقة في تخيلاتي بل أقوم بتمزيقه إربا في لحظة واحدة. كنت أحب أن أنزع رأسه من فوق كتفيه، مليئة باللحم وتقطر دما كالبطيخة، وأن أقطع أوصال جسمه، وأن أستعمل كل أنواع الأسلحة معه؛ الفئوس والمناشير والسكاكين والمطارق. لو كان بمقدوري مباغتته بهذه السكين، ليس لعمل شق صغير بجسده، بل فتحة كبيرة مثل التي يقومون بعملها في شجرة القيقب لاستخراج الشراب منها، كنت سأطعنه طعنة نافذة تخرج منه كل أنواع الصديد والمواد السامة التي ستتدفق وتسيل منه، ثم يتسرب كل شيء بعيدا. •••
سرت النيران في منزل ستومب تروي كسريان النار في الهشيم. مع مرور كل دقيقة بدا كما لو أنه سينفجر، لكن ما زالت جدران المنزل وسقفه متماسكة. أتت النار على جدران المنزل فجعلتها هشة مثل عيدان الحطب.
كان الناس يتصايحون: «سوف تتحول النار إلى السقف بعد ذلك! من حسن الحظ أن الرياح لم تهب اليوم!»
لم أستطع فهم لماذا كان هذا المنزل محظوظا، وكيف يمكن أن يكون هناك أي حظ في ذلك، المنزل الذي لم أجرؤ أو أرغب يوما في رؤيته تحول إلى حطام بكل بساطة كما لو كان منزلا في رسم على ورقة؛ ببابه الموجود في المنتصف ونافذتيه الصغيرتين على كلا الجانبين والروشن الموجود فوق الباب. كلتا نافذتي الطابق السفلي تحطمتا تماما، ليس بفعل النيران ولكن حطمهما هاوارد تروي وهو يحاول دخول المنزل، ولكن الرجال سحبوه إلى الخارج مرة ثانية. وها هو الآن يجلس على الأرض في مواجهة المنزل المحترق. كان منهكا بشدة، وعلى ما يبدو خارت قواه، كما كانت الحال وهو في المدرسة.
جاءت عربة الإطفاء التابعة للبلدية، ولكن في الوقت الذي جاءوا فيه لم يكن لدى رجال الإطفاء أي شيء ليفعلوه إلا أن يكونوا شاكرين لعدم هبوب الرياح. سحبوا سلالم الإطفاء ولكنهم لم يضعوها في أي مكان. كانوا قد استطاعوا بعد فترة من الوقت أن يحصلوا على بعض الماء من آخر صنبور إطفاء - وهذا كان بالطبع إلى خارج حدود البلدة - وقاموا برش بعض الأجنحة الملحقة بالمنزل التي كانت متهاوية بفعل النيران والسياج المحيط بالمنزل والحمام. كذلك سلطوا المياه على ألسنة اللهب المتصاعدة، ولكن كل هذا بدا مجرد سخف بلا طائل. وفجأة صاحت روبينا، التي كانت على درجة كبيرة من الإثارة: «ربما الأفضل أن تقفوا بعيدا وتبصقوا عليه!» كانت تنتفض وتصيح بصوت حاد، كانت هي نفسها أشبه بجمرة مشتعلة. كانت واقفة عند بوابة المنزل، حيث كانت شجرة زيتونية مهملة قد نبتت بها براعم الأزهار، براعم ناشئة، مع بدء ذوبان الجليد. كانت روبينا تبقيني بجوارها، أما أمي، التي جاءت بنا بالسيارة، فمكثت في السيارة بعيدا قليلا على الطريق. على الأرجح كانت تتفرج على ما يحدث، لكنها لم تعبأ بالاختلاط مع الناس.
كنت أنا أول من رأى النيران من نافذة غرفتي بالدور العلوي، رأيت شيئا جميلا، توهجا في أحد أركان المشهد الليلى الطبيعي، توهجا مختلفا عن إنارة أضواء البلدة، دافئا وآخذا في الانتشار. كان المنزل المحترق هو ما يطلق هذا الضوء، من خلال فتحاته ونوافذه.
المشكلة التي عانت منها روبينا، في اعتقادي، تمثلت في أنها لم تستطع فعل أي شيء بالنسبة لهذه النيران، لم تستطع أن تقود رجال الإطفاء. لقد حاولت هذا، ولكنهم بكل أسف استمروا في فعل ما كانوا يفعلونه، لم يكن أي منهم في عجلة. ولكن كان بإمكانها تصحيح المعلومات التي كان يتبادلها الناس حول المنزل.
هتف أحد القادمين متأخرا لمشاهدة النيران، قائلا: «لحسن الحظ لم يكن هناك أحد بداخله.»
لكن روبينا ردت بصرامة: «ألا تعرف منزل من هذا؟»
على ما يبدو كان هناك أناس لا يعرفون هذا. «ألا تعرف من يسكن هذا المنزل؟ إنه ستومب تروي.»
ولكن يبدو أنه لم يستوعب الأمر، لذلك أكملت شرحها، قائلة: «ستومب تروي مقطوع الأرجل! أظنه لن يستطيع الإسراع بالخروج منه، أليس كذلك؟ إنه لا يزال هناك.»
قال الرجل بخشوع: «يا إلهي! يا إلهي! سوف يتفحم هناك!»
في هذه اللحظة أحدثت النيران دويا مفاجئا، كان أشبه بصوت احتكاك قوي، كألواح خشبية، أو آلة لتجزيز الحشائش تجر فوق أرضية خرسانية. لم أكن أتصور قط أن تصدر النيران صوتا كهذا، صوتا غليظا مختلطا، الصوت الذي يطلق عليه الناس جلبة. داخل هذه الجلبة كان ستومب تروي يصرخ بشدة؛ ترى هل كان يصرخ طالبا النجدة؟ لو فعل، فإن صوت النيران العالي كان سيغطي على صوته، ولن يستطيع أحد هنا سماعه.
لم يكن منتصف الليل قد حل بعد، لذلك فإن معظم الناس لم يكونوا قد ذهبوا لكي يناموا بعد، أو نهضوا من سباتهم. الطريق كان ممتلئا بالسيارات الآن. الكثير من الناس كانوا جالسين فقط في السيارات، يشاهدون، ولكن خرج عدد كبير من سياراتهم أيضا، يتجولون خلف رجال الإطفاء أو واقفين خلف سياج المنزل، وكانت النيران منعكسة على وجوههم. حتى إن الأطفال لم يكونوا يجرون حولنا، حيث استحوذت النيران على اهتمامهم. رأيت إخوة وأخوات روبينا الصغار، بعضهم على الأقل. لا بد أنهم قد شاهدوا النيران من منزلهم - في هذا الوقت لا بد أن وهج النيران كان ظاهرا في السماء - وساروا كل هذا الطريق إلى هناك، خلال الغابة في ظلام الليل. رأتهم روبينا أيضا ونادت عليهم في الحال. «فلورنس! كارتر! فيندلي! ابتعدوا جميعا بعيدا عن هذا الحريق!»
كانوا بعيدين في الخلف على أي حال، ولم يكونوا قريبين من الحريق كما كنا نحن.
لم تسأل أين جيمي ودوفال، اللذان لم يكونا قط ليفوتا فرصة مشاهدة مشهد كهذا. طرحت أنا بدلا منها هذا السؤال. «فلورنس! أين جيمي ودوفال؟»
وفجأة ارتفعت ذراع روبينا السليمة لتهوي بها على وجهي في لطمة طالت فمي، أشد ضربة أحسست بها على الإطلاق، أو يمكن أن أشعر بها. كانت هذه الضربة مفاجئة جدا لي، لدرجة أني تصورت أنها ذات صلة بهذه النيران (لأن الناس كلهم كانوا يقولون: «احترسوا، سوف ينفجر المنزل عن آخره، الجدران سوف تتطاير!») أو أن ذراع روبينا ارتفعت لمنع شيء آخر من الاصطدام بي. وفي نفس اللحظة، انهار السقف أخيرا، وجرى الناس مبتعدين. ارتفعت ألسنة اللهب إلى عنان السماء، وانطلقت أيضا - وتقريبا في نفس الوقت - صيحة من الجانب الآخر من فناء المنزل، مع أنني لم أستطع فهم سبب هذه الصيحة إلا فيما بعد، حتى إنني كنت قد اعتقدت، وأنا في حالة الارتباك، أن هذا الصوت له علاقة بضربة روبينا لي. في الحقيقة، كانت هذه الصيحة لهاوارد تروي، الذي اندفع من المكان الذي كان جالسا به مباشرة إلى مدخل الباب المتداعي المشتعلة به النيران، وكان الأوان قد فات لينقذه أحدهم، إن كان هناك من سيفعل ذلك، وقد فات الأوان أيضا لينقذ نفسه.
بعد ذلك ظهرت الكثير من التفسيرات لما حدث؛ أحدها أنه كان يقصد أن يجري في الاتجاه الآخر، بعيدا عن النيران، ولكن بسبب جنونه المؤقت جرى مباشرة إلى داخل النيران. ثمة تفسير آخر يقول إنه سمع أباه يصرخ مناديا عليه وكان لا يزال يعتقد أن بمقدوره إخراجه من المنزل، أو لعله اعتقد أنه سمعه يصرخ مناديا عليه؛ فحينئذ لم يكن ستومب تروي بحالة تسمح له بالنداء على أحد. من شأن ذلك التفسير أن يجعل من هاوارد تروي بطلا، ولم يكن هذا مقبولا من أي أحد، مع أن بعض الناس المستغربين مما حدث تعلقوا بهذا التفسير، وكانت أمي من بين هؤلاء الناس.
هناك تفسير آخر يشير إلى أن هاوارد تروي هو من قام بإشعال النيران بنفسه، ربما حدث هذا بعد مشاجرة مع أبيه، ربما ليس بسبب معين، ولكن فقط لإظهار ما يمكنه فعله، كان منتظرا كل هذا الوقت ومستعدا لفعل هذه الفعلة، فيما كان الناس محقين في ارتيابهم فيه. كان هناك تأييد كبير لهذا التفسير، بسبب العثور على صفيحة بنزين فارغة هناك. كان بعض الذين اعتقدوا أن النيران بفعل فاعل يرون أن ستومب تروي هو من قام بإشعال الحريق بنفسه، أو أوعز لأحدهم بهذا، خدعة منه لكي يحصل على التأمين. وكان من المفروض أن يكون خارج المنزل أو لعله اعتمد على هاوارد لكي يقوم بإخراجه في الوقت المناسب، ولكن هاوارد خذله بسبب جبنه أو توقيته السيئ. وبدافع الندم، أو لخوفه من مواجهة السلطات، أقدم هاوارد على اقتحام النار مباشرة.
ومع ذلك، في ذلك الحين، لم تكن هناك أي تفسيرات قاطعة. كان كل ما يستطيع هؤلاء الناس فعله هو الإسراع وإخبار الآخرين، الذين ربما لم يشاهدوا الحريق. لم أكن متفاجئة من هذا؛ فالنيران وحدها، واللطمة التي هوت على وجهي، منعت عني الإحساس بأي مفاجآت أخرى. ضغطت يدي على فمي بشدة، وتعجبت من أن أسناني لم تنخلع جراء الضربة، فلم تسل الدماء إلا من قطع صغير بشفتي، بفعل احتكاكها بحافة سني.
بدا أن روبينا قد ملت فجأة من مشاهدة النيران؛ فسحبتني معها إلى خارج بوابة المنزل ثم على الطريق. لم نستطع أن نرى سيارة أمي؛ فقالت روبينا: «لقد سبقتنا إلى المنزل، ولا ألومها على ذلك؛ فهؤلاء الحمقى من الممكن أن يقفوا هناك طوال الليل إن أرادوا. أنا أعرف ما الذي يريدونه من انتظارهم هناك؛ إنهم ينتظرون لكي يروا استخراج الجثة.» ثم تداركت مصححة: «أقصد الجثتين.»
لم أرد عليها، أو حتى ألق نظرة واحدة على النيران من خلفي. مشيت إلى الأمام مباشرة، فإذا بروبينا تجذبني لكي تحول دون وقوعي في قناة. عندما جذبتني جفلت فزعة؛ فبادرتني روبينا، قائلة: «أنت تمشين كمن يمشي وهو نائم، ولم أجذبك إلا لكيلا تقعي في تلك الحفرة.»
عندما تجاوزنا المكان الذي تحتشد به السيارات، كان هناك مكان أوسع للمشي به، فتقدمت روبينا للمشي بجواري. وقد راودني إحساس بأنها تمشي في كل مكان حولي، فأحيانا تكون في الأمام، وأحيانا في الخلف، أو عن يميني أو يساري. كانت تسد علي المنافذ من كل الاتجاهات، ثم تدقق النظر في حتى تعثر على ما تبحث عنه، ثم تعيد ترتيبه من جديد. في ذلك الوقت قالت لي: «إذا سمحت لشيء سيئ كهذا أن يزعجك، فسوف تحدث لك الكثير من المشكلات في هذا العالم.»
لم أكن أحاول مطلقا معاقبة روبينا أو إثارة قلقها، غير أنني اعتزمت الرد عليها، حتى إنني اعتقدت في بعض الأحيان أنني قد رددت عليها فعلا، تماما مثلما يحدث عند بدء الدخول في النوم حيث تقول لنفسك باستمرار إنك يجب أن تفعل كذا وكذا، أو أن تغلق النافذة أو أن تطفئ النور، وهكذا تقنع نفسك وأنت تغط في النوم أنك قد فعلت ما تريد بالفعل، وبعد استيقاظك لا تستطيع التأكد يقينا مما حدث، أو مما قيل، أو مما حلمت به. لم أعرف قط بعد ذلك ما إذا كانت روبينا قد تحدثت معي في الواقع من حين إلى آخر كما كان يفترض أن تفعل، على نحو لم تعهده بصوت هادئ ومهتم، لتحذرني أو تعدني بشيء ما، لتخيفني أو تطمئنني.
أو إن كانت قد قالت لي في أي مرة على الإطلاق: «اسمعي. سوف أريك ذراعي المصابة.»
لو قالت هذا، لما كنت أجيب على الإطلاق أيضا. •••
عندما كنت في المدرسة الثانوية، أو كنت أعود إلى المنزل من الجامعة في الإجازات الأسبوعية، كنت أحيانا أرى روبينا تمشي على الطريق الرئيسي، بأكمامها التي تخفق في الهواء، وبذراعها السليمة الوحيدة، بخطواتها الواسعة التي كانت تبدو دائما وكأنها تأخذها إلى المنحدر. لم تعد تعمل لدينا منذ وقت طويل، وذلك عندما عاد أبي إلى المنزل بشكل نهائي، وكانت معه ممرضة أرادت أن تطهو لنفسها، لم يكن هناك مكان لروبينا، ولا مال متبق لكي ندفعه لها أيضا. عندما رأيتها حضرتني ذكريات طفولتي، التي كانت تبدو حينها وقد مر عليها زمن بعيد، والتي كانت حافلة بذكريات مفزعة ومخزية. نظرا للتغييرات التي طرأت علي؛ فقد تغيرت الأشياء كثيرا من حولي، كنت أعتقد أنه بقليل من حسن الحظ والتصرف يمكنني أن أتغير لأكون مثل أي شخص آخر. وهذا في الواقع ما فعلته.
نظرت إلي روبينا باستغراب، نظرة سخيفة، نظرة ليست بريئة أبدا؛ بيد أنني كنت سأتحدث إليها، كنت مستعدة للقيام بهذا، ولكنها أشاحت بوجهها إلى الاتجاه الآخر ولم تحدثني قط، لتريني بهذا التصرف أنني قد أصبحت واحدة من هؤلاء الذين أساءوا إليها. •••
لعل روبينا ماتت الآن، وربما توفي أيضا كل من جيمي ودوفال، مع أن هذا صعب التخيل. أنا الآن على بعد بضع سنوات من التقاعد. أنا الآن أرملة، موظفة في الحكومة، أعيش في الطابق الثامن عشر ببناية سكنية. لا أجد غضاضة في أن أعيش وحيدة. في المساء أقرأ، وأشاهد التليفزيون. لا، هذا ليس صحيحا دائما. أحيانا أجلس في الظلام، وأشرب الويسكي والماء، أفكر دون جدوى وبلا حول أو قوة - ولكن في راحة - في أشياء مثل تلك التي نسيتها، أو لم أكن لأتحمل التفكير فيها منذ زمن طويل.
عندما يموت الجميع من ذا الذي يستطيع تذكر هذه الأشياء، ثم سينسى الجميع أمر حادثة احتراق المنزل، وكأن شيئا لم يحدث.
مراكش
كانت دوروثي جالسة على كرسي مستقيم الظهر بالشرفة الجانبية تأكل البندق؛ فقد اعتادت شراءه من الماكينة الموجودة بالصيدلية، كانت تأكله من الكيس الأبيض المرسوم عليه صورة سنجاب. بعمر السبعين، كانت دوروثي مضطرة للإقلاع عن التدخين حيث إنه سبب لها آلاما بالصدر. عندما كانت مدرسة بالمدرسة لم يستطع أحد إجبارها على الإقلاع عنه، حتى مجلس إدارة المدرسة، حتى إن الآباء قدموا فيها شكوى ذات مرة، إلا أن ذلك لم يفلح أيضا في جعلها تكف عن التدخين. زميلها جوردي لوماكس - وهو متوفى حاليا - هو من قدم لها العريضة آنذاك؛ تفحصتها بشكل انتقادي وكأنها ورقة اختبار تهجية لأحد الطلاب، ثم قالت بحزم: «قل لهم إن هذه هي السيئة الوحيدة لدي.» وبالفعل ذهب جوردي وقال لهم: «تقول إن هذه سيئتها الوحيدة.»
توقعت فايولا أن دوروثي ستصاب بالبدانة؛ نظرا لتناولها المكسرات بدلا من السجائر، لكن لا شيء يجعل دوروثي تصاب بالبدانة، لا الآن ولا فيما مضى من عمرها. انزعجت فايولا لأنها لم تستطع فعل الأمر نفسه، لم تستطع أكل المكسرات والتفاح حتى لا تصاب بالبدانة؛ فقد كانت شرهة للطعام.
في تلك اللحظة كانت دوروثي جالسة وحدها، في حين ذهبت فايولا للمدافن مصطحبة جانيت معها، وفي الصباح الباكر قبل الإفطار ذهبت إلى الحديقة تقلم الحشائش وتنسق أزهار العائق التي كانت في أوج ازدهارها في ألوان حملت جميع درجات اللونين الأزرق والبنفسجي ؛ كانت تريد صنع باقتين من الورد لتضعهما على ضريح كل من زوجها وزوج دوروثي (حيث إن دوروثي قلما تذهب هناك)، وأخرى لوالديهما.
قالت فايولا لجانيت أثناء تناولهما الإفطار: «أعتقد أنك ستحبين الذهاب لرؤية «آخر إطلالة».» كان هذا هو التعبير الذي استخدمه زوجها على سبيل الدعابة للإشارة إلى زيارة المقابر، وبالطبع لم تفهم جانيت ما تعنيه. كانت فايولا تتحدث دائما بود ودلال مع كل الناس رغما عنها، فهي تميل برأسها ذي الشعر الفضي المموج بطريقة غير مفهومة، وتهمس على نحو يثير الاستهجان ببعض الكلمات مع عامل الخزينة في البقالة، ومع الميكانيكي في ورشة السيارات، وحتى مع الصبي المسئول عن تقليم الحشائش بالحديقة، ولا أحد منهم يرهق نفسه في محاولة فهم نصف كلامها غير الواضح. كانت دوروثي محرجة من هذه الطريقة، وكان عليها أن تكون أكثر فظاظة لدرجة لا تكون عليها في أحوال أخرى حتى تغطي على حماقة فايولا.
قالت دوروثي: «إنها تعني المقابر.»
أجابت جانيت وهي تبتسم ابتسامتها الساحرة الرقيقة: «أوه، أنا أحب المقابر.»
قالت دوروثي وهي تنظر لفنجان القهوة السادة بجوارها كأنه بئر: «وما الذي تحبينه فيها؟»
قالت جانيت بشجاعة: «حسنا، أحب المنظر هناك، وأيضا أحب شواهد القبور القديمة؛ أحب قراءة ما نقش عليها من كلمات.»
قالت فايولا بخبث: «دوروثي تعتقد أني كئيبة لذهابي إلى هناك.»
فردت دوروثي قائلة: «أنا لا أعتقد أي شيء.» ثم لمعت عيناها كأنها تذكرت شيئا ما وقالت وهي تنظر إلى باقات الأزهار التي تضعها فايولا في المزاهر: «الزجاج محظور في المقابر، سيتعين عليك أخذ هذه الزهور ووضعها في أواني الأيس كريم البلاستيكية.»
قالت فايولا مندهشة: «محظور! وما سبب حظره؟»
أجابت دوروثي بنبرة الخبراء لترضي غرورها: «إنه تخريب للممتلكات العامة، سمعت ذلك في الإذاعة.»
جانيت هي حفيدة دوروثي. لم يعرف أحد من أهل البلدة ذلك، مع أنهم يرونها مع هاتين السيدتين العجوزين - يرونها مع فايولا التي تقود السيارة أكثر من دوروثي - فهم يعتقدون أنها قريبة لهما من بعيد. ومع أن دوروثي قضت معظم حياتها بهذه البلدة فإنه ما من أحد من أهلها يتذكر أنها أرملة ولها ابن وحيد، اسمه بوبي، كان يرتاد المدرسة الثانوية هنا أربع سنوات، قبل أن يسافر إلى الغرب بحثا عن عمل بالسنوات الأخيرة قبل الحرب. كانت دوروثي تدرس للصف السابع في المدرسة العامة منذ أن كانت أرملة وحتى تقاعدها، وبسبب ذلك نسي أهل المدينة أنها كانت لها حياتها الخاصة. تركت دوروثي بصمة مميزة في حياة الكثير والكثير منهم وأثرت في حياتهم؛ فعندما يرونها بالشارع ينظر إليها كل من سائقي الشاحنات، وأصحاب المتاجر، والأمهات اللاتي يدفعن عربات أطفالهن، وحتى الجدات اللاتي يدفعن عربات الأحفاد، كل منهم عندما يراها يتذكر الخرائط، والدرجات، ومسابقات التهجية، وطريقتها الجادة الحصيفة غير المجحفة في تسيير الفصل الدراسي الذي أحسنت إدارته. هي نفسها لا تفكر بفصلها الذي قضت به معظم عمرها، ولا تستطيع حتى الذهاب لزيارته إذا أرادت ذلك؛ حيث إنهم هدموا المدرسة القديمة، وأنشئوا مكانها مدرسة جديدة متواضعة، قبيحة المنظر، ضعيفة البناء؛ وعلى قدر ما يكترث هؤلاء الناس لأمرها، كان هذا الجانب ملازما لها، إلى الأبد، ولم يروا منها سواه. وكلمة السيدة التي توضع قبل اسمها لم يكن لها معنى لديهم إلا أنها من باب الاحترام.
مات بوبي ابنها قبل الحرب في حادث تصادم سيارة بمقاطعة كولومبيا البريطانية، لكنه تزوج قبل هذا وأنجب طفلة هي جانيت، وحتى هذه اللحظة لم تر دوروثي والدة جانيت، التي انتقلت بدورها إلى فانكوفر وتزوجت ثانية خلال سنتين، وبدأت حياة جديدة وكونت أسرة كبيرة. عندما بلغت جانيت الرابعة عشرة من عمرها كانت المرة الأولى التي تأتي فيها لزيارة دوروثي، حيث سافرت بالقطار لتقضي معها شهر الصيف، واستمرت في المجيء كل صيف عدة سنوات قليلة. كانت دوروثي تقتسم مع زوج والدة جانيت تكاليف سفرها؛ كما كانت مراسلات دوروثي معه، وقد فسر لها أن وجود احتكاكات بين جانيت ووالدتها أمر طبيعي لوجود أطفال كثيرين آخرين لدى والدة جانيت، وأنه لمن الطيب منحهما بعضا من الوقت كإجازة. كان هذا الرجل على ما يبدو رجلا عاقلا رشيدا . هو أيضا متوفى الآن، ومن الواضح أن هذا صعب الأمر على جانيت مع والدتها وأسرتها البديلة.
مع ذلك استمرت جانيت في زيارة دوروثي، وبعدما انتقلت فايولا للعيش معها أصبحت تزور دوروثي وفايولا. حصلت جانيت على منح دراسية تمكنها من دخول الجامعة، واستمرت هناك للحصول على الماجيستير والدكتوراه أيضا، وانخرطت في سلك التدريس بالكلية وقتا لا بأس به. كانت جانيت دائمة السفر، وأصبحت زياراتها لدوروثي لا تمتد أكثر من أسبوع، وأحيانا لا تتعدى ثلاثة أو أربعة أيام؛ حيث أصبح لها أصدقاء تريد رؤيتهم، وأصبحت لها ترتيبات تود الاضطلاع بها. كانت دوروثي تعتقد أنها ملت الذهاب هناك والمكوث طويلا.
عندما أتت جانيت لزيارتها أول مرة - عندما كانت طفلة صغيرة - كان شعرها بنيا وقصيرا، وفي وقت لاحق أصبح أشقر اللون. وذات يوم ظهرت بشعرها مرفوعا على نحو يبدو وكأنها تضع كومة فقاقيع فوق رأسها؛ في هذه الأيام كانت عادتها أن تضع ظلا أزرق على جفونها يمتد إلى حاجبيها، وترتدي ثوبا ضيقا جدا بأشكال ملونة بالبنفسجي والبرتقالي، والأصفر والأحمر القرمزي. كان مظهرها، والهالة المثيرة التي تخلفها، مفاجأة كبيرة، بعدما كانت بنتا صغيرة ذات جمال هادئ ومظهر مناسب لسنها، أما عن مظهرها الآن فهو مفاجئ أكثر؛ فقد تركت العنان لشعرها ليصبح طويلا، وإما أن تعقده في ضفيرة أو تتركه ليسترسل بتموج على ظهرها، وترتدي بنطلونا من الجينز وبلوزة على الطراز الريفي، ومجموعة من الاكسسوارات المعدنية والخرزية، ومعظم الوقت بلا حذاء، وكانت ترتدي فساتين صغيرة مطبوعة عليها رسومات طفولية وقصيرة مثل ملابس اللعب، لدرجة أنها تنحسر على ظهرها لتكشف بكل جسارة عن عدم ارتدائها حمالة الصدر. لم تكن تحتاج إليها؛ فقد كانت امرأة بعمر الثلاثين لكن بجسم طفلة لم تتعد عامها الحادي عشر.
علقت فايولا على ذلك، قائلة في هدوء: «هل تحاول أن تكون واحدة من الهيبيين؟ بالطبع سيتخذونها أضحوكة وهي تدرس.» كانت فايولا من تلك الشخصيات البارعة في رسم الابتسامة على وجهها أمامك بينما تطعنك في ظهرك بالسكين؛ وكان ذلك ناتجا عن حياتها الاجتماعية باعتبارها زوجة لرجل مصرفي، التي انطبعت عليها. كانت بكلماتها تلك تحاول لفت انتباه دوروثي إلى أنها جدة جانيت. كان كل من فايولا ودوروثي راضية بالقدر الكافي للترتيبات التي أعدتاها للعيش معا؛ فكان ذلك موفرا لكلتيهما وضمن لهما الصحبة، إضافة إلى الرعاية إذا نزلت بإحداهما نازلة أو ألم بها مرض؛ كانتا مرتاحتين إحداهما للأخرى لكن مع وجود بعض المشاحنات كالتي تحدث بين الأطفال في المنزل الواحد، أو كتصرفات الزوجين غير المتجانسين بعد مدة طويلة من الزواج؛ كان الارتياح بينهما متعذرا تفسيره ولا يستدل عليه، لدرجة أن ما كان يبدو على كل واحدة منهما على السطح - ما كانتا تظنان أنهما تشعران به - قدر كبير من الترقب والحنق والقلق تجاه الأخرى.
أجابت دوروثي، قائلة: «تلك هي الملابس التي أصبح الجميع يرتديها بالجامعة في هذه الأيام.» «والمدرسون أيضا؟» «لا فرق.» «ولكن، هل ستتزوج بهذا الشكل؟» لم تسل فايولا سؤالها الأخير عشوائيا.
كانت دوروثي قد شاهدت في المجلات صورا لتلك الطريقة الجديدة التي اعتاد البالغون اتباعها في انتقاء ملابسهم بحيث بدوا كأنهم عادوا إلى مراهقتهم، وكانت جانيت هي أول شخص تراه يفعل ذلك عن قرب، بلحمها وشحمها. كان المعتاد أن الفتيان والفتيات يحاولون التشبه بالرجال والنساء الناضجين، وغالبا ما تكون النتيجة مثيرة للسخرية، والآن أصبح الرجال والنساء الناضجون يحاولون التشبه بالمراهقين، وربما استيقظوا على حقيقة أنهم على شفا الشيخوخة. إنه لمن العجيب أن ترى خليطا من سمات الطفلة والمرأة الناضجة بوجه جانيت؛ ففي بعض الأحيان تبدو وكأنها أصغر من سنها بعشر سنوات؛ حيث يصبح وجهها بدون زينة شاحبا، وفمها كبيرا لكنه مغلق في تحفظ، تبدو نقية ونظيفة وحالمة وسارحة في فكرها. وفجأة مع تغير المزاج أو كيمياء الجسم يتحول ذلك الوجه البريء ذاته إلى وجه تعلوه زرقة ويحمل تعبيرات الألم، وتصبح بشرتها متجعدة وذابلة تحت عينيها، وكأنما تقدم بها العمر سنوات عدة.
يبدو الشارع من الشرفة حيث تجلس دوروثي أكثر حرارة وأكثر سوءا مما كان يبدو بكل صيف؛ وذلك بسبب غياب الأشجار عن الشارع. ففي الخريف الماضي أتى عمال البلدية واجتثوا كل أشجار الدردار، تلك الأشجار الفارعة القديمة ذات الظل الظليل، تلك الأشجار التي كانت أغصانها تتشابك معا لتظلل نوافذ الأدوار العليا وتنمو عليها، وعندما يحل أكتوبر كانت تغطي المروج بأوراقها. أما الآن فالمرض أصاب كل الأشجار، وبعضها نصف ميت بالفعل؛ لذا كان عليهم أن يقتلعوها قبل أن تأتي رياح الشتاء وتشكل منها خطرا كبيرا. لم يكن الاختلاف الذي شكله غياب تلك الأشجار واضحا خلال فصل الشتاء؛ بل كانت أكوام الثلج على جانبي الطريق أكثر ما يميز الشارع بذلك الفصل. لكن الآن عندما حل الصيف لمست دوروثي فارقا كبيرا عن ذي قبل، فالأجزاء المتخلفة من الأشجار عزلت المنازل وجعلت الأفنية تبدو أوسع مما كانت عليه، وجعلت الرصيف الضيق المرقع يبدو وكأنه نهر يتدفق بالأضواء.
عندما وصلت جانيت ذلك الصيف حزنت حزنا كبيرا على الأشجار، وقالت بمجرد أن خرجت من سيارتها الأجنبية الصغيرة ذات اللون الكريمي: «الأشجار! الأشجار الجميلة، من قطعها؟»
أجابت دوروثي: «البلدية.» «هم من فعلوا ذلك؟!»
قالت دوروثي وهي تتبادل مع حفيدتها قبلة بالهواء وذراعاها مرفوعتان إشارة للمعانقة: «لم يكن لديهم خيار آخر؛ فقد أصابها المرض.»
صاحت جانيت وهي مستاءة قائلة: «نفس الشيء يحدث بكل مكان، كل ذلك جزء من خطة تخريبية تحول البلدة بأسرها إلى خراب.»
لم تستطع دوروثي التصديق على كلامها، فهي لا تستطيع التحدث عن البلدة بأسرها، لكنها تكاد تجزم بأن تلك البلدة من المستحيل أن تتحول إلى خراب، ففي الواقع قام أهل البلدة حديثا بتجفيف وتنظيف منطقة المخلفات بجوار النهر، وحولوا المكان إلى منتزه لطيف جدا، وهو الشيء الذي كانت تفتقر إليه البلدة منذ نشأتها من مئات السنين. فهي تدرك أن المرض الذي أصاب أشجار الدردار قضى على كل الأشجار من ذلك النوع بأوروبا كلها خلال القرن الماضي، وأنه يتقدم ليستمر في إصابة الأشجار بهذه القارة مدة خمسين سنة قادمة، ويعلم الله أن العلماء يبذلون جهدا كبيرا في محاولة ابتكار علاج لذلك المرض. شعرت أنها مجبرة على سرد هذا كله. ابتسمت جانيت بشحوب وقالت بداخلها: نعم، لكنك لا تعلمين ما يحدث بكل مكان، التقدم والتكنولوجيا يدمران كل أثر لجودة الحياة.
أخذت دوروثي تفكر متناسية منظر جانيت الكئيب، وكيف أنها دائما ما تنزعج من أشياء من المفترض أنها لا تعرف عنها شيئا، بل وتحاول الدفاع عنها مع أنها لن تجني من ذلك شيئا. جودة الحياة! هي لا تفكر بتلك المصطلحات أو حتى تتحدث مع المفكرين بها؛ إن جانيت داهية يصعب فهمها.
قالت فايولا: «إنها تمتلك سيارة جميلة، وتدرس وتعمل بذات الوقت، وليس لديها من تنفق نقودها عليه سوى نفسها، وحياتها إجمالا حلم بالنسبة لنا، ومع ذلك تبدو غير سعيدة.» تعتقد فايولا بالطبع أن جانيت متكدرة وغير سعيدة بسبب عدم زواجها إلى الآن، لكن دوروثي لم تفكر من ذلك المنطلق؛ فهي لم تشعر أن متكدرة أو حتى حزينة هي الكلمات الدقيقة لوصف حالة جانيت؛ إنها المراهقة، تلك الكلمة هي التي قفزت بعقلها مع أنها أيضا كلمة غير وافية لوصفها.
تذكرت دوروثي نفسها عندما كانت شابة، وكيف أنها ألقت بنفسها على العشب بجوار الممر بمزرعة والدها وأخذت تصرخ وتنوح، ولماذا؟ لأن والدها وإخوتها كانوا يستبدلون بالسور القديم، الذي كان مقوسا ومكسوا بالطحالب، أسلاكا شائكة! بالطبع لم يسترع احتجاجها وصراخها انتباه أحدهم، وبمرور الوقت أفاقت وغسلت وجهها بالماء واعتادت على منظر الأسلاك الشائكة. كم كانت تكره التغيير، كم كانت متشبثة بأشياء بالية، كانت تعتبر ذلك السياج المخضر والمتعفن شيئا بديع المنظر، أما الآن فقد غيرت من نفسها، أصبحت تتقبل ما استبدل بما كانت تراه جميلا، أصبحت الآن تتقبل الظلال المختلفة على العشب، والرصيف الرمادي، لكنها بذات الوقت تتحاشى التسليم بذلك مطلقا، فهو لا يشكل أمرا كبيرا بالنسبة لها، ولا حتى يشعرها بالألفة. هي تفترض أن هذه البيوت القابعة عبر الشارع موجودة منذ أربعين سنة، وقبل ذلك بوقت طويل، حيث إن هذه البلدة هي بلدتها منذ طفولتها، وكم من مرة مشت بهذا الطريق مع أسرتها قادمة من الريف في طريقها لتضع الحصان بحظيرة الكنيسة الميثودية. لكن إذا ذهبت كل تلك البيوت، وانطمس أي أثر لأسيجة الشجيرات والكرمات وأراضي الخضراوات وأشجار التفاح وما إلى ذلك، وحل محلها مركز تسوق كبير، فما كانت لترحل عن البلدة، بل على العكس، ستجلس كما تجلس الآن تنظر؛ ليس نظرة خاوية، بل ستنظر بشغف قوي إلى السيارات والرصيف واللافتات المضيئة والمحلات ذات الأسقف المسطحة وذلك السوبر ماركت الضخم ذي الشكل المنحني؛ أي شيء سيجعلها تنظر إليه، سواء أجميل أم قبيح، لا يهم؛ لأن أي شيء به شيء جديد يمكن اكتشافه. ترسخ لديها هذا الشعور عندما نضجت وكبرت، وهو ليس على الإطلاق نوعا من السلام أو تركا للأمور تعبر وتمر كما هو متوقع من المسنين، بل على العكس؛ إذ كان هذا التركيز المثير للضيف يؤلمها.
قالت فايولا لدوروثي أكثر من مرة: «تبدين كما لو كنت تفكرين بأمور محزنة، الأفكار السعيدة تحافظ على شبابك.»
أجابتها دوروثي: «فعلا؟ حسنا، لقد ولى وقت شبابي.»
عندما اقتلعت الأشجار أصبح من السهل الوصول بمرمى البصر إلى شارعي مايو وهاربر. رأت دوروثي جارهم بلير كينج آتيا من ناصية الشارع عائدا إلى المنزل من العمل. كان بلير كينج يعمل في محطة الإذاعة، التي لا تبعد أكثر من مربعين سكنيين عن هنا، وهو ليس من أهل البلدة شأنه شأن معظم العاملين بمحطة الإذاعة، وربما ينتقل من هنا في غضون سنوات قليلة. قام باستئجار المنزل المجاور لدوروثي له ولزوجته، لكن زوجته غير موجودة حاليا، فهي محجوزة بالمستشفى منذ عدة أسابيع.
توقف بلير كينج ناظرا إلى اللوحة المعدنية التي تحملها سيارة جانيت والتي تحمل أرقاما تشير إلى أنها من خارج المنطقة.
فقالت له دوروثي: «إنها سيارة حفيدتي التي تزورنا من حين لآخر!»
ما الذي دفعها لقول ذلك؟ فلا هي أو فايولا على معرفة جيدة بآل كينج، وحتى لم يتبادلوا الزيارات. كان الرجل شخصا ودودا بطريقة تبدو شبه رسمية، أما الزوجة فكانت هادئة السمت. لم يصنعوا الكثير بباحة منزلهم؛ فالزوجة كانت تعمل بمكتبة البلدة قبل أن تصاب بالمرض. رأتها دوروثي وفايولا بالصدفة أكثر من مرة بمحيط منزلها، وكانت طريقتها في اللبس كبنت بالجامعة؛ فكانت ترتدي تنورة وجاكيت وتضع مشبكا بشعرها المنسدل على كتفيها (كانت كهيئة البنت بالجامعة منذ خمسة عشر عاما، فهي لم تواكب عصر الموضة كما تفعل جانيت)، وكانت نبرة صوتها منخفضة ومهذبة بطريقة كانت تشعر أهل البلدة بالإهانة قليلا. أيضا نادرا ما قابلت دوروثي في حياتها شخصا يملك في وجهه تلك الثقة والألفة مجتمعتين.
قالت فايولا: «الرجل الوسيم دائما ما يقع اختياره على امرأه كهذه، هل يعقل أنهما غير مهتمين بالمظاهر رغم تمتع كل منهما بهذا المظهر الجميل؟»
اقترب بلير كينج من الشرفة بحكم الجيرة لكنه لم يصعد إلى الشرفة، بل وضع قدما على السلم واتكأ على إحدى ركبتيه. كان وسيما لكنه لم يكن مهندما، ابتسامته كصوته مصطنعة وغير تلقائية. فالمشكلة التي تعاني منها زوجته تؤثر عليه أيما تأثير.
قال بإعجاب: «تثير سيارتها إعجابي كلما مررت من هنا.» «اشترتها من أوروبا السنة الماضية وشحنتها إلى هنا. كيف حال زوجتك؟»
لم تتردد دوروثي في طرح هذا السؤال مع أنها تعرف كل شيء؛ نانسي كينج كانت تعاني من السرطان. إن فكرة الاحتضار بسن السادسة والثلاثين هي حقا مأساة، لكنها لم تجرؤ على البوح بذلك أمامه تقديرا منها لمعنى الأسى، هي فقط سألته لتتجاذب أطراف الحديث. «هي ليس متعبة جدا حاليا.»
استمرت في الحديث معه لفكرة لمعت بعقلها، فاستطردت: «هل الجو حار بالمستشفى؟» «الجناح الجديد كله مكيف.» •••
قالت دوروثي: «لقد دعوت جارنا بلير كينج لقضاء الأمسية معنا.» «أنت تدعين الناس! ماذا سيحدث بعد؟ أستنطبق السماء على الأرض؟!»
واصلت دوروثي كلامها: «لا أعرف ماذا نقدم له، ربما يتوقع شرابا ما، هؤلاء العاملون بالإذاعة لا يخرجون مساء لشرب الشاي.»
قالت جانيت: «العاملون بالإذاعة؟ أعتقد أن لقب إعلامي سيكون منمقا.»
سألت دوروثي: «أين الخمر الإسباني؟» لم تكن تشرب الخمر، وكانت تقول الحقيقة عندما قالت إن التدخين هو السيئة الوحيدة بحياتها، لكن فايولا اعتادت شرب الخمر الإسباني منذ استضافتها للناس بحفلات العمل أيام زواجها من المصرفي، ومن حينها اعتادت الاحتفاظ بزجاجة منه بالمنزل دائما.
قالت فايولا مناشدة جانيت: «كيف سنقدم له الخمر الإسباني، أتعلمين ماذا يسمونه؟ شراب السيدات كبار السن!»
قالت جانيت بأريحية: «سأذهب إلى محل الخمور وأشتري زجاجة جين، وماء الصودا، وسأرى إن كان من الممكن إحضار بعض الليمون، أعتقد أن هذا سيكون لطيفا في ليلة حارة؛ فلا أحد يمل من شراب الجين مع الصودا.»
بيد أن فايولا لم تشعر بالرضا، فقالت: «علينا أن نعد شيئا ليأكله.»
فأجابت دوروثي: «شطائر الخيار.»
صاحت جانيت بلهجة لم يفهم الغرض منها: «رائع، مثل أوسكار وايلد، سأحضر بعضا من الخيار أيضا.» أعادت عقد ضفيرة شعرها وهي تدندن بسعادة، وهي لا تصدق نفسها أنها ستخرج بمفردها لنصف ساعة. ركضت للخارج وركبت السيارة وهي تغني: «الجين والصودا، الليمون، والخياااار.»
قالت فايولا مستغربة: «ستذهب إلى المتجر حافية القدمين.» •••
بحلول منتصف النهار كانت جانيت مستلقية بالفناء الخلفي تحت أشعة الشمس، لم تستطع فايولا رؤيتها، ولتحمد جانيت ربها على ذلك؛ فلو رأتها فايولا لقالت: «هل هذا بديل البكيني؟ اعتقدت أنها تربط شريطين حول نفسها وحسب.»
لكن غرفة فايولا كانت تقع بمقدمة المنزل، أما غرفة دوروثي فكانت في مؤخره، وكانتا كلتاهما تنامان القيلولة اعتقادا منهما أنها تكسر ملل اليوم وتعبه. كانت دوروثي تعتبر القيلولة ترفا في نهار الصيف حينما كانت معلمة؛ فقد كانت الدراسة تتعبها خلال السنوات الأخيرة، ولم تكن تأخذ إجازة الصيف كاملة؛ حيث إن وزارة التعليم قررت بحكمتها اللامحدودة إرسالها إلى تورونتو ثلاثة أسابيع تقضيها في غرفة حارة مستأجرة لتلقي دورات تدريبية ستمكنها من تطبيق طرق واتجاهات حديثة في تدريسها بالفصل (في الواقع هي لم تطبق شيئا من هذا، بل استمرت في التدريس بالطريقة التي اعتادت عليها دائما). وعندما عادت من تورونتو وجدت جانيت، لكن جانيت لم تجبرها على تغيير الكثير من نمط حياتها؛ فاستمرت في أخذ القيلولة بالطابق العلوي، بل وأطالت مدتها. أحيانا كانت تلمح جانيت وهي بحجرة الجلوس تقرأ أحد الكتب، أو تجدها على الأرجوحة بالشرفة الخلفية، وإحدى قدميها مدلاة تدق بها الأرض بين الفينة والفينة لإبقاء الأرجوحة مهتزة. فكانت تتساءل بداخلها: هل تلك الطفلة سعيدة؟ هل عليها فعل المزيد لإسعادها؟ هل تأخذها مثلا لحمام السباحة الجديد؟ أم هل تشترك لها بدروس التنس؟ وبعدها تتذكر أن جانيت قد تخطت مرحلة أن يصطحبها أحد لمكان ما، وأنها لو كانت ترغب في الاشتراك بدروس التنس لسألت عنها بالتأكيد. هذا بالضبط ما كانت دوروثي تحب فعله عندما كانت صغيرة وما زالت تحبه حتى الآن؛ فكان من الطبيعي لكلتيهما أن تجتمعا على طاولة الطعام وكل واحدة منهما تقرأ كتابا. الآن جانيت أصبحت تقرأ أقل من ذي قبل، ربما لأنها انشغلت بالدراسة.
أصاب دوروثي نوع من السأم هذه الأيام، ففي الفصل لم تكن تسعى لشيء أكثر من التأكد من إن كان تلاميذها قد استوعبوا أساسيات الرياضيات والتهجية، والحقائق التاريخية والعلمية والجغرافية التي كان عليها تدريسها لهم. كانت ترى جانيت، الفتاة الخجولة الجادة، لا تكبر كثيرا عن تلاميذها. «طالبة للعلم» هو التعبير المناسب لوصف جانيت، مع أنه تعبير قديم الاستخدام. لقد تيقنت دوروثي وقتها، ودون الحاجة إلى التشكك في الأمر أو حتى التفكير به، أن جانيت تعتبر امتدادا طبيعيا لها. لكن هذا لم يعد ظاهرا؛ فالرابط بينهما إما أنه انكسر أو لم يعد مرئيا. ولبعض الوقت كانت دوروثي تلقي نظرة من شباك غرفتها على جسد حفيدتها البني العاري، الذي بدا وكأنه رسم هيروغليفي كبير مرسوم على العشب. •••
بدأ بلير كينج يروي وهو جالس بالشرفة الجانبية مرتشفا الجين: «وعلى الطريق السريع ...» كانت جانيت هي من يرمي إليها بكلامه، في حين كانت دوروثي تتابع الحديث بانتباه، لكن ليس بارتياح. «أوه، الطريق السريع! إنها أسوأ تجربة بحياتي، أن أقود على الطريق إلى لندن في الضباب، بسرعة لا تزيد عن ستين كيلومترا في الساعة، فلا تستطيع تجاوز تلك السرعة في ذلك الضباب، ضباب كثيف بمعنى الكلمة، لدرجة أنك لا تستطيع الرؤية أبعد من عشرة أقدام أمامك. ذات مرة استأجرت أنا وأحد أصدقائي سيارة تخييم، لكني لم أتعلم قيادتها جيدا، ودخلنا بواحد من تلك الطرق الدائرية ولم نستطع الخروج منها، وأخذنا ندور وندور على الطريق، فكان الأمر أشبه بمسرحية رمزية يقدمها طلبة الجامعة.»
هل كان بلير كينج يعي ما كانت تحكيه؟ يبدو ذلك؛ فقد كان يتطلع إلى وجهها ويتمتم مشجعا. كانت هذه أول مرة تسمع فيها دوروثي عن سيارة التخييم، أو الصديق، أو حتى عن ذلك الطريق السريع. لم تذكر جانيت شيئا عن أوروبا لجدتها أو لفايولا أكثر من ذكرها للأماكن التي تعج بالسائحين، والبيوت الرطبة باليونان خلال فصل الشتاء، وأن السمك المجمد من أثينا يتكلف أقل من ذلك السمك الذي يصيده الفلاحون. وأخذت تصف الأشياء التي يأكلونها إلى أن صرحت فايولا أنها تشعر بالغثيان.
تكاد دوروثي تجزم بأن فايولا الآن تتساءل إن كان ذلك الصديق رجلا أم فتاة؟
قضى بلير كينج وزوجته ستة أشهر بأوروبا منذ ثلاث سنوات؛ ولم يسمح لهم بلير خلال فترة الزيارة بنسيان زوجته؛ بل ظل طوال حديثه يذكر اسمها، أنا ونانسي، نانسي قادت السيارة على الطريق في سويسرا، نانسي أحبت البرتغال لكن إسبانيا لم تعجبها كثيرا، نانسي كانت تحب مصارعة الثيران بالبرتغال. وكانت فايولا تتداخل معه في الحديث من حين لآخر متحدثة عن الأسابيع الثلاثة التي قضتها مع زوجها ببريطانيا العظمى سنة 1956، في حين جلست دوروثي تستمع وتحتسي الشراب الذي لم يكن يعجبها طعمه، وهي تفكر بأن جانيت وعدتها بألا تفرط في شرب الجين. لم تكن تستطيع الشكوى حتى وإن واجهتها مشكلة في التواصل مع حديثهما؛ فقد كان هذا ما تعول عليه؛ أن يكون بلير كينج بالنسبة لجانيت أكثر من مجرد شخص عادي، وأن تشعر جانيت بالانطلاق في الحديث لتتمكن دوروثي من الاستماع ومحاولة فهم شخصية جانيت أكثر؛ لذا جلست مركزة تستمع فقط لأصواتهما، حيث كانت الشرفة مظلمة. طلبت منهما دوروثي إشعال المصابيح، لكن جانيت صاحت: لا، لا، فكانوا أشبه بمن يجلس بصندوق صغير حار في حين كانت كل أنواع الحشرات ترف حول الستارة.
قالت جانيت لبلير كينج: «أنا لا أمانع الجلوس بالظلام أبدا، وأنت؟» استنبطت دوروثي شيئا ما في نبرة صوت جانيت، هل هو مكر أم احترام أم انتقاص؟ هذا ما سيكشف عنه قادم الأيام.
دار الحوار بينهم عن الطعام والشراب والمرض والعلاج، وتحدثت جانيت عن طبيب في كريت كان يزعم أن كافة السيدات الأجنبيات اللاتي كن يذهبن لاستشارته يأتين من أجل الإجهاض؛ لذا قام الآخرون بإقناعه بصعوبة بالغة أن يصبح طبيب أنف وأذن وحنجرة. حكى بلير كينج عن طبيب في إسبانيا ذهبت إليه نانسي لآلام في معدتها فأعطاها دواء مسهلا قويا، وبعد أن أخذته بساعتين تضاعف ذلك الألم، كنا في قصر الحمراء حينها وكان يعترينا اليأس. «هذا ما تتذكره نانسي دائما عن إسبانيا، مع أننا قمنا بزيارة أماكن قمة في الروعة، وشاهدنا كل المناظر الخلابة. كان هذا واحدا من الأماكن التي كانت نانسي تتوق وتسعى دائما لزيارتها، لكننا كنا طوال الوقت نفكر في شيء واحد: أين دورة مياه السيدات؟»
صاحت جانيت ساخرة لكن بحذر: «آه، احتياجات المرء الضرورية، دائما ما يأتي الشعور للمرء بقضاء الحاجة في أوقات غير مناسبة، وتكون أهم شيء يجب القيام به فورا، أتذكر أن حدث لي ذلك على متن سفينة متوجهة إلى اليونان.»
تكاد دوروثي تجزم للمرة الثانية بأنها تعلم ما يدور بعقل فايولا الآن: «عجبا، هل هذه هي الطريقة التي أصبح يتحدث بها الرجال والسيدات في هذه الأيام؟ لا عجب من أنها لم تتزوج حتى الآن.» «وبالطبع كان الأمر كذلك لنانسي حينها، نانسي وقورة، أنت لم تقابليها من قبل، هي من نوعية الناس التي لا تستطيعين بالضبط القول بأنها متكبرة لكنها ... حسنا، أنا شخصيا أعتقد أنها من نوعية سيدات المجتمع.»
أومأت جانيت برأسها قائلة: «آها» بطريقة تمزج بها المجاملة ومسحة بسيطة من التهكم، وربما لم يع بلير كينج ذلك حيث إنه واصل حديثه عن زوجته. ما الذي تسعى جانيت إليه؟ هل هذا الدلال أسلوب جديد لها؟ مع أنها تتحدث بانطلاق وحيوية، فإن شيئا ما يظل خافيا بجانيت، شيئا جادا لكنه خاضع لشيء ما، غالبا تخاف الوحدة.
انتقلوا من الحديث عن الأطباء إلى الحديث عن الأماكن التي يتم فيها سرقة المرء قبل أن تطرف عينه، وعن أماكن أخرى تستطيع ترك سيارتك بها، محملة بالأشياء، وغير مقفولة ومع ذلك تكون آمنة تماما. قالت جانيت: «في شمال أفريقيا، سرقت أشيائي كاملة، مع أن سيارة التخييم كانت مقفلة، كنت وحدي بهذا الوقت؛ فقد انفصلت عن رفقتي وكنت مستاءة من ذلك أيضا ...» حدثت دوروثي نفسها؛ هو رجل إذن، ولكن في الحال تراجعت، فربما كانت فتاة. أحيانا كانت تتمنى لو لم تعرف عن العالم بالطريقة التي تعرف عنه بها، القراءة.
استطردت جانيت: «كان ذلك في مراكش، سرقت مني كل أغراضي، كل أغراضي الجميلة؛ من فساتين مغربية، وملابس كنت قد اشتريتها لأصدقائي، وحلي، وطبعا الكاميرا، وكل الأشياء التي كانت بسيارة التخييم، كل ما فعلته أني جلست وحيدة بالسيارة أبكي، بعد قليل أتى صبيان من العرب، حسنا، هما ليسا صبيين، بل شابان، لكنهما هزيلان لدرجة أنني اعتقدت للوهلة الأولى أنهما أصغر مما هما عليه، أتيا نحوي وحاولا التحدث معي، وكان واحد منهما يتحدث الإنجليزية جيدا. في البداية لم أكن حتى أرد عليهما؛ فقد كرهت كل العرب، كرهت كل المغاربة، وألقيت اللوم عليهم حزنا على أشيائي التي سرقت. لم أقل لهما ما الذي حدث، ومع ذلك استمرا في الوقوف معي، أو على الأقل الشاب الذي يتحدث، حتى شرحت لهما في النهاية بفظاظة ما حدث، فنصحاني بالذهاب إلى الشرطة. قلت ساخرة: ها، ربما الشرطة كانت تراهم وهم يسرقون ولم تفعل شيئا. لكنهم نجحوا في إقناعي أخيرا. ذهبت معهما ليدلاني على الطريق، مر بذهني فكرة أنهما ربما لن يأخذاني إلى الشرطة، وأنني كنت غبية تماما حين وافقت على الذهاب معهما، لكن في الواقع لم آبه البتة! هل تعرف؟ لقد بدأت أميل إلى الثقة في الشاب الذي كان يتحدث معي بسبب عينيه الزرقاوين، أعلم أنه تعصب عنصري منذ زمن سحيق، لكن النازيين كانت عيونهم زرقاء، إلا أن عينيه أشعرتاني بالراحة بشكل أو بآخر، وذهبت معهما، حتى عندما تحتم علينا ترك السيارة والمشي على أقدامنا بتلك الطرق المنحنية والملتوية ذات الرائحة المميزة بالحي العربي. وعندما علمت أننا لن نذهب إلى الشرطة، لم أستطع معرفة طريق العودة، وقلت لهما صراحة، أنتما لن تأخذاني للشرطة، أليس كذلك؟ وأجابا بلى، وقال ذو العينين الزرقاوين: ليس الآن، سآخذك أولا إلى المنزل لأعرفك بأمي!»
قالت فايولا مشجعة: «حسنا، كان هذا لطفا منه على كل حال.»
أما بلير كينج فاكتفى بالضحك. «أعرف، قال إنه سيعرفني بأمه وأخته، وفي الحال وصلنا إلى منزل، بالأحرى هو باب، فأنتم تعرفون جدران البيوت هناك متلاصقة، ودلفنا إلى غرفة صغيرة مجردة إلا من أريكة ومصباح كهربائي. قال لي انتظري دقيقة، ودخل عبر باب آخر، بينما جلس الآخر بجواري، لم يعجبني صديقه قط، فهو متجهم الوجه، ولا يتحدث. جلست على الأريكة، وبعد مدة طويلة أتى الأول واعتذر أن أمه وأخته خلدتا إلى النوم، ثم قال إنه ذاهب لإحضار بعض الطعام، وطلبت منه أن يأخذني معه ويعيدني، قال لاحقا، وتركني ثانية مع صديقه، وما إن خرج من هنا حتى بدأت أشياء غريبة في الحدوث. أتى صديقه ليجلس بجواري على الأريكة وبدأ يلمس يدي وذراعي محاولا التحدث معي، حاولت السيطرة على الموقف وحاولت أن أبدو عادية وأسأله بعض الأسئلة، لكن توتري ازداد جدا. أيقنت حينها أنه ترتيب فيما بينهما، فكنت بالفعل متوترة جدا. بدأ يزحف نحوي على الأريكة وكان علي أن أنهض، وبعدها تلاشت كل تلك المظاهر وحاصرني في أحد الأركان وأخرج سكينا ...»
صاحت فايولا: «آوووه، كيف تذهبين إلى بلد كهذا؟» «ووضع السكين على رقبتي وطلب مني ... حسنا، حينها كان المشهد واضحا تماما، ولكنني ما برحت أقول له لا، لا، رفضت النظر إلى أي شيء.»
قال بلير كينج، وكأن القصة كلها مزحة: «لكن السكين كانت على رقبتك.» «حسنا، لقد اعتقدت لوهلة أنه كان يمثل، وكدت أجزم بذلك؛ إن الأمر كله كان أشبه بلعبة. ثم أتى ذو العينين الزرقاوين، وكان قد ذهب لإحضار طعام بالفعل، أحضر بعض الجبن وما إلى ذلك، فتضايق جدا أو بدا عليه ذلك عندما رأى ما يحدث . بالطبع وضع الآخر سكينه جانبا واعتذر ذو العينين الزرقاوين بأدب جم، وجلسنا جميعا لنأكل. كان شيئا لا يصدقه عقل، ثم قال ذو العينين الزرقاوين إنه سيريني طريق العودة، وبالفعل ذهب معي، كان لطيفا، وفي طريق العودة طلب مني الزواج.»
عندما قالت جانيت آخر جملة كان صوتها ينغمر بالخجل، وهو ما لم يحدث بأي جزء آخر خلال قصتها. «كان يأمل في أن أكون فرصته للخروج من البلد أو شيئا من هذا القبيل، أو ربما يكون هذا من سمات اللطف المبالغ فيه لدى العرب. كان يأتي لزيارتي يوميا إلى أن رحلت، وطلب مني الزواج ثانية، وقال إنه أحبني.»
جعلت دوروثي تفكر ما الذي لم تذكره جانيت بقصتها؟ فهي لديها خبرة كبيرة بسماع أصوات الأطفال وتستطيع أن تستشف الأشياء التي لم يكونوا صرحاء فيها. ربما تكون قد مارست الحب مع ذي العينين الزرقاوين عندما ذهب لها إلى الفندق، ربما مارست الحب مع الاثنين عندما كانوا بالمنزل، ربما أكثر من ذلك، ربما تكون أحبته، ربما تكون القصة برمتها من نسج خيالها.
قالت جانيت بلهجة اعتذارية: «أعتقد، أعتقد أني أحببته قليلا، أشياء غريبة تحدث لمشاعرك في هذه البلاد، خاصة عندما تكونين وحدك.»
وافقها بلير كينج، قائلا: «أشياء غريبة تحدث.» «بالطبع من المستحيل الجزم بما يشعر به الناس تجاهك، مستحيل.»
وخلال تلك الأمسية شربت جانيت وبلير كينج زجاجة الجين وحدهما بالكامل تقريبا. •••
استعدت دوروثي للنوم، كانت تشعر بالأرق ولكنها غير متعبة إطلاقا، مع أن ميعاد نومها قد فات من وقت طويل. وقالت بداخلها: إذا كان الشراب هو ما فعل بي ذلك، فمن الأفضل ألا أعتاد عليه. سمعت فايولا ذاهبة إلى الحمام ثم عادت إلى غرفتها وأغلقت الباب، سمعتها وهي تطفئ أضواء غرفتها، فأنارت هي غرفتها، وكانت جانيت تنام بالأسفل. كان الصمت المطبق يخيم على المكان.
جلست دوروثي على السرير مرتدية منامتها الطويلة، وقد حلت شعرها الذي ما زال محتفظا بشيء من كثافته، والذي تعقده أثناء النهار، فوصل إلى كتفيها. كان بمقدورها رؤية انعكاس وجهها على الزجاج . كان القمر بدرا، وبدت هي كالشخصية التي تخيف الأطفال، الساحرة الشريرة، كان المنظر مشجعا لها كي تقرر النزول وتعد لنفسها كوبا من الحليب أو فنجانا من الشاي لينعشها.
نزلت حافية القدمين ترتدي روبها القرمزي القديم فوق منامتها، لم تشعل أي أضواء، فكانت تستطيع الرؤية بضي القمر والأضواء الخارجية بالشارع. فتحت الباب الأمامي ونزلت السلالم.
وقفت على الرصيف بالروب، وذيل منامتها باد أسفله. وراحت تفكر: ماذا لو رآها أحدهم هكذا؟ مشت على العشب حول المنزل، كان العشب مبتلا جدا، إنه ندى أغسطس، مشت بجانب أجمات السبيريا، ووقفت أمام صف الأزهار الذي اقتطعت منه كافة نباتات العائق. لا يوجد سور أو حاجز بين حديقتهم وحديقة آل كينج، فعلى الجانب الآخر من صف الأزهار يبدأ العشب المهمل لآل كينج.
كان لآل كينج شرفة زجاجية بمؤخر منزلهم. كانت مضاءة حينها. كانت الحديقة مجددة منذ سنوات قليلة، وصارت نوافذها الآن تبلغ الأرض.
شرعت دوروثي تمشي بمحاذاة صف الأزهار محاولة تجنب السير على النباتات، حتى وقفت على عشب آل كينج. وفي الشرفة المضاءة تمكنت من رؤية شخصين، وحينما اقتربت أكثر تبين لها أنهما جانيت وبلير كينج. بدا أن جانيت جالسة مرتكزة على ركبتيها على وسادة أو كرسي خفيض، وكانت تخلع بلوزتها المطرزة حتى صارت عارية، فيما كان بلير كينج يقف على مسافة منها يخلع ملابسه أيضا، على مهل. بالطبع في أوقاتنا هذه ليس هذا بالأمر الجلل. كان هذا ما تسببت فيه دوروثي، ولكنها لم تكن بحاجة إلى القلق؛ فمن شأنهما أن ينسيا هما أنفسهما الأمر برمته في الغد، أو في غضون أسبوع اعتبارا من يوم غد. أم تراهما لن ينسياه؟ لا يمكنك القول إنهما متحابان، وإنما كانا في حالة سكر شديدة.
جلس بلير كينج على ركبتيه في مواجهة جانيت مقتربا بوجهه منها فمالت هي فوقه وأمسكت برأسه. بدا جسمها البرونزي في ضوء الشرفة ذهبيا، فيما بدا جسمه هو أبيض. تعانقا. وأخيرا كفت دوروثي عن مشاهدتهما؛ فقد انحبست أنفاسها لما رأتهما على هذا النحو. والآن وقد طرحا ملابسهما جانبا، طرحا معها ما كانت تعرفه عن مظهرهما وحركاتهما، أو بالأحرى ما جعلاها تعرفه عنهما. بدوا لها غريبين ومألوفين في الوقت نفسه، مثل التماثيل بالمتاحف، ولكنهما مفعمان بالحياة وأخرقان تماما! كانا يتلويان في الضوء بلا خجل وكأن لا شيء يهم، تنهل منه وينهل منها، يتطلعان وينهب كل منهما الآخر نهبا. لو كان بمقدورها أن تنادي عليهما، لقالت لهما بصوتها المدرسي: توقفا عن ذلك، توقفا عن ذلك فورا! كانت ستصف تلك الدعوة بالتحذير أكثر من كونها توبيخا. ولكنها رأت نفسها لا حول لها ولا قوة أمام جرأتهما، رأتهما أيضا مسلوبي الإرادة ومعرضين لخطر بالغ كما لو كانا يركبان طوفا يجرفه تيار قوي نحو شلال بالغ الارتفاع، وليس بمقدور أحد تنبيههما. وقعا معا، تشابكا، واعتلى كل منهما الآخر في صمت وراء الزجاج.
بدأت دوروثي تلاحظ أن جسدها كله يرتعش، وركبتيها لا تقويان على حملها، ورأسها يدق بقوة، فتساءلت هل هذه أعراض حدوث السكتة الدماغية، سيكون مفجعا أن يحدث لها هذا هنا، وبملابس النوم، وليست حتى في محيط منزلها. عادت أدراجها مارة بصف الأزهار وصولا لمقدم منزلها. شعرت ببعض التحسن عندما مشت، وما إن وصلت للدرج حتى أحست براحة أنها لم تصب بسكتة دماغية بعد كل ما رأت. ظلت جالسة على الدرج دقائق قليلة لتتمالك نفسها مغمضة عينيها.
تخيلت من فورها شخصين ملتحمين، متصلبين، ومشرقين، مثل تلك الشخصيات المرسومة في اللوحات التي كانت تعلقها على السبورة - لتفاجئ نفسها - في المناسبات والاحتفالات.
ماذا لو أن فايولا شاهدت أيا من ذلك؟ إنه يفوق قدرتها على التحمل. فالقوة أمر ضروري، إضافة إلى شيء آخر مثل الامتنان، إذا كنت تنوين التحول إلى سيدة تتلصص على الآخرين في نهاية حياتك.
المرأة الإسبانية
عزيزي هيو، عزيزتي مارجريت
اختليت بنفسي فترة طيبة خلال تلك الأسابيع الماضية، مفكرة في حالنا معا، حتى توصلت إلى عدة استنتاجات مثيرة وإن كانت غير جديدة بالكلية، ألا وهي: (1)
الاكتفاء بزوج واحد ليس من طبيعة الرجل ولا المرأة. (2)
السبب الذي يجعلنا نحس بالغيرة هو الهجران . هذه فكرة سخيفة؛ لأنني كإنسانة ناضجة أستطيع الاعتناء بنفسي؛ لا يمكن أن أتعرض للهجر بالمعنى الحرفي للكلمة. أيضا نشعر بالغيرة، أو بالأحرى أشعر بالغيرة بسبب افتراضي أنه إذا كان هيو يحب مارجريت، فهو يأخذ شيئا مني ويعطيها إياه. الأمر ليس كذلك بالضبط؛ فإما أنه يحبها أكثر مما يحبني - إلى جانب الحب الذي يكنه لي - أو أنه لم يحمل لي بداخله حبا من الأساس. وحتى إن كان الأمر الأخير حقيقيا، فهذا لا يعني أنني إنسانة غير جديرة بالحب. إذا كنت أشعر بداخلي أنني قوية وسعيدة، فإن حب هيو لي غير ضروري لاعتدادي بذاتي، وإذا كان هيو بالفعل يحب مارجريت فيجب أن أكون فرحة، أليس كذلك؟ أفلا ينبغي أن أكون فرحة لأن هيو يشعر بهذه السعادة في حياته؟ ولا يمكنني أن أطالبه بشيء ...
عزيزي هيو، عزيزتي مارجريت
ليس كونكما على علاقة فقط هو ما يؤلمني، بل خداعكما لي بهذه البراعة هو ما يؤلمني بحق، إنه لشيء مروع عندما تكتشف أن الواقع الذي تعيشه واقع مزيف. بالتأكيد، ألم يكن وجود مارجريت معنا بالمنزل طوال الوقت، وخروج ثلاثتنا معا، وتظاهر مارجريت بأنها صديقتي الصدوقة، ألم يكن ذلك كله خيانة لا داعي لها؟ كم من مرة لا بد أنكما ضحكتما أمامي وأنتما تتبادلان النظرات من خلفي غير عابئين بي عندما نكون معا. كان الأمر برمته عبارة عن مسرحية أخرجتماها من أجل تسليتكما دون رحمة بي، وطبعا بكوني تلك المرأة البلهاء المغفلة ساعدتكما على إشعال لهيب مطارحتكما الغرام. إني حقا أزدريكما، إني لا أستطيع فعل ما فعلتماه؛ لا أستطيع أن أجعل من إنسان أحببته وتزوجته أضحوكة، بل لا أستطيع حتى أن أجعل من إنسان كان محسنا لي وكان صديقي أضحوكة ...
مزقت هذين الخطابين، وجعدتهما بقبضة يدي، وألقيت بهما في سلة المهملات. كان كل شيء بالمقصورة منظما بدقة ويفي بالغرض؛ بداخل هذا المهجع المعدني المنجد يستطيع المرء، بلا عناء أو قلق، أن يمضي حياته. يتجه القطار غربا تاركا مدينة كالجاري. جلست أراقب الأمواج البنية الهائجة التي ترتفع حتى سفح التلال، وأخذت أنتحب على وتيرة واحدة، وأنا أشعر بالدوار. إن الحياة ليست كالقصص الساخرة الكئيبة التي طالما أحببت قراءتها، ولكنها كالمسلسلات التليفزيونية التي تعرض بالنهار، ستبكي بحق من شدة ابتذالها وسخافتها أكثر من أي شيء آخر.
صديقة. عشيقة. لم يعد أحد يستخدم كلمة عشيقة الآن، فكلمة صديقة تبدو جريئة مع أنها تحمل براءة زائفة؛ مما يجعل معناها مراوغا بشكل غريب. احتمالات الغموض والمعاناة التي تحملها الكلمة القديمة اختفت تماما؛ ليس بمقدور فيوليتا أن تكون صديقة أحدهم، لكن نيل جوين تستطيع ذلك؛ فهي أكثر عصرية.
إليزابيث تايلور: عشيقة.
ميا فارو: صديقة.
هذا هو تحديدا نوع اللعبة التي اعتدنا أنا وهيو ومارجريت أن نلعبها معا في أمسياتنا القديمة، أو أغلب الظن كنا نتسلى بها أنا ومارجريت ونثير ثائرة هيو بانهماكنا فيها.
ما من كلمة من الممكن أن تصف مارجريت بحق.
في الربيع الماضي ذهبنا معا إلى وسط البلدة لشراء فستان جديد، كنت معجبة ومتأثرة بطريقة مارجريت في التوفير، وحسها المتدبر. كانت فتاة غنية، حيث كانت تعيش في أبلاندز مع أمها العجوز، لكنها تقود سيارة رينو عمرها ست سنوات، ومنبعجة من أحد جانبيها، وكانت تأتي المدرسة ومعها شطائر، وكانت لا تضمر السوء لأحد.
حاولت إقناعها بشراء فستان طويل من القطن، ذي لون أخضر داكن، ومطرز بالفضي والذهبي، لكنها قالت: «إنه يشعرني بأنني بغي، أو كامرأة تحاول أن تكون بغيا، وهو الشيء الأسوأ.»
تركنا المحل وذهبنا إلى المتجر متعدد الأقسام حيث اشترت فستانا من الصوف وردي اللون له أكمام تغطي ثلاثة أرباع الذراع، وأزرار مغطاه بنفس القماش، وحزام، نفس الموديل الذي اعتادت لبسه والذي يظهر جسمها الطويل مسطح الصدر جافا، خجولا، أبيا. ثم ذهبنا إلى محل الكتب المستعملة وقررنا أن تشتري كل واحدة منا هدية للأخرى. اشتريت لها كتاب لالا روخ في حين اشترت لي نسخة من كتاب الأميرة، وروت كل واحدة من كتابها للأخرى ونحن نمشي بالشارع:
الدموع، دموع التماسيح، لا أعلم ماذا تعني ...
كنا دائما طائشتين كبنات المدارس الثانوية. عندما تنعم التفكير في ذلك، هل كان هذا شيئا طبيعيا؟ كنا نختلق القصص عن كل الناس الذين نراهم بالشارع. كنا نضحك بشدة من قلوبنا لدرجة أننا كنا نضطر إلى الجلوس على مقعد انتظار الحافلة، وعندما تأتي الحافلة نلوح لها ونحن ما زلنا نضحك. كنا على حافة الجنون بحق، كانت كل منا منجذبة للأخرى بسبب حبنا لنفس الرجل، أو كنا منجذبتين لنفس الرجل بسبب حب كل منا للأخرى. اعتدت على العودة يوميا مرهقة من كثرة الكلام والضحك، وأقول لهيو: «إنه أمر مضحك، لم يكن لي صديقة كهذه منذ سنين.» •••
ذات ليلة على العشاء كانت تجلس بمقعدها المعتاد وقالت إنها تريد منا أن نخاطبها منذ الحين بمارجريت وليس مارج. مارج هو الاسم الذي يناديها معظم الناس به، الاسم الذي يناديها زملاؤها المدرسون به، حيث كانت تعمل مدرسة للغة الإنجليزية والتربية البدنية بالمدرسة التي كان هيو مديرا لها. يقولون عن مارج هونكر إنها فتاة عظيمة عندما تعرفها جيدا، إنسانة رائعة بحق، وتستطيع أن تستشف من الطريقة التي يتحدثون بها أنها ليست جميلة. «مارج اسم أبله، في الواقع مثلي، أعتقد أن مارجريت ستجعلني أشعر أنني أجمل.» قالت ذلك أثناء العشاء وفاجأتني بأمنيتها البسيطة التي قالتها بنبرة مضحكة. كنت أنا مهتمة بها كاهتمام الأم بابنتها، وكنت دائما أتذكر أن أناديها بمارجريت كما طلبت، لكن هيو لم يهتم وكان يناديها مارج. «مارجريت لها ساقان جميلتان، عليها أن تلبس تنورات أقصر.» «جسمها رياضي وعضلاتها مفتولة أكثر مما ينبغي.» «يجب أن تترك شعرها ينمو ويسترسل.» «ثمة شعر ينمو بوجهها.» «يا له من شيء وضيع لتقوله.» «إني لا أصدر أحكاما عليها، لكني أقرر حقيقة واقعة.»
إنها حقيقة، فمارجريت لها زغب ناعم ينمو بمحاذاة أذنيها، وبحواف فمها، وجهها كوجه صبي في الثانية عشرة، أشقر ويعلو وجهه النمش. مارجريت حاضرة الذهن، متقدة الذكاء، نحيلة البدن برشاقة، ومعظم الوقت خجولة. كنت دائما أقول إن هناك شيئا جذابا بها، وهيو يوافقني الرأي، إنها من نوعية النساء اللاتي تقول عنها النساء الأخريات إن بها شيئا جذابا جدا، ويتساءل هيو لماذا تقول السيدات الأخريات عنها ذلك؟ لأنها لا تمثل تهديدا.
لا تمثل تهديدا.
لماذا نفاجأ عندما نكتشف أن هناك آخرين غيرنا قادرين على نسج الأكاذيب؟ •••
كنا نستضيف المدرسين الصغار؛ الشباب المرتدي الجينز، وأيضا الشابات المرتديات الجينز أو تنورات جلدية قصيرة، ذوي الشعر الطويل، والصوت الخفيض، سلبيين لكن حاسمين. تغير المدرسون عن أيامنا. ارتدت مارجريت فستانها الصوفي وردي اللون بطول الركبة، وساعدت بتحضير القهوة وهي جالسة على وسادة جعلت قدميها تبدوان طويلتين جدا، ولم تتفوه بما مجمله عشرون كلمة طيلة المساء. كنت أرتدي فستانا من فساتيني الطويلة، ألوانه متعددة كالطاووس، لبسته لأحاول خلق جو من الألفة. كنت أمتدح نفسي، ومرونتي، وذوقي العصري، نعم، ذوقي غير المنتمي للعصور الوسطى. كنت أشعر بالتباهي بنفسي أمام شخص ما، مارجريت؟ هيو؟ لكن سعادة هيو الحقيقية كان مصدرها مارجريت، عندما يذهب الجميع. «المشكلة أنني لا أعلم إن كان بالفعل لي علاقة بهذا، لا أعلم إن كان لي علاقة بكل تلك العلاقات بين الأشخاص، أعني أنني أحيانا أعتقد أن كل ما أمر به هو من نسج خيالي ...»
كانت مارجريت تضحكني أيضا، كنت فخورة بها بالطريقة غير الأخلاقية التي يسعد بها الآباء عندما يقلد طفلهم المهذب ضيفا مغرورا رحل لتوه، لكن كانت تلك الأجواء المنعشة بلا أدنى شك تسود بين هيو ومارجريت، حقيقة. أحبها هيو لإدراكها، واستخفافها، وخداعها؛ تلك الصفات التي تبدو لي الآن أدنى من أن تكون مرغوبة. كلاهما خجول، هيو ومارجريت، كلاهما غير بارع في المعاملات الاجتماعية، ويضطربان أمام الناس بسهولة، لكنهما باردان من الداخل، أبرد من أن يتباهيا بمفاتنهما ومغامراتهما مثلما نفعل. إنهما لا يكشفان عن أنفسهما. بالطبع لن يعترف أحدهما بهذا، ولن يتحدثا عن هذا. بإمكاني أن أغرس أظافري بجلدهما ومتأكدة من أن أصابعي هي التي ستنزف لا جسديهما، بإمكاني أن أصرخ بوجهيهما إلى أن ينفجر حلقي ولن يتغير شيء من هدوئهما، بل ولن يشيحا بوجهيهما المخادع بعيدا عني. كلاهما أشقر، كلاهما يخجل بسهولة، كلاهما يسخر من غيره بأعصاب باردة .
إنهما يحتقرانني.
إنه شيء قذر بالطبع، فالحب كله لهما وحدهما ولا شيء لي.
إني عائدة من زيارة أقارب لي يسكنون بمختلف أنحاء المدينة، هؤلاء الناس أشعر أني مرتبطة بهم بعلاقات عاطفة قوية، قوية بدرجة تفوق الوصف؛ لدرجة أني أفزع من فكرة موت أحدهم كفزعي من موتي، لكني لا أستطيع أن أقول لهم شيئا وليس بيدهم ما يفعلونه لي. عندما ذهبت لزيارتهم أخذوني برحلة صيد، وذهبنا للعشاء بالخارج والاستمتاع بالمنظر من المباني العالية، ماذا من الممكن أن يفعلوه أكثر من ذلك؟ بالطبع لن يسرهم أن يسمعوا أخبارا سيئة عني، إنهم يقدرونني لمزاجي المبتهج، وحسن مظهري، ونجاحي المتواضع والملموس بنفس الوقت - لقد قمت بترجمة مجموعة من القصص القصيرة وبعض كتب الأطفال من الفرنسية إلى الإنجليزية، وبإمكانهم الذهاب إلى المكتبة ورؤية اسمي على أغلفة الكتب - ولأني الأكبر سنا فيهم والأقل حظا، تحديدا، أشعر أنه لزام علي أن أمنحهم تلك الأشياء. حظي وسعادتي هما جانب واحد من بين المؤشرات القليلة التي تؤكد لهم أن الحياة ليست كلها مساوئ.
الكثير من الأقرباء، والكثير من الزيارات.
هب أني عدت إلى المنزل، وكان كلاهما هناك، هب أني دخلت لأجدهما على السرير، بالضبط مثل ما يروى في بريد المعذبات بالجريدة (التي أنوي ألا أضحك منه مرة أخرى)، كيف سيكون شعوري؟ سأذهب إلى الدولاب وأحضر باقي ملابسي وأحزم حقائبي، وأتحدث بمنتهى الدبلوماسية مع من بالسرير قائلة: «هل تودان احتساء بعض من القهوة؟ أتخيل أنكما تحتاجان إليها من فرط تعبكما.»
أقول ذلك لأجعلهما يضحكان، لأجعلهما يضحكان كأن شيئا لم يكن، وكأنهما يمدان يديهما لي ليدعواني للجلوس، للجلوس معهما على السرير.
في تصور آخر، ربما أذهب إلى غرفة النوم، ودون أن أنبس ببنت شفة ألتقط كل ما أجده أمامي - زهرية، زجاجة مرطب، صورة من على الحائط، حذاء، ملابس، الكاسيت الخاص بهيو - وأقذف بتلك الأشياء على السرير، والشباك، والجدران، ثم أقتلع الشراشف وأمزقها إربا إربا، وأرفس مرتبة السرير وأنا أصرخ، ثم أنهال على وجهيهما بالصفعات، وأضرب جسديهما العاريين بفرشاة الشعر، كما فعلت الزوجة في رواية «أرض الله الصغيرة»؛ تلك الرواية التي قرأت منها عاليا إلى هيو بنبرة كوميدية، أثناء رحلة طويلة بالسيارة عبر البراري طوقنا فيها الغبار.
ربما حكينا لها عن ذلك، وتفاخرنا أمامها بكثير من المداعبات التي كانت تحدث بيننا أثناء المغازلة، أو حتى بشهر العسل، بينما يظهر على وجهها علامات الإعجاب والتعطش لسماع المزيد؛ كنت أنا أتباهى بذلك، أما عن هيو، فليس لدي أدنى فكرة عما كان يشعر به أو يقصده من ذلك.
رغما عني أصدرت صرخة قوية تعبيرا عن احتجاجي.
وضعت يدي أمام فمي المفتوح، ولأوقف الألم عضضتها، عضضت يدي. نهضت وذهبت باتجاه الحوض لأنضح وجهي بالماء، ووضعت بعضا من أحمر الخدود ومشطت شعري وضبطت حواجبي، وذهبت خارجة.
تسمى العربات بالقطار بأسماء مشاهير المكتشفين، أو بأسماء الجبال أو البحيرات. غالبا ما كنت أسافر بالقطار عندما كان أبنائي صغارا، وكنت أنا وهيو فقراء؛ حيث كان القطار يسمح للأطفال دون السادسة بالركوب بالمجان. أتذكر تلك الأسماء المكتوبة على الأبواب الثقيلة، وأتذكر كيف كنت أدفع الأبواب وأظل ممسكة بها بينما أستحث أبنائي الأشقياء والمتدافعين على المرور منها، كنت دائما أتنقل متوترة بين العربات كأن الأطفال سيسقطون بطريقة ما، رغم علمي بأن هذا لن يحدث. كان علي أن أنام بالقرب منهم ليلا وأجلس معهم نهارا وهم يقفزون حولي أو علي، لدرجة أنني كنت أشعر أن جسدي مهروس تحت أقدامهم وأكواعهم وركبهم. وكنت أفكر كم هو جميل أن تسافر المرأة وحدها، ليكون بمقدورها احتساء القهوة بعد تناول الوجبات دون قلق وهي لا تفعل شيئا سوى النظر من النافذة، وتستطيع الذهاب إلى عربة الطعام وتناول شراب. الآن واحدة من بناتي تسافر متطفلة في أوروبا، والأخرى مرشدة بمعسكر للأطفال المعاقين، وكل الوقت الذي ضاع في الاهتمام والفوضى - والذي كنت أتخيل أنه لن ينتهي - أصبح وكأنه لم يكن من الأساس.
دخلنا بالقطار عبر الجبال دون أن أشعر، طلبت شراب الجين مع ماء الصودا، كانت الكأس الزجاجية تلتقط أشعة الشمس وتعكسها بحلقة من الضوء على البساط الأبيض، مما يضفي على المشروب صفاء ويعطيني إحساسا بأنه مجدد لنشاطي، كمياه الجبل، شربته بنهم كأني لم أرتو منذ زمن.
هناك سلم صغير يمتد من عربة الطعام وحتى القبة حيث يجلس الناس من محطة كالجاري بلا شك في انتظار مشاهدة الجبال. أما المسافرون الذين أتوا متأخرين ويتمنون لو أن الناس ترحل عن مقاعدها فقد اعتلوا بضع درجات من السلم ليشرئبوا بأعناقهم ليتفقدوا الوضع ثم يعودوا ساخطين.
قالت سيدة بدينة ترتدي عمامة: «يبدو أن الموجودين سيظلون جالسين أسبوعا.» قالتها وهي تتلفت حولها لتحدث مجموعة يبدو أنهم أحفادها، كانت تملأ السلم كله بجسدها. ابتسم الكثير منا وكأن القدر ساق إلينا هذه السيدة بحجمها وصوتها العالي وبساطتها لتسري عنا.
كان هناك رجل يجلس وحده بأقصى العربة يستند بظهره على الشباك، وكان ينظر إلي مبتسما، ملامح وجهه تذكرني بوجه أحد نجوم السينما من العصر الماضي، وجهه عجوز لكنه وسيم، يحمل ملامح جميلة تنم عن التصميم واليقظة، وإن غلبه كبر السن. كان يشبه دانا أندروز، أو أحدا مثله. كانت الملابس بلون الخردل تعطيني انطباعا غير سعيد.
لم يأت ويجلس بجواري، بل ظل يسترق النظر إلي من حين لآخر. وعندما نهضت وهممت بترك العربة، أحسست أنه يراقبني، وتساءلت ماذا لو حاول ملاحقتي؟ ليس لدي بال له، ليس الآن، لا أستطيع أن أعيره اهتمامي الآن. فيما مضى كنت مستعدة لأي رجل تقريبا، عندما كنت بسن المراهقة وبعدها أيضا، عندما كنت زوجة شابة، كان أي رجل ينظر لي بأي تجمع، أو نظرات أي مدرس تتعلق بي بحجرة الدراسة، أو حتى نظرات غريب بحفلة ما، كان ربما يتحول إلى الحبيب الذي كنت أبحث عنه دائما - عاطفي، ذكي، وحشي لكنه حنون - شخص يجعلني بطلة بمشاهد الأفلام المتفجرة، البديعة التي يعرفها الجميع. بعد ذلك، بعد مرور سنوات قليلة على زواجي، اعتزمت أن أحول تخيلاتي إلى حقيقة. بالحفلات، عندما أرتدي صدريتي التي تظهر صدري بمظهر أكبر، وأصفف شعري التصفيفة الإيطالية المشعثة، وأرتدي فستاني الأسود ذا الشرائط الرفيعة على الظهر، كنت أبحث عن أي رجل لأقع بحبه، وليقحمني معه بعلاقة ملتهبة. وحدث هذا بطريقة أو أخرى، أنتم ترون أنه ليس بالأمر البسيط، ليس بالأمر الواضح كما سيصدق من يرى حزني الآن، وإحساسي المؤكد بالخيانة. كلا. وقد ترك الرجال علي علامات لم أشغل بالي بإخفائها عن هيو، حيث إن هناك أجزاء من جسمي لم ينظر إليها قط؛ فكما تعرضت للكذب كنت أنا نفسي أكذب. وقد أعرب رجال عن عشقهم الجائع لحلمتي صدري وتلك الندبة عند سرة بطني والشامات على ظهري وقالوا لي أيضا، كما هو جدير بهم أن يفعلوا: «والآن لا تبالغي في أهمية ما فعلناه.» بل كان بعضهم يقول أحيانا: «أنا أحب زوجتي حقا.» وبعد فترة من الوقت أقلعت عن تلك الممارسات وذهبت سرا لزيارة طبيب نفساني قادني إلى أن أفهم أنني أحاول جذب اهتمام هيو، واقترح علي طريقة بديلة لجذب اهتمامه من خلال اللطف والإغراء وفنون الحب في جميع أنحاء المنزل. لم أرد الجدال معه، ولا مشاركته التفاؤل. بدا لي وكأنه لا يفهم طبيعة شخصية هيو فهما حقيقيا، مفترضا أن بعض حالات الرفض تنبع ببساطة من عدم الطلب على نحو صحيح. بالنسبة لي يبدو رفضه أساسيا، مطلقا. ولا يمكنني التفكير في التكتيكات التي يمكن أن تغيره. لكنه كان ذكيا بما فيه الكفاية. وقال إنه يفترض أنني أرغب في البقاء مع زوجي. كان محقا؛ فلا يمكن أن أفكر - لا أستطيع تحمل مجرد التفكير - في بديل.
توقف القطار بمحطة فيلد، مسافة بسيطة بعد حدود مقاطعة كولومبيا البريطانية، فترجلت منه ومشيت بجوار السكة الحديد وريح حارة تهب.
ثم سمعت من يقول: «إنه لشيء لطيف الترجل عن القطار لبعض الوقت، أليس كذلك؟»
تعرفت عليه بالكاد، فهو رجل قصير، تماما مثل نجوم السينما الوسام حسبما أعتقد، ملابسه كانت بالفعل بلون الخردل، السترة والبنطلون بلون الخردل، أما قميصه المفتوح فكان لونه أحمر، وكان حذاؤه خمريا، وكان صوته يوحي بأنه رجل ذو علاقات ومعاملات عامة يومية. «أتمنى ألا أتسبب بإزعاجك إذا سألتك، هل أنت برج الأسد؟» «كلا.» «سألتك لأنني برج الحمل ، وعادة ما يستطيع مواليد برج الحمل التعرف على مواليد الأسد، فهذان البرجان بينهما تفاهم جيد.» «آسفة.» «رأيت أنك شخصية لطيفة أود تجاذب أطراف الحديث معها.»
تركته وعدت إلى القطار، دخلت مقصورتي وأغلقت الباب وجلست أتصفح المجلات، حتى إعلانات الخمور وأحذية الرجال، لكنني شعرت بالأسف، ربما لم يكن يقصد شيئا بالفعل أكثر مما قاله. فأنا بالفعل شخصية يحب المرء تجاذب أطراف الحديث معها. السبب أني سأستمع لأي شيء. ربما كان السبب هو تلك المقالات التي أقرؤها بالمجلة منذ أن كنت مراهقة (عندما أجد أي عنوان يصف حدثا ما أو أحدهم بالشعبية كان يجعل القشعريرة تسري بجسدي ويجبرني على قراءته)، والتي حثتني على تنمية ذلك الفن الاجتماعي الجاذب. لم أكن أقصد إحراجه، ولكن المحادثة وجها لوجه مع أي مؤمن إيمانا شديدا بفكرة أو كذبة - مثل معظم الناس - أو أنه خاض سلسلة من التجارب الغامضة التي يود مشاركتي الحديث عنها، تجعلني مذهولة، وهو أمر كاف جدا ليصيبني بالشلل. كان هيو يقول في هذه الحالة: عليك بالنهوض والابتعاد. وهذا ما أفعله. ••• «سؤالي لك إن كنت من مواليد برج الأسد كان فقط على سبيل تجاذب أطراف الحديث، ما أردت أن أقوله لك شيء مختلف، لكنني لم أعرف كيف أبدأ، في الواقع، مذ أن رأيتك وأنا أعتقد أني رأيتك قبل ذلك.» «أوه، أنا لا أعتقد ذلك، لا أعتقد أنك رأيتني من قبل.» «أعتقد أننا نعيش أكثر من حياة.»
هل ما يقصده بعيش أكثر من حياة هو خوض تجارب متعددة؟ ربما هو على وشك تبرير عدم إخلاصه لزوجته، إن كان له واحدة. «أنا أومن بذلك، لقد ولدت من قبل ومت من قبل، هذه حقيقة.»
عندما كنت أختلق القصص لهيو عن أي رجل بخيالي كنت أقول له، أرأيت؟ دائما ما يجدونني. «هل سمعت يوما عن جماعة الصليب الوردي؟» «هل هي الجماعة التي تعلن عن فن إتقان الحياة؟»
قد تفوت عليه نبرة السخرية، لكنه يستطيع أن يستشف الوقاحة. فاكتسب صوته نبرة توبيخ مملة. «رأيت واحدا من تلك الإعلانات منذ ست سنوات. كنت بحالة مزرية، كان زواجي منتهيا لتوه وكنت أعاقر الخمر مما أضر بصحتي، لكن لم تكن هذه هي المشكلة، أتعرفين؟ إنها ليست المشكلة الحقيقية، لقد اعتدت فقط الجلوس والتفكير، وهذا سبب وجودي هنا على أي حال. مثل موقفي من الدين؛ لقد سئمت هذا كله. لا أستطيع القول إن هناك شيئا مثل الروح. وإن لم توجد، فما الفارق إذن؟ أتفهمين ما أعنيه؟
بعد ذلك بدأت في الكتابة إليهم، وحصلت على بعض من إصداراتهم السابقة، وبدأت في حضور اجتماعاتهم. أول مرة ذهبت هناك، كنت خائفا من أن يكون الأمر كالذهاب إلى مستشفى المجانين، لم أكن أعرف ما الذي من الممكن أن أراه هناك، أتعرفين؟ يا لها من صدمة عندما رأيت نوعية الناس هناك؛ أناس ذوو نفوذ، أناس أغنياء، أناس محترفون. كل الأشخاص من نخبة المجتمع من المثقفين والمتعلمين، إنهم ليسوا جماعة مجانين، إنها جماعة مشهورة وموثوقة علميا.»
لم أجادله فيما قال. «مائة وأربع وأربعون سنة! هذه هي الفترة الزمنية بين بداية الحياة والحياة الأخرى، لذلك إذا مات أحدنا، ولنقل، بسن السبعين، يتبقى نحو أربعة وسبعين عاما حتى بداية الحياة التالية، عندما تولد روحك من جديد.» «وهل تتذكر؟» «تقصدين من الحياة الأولى للتالية؟ حسنا، أنت على دراية بنفسك، الإنسان العادي لا يتذكر أي شيء، لكن بمجرد أن يتفتح عقلك، ستدركين ماذا يدور حولك، وسببه، بعد ذلك ستبدئين في التذكر. إنها حياة واحدة تلك التي أنا متأكد من أني عشتها، كان ذلك في إسبانيا وفي المكسيك، كنت واحدا من أحد فاتحي المكسيك، أتعرفينهم؟» «نعم.» «شيء مضحك، دائما كنت أعرف أنني أستطيع امتطاء الخيل، لكني لم أفعل ذلك، فأنا فتى من المدينة، ولم يكن لدينا المال، ولم يكن لدينا حصان. لكني ما زلت أشعر بأني أجيد امتطاء الخيل. بعد ذلك عند حضوري أحد اجتماعات جماعة الصليب الوردي بفندق بفانكوفر منذ عامين أتى إلي زميل كبير في السن، كان من كاليفورنيا، وقال: أنت كنت هناك، أنت كنت واحدا منهم. لم أدرك وقتها عما يتحدث ، فأردف: في إسبانيا، كنا معا. وقال إنني كنت أحد الفاتحين الذين ذهبوا إلى المكسيك وأنه كان واحدا ممن تخلفوا. لقد تعرف على وجهي. أتعرفين ما أغرب شيء في كل ذلك؟ عندما انحنى ليحادثني خيل لي أنه يرتدي قبعة، مع أنه لم يكن كذلك، ذلك النوع من القبعات المكسوة بالريش، وخيل لي أن شعره أسود وطويل، بدلا من كونه رماديا وقصيرا. كان هذا كله قبل أن ينبس ببنت شفة مما قاله، أليس ذلك شيئا ذا دلالة؟»
بلى، ذو دلالة، لكني سمعت أشياء كهذه من قبل، سمعتها من أشخاص اعتادوا رؤية الأشباح تطير من فوقهم، أشخاص يسيرون حياتهم بناء على ما يقوله المنجمون، لدرجة أنهم غيروا أسماءهم وانتقلوا إلى عناوين جديدة؛ لأن القيم الرقمية التي تحملها الحروف الجديدة ستبارك لهم حياتهم. هذه هي الأفكار التي يعتنقها أناس يعيشون معنا في هذا العالم، وأستطيع الآن معرفة الأسباب. «ما البرهان الذي تريدينه لأثبت لك أنك أيضا كنت هناك؟» «في إسبانيا؟» «نعم في إسبانيا، لقد اعتقدت منذ رأيتك أنك امرأة إسبانية، ربما كنت ممن تخلفوا أيضا، هذا يفسر ما أراه، عندما أنظر إليك - أنا لا أقصد أي إساءة فأنت امرأة جذابة جدا - أراك أصغر مما أنت عليه. لعل هذا بسبب أنني عندما تركتك بإسبانيا كنت بعمر العشرين أو الواحد والعشرين، ولم أرك ثانية بتلك الحياة، أنت لا تمانعين أن أقول ذلك، أليس كذلك؟» «لا، لا، إنه من دواعي سروري فعلا أن يراني أحد هكذا.» «أنا دائما على يقين بأنه يجب أن يكون هناك قيمة أكبر للحياة، أنا لست إنسانا ماديا، ليس من طبيعتي، ولهذا السبب لم أحقق قدرا كبيرا من النجاح، فأنا أعمل رجل مبيعات للعقارات، لكن لا أعتقد أني أعير عملي الاهتمام اللازم إذا كنت أريد النجاح. لكني لا أهتم، فأنا أعيش وحدي.»
أنا أيضا، أعيش وحدي، ولا أستطيع التفكير بما سأفعله، ولا أستطيع التفكير بما أفعله مع ذلك الرجل إلا أن أقحمه بحكاية من الحكايات التي سأرويها لهيو، لإثارة فضوله، كطرفة أو فكاهة لهيو. يريد هيو أن ترى الحياة على هذا النحو؛ فهو يحب النبرة الباردة، المشاعر المجردة التي يجب أن يتغاضى عنها كاللحم العاري. «هل تحبني، هل تحب مارجريت، هل تحب كلتينا؟» «لا أعرف.»
كان يقرأ المجلة، دائما ما يقرأ وأنا أحدثه، كان يقول تلك الكلمات بصوت ملول، بالكاد مسموع، وكأنه مكره على الحديث. «حسنا، سنتطلق، هل ستتزوجها؟» «لا أعرف.»
وصلت مارجريت عند تلك النقطة من الحديث، ونجحت في تغيير دفة الحوار إلى بعض الفناجين الخزفية التي اشترتها لنا للتو، كهدية، وتأمل ألا أقذفها خارجا في ظل غيظي؛ لأنها - أي مارجريت - تعتقد أنها ستكون مفيدة في حال انتقالها للعيش معنا. ابتسم هيو لسماعه ذلك، وكان ممتنا. قلت في نفسي حينها إننا إذا نسجنا الفكاهات يمكننا جميعا أن نحيا.
أسعد لحظة في زواجنا عندما كنا لا نواجه أي مشكلات في اتخاذ القرارات. كنا بجنوب ميشيجان في رحلة، حين كان الأطفال صغارا. كان مهرجانا رديئا في يوم تلبدت سماؤه بالغيوم. ركبنا قطارا لعبة، وشردنا نحن معا حتى توقفنا أمام قفص به دجاجة، ولافتة مكتوب عليها أن تلك الدجاجة تستطيع أن تعزف على البيانو. قلت إنني أريد سماعها، فأسقط هيو عشرة سنتات بالمكان المخصص، وما حدث كان كالآتي، عندما سقطت العملة، فتح باب سحري، وهبطت حبة ذرة على مفتاح البيانو، فذهبت الدجاجة لتلتقطها فأحدثت نغمة وهي تلتقطها. فصدمت وقلت إن هذا غش واحتيال. لسبب ما صدقت ما هو مكتوب على اللافتة بأن الدجاجة حقا تعزف على البيانو. لكن فعل هيو - عندما أسقط العملة - بدا طيشا لا يتصف به هيو مطلقا، طيشا بدا لي فعلا مدهشا، وإقرارا علنيا بالحب، أكثر من أي شيء آخر فعله أو قاله في أي وقت آخر، حتى في لحظات احتياجه إلي أو رضائه. كان هذا الفعل مدهشا ومؤقتا، كرؤيتك مثلا طائرا صغيرا بألوان نادرة يجلس عن قرب بحيث لا يجرؤ أحد على النظر إليه مباشرة ويسترقون النظر فحسب. في تلك اللحظة، كان حنان أحدنا على الآخر لا يعكره شيء، وينبع منا تلقائيا، وبدت صراعاتنا وكأنها غير حقيقية. بوابة جديدة فتحت لنا على الحياة، أغلب الظن، لكننا لم نعبرها.
أما عن أتعس لحظة في زواجنا فلا أستطيع أن أتذكرها، فكل شجاراتنا يمتزج بعضها ببعض، وهي في الحقيقة تكرار لنفس المشاجرة وفيها يعاقب كل منا الآخر - أعاقبه بالكلمات ويعاقبني بالصمت - بسبب فكرة كل منا عن الآخر لا أكثر. لم نكن نحتاج إلى أكثر من ذلك.
إنه الإنسان الوحيد الذي لا أمانع أن أراه يعاني، لن أمانع أن أرى لمحات الألم الطويلة على وجهه، وأقول: الآن عرفت كيف يكون الألم، أليس كذلك؟ الآن عليك أن ترى بنفسك. نعم، حتى عندما يبلغ ألمه منتهاه سأريه بسمتي، بسمتي الراضية، نعم سأريه إياها. «عندما توصلت لإدراك ذلك، كنت كمن منح بداية جديدة.»
يؤمن الناس هذه الأيام بالبدايات الجديدة، يؤمنون بها حتى نهاية حياتهم. يجب أن يسمح للمرء بأن يبدأ من جديد، مع شخص جديد، مع نفسك القديمة التي لا يعلمها أحد سواك؛ لا يستطيع أحد منع أي شخص من القيام بذلك. فالناس الكرماء يتركون أبوابهم مفتوحة ليمنحوا الهبات للآخرين، ولم لا؟ فهذا سيحدث على أي حال.
تجاوز القطار ريفيلستوك وأخذ يسير وسط الجبال التي تتلاشى تدريجيا. كانت عربة الطعام خالية إلا مني ومن عضو جماعة الصليب الوردي، وبعض الندل ينظفون المكان. «علي أن أذهب الآن.»
لم يحاول إيقافي، بل قال: «كان من بالغ سعادتي أن سمحت لي بالتحدث معك، وآمل ألا تعتقدي أني مجنون.» «كلا، كلا، إطلاقا.»
تناول بعضا من الكتيبات من جيبه الداخلي وأعطاني إياها قائلا: «ربما تودين قراءتها، إن كان لديك الوقت.»
شكرته.
نهض من مجلسه لتوديعي، بل وانحنى لي قليلا بإجلال إسباني. •••
مشيت إلى محطة فانكوفر وحدي حاملة حقيبتي وقد اختفى عضو جماعة الصليب الوردي بمكان ما، تلاشى كأنني نسجته من وحي خيالي، ربما لم يستقل القطار حتى فانكوفر، ربما نزل بإحدى قرى فرازر فالي بالصباح الباكر البارد.
لم يكن أحد في استقبالي، فلا أحد يعرف أني قادمة. بدا جزء داخلي من المحطة محددا بسياج ومعزولا عما سواه. حتى في هذا التوقيت الذي يعتبر واحدا من توقيتين يشهد فيهما المكان نشاطا كبيرا، بدا المكان مهجورا وخاليا.
قابلني هيو هنا بهذا المكان منذ واحد وعشرين عاما، في نفس الوقت في الصباح. كان حينها مكانا صاخبا ويعج بالزحام. سافرت أنا غربا كي أتزوجه واستقبلني هو بباقة زهور سقطت من يده حين رآني. كان حينها أقل سيطرة على مشاعره، ومع ذلك لم يكن كثير الحديث. وجهه أحمر، ويبدو صارما بطريقة مضحكة، مليء بالعواطف التي يتحملها بقوة، وكأنه مصاب بمرض لا يطلع عليه أحد. وعندما كنت ألمسه لم يكن يسترخي، لدرجة أنني كنت أستطيع أن أشعر بأعصاب جسده المتصلبة. وما كان منه إلا أن يغلق عينيه ويواصل ما كان يفعله، وحده. ربما كان يتنبأ بحدوث أشياء؛ فساتين مطرزة، أشياء تدفعه للحماس، أو قصص خيانات زوجية. لم أكن في الغالب مستعدة لأن أكون رءوفة به، لقد انزعجت لرؤيتي الورود المتساقطة، وتمنيت أن يلقي علي التحية بطريقة أخرى غير تلك الطريقة الكرتونية، كنت قلقة من مواجهة براءته التي بدت أكثر من براءتي، لم أمانع أن أشعره بقدر من عدم رضاي عما يحدث. مع مرور السنين على هذا الزواج توالت الأحداث، الحدث تلو الحدث، ارتكبت أخطاء، الخطأ تلو الخطأ، لم يعد أحد يستطيع معرفة المسئول عن هذا كله.
لكننا مشينا قدما كل منا باتجاه الآخر، تشبث كل منا بالآخر وتعلق به. انسحقت بيننا الورود التي التقطها هو من الأرض ولم نلق لها بالا. تعانقنا وكأننا نجسد صورة حية لشخصين أنقذا لتوهما بمعجزة. كان هذا من الممكن أن يحدث ثانية، ويتكرر. ودائما ما سيكون الخطأ نفسه.
آآآه.
دوت صرخة في محطة القطار، صرخة حقيقية، لكنها لم تصدر مني أنا. رأيت الناس وقد توقفوا لسماع الصرخة أيضا. كانت الصرخة كأنها صيحة صادرة عن شخص دخيل، مليئة بمشاعر الظلم الشديد. نظر الناس باتجاه الأبواب المفتوحة من ناحية شارع هاستينجز، وكأنهم ينتظرون هذا الغريب ليأتي آخذا بالثأر منهم. لكن اتضح أن الصراخ أتى من رجل عجوز، كان جالسا بجوار رجال عجز آخرين على مقعد الانتظار بآخر المحطة. في الماضي كان هناك عدة مقاعد، الآن هو مقعد واحد يحمل رجالا عجزا، لا يسترعون انتباه أي شخص مثل الجرائد القديمة. وقف الرجل على قدميه ليبث صراخه الذي بدا أنه ناتج عن الغضب، غضب وترويع يشعر بهما، أكثر من كونه ناتجا عن الألم. عندما خبت صرخته، تحول الرجل قليلا، ثم ترنح، وكأنه يحاول التشبث بالهواء بذراعيه الممدودتين أمامه، وأصابعه المفتوحة، ثم سقط على الأرض وهو ينتفض بشدة. لم يتجشم أحد الرجال الآخرين الجالسين على المقعد نفسه عناء مساعدته، لم ينهض أحدهم، إنهم حتى بالكاد نظروا إليه، ثم أكملوا قراءة الجريدة أو أخذوا يحدقون بأقدامهم. وفجأة توقف الرجل عن الانتفاض.
مات الرجل، لقد عرفت ذلك. أتى شخص، مدير أو مسئول بالمحطة، ليتفحصه، في حين أكمل بعض الناس سيرهم بأمتعتهم كأن شيئا لم يحدث، ولم ينظروا بذلك الاتجاه. بعض الناس مثلي تقدموا نحو مكان استلقاء الرجل وتوقفوا، تقدموا وتوقفوا، وكأنه يصدر عنه إشعاعات خطيرة. «لا بد أنها أزمة قلبية.» «بل سكتة دماغية.» «هل مات؟» «بالتأكيد، انظر، الرجل يضع عليه معطفه.»
وقف المسئول لا يرتدي شيئا على قميصه. يجب أن يرسل معطفه للمغسلة. استدرت مبتعدة بصعوبة، ومشيت باتجاه مدخل المحطة، وكأنه يتعين علي ألا أرحل، وكأن صرخات الرجل الذي مات ما زالت تطلب مني شيئا لأفعله، لكني لا أستطيع حتى التفكير في هذا الشيء. هذه الصرخة التي أطلقها الرجل كانت كفيلة بأن تردعني أنا، وتردع هيو، ومارجريت، وعضو جماعة الصليب الوردي، وكل إنسان حي. كل ما نقوله أو نفعله أصبح غير حقيقي ولا طائل من ورائه. وكأننا نلف وندور خارج السيطرة منذ وقت طويل، ندور حول أنفسنا في دوامات، ونصدر ضجيجا يملأ الدنيا صخبا. ولكن يمكن لكل هذا أن يهدأ ويسكن في لحظة واحدة، لحظة واحدة نجد فيها أنفسنا للمرة الأولى هامدين لا نملك أن نؤذي بعوضة. كان مشهد هذا الرجل يبعث برسالة؛ أنا أومن بذلك بالفعل، لكني لا أعلم كيف أوصل هذه الرسالة.
رياح الشتاء
من نافذة غرفة نوم جدتي يمكنك أن تطل عبر الطريق السريع على امتداد كبير لنهر واواناش الذي يتلوى بين عيدان القصب. سطحه كله مجمد الآن يكسوه الجليد، والثلوج المنتشرة في كل مكان تخفي معالمه. حتى في الأيام العاصفة قد تنقشع الغيوم قبل وقت العشاء، يتبعها غروب الشمس شديدة الاحمرار. قالت جدتي حانقة، وكأننا في سيبيريا: هذا الطقس يجعل المرء يظن أننا نعيش على حافة البرية. كانت كل تلك البقاع تغطيها المزارع، وبطبيعة الحال أشجار يانعة، لم تكن هناك براري على الإطلاق، ولكن الشتاء غطى كل شيء، حتى أعمدة السياج.
بدأت العاصفة قبل الظهيرة، عندما كنا في حصة الكيمياء، وشاهدنا تقدمها مفعمين بالأمل، ونتطلع إلى شيء غير مألوف، شيء يسد الطرق ويؤدي إلى نقص الإمدادات ويستقر في ممرات المدرسة. تخيلت نفسي أنال حريتي بسبب أزمة تسببها موجة الطقس السيئ، ويساعدني على ذلك انقطاع التيار الكهربائي، وعلى ضوء الشموع أستمع للأغاني الصاخبة مصحوبة بهدير الرياح، وأتدثر ببطانية مع السيد هارمر، المدرس المبتدئ الذي كثيرا ما حاولت لفت نظره في طابور الصباح، يعانقني حتى يشعرني في البداية فقط بالدفء والطمأنينة، ذلك العناق الذي ربما يتحول في ظل هذا الارتباك والظلمة الحالكة - ففي هذا الوقت تنطفئ الشمعة الوحيدة بفعل الرياح - إلى شيء أكثر إلحاحا وإثارة. بيد أن الأمور لم تصل إلى هذا الحد، وجاءت تعليمات بالانصراف في وقت مبكر، فتأهبت حافلات المدرسة في الخارج مشغلة مصابيح الإنارة بينما نحن في منتصف النهار. عادة ما أستقل حافلة «وايتشيرش» إلى الحي الأول غرب المدينة، ومن هناك أمشي سيرا على الأقدام، ثلاثة أرباع ميل أو نحو ذلك، وصولا إلى بيتنا عند حافة الغابة. هذه الليلة ذهبت إلى بيت جدتي في المدينة، وهو ما أفعله مرتين أو ثلاثا كل شتاء.
كان مدخل هذا البيت مكسوا كله بالخشب المصقول، المعطر، الأملس، والمريح حتى إنك لتشعر فيه كما لو أنك داخل قشرة ثمرة جوز. كانت غرفة الطعام مضاءة بمصباح أصفر. أديت واجباتي المنزلية - الشيء الذي لم أشغل بالي به كثيرا في المنزل؛ نظرا لعدم وجود مكان أو وقت لتأديته من الأساس - على طاولة الطعام، بعدما فردت عليها الخالة مادج جريدة لحماية المفرش. كانت الخالة مادج أخت جدتي، وكلتاهما أرملتان.
كانت الخالة مادج تكوي (كانتا تكويان كل شيء، حتى الملابس الداخلية وفوط المطبخ) فيما كانت جدتي تعد بودنج الجزر للعشاء. انبعثت منه رائحة زكية. قارن هذا بالمشهد في منزلنا؛ حيث المطبخ هو الغرفة الوحيدة الدافئة؛ كان لدينا موقد خشبي، وكان أخي يحضر الحطب اللازم لتشغيله، تاركا وراءه آثارا من الثلج القذر على المشمع المفروش على الأرضية، بالرغم من توبيخي له. كانت الأوساخ والفوضى تحيط بنا في كل وقت وحين. أما أمي فهي في أغلب الأحيان مستلقية على الأريكة، تندب حظها العاثر. كنت أجادلها كلما أتيحت لي الفرصة، فترد علي قائلة إن قلبي سينفطر عندما أنجب أطفالا. كنا نشتغل ببيع البيض في ذلك الحين؛ لذا كنت تجد سلال البيض في كل مكان مع بقايا القش والريش وروث الدجاج العالق بها، في انتظار من ينظفها. أعتقد أن رائحة روث الدجاج تدخل البيت على الأحذية والملابس ولا يمكن التخلص منها بأي حال من الأحوال.
في غرفة الطعام كانت هناك لوحتان زيتيتان معلقتان أعلى الحائط، رسمتهما شقيقة أخرى لجدتي، التي توفيت في سن مبكرة. إحدى اللوحتين تصور كوخا على جدول ينساب به الماء أمامه، فيما تعبر اللوحة الثانية عن كلب يمسك بطائر في فمه، علقت عليها أمي ذات مرة بأن حجم الطائر كبير جدا مقارنة بالكلب.
فردت عليها جدتي، قائلة: «حسنا، لم يكن هذا خطأ تينا؛ فقد نسختها من أحد التقويمات.»
قالت الخالة مادج مؤمنة على كلامها: «كانت فنانة موهوبة ولكنها كفت عن الرسم بعد زواجها.»
كانت هناك أيضا في الغرفة صورة لجدتي والخالة مادج، مع والديهما، وأختهما المتوفاة، وشقيقة أخرى تزوجت من كاثوليكي، وهو الأمر الشائن في نظر العائلة لدرجة أنهم اعتبروها في عداد الأموات، وإن كان السلام قد حل بينهم في وقت لاحق. كنت أمر على هذه الصورة مرور الكرام ولا أتوقف عندها كثيرا، ولكن بعد وفاة جدتي وانتقال الخالة مادج إلى دار لرعاية المسنين (حيث لا تزال حية حتى الآن، حية ولكن لا تعرف أحدا ولا أحد يعرفها، وقد فقدت عقلها وذاكرتها ولعلها نسيت ماضيها تماما بكل منغصاته، تحررت من كل ذلك)، أخذت الصورة لأصحبها معي أينما ذهبت.
كان والداها جالسين، حيث كانت الأم متخشبة في جلستها دون أن يرف على شفتيها شبح ابتسامة، مرتدية فستانا أسود حريريا، شعرها خفيف ومفروق من المنتصف، وعيناها جاحظتان ذابلتان. أما الأب فلا يزال وسيما، ملتحيا، ويداه على ركبتيه مجسدا دور السيد المطاع في الأسرة. البصمة الأيرلندية ظاهرة قليلا هنا، حيث يستمتع الأب بدوره، وربما كانت تلك المتعة نابعة أيضا من عدم قدرته على الهروب منه الآن. ففي شبابه كان معروفا بارتياده الحانات؛ وحتى بعد إنجاب أولاده ظل محتفظا بلقب السكير، العربيد الكبير. لكنه تخلى عن تلك العادات، وأدار ظهره لأصدقائه وجلب عائلته هنا، لاستصلاح قطعة أرض بمشروع هورون تراكت الذي افتتح مؤخرا. وكانت هذه الصورة علامة وسجلا لأهم إنجازاته: الاحترام والرخاء المعقول، زوجة حنون ترتدي فستانا حريريا أسود اللون، وبنات حسناوات المظهر طويلات القامة.
ومع ذلك؛ فقد كانت ملابسهم في واقع الأمر تبدو مبالغا فيها؛ تحفل بالكشكشات والذوق الفلاحي. كلهم ما عدا الخالة مادج؛ فقد كان فستانها ضيقا، بسيطا، برقبة طويلة، تزينه قطع لامعة صغيرة، ربما من الكهرمان الأسود. وطريقتها في ارتداء الفستان تنم عن ذوق رفيع، لا سيما مع إمالة رأسها قليلا إلى الجانب، والابتسام دون حرج للكاميرا. كانت خياطة متميزة، وتفصل ملابسها بنفسها، وتفهم ما يناسبها. ولكن من المرجح أنها هي من فصلت فساتين شقيقاتها أيضا، وما الحيلة تجاه ذلك؟ كانت جدتي تلبس فستانا بأكمام فضفاضة وياقة مخملية واسعة، وما يشبه الصديري المقلم بخطوط مخملية متقاطعة، كان شكله مستغربا عند الخصر. كانت ترتدي تلك الملابس دون أي من مظاهر السلطة، بل كانت حمرة الخجل تعلو وجهها، كمن تعتذر بنصف ابتسامة غير واثقة في قبول اعتذارها. تبدو جدتي في الصورة مسترجلة إلى حد بعيد، حيث شعرها الأشعث الملفوف لأعلى وإن كان ممشطا للأمام، مما يعرضه للسقوط. لكنها ترتدي خاتم الزواج، ففي ذلك الحين كانت قد أنجبت أبي، وكانت الوحيدة المتزوجة من بينهن حينذاك، والبنت البكر للأسرة، وأيضا أطول شقيقاتها.
على العشاء، سألتني جدتي: «كيف حال أمك؟» وفي لحظتها شعرت بانقباض النفس. «بخير.»
لم تكن بخير، ولن تكون بخير أبدا. كانت تعاني من مرض يتطور ببطء وليس له علاج معروف.
علقت الخالة مادج بنبرة المتأثر: «مسكينة.»
أردفت جدتي متنهدة: «لقد وجدت صعوبة في فهمها على الهاتف. أعتقد أنه كلما ازدادت حالة صوتها سوءا، أصبحت أكثر رغبة في الحديث.»
كانت الحبال الصوتية لأمي تعاني شللا جزئيا، وفي بعض الأحيان كنت أعمل مترجمة لها، وهي الوظيفة التي جعلتني أشعر بخزي شديد.
قالت الخالة مادج مشفقة: «لا عجب أنها ستشعر بالوحدة هناك. يا لها من مسكينة!»
فعلقت جدتي، قائلة: «إن مكوثها في أي مكان لا يصنع فارقا ما دام الناس لا يفهمونها.»
بعدها طلبت جدتي تقريرا عن أعمالنا المنزلية. هل غسلنا الملابس والمفروشات؟ هل جففنا الغسيل؟ هل كوينا الغسيل بعد جفافه؟ ماذا عن الخبيز؟ هل خيطنا جوارب أبي؟ كانت تقدم يد العون لنا. كانت تخبز البسكويت والكعك، والفطيرة (هل لدينا فطيرة؟) ما علينا إلا إحضار المكونات وتتولى هي خبزها، وكانت تتولى كذلك أعمال الكي. دأبت على المجيء إلينا يوما واحدا للمساعدة بمجرد توقف الأمطار عن الهطول. كانت فكرة احتياجنا إلى المساعدة تصيبني بالإحراج، وقد حاولت جهدي درء تلك الزيارات. قبل مجيء جدتي كنت أضطر إلى تنظيف المنزل، وإعادة تنظيم الخزائن قدر الإمكان، وإخفاء كل ما من شأنه أن يخزيني، كإناء تحميص لم أقربه قط بالغسيل والدعك، أو سلة بها ملابس ممزقة سبق أن أخبرت جدتي بأنني قد أصلحتها، كل ذلك كنت أخفيه تحت الحوض أو الأسرة. ولكني لم أكن أؤدي أعمال النظافة بالقدر الكافي قط؛ إذ كانت عمليات إعادة التنظيم التي أقوم بها عشوائية، وكانت مسببات الخزي تنكشف بجلاء، ويتضح مدى فشلنا، وعدم ارتقائنا إلى المستوى النموذجي من النظام والنظافة والآداب المنزلية، التي كنت أومن بها كأي شخص آخر، ولكن الإيمان وحده ليس كافيا. لم أكن أشعر بالخزي من أجلي فقط، بل من أجل أمي أيضا. «أمك ليست على ما يرام ولا تستطيع مباشرة الأمور بنفسها.» قالتها جدتي بنبرة تشي بالشك بما سأقوم بإنجازه.
حاولت تقديم تقارير جيدة قدر الإمكان. في الأيام الخوالي حينما كانت تلك الأشياء وأمثالها صحيحة أحيانا، كنت أقول إن والدتي قد خللت بعض البنجر، أو إنها مشغولة في قص الحواف المهترئة للملاءات وخياطة الحواف السليمة لجعلها تستمر فترة أطول. فكانت جدتي تنظر إلى كم الجهد المطلوب لفعل ذلك، وتدرك الزيف الواضح لتلك الصورة (زائفة، حتى لو كانت تفاصيلها صحيحة)؛ ثم تعقب قائلة: حسنا، هل فعلت هذا حقا؟
قلت لها ذات مرة: «إنها تدهن خزائن المطبخ.» لم تكن تلك كذبة من نسج خيالي؛ إذ دأبت أمي على دهان خزائننا باللون الأصفر ورسم بعض الزخارف على كل من الأدراج والأبواب: زخارف كزهور أو أسماك أو مراكب شراعية أو حتى أعلام. وبالرغم من ارتعاش يديها وذراعيها، فإنه كان بمقدورها السيطرة على الفرشاة بما فيه الكفاية فترة قصيرة، لذلك لم تكن هذه التصاميم بالغة السوء، بيد أنه كان بها شيء من الفظاظة والفجاجة التي تعكس قسوة وشدة المرحلة المرضية التي تمر بها أمي الآن. لم آت على ذكر تلك المسألة على الإطلاق أمام جدتي، لعلمي أنها كانت ستجدها غريبة ومستهجنة. فجدتي والخالة مادج تعتقدان، شأنهما شأن الكثيرين، أن المنازل ينبغي أن تبدو مثل بيوت الآخرين قدر الإمكان. كذلك فإن بعض الأفكار التي تصورتها ونفذتها أمي لم تؤد إلا إلى زيادة اقتناعي بضرورة هذا التماثل.
كانت أمي أيضا تترك الطلاء والفرش وزيت التربنتين لي لأتولى تنظيفها؛ حيث إنها اعتادت العمل حتى تصاب بالإنهاك التام، ثم تتمدد على الأريكة وهي تئن.
وعقبت جدتي على حكاية الدهان تلك، قائلة بنبرة تنم عن الانزعاج وعدم الرضا: «سوف تورط نفسها في شيء كهذا، كان يجدر بها أن تعرف أنه سينهكها، ومن ثم لن تستطيع القيام بأي من واجباتها التي يتعين عليها القيام بها. إنها ستدهن الخزائن في وقت يجدر بها أن تجهز عشاء أبيك فيه.»
كلام في محله تماما. •••
بعد العشاء خرجت، بالرغم من الطقس السيئ، حيث هبت على المدينة عاصفة ثلجية، ولكنها لم تبد عاصفة ثلجية قوية بالنسبة لي، حيث حجبت المنازل والمباني قدرا كبيرا من شدتها. التقيت صديقتي بيتي جوسلي؛ فتاة ريفية أخرى مع شقيقتها المتزوجة. كنا سعيدات ومتحمسات لكوننا في المدينة، حيث كنا قادرات على الخروج وتجربة الحياة المسائية، بدلا من اقتصار الأمر على معايشة العواصف والظلام والبرد الذي تعاني منه منازلنا في الريف. في المدينة تجد الشوارع التي يؤدي بعضها إلى بعض، والأضواء المنتشرة على مسافات متساوية، ويمكن أيضا أن تجد ما صنعه البشر من تصميمات وقد أثبتت وجودها ونجحت. تجد الناس هنا يمارسون لعبة الكيرلنج ويتزلجون على الجليد في الساحة، ويشاهدون العرض في مسرح الليسيوم، ويلعبون البلياردو في نادي البلياردو، ويجلسون على المقاهي. كنا محرومات من معظم هذه الأنشطة بسبب سننا أو نوعنا أو افتقارنا إلى المال، لكننا تمكنا من التجول، وشربنا كوكا الليمون - وهي أرخص مشروب في مقهى بلو أول كافيه - وأخذنا نراقب من يحضرون إلى المكان، ونحن نتحدث مع فتاة تعرفنا بها ممن كانوا يعملون هناك. لم أكن أنا وبيتي في موضع قوة، وقضينا الكثير من الوقت، مثل التفهاء في بلاط الملك نتحدث في شئون من هم أكثر حظا وقوة، ونثرثر بشأن ما تمر به حياتهم العملية من صروف وتقلبات، وكنا نحكم بقسوة على أخلاقهم. قالت كل منا للأخرى إنها لن تخرج مع فتيان بعينهم ولو مقابل مليون دولار، والحقيقة هي أننا سنكون في منتهى السعادة إذا دعانا هؤلاء الأولاد باسمينا فقط. تحدثنا عن الفتيات اللائي قد يكن حملن (في الشتاء التالي حملت بيتي جوسلي من مزارع في جوارنا يعاني من صعوبة في التحدث ويمتلك قطيعا من الماشية ينتج الألبان، لم تحدثني عنه قط. بعد ذلك استغرقتها حياة النسوة المتزوجات شاعرة بالخجل والفخر، ولم تعد تتحدث عن أي شيء سوى أعمال المطبخ، وغسيل المفروشات وملابس الأطفال، وغثيان الصباح؛ مما جعلني أشعر بالحسد والفزع في الوقت ذاته).
مشينا بجوار المنزل الذي يعيش فيه السيد هارمر. كان يسكن في الطابق العلوي، وكانت الأضواء منيرة. ماذا كان يفعل في أمسياته؟ لم يستمتع بوسائل الترفيه المتاحة في المدينة، ولم يكن من مرتادي السينما أو مباريات الهوكي. لم يكن معروفا للجميع، وكان هذا سبب اختياري له. أحببت أن أظن أن لي ذوقا خاصا. كان شعره خفيفا باهت اللون، وله شارب ناعم، لم يبد عريض المنكبين في سترته من الصوف الخشن المرقعة بالجلد، وكان يعتمد على الكلمات اللاذعة في الصف الدراسي بدلا من استخدام القوة الجسدية. تحدثت إليه ذات مرة - وكانت تلك المرة الوحيدة التي تحدثت إليه فيها - وذلك في مكتبة المدينة، حيث رشح لي رواية عن عمال مناجم الفحم في ويلز، ولكنها لم تعجبني. لم تكن رواية عن الجنس، كانت تدور فقط حول الإضرابات والنقابات والرجال.
كنت أمشي مع بيتي جوسلي بجوار منزله، نتسكع تحت النوافذ. لم أكن أظهر اهتمامي بصورة مباشرة، ولكن بدلا من ذلك حكيت لها نكات ساخرة عنه، فقلت عنه إنه جبان ومعتزل للنساء، ورميته بالممارسات المشينة الخاصة التي تبقيه في الأمسيات بالمنزل دائما. انضمت بيتي إلى هذه الثرثرة، ولكنها لم تفهم حقا لماذا كان يجب عليها أن تكون قاسية على هذا النحو وطويلة على هذا الشكل. ولكي أبقيها على مهاجمته تظاهرت بأنني أعتقد أنها كانت في علاقة معه، وقلت إنني كنت قد رأيته ينظر إلى تنورتها عند صعودها للسلم، وإنني سأرمي كرة ثلج على نافذة منزله، وأدعوه للنزول للقائها. كانت مستمتعة في البداية بهذه التخيلات، ولكن بعد فترة شعرت بالبرودة وسئمت الحديث وتعكر مزاجها، وتوجهت نحو الشارع الرئيسي فاضطرتني للحاق بها.
كان كل هذا الجموح، والفظاظة، والمرح جزءا من أحلامي الخاصة إلى أقصى حد ممكن، التي كانت في معظمها حول اللقاءات العاطفية والأحضان العفيفة، والذوبان في العاطفة المقدسة، والوئام قبل الفراق الذي لا مفر منه، والحب بالغ الرومانسية. •••
كان زواج الخالة مادج سعيدا، وكان الجميع يتذكر سعادة زواجها ويحكي عنها، وحتى في هذا المجتمع حيث عادة ما يعتقد الناس أنه من الأفضل عدم الحديث حول مثل هذه الأمور (وحتى اليوم، إذا سألت عن حال شخص ما، فإن الإجابة سوف تكون في كثير من الأحيان أنه يبلي بلاء حسنا، وأنه اشترى سيارتين وغسالة صحون، وهذه الطريقة في الرد مبنية في جزء منها على مادية بسيطة وطبيعية موروثة عن الفقر، وفي جزء آخر على التطير من التحدث بكلمات مثل: «سعيد»، «خائف»، «حزين»).
كان زوج الخالة مادج من نوع المزارعين الذين يحبون التروي في كل شيء، وكان يهتم بالشئون السياسية، وصاحب رؤية، وعنيدا، ومسليا. لم ينجبا أطفالا ومن ثم لم ينتقص شيء من مشاعرها تجاهه. كانت تشعر بالسعادة في صحبته، وما كانت لترفض أي دعوة للذهاب معه إلى المدينة، أو أن تذهب معه في نزهة بسيارته، مع أنها أمضت حياتها تشعر بالقلق كلما ركبت معه السيارة؛ فقد كان أسلوب قيادته مخيفا، علاوة على أنه في السنوات الأخيرة من حياته عانى من ضعف الإبصار، ولكنها لم تشعره بذلك فلم تحاول تعلم القيادة بنفسها، كان دعمها له دائما، وبذلك يمكن وصفها نموذجا للزوجة المثالية، إلا أنها لم تعط قط انطباعا بالتضحية، أو الصبر، أو القيام بواجباتها، مثل تلك الصفات التي يبحث عنها المرء في المثل العليا. تجدها مرحة، ولكن وقحة أحيانا؛ لذا فإن الناس لم تكن تحترمها بسبب حبها، بل كانوا يرونها محظوظة أو حتى خفيفة العقل. وبعد وفاته لم تعد تهتم بحياتها، وكانت تنظر لها باعتبارها فترة انتظار، حيث كانت تؤمن إيمانا راسخا بالنعيم واليوم الآخر، وقد حالت نشأتها دون وقوعها فريسة للاكتئاب.
أما زواج جدتي فكان قصة مختلفة؛ فقد تزوجت جدي في حين كانت لا تزال في حالة حب مع رجل آخر. كانت والدتي قد أخبرتني بهذا؛ فقد كانت تحب القصص، خاصة القصص التراجيدية المليئة بالمآسي وما يفعله القدر من صروف وتقلبات. وبطبيعة الحال، لم تذكر الخالة مادج وجدتي أي شيء حول هذا الموضوع. ولكن عندما كبرت وجدت أن الجميع على علم بهذا الأمر. ظل الرجل الآخر في الحي، كما فعل معظم الناس؛ فقد كان مزارعا وتزوج ثلاث مرات. وكان ابن عم كل من جدي وجدتي؛ ولذلك كان يزورهما في كثير من الأحيان بمنزلهما، كما يفعلان أيضا معه. وقبل أن يتقدم لزوجته الثالثة جاء لرؤية جدتي، وكان هذا ما قالته لي والدتي. خرجت من المطبخ وركبت معه عربة تجرها الأحصنة وكان من السهل أن يراهما الجميع. فهل طلب نصيحتها، أو استأذنها؟ تعتقد أمي اعتقادا قويا أنه طلب منها أن تهرب معه. تعجبت؛ فقد كانا يبلغان من العمر نحو خمسين سنة في ذلك الوقت، أين يمكنهما الهروب؟ إلى جانب ذلك؛ فقد كانا ملتزمين دينيا، ولم يتهمهما أحد بسوء السلوك. التقارب، والاستحالة، والتخلي، تلك التركيبة تجعل الحب دائما ومستمرا. وأعتقد أن هذا كان خيار جدتي؛ تلك العاطفة الخطرة المنكرة للذات والممجدة لها في ذات الوقت، تلك العاطفة التي لم تشبعها قط، لتستمر مدى الحياة. لم نتحدث قط في هذا الأمر في حياتنا ربما باستثناء مرة واحدة أو مرتين، لظروف معينة.
كان جدي رجلا لا يحب الشكوى، وكان يفضل العزلة. كان قد تزوج في وقت متأخر من حياته، واختار حبيبة رجل آخر لأسباب لم يفصح لأحد عنها. في فصل الشتاء كان ينهي أعماله في وقت مبكر، ويقوم بكل شيء بدقة ومهارة، ثم يبدأ في قراءة كتب في الاقتصاد والتاريخ. درس لغة الإسبرانتو، قرأ رفوفا من روايات العصر الفيكتوري عدة مرات. كان لا يناقش ما يقرؤه ويحتفظ بآرائه لنفسه، على عكس صهره. مطالبه من الحياة، وتوقعاته من الآخرين كانت منخفضة للغاية، لذلك لم تكن هناك أي إمكانية لتعرضه لخيبة الأمل. ولا أحد يعرف إن كانت جدتي قد أصابته بخيبة الأمل في حياتهما الخاصة، وإن كان قد توقف عن محاولات التقرب منها، لا أحد يعرف.
وأنى لأي شخص أن يعرف؟ كيف لي أنا أن أعرف ما أدعي معرفته؟ لقد استغللت هؤلاء الأشخاص، ليس جميعهم ولكن البعض منهم، من قبل. لقد غررت بهم وغيرتهم وشكلتهم بأي شكل من الأشكال أريده ليتناسب مع أهدافي. أنا لا أفعل ذلك الآن، وأحرص قدر ما أستطيع، ولكني أتوقف وأتعجب، وأشعر بوخز الضمير مع أنني لا أفعل على نحو علني إلا ما فعلته دائما، ما فعلته أمي، وما فعله الآخرون، الذين حكوا لي قصة جدتي. حتى في هذا المكان الذي حكيت لي القصة فيه، يجري اختلاق العديد من القصص. كان الناس يتبادلون قصصهم فيما بينهم. جدتي كانت تحتفظ بقصتها، ولم يتحدث أحد حول هذه القصة في وجهها.
لكن حديثي هذا يقتصر فقط على الحقائق. لقد قلت أشياء أخرى، لقد قلت إن جدتي اختارت نوعا معينا من الحب، لقد أشرت إلى أنها كانت مدمرة عاطفيا ولكنها كانت تخفي ذلك داخلها بعناد. لم تحدثني عن أي شيء، ولم أسمعها تحدث أحدا غيري، حول هذا الأمر. ولكنني لم أخترع ذلك، وأنا حقا أصدقه، دون أي دليل أصدقه، ولذا أصدق أنه كانت تصلنا رسائل بطريقة أخرى تفيد بأن هناك صلات بيننا لا يمكننا أن نلمسها، ولكن يجب الاعتماد عليها. •••
تحولت العاصفة بعد ذلك لعاصفة عاتية شديدة استمرت أسبوعا. ولكن بعد ظهيرة اليوم الثالث، أثناء مكوثي بالمدرسة، نظرت من النافذة ورأيت أن الرياح قد هدأت على ما يبدو، لم تكن هناك ثلوج تتساقط، وكانت السحب متقطعة. فكرت أنه بعد انتهاء العاصفة سأكون قادرة على العودة إلى بيتنا تلك الليلة. دائما ما يكون البيت أفضل بعد قضاء بضع ليال في منزل جدتي، حيث لم أكن مضطرة للانتباه لما أقول وأفعل دائما. كانت والدتي تعترض على بعض الأشياء، ولكن كان لي اليد العليا عليها. ومع ذلك، كنت أنا من يقوم بتسخين المياه على الموقد ونقل الغسالة من الشرفة وكذلك الغسيل، مرة واحدة كل أسبوع، إضافة إلى تنظيف الأرضية البالية، وكنت أعد لها على مضض أكواب الشاي التي لا نهاية لها. لذلك كنت أقول: «يا له من شيء مقرف!» عندما أنظف الموقد ويعلق بي بعض التراب. يمكنني القول إنني اعتزمت تكوين علاقات واستخدام وسائل منع الحمل وعدم إنجاب أطفال. كنت أتوق إلى زواج يثير غيرة الآخرين، يكتنفه الأمان ومليء بالعاطفة على حد سواء، وتخيلت قميص النوم الذي أود ارتداءه عندما أكون مع زوجي حبيبي للمرة الأولى. أستطيع أن أقول إنه ليس ثمة خطأ في الكتابة عن الجنس في الكتب وكذلك لا يوجد ما يعرف بالكلمات القبيحة. لم تكن شخصيتي صاحبة الصوت العالي الفاضح التي كنت عليها في منزلي شبيهة بشخصيتي الكتومة الحصيفة في بيت جدتي، ولكن إذا حكمنا على ظروف كل شخصية باعتبارها أدوارا أؤديها يمكن رؤية أن للشخصية الأولى بعدا أعمق. أنا لم أتعب من ذلك بسهولة، في الحقيقة أنا لم أتعب من ذلك على الإطلاق.
الأغطية، والملاءات المكوية، واللحاف الجميل، وصابون الياسمين؛ أنا مستعدة للتخلي عن كل ذلك الآن لكي أتمكن من إلقاء معطفي حيثما أختار، وترك الغرفة دون الحاجة إلى قول أين سأذهب، بل والقراءة وقدمي في الفرن، إن أحببت.
بعد المدرسة عرجت على بيت جدتي لأقول لهم إنني ذاهبة إلى منزلنا. عندئذ كانت الرياح قد بدأت تهب مرة أخرى، وأي شخص يسير على الطريق معرض لأن تطيره الرياح، والعاصفة لم تنته بعد، ولكنني أردت العودة إلى بيتنا أكثر من أي وقت مضى. عندما فتحت الباب شممت رائحة فطير يخبز، فطير تفاح الشتاء، وسمعت صوت السيدتين العجوزين تحييانني (دائما ما كانت الخالة مادج تصيح قائلة: «ومن عساه يكون الزائر؟» تماما كما كانت تفعل عندما كنت فتاة صغيرة)، اعتقدت أنني لا أستطيع التحمل أكثر من ذلك؛ التنظيف، والمجاملات، والانتظار. كل أوقاتهم أوقات انتظار. انتظار البريد، انتظار العشاء، انتظار النوم. قد تتصور أن أوقات أمي كانت أوقات انتظار أيضا، لكن لم يكن الأمر كذلك؛ فبالرغم من استلقائها على الأريكة وبالرغم من مرضها وعجزها، إلا أنها كانت لا تزال محتفظة بخطط وخيالات وطلبات غير تقليدية لا يمكن تلبيتها، بل وتفتعل شجارات في بعض الأحيان؛ باختصار كانت تشغل نفسها. في بيتنا كان الارتباك والضرورة حاضرين على الدوام، حيث البيض وضرورة تنظيفه، الخشب وضرورة جلبه، والنار وضرورة إبقائها مشتعلة، والطعام وضرورة إعداده، والفوضى وضرورة التخلص منها. دائما ما كنت أهرول وأتذكر وأنسى، ثم أجلس بعد العشاء وسط كل شيء، في انتظار ماء غسيل الأطباق حتى يسخن على الموقد، وأغوص في كتاب من مكتبتي.
ثمة اختلاف أيضا بين الكتب التي أقرؤها في بيتنا وتلك التي في منزل جدتي؛ حيث لا يسعك إخراج الكتب من موضعها، تحس أن جو المكان نفسه يدفعها إلى الوراء، يكبحها، يطفئ بريقها. لم يكن هناك متسع. أما في بيتنا، وبالرغم من كل ما كان يجري؛ فقد كان هناك متسع لكل شيء.
قلت لهما: «لن أكون هنا على العشاء. سأعود إلى بيتنا.»
حزمت أغراضي وجلست لاحتساء الشاي الذي كانت تعده جدتي.
قالت بثقة: «لا يمكنك الذهاب في هذا الجو. هل أنت قلقة حيال العمل؟ هل تخشين ألا يستطيعوا المضي قدما من دونك؟» «كلا ولكني أفضل العودة إلى البيت. والرياح لا تهب بشدة، حتى إن المحاريث تعمل بالخارج.»
فردت جدتي محاولة إقناعي: «ربما على الطريق السريع، فلم أسمع بعد صوت محراث على طريقك.»
كان المكان الذي نعيش فيه، شأنه شأن الكثير من الأشياء الأخرى، خطأ في خطأ.
وهنا صاحت الخالة مادج بنبرة حزينة مكسوة بالسخرية: «إنها خائفة من فطيرتي، كل ما هنالك أنها تحاول الهروب من فطيرتي.»
فقلت بلامبالاة: «ربما كان الأمر كذلك.» «عليك أن تأكلي منها قطعة قبل أن تغادري. فلن تستغرق الكثير من الوقت حتى تبرد.»
فقالت جدتي برفق: «لن تخرج. لن تخطو خارج عتبة هذا الباب في هذه العاصفة.»
فرددت عليها: «ليست عاصفة.» ونظرت إلى النافذة بحثا عما يدعم كلامي فوجدت شبورة كثيفة.
وضعت جدتي كوبها بقوة على صحنه محدثة صوتا عاليا وقالت: «حسنا، اذهبي إذن. اذهبي إن أردت، اذهبي وتجمدي حتى الموت.»
لم أر جدتي تفقد السيطرة على أعصابها من قبل، ولم أتصور قط أنها يمكن أن تفقد السيطرة على أعصابها. يبدو لي هذا غريبا الآن، ولكن الحقيقة هي أنني لم أسمع قط ألما أو غضبا في نبرة صوتها، أو أراهما على وجهها. كانت أحكامها تدل على الانعزال ولم تكن شخصية، وإن كانت تصدرها بسلطة تقليدية. كان تراجعها هنا هو ما أذهلني. كانت هناك دموع في لهجتها، وعندما نظرت في وجهها وجدت دموعا في عينيها ثم سالت على وجهها. كانت تبكي. كانت غاضبة وتبكي. «لا عليك، إذن، اذهبي وتجمدي حتى الموت مثلما حدث للمسكينة سوزي هيفرمان.»
قالت الخالة مادج مؤمنة على كلامها: «أوه يا عزيزتي، هذا صحيح، هذا صحيح.»
قالت جدتي مخاطبة إياي كما لو كان ذلك ذنبي أنا: «المسكينة سوزان كانت تعيش وحيدة.»
قالت الخالة مادج معزية: «كانت بالخارج في حينا القديم، يا عزيزتي. لن تعرفي من نقصد. سوزي هيفرمان التي كانت متزوجة من جرشوم بيل. السيدة بيل أو سوزي هيفرمان كما نعرفها نحن، كانت تذهب معنا إلى المدرسة.»
مسحت جدتي عينيها وأنفها بكمها، مستجمعة شتات نفسها إلى حد ما، ولكن من دون التوقف عن النظر إلي بغضب، قائلة: «وتوفي زوجها جرشوم العام الماضي وتزوجت ابنتاها وتركتاها وحيدة. المسكينة سوزان كان عليها الخروج بنفسها لحلب الأبقار. لقد احتفظت بأبقارها وتولت رعايتها بنفسها. خرجت الليلة الماضية وكان ينبغي لها أن تربط حبل الغسيل بالباب ولكنها لم تفعل، وفي طريق العودة ضلت طريقها، ووجدوها ظهر اليوم.»
أردفت الخالة مادج، قائلة: «اتصل بنا أليكس بيتيه ليخبرنا، فهو أحد من وجدوها.»
قلت بحماقة: «هل كانت ميتة؟»
ردت جدتي وقد كفت عن البكاء: «لا يمكنهم إذابة الجليد وإعادتك إلى الحياة بعدما قضيت ليلة كاملة مطمورة تحت الجليد في هذا الطقس.»
وأضافت الخالة مادج متأثرة: «تخيلي أن كل هذا حصل لسوزي وهي تحاول الوصول من الإسطبل إلى البيت فقط. ما كان ينبغي لها أن تذهب إلى أبقارها، ولكنها ظنت أنها تستطيع تدبر الأمر، ومما زاد الطين بلة أن إحدى ساقيها كانت مصابة. أراهن أن هذا هو ما قضى عليها.»
فقلت خائفة: «هذا فظيع. لن أرجع إلى البيت.»
فقالت جدتي دفعة واحدة: «يمكنك الذهاب إن أردت.» «كلا ، سأبقى هنا.»
استأنفت الخالة مادج: «لا يعلم الواحد منا ما سيحدث له.» وراحت تنتحب هي الأخرى، ولكن كان بكاؤها طبيعيا أكثر من جدتي. بالنسبة لها لم تكن دموعها سوى بعض الارتشاح حول العينين، ويبدو أن دموعها أراحتها شيئا ما، ثم استأنفت: «من كان يفكر في تلك النهاية المأساوية لسوزي، كانت صديقة عمري، كانت صديقتي أكثر من جدتك، ويا لها من فتاة في الرقص! دائما ما كانت تقول إنها على استعداد لأن تسافر عشرين ميلا في عربة مكشوفة تجرها الخيل من أجل رقصة جيدة. وقد تبادلنا الفساتين ذات مرة على سبيل المزاح. آه لو كنا نعرف حينذاك ما سيحدث!»
قالت جدتي في أسى: «ليس بمقدور أحد أن يعرف، لا طائل من وراء ذلك!» •••
تناولت عشائي بنهم وأكلت كثيرا، فيما لم يعاود أحد ذكر حكاية سوزي هيفرمان.
أفهم الآن العديد من الأشياء، مع أن فهمي لها لا يفيد أحدا في شيء. أفهم أن الخالة مادج تشعر بالتعاطف مع أمي؛ لأن الخالة مادج رأت أمي بكل تأكيد كامرأة بائسة، حتى قبل مرضها. وأي شيء استثنائي كانت تنظر إليه ببساطة على أنه بؤس. أما جدتي فيجب أن ترى مثالا. لقد علمت جدتي نفسها؛ راقبت نفسها، تعلمت ما ينبغي فعله وقوله؛ فهمت أهمية القبول، حنت إليه، حققته، وعرفت أن هناك احتمالية لعدم تحقيقه. فيما لم تعرف الخالة مادج أيا من ذلك. شعرت جدتي بالخطر من أمي، ولعلها فهمت - عند مستوى معين دائما ما تضطر إلى الإنكار - تلك الجهود من جانب أمي، فكانت تسخر منها كثيرا وتوجه إليها اللوم بطريق غير مباشر.
أفهم الآن أن جدتي بكت غضبا على سوزي هيفرمان وعلى نفسها أيضا، وأنها عرفت كم أشتاق إلى بيتنا، ولماذا أشتاق إليه. عرفت ولم تفهم كيف حدث ذلك أو كيف كان يمكن أن يكون مختلفا أو كيف أنها هي نفسها، ما إن تحيرت وعانت بشدة، قد أصبحت امرأة عجوزا أخرى يخدعها الناس ويسترضونها ويحرصون على الابتعاد عنها.
مراسم التأبين
استيقظت إيلين من النوم على ضوء الشمس في وضح النهار لترى جون واقفة بجوار سريرها حاملة صينية في يديها، عليها قدح من القهوة وسكر وقشدة، وشرائح من توست القمح كامل الحبة المصنوع بالمنزل. «يا إلهي! هذا ما كنت أنوي صنعه لك.» «ما الذي كنت تنوين صنعه؟» «أن أحضر لك القهوة إلى السرير. وقد استيقظت من قبلك، ولكني انتظرت. أردت الانتظار حتى تشرق الشمس.»
لم تقل إيلين إنها ظلت مستيقظة طوال الليل تقريبا، تتحسس صلابة حشية الفراش، ونعومة الملاءات، وهي نفسها كشيء غريب، لا ضرورة له أعلاها.
وضعت جون صينية الطعام، قائلة بلهجة انتقادية: «كيف يمكنك أن تعيشي بدون ساعة يد؟ هذا لا يقل بشاعة عن عدم قيامك من السرير ومحاولة عمل أي شيء. إنك لم تستطيعي حتى إدارة مطحنة البن.»
في الواقع، نسيت إيلين ذلك تماما، نسيت أنهم يطحنون قهوتهم بأنفسهم. يحضرون نوعين أو ثلاثة من الحبوب من متجر مشهور في وسط المدينة، ويصنعون مزيجا خاصا بهم من البن المطحون.
أردفت جون: «على أي حال كان يجب أن أستيقظ من النوم؛ فهناك كم لا يصدق من الأشياء لعملها.» «أستطيع المساعدة.» «ساعديني فقط الآن بشرب قهوتك هذه والبقاء مكانك بينما أبعد القطيع الهادر بعيدا عن الطريق.»
كانت تعني بذلك الأولاد، كانت ولا تزال تطلق عليهم هذا اللقب دائما. لم يحدث أي اختلاف عما كان، نفس الأسلوب المرتجل البراق. كانت ترتدي ملابسها بالفعل، بنطلونا برتقالي اللون وبلوزة مكسيكية مطرزة من قطن غير مبيض. كانت تبدو كالمعتاد بشعرها الكستنائي المسحوب إلى الخلف والمربوط بشريط مطاطي، وخصلات طويلة ناعمة من شعرها تنساب على جبينها. إنه نفس المظهر الذي ينم عن الحماس المفرط والسيطرة والانشغال، الذي يؤثر فيك ويثيرك في الوقت نفسه. تلك صفات تليق بزوجة مسيطرة. كانت بشرتها متوردة، خشنة الملمس عند وجنتيها وعنقها. ولا بد أن فجيعتها بثكل ابنها قد أدت إلى زيادة احتقان بشرتها، إن كان هناك ما يمكن أن يؤثر فيها.
رأت إيلين أنه من السذاجة أن تتوقع أي تغيير بها. كانت تحسب أن جسد جون قد تعرض للنحول والذبول بسبب أحزانها، وأن صوتها قد أمسى غير واضح، أو لعله أصبح صامتا تماما. ولكن ليلة أمس عندما تعانقا، في المطار، أحست بأن جسد أختها نشيط مفعم بالحيوية كعادته دائما كما لو كان له مصدر طاقته الخاص. وعندما حاولت قاطعتها جون مواساتها في إصرار حاد، بل وبنبرة تدل على الابتهاج تقريبا قائلة: «الرياح عاصفة اليوم، هل كانت رحلتك مروعة؟» •••
أرسلت جون الأولاد الصغار إلى المدرسة. كان لدى جون وإيوارت من الأطفال سبعة، إذا حسبنا دوجلاس واحدا منهم. الخمسة الكبار منهم صبية، ثم تبنيا فتاتين، كانتا هنديتين أو نصف هنديتين. أما الطفل الأصغر فكان لا يزال في روضة الأطفال. كان دوجلاس يبلغ من العمر سبعة عشر عاما.
تناهى إلى مسامع إيلين صوت جون وهي تتكلم في الهاتف، قائلة: «أنا لا أريد كبت مشاعرهم، ولكني لا أريد إثارتهم على نحو مصطنع أيضا. هل تفهم قصدي؟ نعم. هذه هي بيئتهم الطبيعية. أنا أعتقد أنهم في حال أفضل هنا. ولكني أريد أن تتاح أمامهم الفرصة لكي يعبروا عن أحزانهم. لو كانوا يريدون التعبير عن هذا الحزن. نعم. بالضبط. نعم. شكرا لك. شكرا جزيلا.»
ثم أجرت مكالمة هاتفية للترتيب لشراء ماكينة صنع القهوة. «أعرف أنه كان يجدر بي حينها شراء الماكينة التي تصنع خمسين كوب قهوة وليس التي تصنع ثلاثين. دائما ما تنتهي بي الحال هكذا. أوه لا، لا، كل هذه الأشياء تم الترتيب لها. لا، أنا أفضل هذا. شكرا جزيلا.»
بعد ذلك اتصلت بعدة أشخاص وسألتهم إن كانوا قد وجدوا وسيلة مواصلات لحضور الجنازة، أو مراسم التأبين، كما كان يطلق عليها آنذاك. اتصلت بآخرين وسألتهم إن لم يكن لديهم مانع في توصيل هؤلاء الذين يجدون صعوبة في تدبير وسيلة مواصلات للذهاب، ثم عاودت الاتصال بأولئك الذين اتصلت بهم أولا وأخبرتهم بالمكان والزمان حيث يمكن للآخرين أن يقلوهم بسياراتهم. كانت إيلين قد نهضت من فراشها وارتدت ملابسها في ذلك الوقت، وكانت تغدو وتروح إلى الحمام. ومن غرفة الاستجمام بالطابق السفلي سمعت موسيقى الروك بصوت منخفض على غير العادة، ربما مراعاة للظرف الذي يمر به أهل البيت. لا بد أن الأولاد الكبار بالطابق السفلي. تساءلت عن مكان إيوارت. كان لديها انطباع بأنه ليست كل هذه الترتيبات التي تقوم جون بإعدادها ضرورية، أو على الأقل، لم يكن مطلوبا من جون أن تعدها. فبمقدور الناس بكل تأكيد تدبر وسائل مواصلات تقلهم إلى هناك بأنفسهم. وجدت إيلين أنها تكره حتى نبرة صوت جون في الهاتف. «صباح الخير، أهلا! أهلا، معك جون!» كان في واقع الأمر صوتا عمليا مرحا مبتهجا، ألم يكن هناك في هذا المرح الشديد بعض التحدي، إصرار شديد على السيطرة؟ هل كان يمكن أن يقال إن جون كانت تسعى لأن تنال التقدير على ما تفعله؟ حسنا، ولم لا؟ إذا كان هذا سيفيد، لو كان هناك ما يفيد.
بيد أن إيلين كرهت تلك النبرة في صوتها؛ فقد أصابتها بالإحباط.
في المطبخ غسلت كوبها وطبقها؛ إذ لم يكن هناك غيرهما في مجال رؤيتها. فالمطبخ، في التاسعة والربع من الصباح الباكر، كان نظيفا ولامعا كالمطابخ الموجودة في الإعلانات. كانت الأطباق كلها في غسالة الأطباق، فهذا هو مكانها الطبيعي. لم تفكر إيلين في استخدام غسالة الأطباق؛ فهي نفسها تعيش في منزل قديم، منزل مستأجر في مدينة أخرى. كانت تعيش وحيدة لأنها مطلقة وابنتها الوحيدة كانت تتجول في أوروبا. لم تكن تعرف كيف تشغل غسالة الأطباق.
كانت قد تركت بقايا من الخبز المحمص في إفطارها، ولكنها الآن التهمتها كلها؛ لأنه كان من الصعب معرفة في أي من سلال المهملات من المفترض أن تلقيها. ربما يستغرق منها الأمر هنا يوما كاملا، على الأقل، لكي تفهم النظام على الوجه الصحيح. كانت قد عرفت ليلة أمس أن ثمة نظام جديد ومعقد لتقسيم النفايات، يساهم في عملية إعادة التدوير. أعربت إيلين عن استعدادها لتعلمه ولكنها قالت: «علي أن أجرب كل هذا لكي أقوم به أنا أيضا.» فردت عليها جون: «ولكن، ألم تفعلي من قبل؟»
بالمقارنة مع جون، كانت إيلين تعيش بطريقة غير مسئولة. كان يجب أن تعترف بذلك. كانت قمامتها ملقاة بإهمال في كل مكان؛ وتحت مظهرها المرتب، تعج خزائن مطبخها بالفوضى. ذات مرة حدثت مشادة بينها وبين جون بسبب الأكياس الورقية بنية اللون، حيث كانت إيلين تحفظ الأكياس الورقية بحشرها في أحد أدراج المطبخ، أما جون فقد فردتها وسوتها، ثم رصتها بعضها فوق بعض، وبفضل ذلك زادت سعة الدرج كثيرا وأصبح إخراج الأكياس أسهل كثيرا. كلتا الأختين ضحكت غاضبة.
علقت جون قائلة: «أنا أعني أن الأمر أسهل بهذه الطريقة. إنه دائما أسهل بهذه الطريقة. في الحقيقة، في النهاية يمكنك بذلك أن توفري لنفسك وقتا كثيرا.»
فردت عليها إيلين: «أنت موسوسة.» قالتها بنبرة من يحاول يائسا أن يستخدم لغة جون الخاصة ضدها، فهي تستخدمها بتهكم وعجرفة. واستطردت: «النظام انحراف عن الطبيعة. أنا مندهشة منك.»
ولكنها حاولت. في مطبخ جون حاولت طوال الوقت أن تتذكر النظام والترتيب، أن تتذكر المنطقي دائما، على الرغم من التصنيفات غير المتوقعة. كانت دائما ما تخطئ. عندما كان إيوارت يكتشف أحد أخطائها، شيء في غير مكانه، كان يربت على ذراعها مع نظرة تنم عن الاعتذار والتواطؤ، دون أن ينبس ببنت شفة، ثم يضع الشيء في مكانه الصحيح بتلويحة ماكرة. ومن هذه الإيماءات من جانبه، وهذا اللطف والقلق من جانبها، فهمت إيلين إلى أي مدى كان كل هذا أبعد ما يكون عن المزاح، فهمت كم سيكون غضب جون عميقا وحقيقيا. في منزل جون وإيوارت أحست طوال الوقت بثقل ظل عالم النظام، والمتطلبات الجادة، والاختلافات التي استخفت بها، كانت هنا أخلاقيات في الشراء والاستخدام، أخلاقيات في النزعة الاستهلاكية. لم يكن لدى إيلين أي أموال قط؛ لذا لم يكن عليها من بأس في التبذير، كانت مهملة وراضية بذلك. أما جون وإيوارت، بما يتمتعان به من ثراء عظيم، فكانا يشتريان ويستخدمان كل الأشياء مع إحساس عظيم بالمسئولية، ليس فقط مسئولية امتلاك الأفضل، الأكثر فاعلية وكفاءة ومتانة، ولا مسئولية الحفاظ على ما يمتلكونه، بل مسئولية نحو المجتمع، على حد وصفهم. وهؤلاء الذين لا يقرءون مجلة كستمر ريبورتس، المعنية بتقارير الاستهلاك، كانوا يبدون بالنسبة لهم مثل من لا يكلفون أنفسهم عناء الإدلاء بصوتهم في الانتخابات.
الأشياء التي كان من الصعب عليهم شراؤها هي الأشياء التي لا تخدم أي غرض ولكنها ذات أهمية لأي منزل، مثل الصور والزينة. وقد حلوا هذه المشكلة أخيرا بأن اختاروا لوحات ومنحوتات الإسكيمو، معلقات الحائط الهندية، منافض السجائر، السلطانيات، وبعض القدور المسامية رمادية اللون المصنوعة بواسطة سجين سابق ترعاه كنيسة التوحيديين بوصفه خزافا! كل هذه الأشياء يتوافر بها قدر من المعايير الأخلاقية، وكانت إضافة إلى ذلك تضفي الزينة بطريقة مقبولة. فتجد زوجا من أقنعة شعب الكوكيوتل الهندي - يعبر عن خطر داهم وشراسة قاتلة - معلقا على جدار المدفأة، ويلقى قدرا كبيرا من الإعجاب. أرادت إيلين أن تسأل: ماذا تفعل أشياء مثل هذه في غرفة المعيشة؟ لقد لمست في نفسها تلك الأيام إصرارا غير محبب على التدقيق في بعض الأشياء، كالملابس، مثلا، والديكور. رغبة في تجنب الخداع، عدم إقحام أشياء جدية في استعمالات سخيفة، عدم ابتذال الأشياء بإدخالها في موضات مختلفة. رغبة محكوم عليها بالفشل. هي نفسها استاءت. وإيوارت وجون لم يقصدا الابتذال، كانا في الحقيقة معجبين بالفن الهندي، وقد قالا: «أليس هذا شرسا؟ أليس هذا رائعا؟» في غرفة المعيشة بمنزل إيلين كانت تشيع الألوان المائية الباهتة بألوان الزهور، مجموعة غير متوافقة من الأثاث المستعمل، ومن سيقول إن هذا التدني ومجافاة الذوق لم يكن فعلا أقل بشاعة من التكلف الظاهر في عرض أقنعة الكوكيوتل، آلهة الخصوبة المشوهة؟
جاء إيوارت من المرأب مرتديا قميص العمل وبنطلونه. كان شعره قد نما حتى شحمة أذنيه. ثم صاح قائلا لإيلين: «هل تحبين أن تري حديقتي اليابانية؟ كنت لتوي بالخارج أعتني بالشجيرات. لن تستطيعي رفع عينيك عن هذه الشجيرات عندما تبدأ في النمو.»
كان بصوته نبرة ابتهاج، ولكنها اكتشفت وهي قريبة منه أن رائحة نفسه سيئة، لشخص حزين لم ينم؛ رائحة يغطيها غسول الفم، غير أنه لم يفلح في إزالتها؛ فأجابت: «بالطبع أود هذا.»
ثم قامت بتتبعه خلال المرأب ثم إلى الخارج. كان يوما خفيف الغيوم معتدل الحرارة من شهر فبراير. قال إيوارت: «يبدو أنه سيكون يوما مشمسا.» وثنى لها الأغصان الرطبة لكي تعبر، محذرا إياها من المنطقة المائلة من البقعة حيث كانت المرجة الكبيرة زلقة، كان كالمعتاد مضيفا طيبا ولطيفا. الثروة جعلت منه إنسانا دمث الخلق يسمو فوق كل المتطلبات العادية، كتوما، استرضائيا، غامضا. عندما قابلته جون لأول مرة، في الجامعة - كل منهما ذهب إلى الجامعة المحلية بمنح دراسية - بدا أنه ليس لديه أي أصدقاء، فطاردته جون بنفس الإزعاج المستمر والحماسة المشجعة اللذين أظهرتهما بعد ذلك تجاه الطلاب الأفارقة، ومدمني المخدرات، والسجناء، والأطفال الهنود. اصطحبته معها للحفلات حيث وجد فيها مبكرا وظيفة مقدم المشروبات، ومساعد المضيف والمضيفة، ومهدئ الجار الثائر، وأحيانا ضابط الشرطة، ويمسك رءوس الناس الذين يتقيئون في الحمام نتيجة كثرة الشرب، كما كان صديقا مقربا من الفتيات يبحن له بأسرارهن مع الشبان الذين أساءوا إليهن. قالت جون إنها تريه الحياة؛ إذ كانت تعتبره محروما، معاقا. كان اسمه وماله قد وسماه فقط بالحزن، من وجهة نظرها، كبقعة داكنة بالوجه أو قدم مشوهة. لم يفكر أي أحد أنها كانت تعني بذلك أن تتزوجه، ولا هي نفسها اعتقدت ذلك أيضا، أخذ هذا منها بعض الوقت لكي تزن الاحتمالات كلها. اعتقدت جون أنها قد أعطته بيتا، ولكن هذا كله كان ضمن برنامجها لكي تريه الحياة الحقيقية.
كانت إيلين وجون وأمهما في ذلك الحين لا يزلن يسكن في الطابق العلوي من منزل يقع خلف صالون الحلاقة، في شارع بيكر ستريت. غرف المنزل كانت مظلمة، ولكن بها معوضات عن ذلك، رائحة ذكورية صابونية منعشة، تنبعث من صالون الحلاقة، وفي الليل وميض وردي يدخل الغرفة الأمامية من المقهى في ركن الشارع. كانت أمهما تعاني من إعتام العدسات في كلتا العينين، كانت تستلقي على الأريكة الطويلة - كانت لها هيبة، حتى وهي مستلقية - ثم تصدر الأوامر. كانت تريد كئوسا من الماء، حبوب الأدوية، أكوابا من الشاي، كانت تريد وضع الأغطية عليها، وعندما تستيقظ تريد إزالتها عنها، وتريد أن يمشط شعرها ويضفر، وتريد أيضا ضبط محطات الراديو على الموجة الصحيحة، وتستنكر استخدام اللهجة العامية، المبتذلة، لغة بلا قواعد، كانت تريد إيصال الشكاوى إلى صالون الحلاقة ومتجر البقالة، كانت تريد منا الاتصال بأصدقائها القدامى ومعارفها وتسليمهم تقارير عن صحتها المتدهورة، وتساءلت عن سبب عدم قدومهم لزيارتها. أحضرت جون إيوارت وجعلته يجلس ويستمع. وقد حاولت جون تجنب مشكلة والدتها بالتخصص في علم النفس في الجامعة، وهو عين ما حاولت إيلين فعله بدراسة الأدب الإنجليزي، ولكن كانت جون أكثر توفيقا، حيث قوبلت إيلين بالكثير من الحالات لأمهات مهووسات في كتب الأدب، ولكنها فشلت في الاستفادة من هذا الاكتشاف، أما جون، على الجانب الآخر، فكانت قادرة على تعريف أصدقائها بأمها من دون أي اعتذارات، ولكن بالكثير من التفسيرات المسبقة والمناقشات فيما بعد. كانت تجعل الناس يحسون بالتميز. كان على إيوارت أن يستمع إلى قصة طويلة، كئيبة، مشوهة، وغير صحيحة عن كيف أن عائلتهن تربطها صلة قرابة بآرثر ميجان، رئيس الوزراء السابق في كندا، وقد أخبرته جون أنه بصدد أن يفهم بنفسه الضلالات الراسخة لدى الناس ذوي الطبيعة الخاصة التي نتجت عن موقف اجتماعي اقتصادي لا مخرج له (كانت تقطع قفزات على طريق تعلم اللغة التي يمكن أن تخدم مطامحها جيدا بقية حياتها)، أما إيلين فلم تستطع أن تفعل شيئا سوى التأثر بهذا الحصاد غير المتوقع من المكاسب، هذه الموضوعية المفاجئة.
قالت جون مسمعة إيلين وأي شخص آخر يتسمع الكلام: «هذا أسهل بالنسبة لي بكل تأكيد؛ لأنني الطفلة الثانية؛ فقد تحررت من الشعور بالذنب، الذي تراكم كله لدى إيلين.» بالفحص الهادئ ولكن الدقيق من جانب أولئك المتخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع، كانت إيلين - المكتئبة في ذلك الوقت على أي حال كطالبة دراسات عليا - ترى نفسها تتحرك والشعور بالذنب يثقل كاهلها، من دون وعي منها، تتعثر في مقررات دراسية خاطئة، غير مناسبة في الأدب، وفي علاقتها بحبيبها المزعج (هاوي، كان هذا اسمه، الرجل الذي تزوجته بعد ذلك ثم حصلت على الطلاق منه)، متخبطة كخفاش في ضوء النهار. كانت مندهشة كيف أن جون في سنة واحدة استطاعت أن تتخلص من سمنة المراهقة، وتلعثمها في الكلمات، وبراءتها، واعتمادها على الغير، وارتباكها، وشعورها بالامتنان لمن حولها. من الذي كان يمكن أن يعتقد أنها تملك هذا الصوت العالي الواضح والوجه النضر وذلك الجسم الرشيق، كل هذا إضافة إلى الثقة؟ قبل مضي سنتين فقط، كانت تنظم الشعر، وتقرأ نفس الكتب التي كانت إيلين تقرؤها، كانت تبدو أنها تسير على خطى أختها الكبرى وتصنع من نفسها نسخة منها. ولكن هيهات!
تزوجت إيلين من هاوي، الصحفي غريب الأطوار الذي تركها وطفلة صغيرة تعولها، أما جون فتزوجت من إيوارت وبدآ تأسيس حياتهما. وبينما لم تأخذ حياة إيلين أي شكل على الإطلاق وانهارت بفعل الأزمات وخلت من المسرات، كانت حياة جون مبنية على أسس متينة مخطط لها، تسير بسلاسة. كانت تعوز أسرتهما الأحزان والكآبة، ومهمة المناسبات الحزينة أن تعوض ذلك النقص.
فهل كانت تلك مناسبة أخرى للتعويض؟
قال لها إيوارت: «هذه الشجرة ساعدني دوجلاس في زراعتها الأسبوع الماضي.» ثم عرض عليها شجيرة هلباء قصيرة. كان يستخدم اسم ابنه تماما كما تفعل جون، عرضيا ولكن بحزم. رقته وتردده الطبيعيان وغير الملحوظين جعلا حزمه أقل إزعاجا من حزمها. وواصل حديثه عن الحدائق اليابانية، وقال لها، في وقت من الأوقات في اليابان كانت هناك قوانين دقيقة موضوعة فيما يتعلق بأقصى ارتفاع لأحجار الممشى في الحديقة، بالنسبة للإمبراطور كان ارتفاعها ست بوصات، نزولا حتى العامة والنساء الذين كانوا يمشون على حجارة ارتفاعها بوصة ونصف. ثم أشار إلى الماء، قائلا: «صوت الماء في الحديقة اليابانية لا يقل أهمية عن مظهرها. سوف يسقط الماء في ذلك المكان، هل ترين! سوف يكون هذا أشبه بشلال ماء صغير، سوف يتشعب لمجريين عند هذه الصخرة، كل شيء مصمم بدقة، بهذه الطريقة تحصلين على التأثير الاستثنائي؛ إذا نظرت إليه وحده دون أي شيء آخر، فبعد قليل سوف يبدأ في الظهور كشلال ماء حقيقي، منظر طبيعي حقيقي.»
وتكلم عن الترتيبات التي اتخذها لجلب هذا الماء، نظام أنابيب المياه تحت الأرض. كان دائما ما يهتم بالتفاصيل، والمعلومات الدقيقة عن مشاريعه الحالية، وكان حماسه لا يخبو. كان دائما ما يبدو عليه أنه يعرف أكثر حتى من شخص يحترف هذا الشيء ويتخذ منه عملا يكسب منه قوت يومه. ربما بسبب أنه هو نفسه لم يكن لديه عمل ليتكسب منه قوت يومه؛ إذ لم يكن مضطرا لذلك.
مناسبة، ولم لا؟ مناسبة لاستعراض تلك القيم التي نحيا بها، لعرضها على الملأ، لوضعها على المحك. إيوارت وجون عاشا حياتهما على القيم والمثل، كان هذا ما يقولانه. ولم لا؟ كانت إيلين تفكر بهذا، مستمعة إلى حديثه بشأن الأنابيب، وتحول الحديث إلى الشجيرات. كانت تفضل أن ترى الموت حقيقة ماثلة ولا مفر منها، أمام عيون كل الناس، أكانت تفضل ذلك حقا؟ من دون عقيدة دينية قوية لا يمكن أن يحدث هذا، لا يمكن أن يحدث بحال من الأحوال. وبفرض أن ابنتها هي من تعرضت للحادث، ماذا لو أنها مارجوت؟ كانت قد فكرت في هذا ذات مرة، بمجرد سماعها للخبر، وانتابها شعور غريب بالراحة يعقبه الذعر. بدا الأمر كما لو أن دوجلاس، بجذبه للأضواء، قد أعطى أبناء كل الناس قبلة الأمان، وفي نفس الوقت مذكرا أن الضوء لا يزال هنا ويمكن أن يبلغه أي منهم. مارجوت، التي من الممكن أن تركب في أي لحظة قاربا مثقوبا أو ربما طائرة مخطوفة، أو حافلة بفرامل معطوبة، أو قد تدخل مبنى فخخه الإرهابيون بالقنابل، كانت مارجوت تخاطر أكثر من دوجلاس الذي كان يعيش بالمنزل.
ومع ذلك، لقي دوجلاس حتفه في حادث سيارة، فيما لم يصب الفتيان الثلاثة الآخرون الذين كانوا معه بأذى شديد.
فتى مكتنز الجسد. على متن الطائرة، كانت إيلين تحاول أن تتخيل صورة واضحة له، كان شعره الأشقر الطويل غير المسوى، مربوطا بشريط إلى مؤخرة عنقه، مثل شعر أمه، ولكنه لم يشارك شباب جيله ذوي الشعر الطويل نفس الاهتمامات والأفكار؛ فلم يكن لديه أي اهتمام بالحالات المتغيرة من الوعي والإدراك، أو المفاهيم السامية، بل شغل نفسه بالمسائل الدنيوية والمادية، والاهتمامات العلمية، بالرحلات إلى القمر، والرياضة (كمتفرج فقط)، وحتى سوق الأوراق المالية. كان مثل أبيه في دأبه الحثيث، ربما متحمسا، جامعا ومتعلقا وساردا للتفاصيل. كان يستمتع بالشرح، وكان لديه القليل من الأصدقاء. كان يتجول حول المنزل تكتنفه هالة من التحفظ والاستبداد، ويشرب الكولا الخالية من السعرات الحرارية. إيوارت وجون كانا دائما ما يملآن نهايات الأسبوع والعطلات الرسمية بالنشاطات الأسرية، كانا يمتلكان مركبا للإبحار، كانا يذهبان إلى تسلق الجبال واستكشاف الكهوف، كانا يمارسان التحليق والتزلج ومؤخرا اشتريا دراجتين ذواتي عشر سرعات. افترضت إيلين أن دوجلاس كان يشارك في كل ذلك؛ إذ كان من العسير أن يتجنبه، ولكن جسمه الثقيل ونمط حياته المفتقر للحركة أثارا شكوكا حول مدى إخلاص وعمق تلك المشاركة. كان قد ذهب إلى المدرسة التجريبية التي اعتمدت اعتمادا كبيرا على مساعدات والديه المالية. ربما لم يكن ذلك الإصرار على الحرية، تلك الجهود المبذولة من أجل الإبداع، مناسبة له. لم يكن بوسع إيلين إلا أن تخمن ذلك فقط؛ إذ لم يكن ثمة شيء في دوجلاس يشير إلى هذا. لم يكن دوجلاس شاعريا بدرجة كافية في أي وقت مضى لكي يرى نفسه كمتمرد، كمتشكك في هذه المعتقدات التقليدية.
جلس أبوه القرفصاء لكي يلمس الشجيرات، أظهر لها أنواعا كثيرة من أوراق الشجيرات، متحدثا عن متطلباتها المعقدة، عن تحليل التربة، والماء والتغذية التي أعطاها جميعا اهتمامه. هو لم يكن من نوع الرجال الجذابين جنسيا. ولم لا؟ هل السبب هو مؤخرته العريضة ومظهره الضعيف الأشبه بالخنزير؟ في مرة قالت جون لإيلين إنها وإيوارت ذهبا لمشاهدة فيلم إباحي في السينما، مع أزواج آخرين مما كان يطلق عليه مجموعة التنمية في الكنيسة التوحيدية، كانوا مهتمين باستكشاف المحفزات الجديدة. كانت إيلين قد قالت هذا للناس، عن أختها، فجعلت منها أضحوكة، والآن هي تعتقد أنها كانت مخطئة في سخريتها، ليس لأنها بهذا كانت غير لطيفة، مثلما كانت تشعر ووخز الضمير يعتريها في ذلك الوقت، ولكن لأنها كانت جاهلة. لم تكن الجدية مدعاة للضحك. كان هناك نظام لتصنيف الأشياء يضع كل شيء في خدمة مقاصده، لم يكن بإمكان شيء أن يوقفه، لا الحدائق اليابانية أو الأفلام الإباحية أو حتى الموت العرضي. كل ذلك تم تقبله، هضمه، تعديله، استيعابه، ثم تم تحطيمه. •••
بعد مراسم التأبين كان المنزل يعج بأصدقاء جون وإيوارت وجيرانهما وأصدقاء أبنائهما المراهقين. كان المراهقون في الطابق السفلي في غرفة الاستجمام، قبالة المدفأة الحجرية الممتدة من الأرض إلى السقف، الكثيرون منهم ادعوا أنهم كانوا أصدقاء دوجلاس، ربما كانوا كذلك، وجاءوا معهم أيضا بالقيثارات، وأجهزة التسجيل، والشموع. فتاة واحدة جاءت ملفوفة في حشية من الريش، وسألت عند الباب بصوت رقيق: «هل هذا هو المكان الذي يقيمون فيه مراسم التأبين؟» وأخريات ارتدين شالات بأهداب وملابس مهلهلة تجرجر على الأرض. لم يبدوا مختلفين عن الأكبر منهم كما كانوا يتمنون. في الطابق السفلي أشعلوا الشموع، وأطفئوا كل ما عداها من أضواء باستثناء الضوء الصادر من نار المدفأة، أشعلوا البخور، وغنوا وعزفوا على آلاتهم، فيما كانت رائحة البخور تنتشر في أرجاء المكان محدثة تأثيرا كتأثير رائحة الماريجوانا.
وهو المشهد الذي علقت عليه امرأة طويلة الشعر، رثة الملابس، تلتحف أيضا بشال، متكئة على الدرابزين: «هذه طريقتهم في توديع دوجلاس. ويا لها من طريقة جميلة حقا تهز المشاعر!»
ولكن هل كان دوجلاس سيهتم بذلك، بمراسم التأبين تلك؟ لم يكن ليقول أي شيء، بل كان سيبقى معهم بعض الوقت، على أي حال، من باب الأدب؛ بعدها ربما كان سيذهب إلى غرفته ومعه الجريدة لقراءة صفحة الاقتصاد.
أردف رجل يقف خلف تلك المرأة، قائلا: «إن معهم سيجارة أو اثنتين محشوة بالمخدرات، رائحتها تبدو كذلك.» واستنتجت إيلين من عدم رد المرأة، ومن الطريقة التي اقتربت بها منه بوجهها وبسائر جسدها، أنه زوجها بالتأكيد. وعلى عكس زوجته؛ فقد جاء مرتديا ملابسه بشكل محافظ، كان يبدو كما كان الرجال قد تعودوا الظهور في الجنازات. مثل هؤلاء الأزواج كانوا شائعين في هذه الأيام؛ الزوج المسئول، المحترم، سريع التأثر، طويل الشعر قليلا، وقصير السوالف ، أكمامه نظيفة ومربوطة، تحيط به هالة حقيقية، وإن كانت مؤسفة، من المال والسلطة، هالة سخيفة أو لها ما يبررها؛ أما الزوجة فتبدو لا مبالية، لا تضع إلا قليلا من مساحيق التجميل، تعوزها الرزانة، تجرجر ملابس توحي بالفقر المدقع. من آن لآخر، كان يأتي زوجان متناقضان؛ الزوجة تتشح بقلنسوة وترتدي زيا فاتح اللون وتضع في أذنيها أقراطا صغيرة، أما الزوج فيلبس سترة مخملية مطرزة، مطوقا عنقه بالتمائم والصلبان المتلألئة فيما بين شعيرات صدره.
انتقل هذا الزوج هو وإيلين إلى غرفة المعيشة، التي تعج بأناس على هذه الشاكلة، شالات وقفاطين، ملابس قطنية موشاة من الهند، بنطلونات من الجينز. لم يكن صعبا، منذ عامين أو ثلاثة أعوام مضت، تمييز أصدقاء إيوارت وجون الأغنياء عن التوحيديين، أصدقاء «مجموعة التنمية»، أما الآن فقد بات هذا مستحيلا؛ نظرا لأن بعض هؤلاء أصبحوا ربما ينتمون للفئتين معا.
كان إيوارت يتحرك فيما بينهم يقدم لهم المشروبات، فيما كانت جون في غرفة الطعام، إلى جوار المنضدة حيث القهوة والشطائر؛ ولفائف النقانق ولفائف الهليون. كانت قد وجدت بعض الوقت لعملها. كانت ملابسها جميلة: فستان طويل منسوج يدويا من اللونين الذهبي والبرتقالي ودثار طويل متناسق مع لون الفستان، سميك وقوي، مكسيكي أو إسباني الطراز. أما جفونها المطلية باللون الأخضر الفضي فكانت مفاجئة وخاطئة تماما، وهي الخطأ الوحيد الذي يشي بتسرعها واضطرابها.
قالت لأختها: «هل أنت بخير؟ لم أستطع أن آخذك في جولة وأقدمك للناس، لقد تركتك تتصرفين من تلقاء نفسك.»
فردت إيلين قائلة: «أنا بخير تماما. أحتسي الشراب.»
لم تعد تطرح السؤال حول ما يمكن أن تقوم به للمساعدة. يئست من البحث عن شيء تفعله. كان المطبخ وغرفة الطعام يعجان بالنساء اللاتي كن يعرفن أين يوضع كل شيء، ولكنهن لم يكن أفضل حظا منها؛ فقد استبقت جون كل هؤلاء، وكل شيء كان معدا سلفا.
كان الخشب يكسو جدران غرفة المعيشة وسقفها العالي المائل، أما السجادة فكانت وثيرة والستائر ثقيلة، كريمية اللون، ناعمة الملمس. شربت إيلين الفودكا، ولم تكن الستائر مسدلة بالكامل . كانت تتأمل في أزيائهم الرائعة، المحيرة (كانت هي أيضا ترتدي قفطانا أزرق غامقا مطرزا بالخيوط الفضية، وهو ما يعني أنها خانت أحكامها الصارمة). كانوا يتحركون، يشربون، يتكلمون، طيلة عصر ذلك اليوم وحتى بداية المساء. وفي المساء المظلم الممطر شاهدتهم جميعا ساطعين حقا، شاهدت بساطا من الأضواء لم يكن سوى المدينة، يشقه خيط معتم لم يكن سوى النهر.
سألها زوج تلك المرأة: «أتدرين أين أنت؟» ثم أردف سريعا: «أنت على جانب جبل هوليبورن. وتلك ضاحية بوينت جراي هناك.» وجعلها تتحرك لكي تقترب أكثر من النافذة لكي يشير في الاتجاه المعاكس لجسر ليونز جيت بريدج، الذي كان أشبه بإكليل بعيد من الأضواء المتحركة. وهو ما علق عليه بقوله: «مشهد رهيب.»
وافقته إيلين الرأي.
قال لها إنه جارهم، كان قد بنى منزلا فوق الجبل. وشأنه شأن الكثير من الأغنياء كانت تبدو عليه سيماء الإخلاص والحيرة والهم، والسعي وراء نيل ما يجب نيله.
ثم استطرد: «كان لدينا منزل في نورث فانكوفر، ولم أكن متأكدا لوقت طويل إن كنا محقين في التخلي عنه. لم أكن متأكدا أنني قد أحب هذا المشهد بهذا القدر. تعودنا أن ننظر إلى الخارج ونرى انحدار هذا الجبل، في المكان الذي نحن به الآن تماما. والجسر والمدينة، وفي يوم صاف نستطيع أن نرى جزيرة فانكوفر، وبالنظر غربا ترين غروب الشمس. منظر بديع، ولكني واقع في غرام هذا المشهد بالقدر نفسه لدرجة أنني لا أرغب في العودة أبدا.»
بادرته إيلين متسائلة: «هل أنت مغرم دوما بالمناظر الطبيعية؟»
فكرر كلامها: «مغرم دوما بالمناظر الطبيعية؟» ثم مال برأسه عن يمينه وأسبل عينيه كمن ينتظر أن يسحر.
فأردفت: «حسنا، تخيل أنك في حالة مزاجية سيئة، أنت تعرف، من الممكن أن تكون في حالة مزاجية سيئة، ثم تنهض وتفرد ذراعيك عن آخرهما وأمامك هذا المنظر الرائع. وطوال الوقت لا تستطيع الذهاب بعيدا عنه، ألا تحس أبدا أنك لست أهلا لذلك؟» «لست أهلا لذلك؟» «مذنب.» قالتها إيلين بإصرار بالرغم من لهجتها المتأسفة، ثم أوضحت قائلة: «ألا تشعر بالذنب لأنك لست في مزاج أفضل؟ تشعر بأنك لا تستحقه؛ هذا المنظر الخلاب؟» ثم أخذت رشفة كبيرة من الشراب، متمنية بالتأكيد أنها لم تدخل في هذا الحوار من الأساس.
رد الرجل في زهو: «ولكن ما إن أرى هذا المنظر الخلاب، حتى أنسى حالتي المزاجية السيئة على الفور. إن تأثير هذا المنظر علي يفوق تأثير بضع كئوس من الشراب، أكثر من تلك الأشياء التي يشربونها بالأسفل. إضافة إلى أنني لا أومن بالحالات المزاجية السيئة، الحياة أقصر من أن نضيعها في تلك السخافات.»
قوله هذا ذكره أنهما ليسا في حفلة؛ فقال من فوره: «الحياة أقصر من أن نضيعها في السخافات. ليس هناك أي تفسير واضح لما يحدث، أليس كذلك؟ إن أختك رائعة، وإيوارت أيضا.»
قطعت إيلين الردهة وصولا إلى غرفة الضيوف، وهي تحمل شرابا قويا أعدته لتوها. دلفت من باب الغرفة التي كان بها الأطفال الصغار، أطفال الأصدقاء يلعبون مع ابنتي جون الصغيرتين المتبنيتين، كانوا يلعبون لعبة، وقفت هناك وشاهدتهم. شعرت بالرهبة نوعا ما من الطفلتين الهنديتين، شعرت بأنها في امتحان أمامهما. بكل تأكيد كان هذا عندما كانت جون هناك، كان بإمكانها أن تحس أن جون تنصت وتشاهد؛ بدت وكأنها ترتعش، مع حرصها على كشف الإخفاقات في المواقف. من الذي يمكن أن يصدق أن جون - وكذلك إيلين - كانت تتحدث داخل المنزل بإنجليزية مبسطة كالتي كان يتحدث بها الزوجان الصينيان في بقالة شارع بيكر؟ كانت إيلين تشاهد الوجهين الأملسين بنيي اللون للطفلتين الهنديتين. ماذا كانتا تحديدا؟ شارات جون؟ جوائزها؟ لم تستطع أن تراهما كذلك، جون وحدها استطاعت.
أغلقت باب غرفة الضيوف، ثم استلقت في الظلام، عاقدة كاحليها، دافعة بالوسادة إلى الأعلى خلف رأسها، ما زالت ممسكة بالكأس ولكنها أسندتها على بطنها. كانت قد وصلت إلى المرحلة التي كانت دائما تصل إليها في منزل جون. لم يحدث دوجلاس أي فارق، لم يحدث الموت أي فارق، كانت تصاب بالشلل غير قادرة على تمالك نفسها. في هذا المنزل تشعر أن حياتها واختياراتها (إن كان هناك أي اختيار أمامها)، وهي نفسها، لا تترك أي انطباع محبوب، أو حتى متماسك. كان يجب التسليم بأنها قد عاشت حياة عشوائية، أنها ضيعت وقتا كثيرا جدا، أنها لم تقم إلا بعمل القليل جدا من الأشياء الجيدة. لا يهم كيف كان كل هذا يبدو عندما تبتعد عن هنا، كيف حولت كل هذا إلى قصص طريفة للأصدقاء. علاوة على ذلك، لم تكن قادرة على تقديم المساعدة.
وهي في طريقها إلى هنا بالطائرة حسبت أنه يمكن أن تصنع بسكويت الشاي، كما لو كان هذا ممكنا حقا، في مطبخ جون.
حينما علموا بوفاة أبيهم في الحرب، جاءهم الخبر لسبب ما عبر مكالمة هاتفية، في الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساء. كانت أمهم قد صنعت بسكويتا وشايا، وأيقظت إيلين لتشاركها فيهما، وليس جون؛ لأنها كانت صغيرة جدا آنذاك. كان لديهم مربى، وكانت إيلين جشعة ولكن جبانة. كانت أمهما معظم الوقت شخصا خطيرا، تشكو من آلام غامضة، ومآس لا أول لها ولا آخر. بدت كما لو أنها تخلت عن موقعها المعتاد، لتتحول إلى إنسانة غير مزعجة، مقلة من طلباتها، وفوق كل ذلك، خجولة. لم تخبرها بهذا النبأ (كانت ستوقظهما في الصباح بوجه أبيض شاحب، وتقبلهما قبلة بغيضة، وتقول لهما بصوت رتيب: بابا مات). بعد سنوات حاولت إيلين أن تتحدث مع جون عن عشية ذلك اليوم مع البسكويت، هذه الطريقة التي تصرفت بها أمهما كشخص ضعيف ساكن؛ تقريبا تصرفت كامرأة عادية، وهو الشيء الذي كانتا تأملانه آنذاك. قالت جون إنها تجاوزت كل هذا. «منذ سنوات مضت، وبنظرية الجشطلت أيضا. حقيقة لقد تجاوزت الأمر بنظرية الجشطلت، لقد تجاوزت الأمر وانتهيت منه.»
فكرت إيلين في نفسها: «أنا لم أتجاوز أي شيء، علاوة على ذلك، لم أكن أومن أن الأحداث وجدت ليتم تجاوزها.»
الناس يموتون؛ هم يعانون، ثم يموتون. لقد ماتت أمهما بالالتهاب الرئوي العادي، بعد كل هذا الجنون. أمراض وحوادث، يجب احترامها، لا تفسيرها. الكلمات كلها مخزية. يجب أن تتوارى خجلا.
أثارت الكلمات التي قرئت من كتاب «النبي» أثناء مراسم التأبين عصر ذلك اليوم استياء إيلين؛ فهي في نظرها مجرد خداع وإهانة، كانت غير متعمدة؛ إذ كانت في الواقع المرادف العصري للتقوى، إن لم يكن هذا عذرا. والآن مع تأثير الشراب رأت أنه ما من كلمة قد تجدي أي نفع. الآن في أمل مؤكد ويقيني أيضا ... لا خداع في الكلمات ولكن الخداع الآن في قولها. الصمت الآن هو الشيء الوحيد الممكن.
في وقت ما كانت هي وجون يستحقان اعتبارا أكثر مما هما الآن، في وقت ما كانتا غير كريهتين. أليس كذلك؟ إيوارت أيضا، والجيران أيضا، والتوحيديون أيضا. في وقت من الأوقات كان يمكن الوثوق في أننا نعرف ما نعنيه، ولكن ليس الآن، على الرغم من أننا في حال أفضل الآن. انضمت جون لمجموعة التنمية، وتعلمت أيضا اليوجا، وبحثت في التأمل السامي، سبحت عارية، مع آخرين، في مسبح دافئ في جزيرة للصفوة؛ أما بالنسبة لإيلين، فقد قرأت كتبا كثيرة، وعرفت كيف يكون التعرض لكل أشكال الخسة. قد تظن أنهما أفضل حالا من أمهما، ولكن ثمة شيئا خاطئا بهما مثلها تماما. الشيء الوحيد الذي نتمنى حدوثه هو أن نهرب الآن إلى الواقع، هكذا فكرت إيلين، ثم استغرقت في النوم ثواني معدودة، لتقوم مفزوعة بعد ذلك، وأصابعها قابضة بقوة على الكأس.
كادت أن تسكبه على السجادة والمفرش. شربت كل المتبقي من الشراب ووضعته على المنضدة إلى جانب السرير وغلبها النوم من فورها.
استيقظت وهي ما زالت مخمورة، لم تعرف كم الوقت الآن، كان المنزل هادئا. قامت من النوم، تفكر في أنها يجب أن تغير ملابسها إلى ملابس النوم. ذهبت أولا إلى الحمام، مرتدية قفطانها الأزرق الغامق، ثم إلى المطبخ لكي ترى الوقت في الساعة. نور المطبخ كان مضاء. كانت الساعة الحادية عشرة والربع فقط.
شربت كوبا كاملا من الماء البارد، الذي كانت تعرف من خبرتها أنه سيقلل صداعها الصباحي أو يقضي تماما عليه إذا كانت محظوظة. خرجت من الباب الجانبي إلى المرأب، معتقدة أنها من الممكن أن تقف هناك بعيدا عن المطر وتتنفس الهواء النقي. كان الباب مفتوحا. ولما كانت تسير مترنحة، تحسست طريقها بطول الحائط المعلق عليه بمسامير خرطوم الحديقة وأدوات الزراعة. سمعت خطوات شخص قادم ولكن لم تكن قلقة من ذلك، كانت مخمورة جدا، فلم تبال به أيا كان ولا بما سيظنه بها، إذا وجدها هنا على هذه الحال.
كان هذا إيوارت حاملا مرشة النباتات.
صاح قائلا: «جون؟ أهذه أنت يا جون؟ إيلين! لا أدري كيف حسبتك جون؛ فقد تناولت حبتين من حبوب النوم.»
فردت إيلين: «ماذا تفعل هنا؟» كان صوتها مخمورا، به نبرة تحد ولكنه يخلو من أي عدوانية. «أروي النباتات.» «إنها تمطر يا إيوارت. أنت أحمق.» «لقد توقف المطر.» «كانت تمطر قبل ذلك، لقد لاحظت هذا عندما كنا في غرفة المعيشة.» «كان يجب أن أروي الشجيرات الجديدة. إنها تحتاج كميات مذهلة من المياه في البداية. لا يمكنك أن تعتمدي على المطر لكفايتها من المياه. حتى في يومها الأول.»
وضع المرشة جانبا. ثم جاء من خلف السيارات إليها. «إيلين. من الأفضل أن تدخلي إلى المنزل. لقد احتسيت الكثير من الشراب. ألقت جون نظرة عليك في وقت سابق. قالت إنك كنت كالميتة من فرط الشراب.»
كان مخمورا هو أيضا. كانت تعرف ذلك؛ ليس من خلال صوته ولا من الطريقة التي يمشي بها، ولكن من تثاقله، من بلاهته وعناده، وهو واقف أمامها مباشرة. «إيلين. أنت كنت تبكين. هذا لطف شديد منك.»
ليس من أجل دوجلاس، لم تكن إيلين تبكي من أجل دوجلاس. «إيلين. أنت تعرفين أن وجودك هنا كان عونا كبيرا لجون.» «أنا لم أفعل أي شيء. كنت أتمنى لو أستطيع فعل أي شيء.» «مجرد وجودك هنا يكفي، جون تقدر لك هذا الصنيع كثيرا.»
قالت إيلين مندهشة: «حقا؟» ليس تكذيبا له، بل كان مصدر اندهاشها هو قدرة إيوارت على المجاملة بأدب، حتى وهما الاثنان مخموران. «إنها لا تستطيع التعبير عن نفسها أحيانا. هي تبدو ... كما تعرفين، أحيانا هي تبدو متسلطة قليلا. إنها تدرك ذلك. ولكن من الصعب أن تتغير.»
قال إيوارت: «إيلين .» ثم خطا نحوها خطوتين وعانقها.
إيلين امرأة مضيافة، خاصة عندما تكون مخمورة. لم يفاجئها هذا العناق تماما. كان هذا متوقعا، مع أنه سيكون من العسير عليها شرح كيف توقعته. ربما مع إيلين - إيلين الوحيدة، متقلبة المزاج، الرخوة بشكل عجيب في بعض الأحيان، مع أنها حادة بما يكفي في أحيان أخرى - عناق مثل ذلك دائما ما يكون متوقعا. سمحت به، وتقريبا رحبت به، ولكن كيف تخلص نفسها بدون أن تبدو فظة؟ حتى لو لم يكن هذا ضمن ما خططت له، يمكنها أن تزيح توقعاتها جانبا لخلق مساحة له، هكذا فكرت، كما تعودت أن تفكر دائما في لحظات مثل هذه، ولم لا؟
النسوة مثلها، النسوة اللاتي يفكرن بهذه الكيفية، يعتقد أنهن ضعيفات، تعوزهن الروح، سريعا ما يصبن بالدوار أمام أي إغراء، وحالهن يرثى له. نسوة أخريات يعتنقن هذا الرأي، ورجال أيضا، لا سيما الرجال الذين يتحينون كل فرصة لإبداء الإعجاب والتقدير. كانت إيلين تعرف هذا، ولكنها وجدته بعيدا عن الحقيقة، وحسبت أنها تثار بسهولة. لكن في تلك اللحظة، لم تكن تتوقع كل تلك الإثارة من زوج أختها إيوارت - الذي كان الآن يقودها، بتصميم ومهارة أكثر مما توقعت على الإطلاق، باتجاه المقعد الخلفي من السيارة الأكبر - ولكنها فعلت ما هو أكثر من السماح له، تقريبا كانت تفعل دائما ما هو أكثر من ذلك. كم أحبت وجهيهما في هذه الأوقات، كانت معجبة بجديتهما؛ تفان محبب وجدية مجردة، انتباه للواقع، واقعهما الخاص.
ترديد اسمها كان كل الحديث الذي تفوه به معها، كانت قد سمعت هذا من قبل. ماذا كان إيوارت يعني بهذا الاسم؟ ماذا كانت إيلين بالنسبة له؟ النساء يجب أن يتساءلن. كانت مثبتة على مقعد السيارة في وضعية غير مريحة تماما، إحدى رجليها ملتوية ومرفوعة على ظهر المقعد معرضة لخطر الإصابة بشد عضلي. كانا سيستمران في البحث عن دلالات، وتخزين الأشياء في سرعة ليتم النظر فيها فيما بعد. كان عليهما أن يصدقا أن ما يحدث أكثر مما يبدو لهما، وهذا جزء من المشكلة.
فيما بعد كانت إيلين تفكر في نفسها: ماذا كنت أعني بالنسبة لإيوارت؟ كان هذا محيرا. النقيض التام من جون! أليس هذا ما كانت هي عليه؟ الشيء الطبيعي الذي يبحث عنه رجل يتألم، رجل يحب زوجته ويخاف منها. سقطة موجزة. إيلين بلا هدف ولا تتحمل المسئولية، إنها تأتي من نفس المكان في العالم الذي تأتي الحوادث منه. إنه يضاجعها بهدف الإقرار والتسليم - ولو في أمان مؤقتا - بما حدث لابنه، بما لا يمكن أن يقال في منزله. وبهذا تستطيع إيلين، مع خلفيتها المثمرة في القراءة، وعادتها البارعة في التحليل (المادة والتوجه مختلفان عن جون، ولكن العادة ليست مختلفة تماما، في النهاية)، فيما بعد تفسير الأمر لنفسها. إنها لا تعرف، ولن تعرف أبدا، ما إذا كان كل هذا أدبيا، خياليا. جسم المرأة. قبل وأثناء الفعل يبدو أنهم يهبون لهذا الجسد قوى فردية معينة، يقول الرجال اسمه بطريقة توحي بشيء معين، شيء فريد، شيء يتم السعي وراءه. بعد ذلك يبدو وكأنهم قد غيروا رأيهم. إنهم يتمنون أن يفهم أن هذه الأجساد قابلة للتبادل، أجساد النساء. •••
أخذت إيلين تحزم ملابسها، طوت قفطانها المكرمش المتسخ ووضعته في قاع حقيبتها، على عجل، وخشية أن تقرر جون، التي مرت مرتين أو ثلاث أمام باب غرفتها، الدخول إليها. هي وجون كانتا وحدهما في المنزل، كان الأطفال قد عادوا إلى المدرسة في هذا اليوم، وإيوارت قاد سيارته إلى المدينة ليحضر بعض الأنابيب لنظام ري الماء. كانت جون هي التي ستقوم بتوصيل إيلين إلى المطار.
دخلت عليها جون، قائلة: «يسوءني أن ترحلي سريعا. إنني أحس بأننا لم نفعل أي شيء من أجلك. نحن لم نصحبك إلى أي مكان هنا. أتمنى أنك تستطيعين البقاء عدة أيام أخرى.»
ردت إيلين بحزم: «لم أكن أتوقع مكوثي كل هذه المدة.» لم تكن تشعر بالرهبة كما كانت في اليوم الأول، ولم تكن مندهشة. كانت تعرف أنها لو بقيت عدة أيام أخرى كانت جون ستبذل ما بوسعها لتريها المدينة، مع أنها قد شاهدتها من قبل، كانت ربما ستصحبها إلى التليفريك، وتصحبها في جولة بالسيارة عبر المنتزهات، وتأخذها لتشاهد أعمدة الطوطم.
فقالت لها جون يائسة: «إذن، يجب أن تأتي في زيارة حقيقية.»
قالت إيلين: «أنا لم أساعدك بالطريقة التي كنت أتمناها.» لم تكد تتلفظ بهذه الجملة حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة. كان هذا يوما لا يمكن أن تتفوه فيه بالكلام الملائم. «دائما ما أحزم أشياء أكثر مما أحتاج.»
جلست جون على السرير، وقالت بنبرة يجللها الحزن: «أتدرين! إنه لم يمت في الحادث.» «لم يمت في الحادث؟» «ليس في التصادم الفعلي. لم يكن الأمر بهذا السوء، حقا. أصيب الأطفال الآخرون بخدوش بسيطة وكان هو مصابا بالدوار في الغالب. أعتقد أنه كان مصابا بالدوار، وقد زحف خارجا من السيارة، كلهم فعلوا ذلك. كانت السيارة مقلوبة بزاوية غريبة جدا على جانب الطريق، من يراها يحسب أنها تسلقت سور الطريق وكانت على جانبها، لا بد أنها كانت على جانبها، هكذا.» وفردت جون إحدى يديها وأصابعها مفروقة وترتعش قليلا، فوق يدها الأخرى. ثم واصلت: «ولكن في ركن، أيضا، مائلة بانحراف نوعا ما. أنا حقا لا أستطيع أن أفهم كيف حدث هذا، أحاول أن أتخيله ولكن لا أستطيع حقا. أعني أنني لا يمكنني فهم الزاوية التي كانت عليها السيارة. وكيف كانت عالية لتسقط ... لتسقط عليه ... السيارة سقطت عليه ... فمات بهذه الطريقة. لا أعرف فعلا كيف كان يقف حينها، أو لعله لم يكن واقفا حينها، لعله زحف للخارج وحاول النهوض. لا أستطيع فهم كيف كان ذلك. هل يمكنك تصور هذا؟»
قالت إيلين: «لا.» «لا يمكنني أنا أيضا.» «من أخبرك بذلك؟» «أحد الأولاد الذين ... أحد الأولاد الآخرين أخبر أمه وهي أخبرتني.» «لعل ذلك كان قاسيا.»
ردت جون في صوت رصين: «أوه، لا، لا. لا أعتقد ذلك، ففي أحوال كهذه يرغب المرء في معرفة ما حدث.»
في المرآة فوق التسريحة كانت إيلين تستطيع رؤية وجه أختها من الجانب وهي منكسة رأسها، منتظرة، ربما في ارتباك، بعد أن تحدثت عن هذا الأمر. أيضا كانت تستطيع رؤية وجهها، الذي بدا لها مفاجئا لما اعتلاه من نظرة مناسبة تماما تحمل اللباقة والاهتمام. كانت تشعر بالبرد والتعب، كان أكثر شيء تريده أن تذهب بعيدا. كانت تجد صعوبة حتى في أن تمد يدها. إن الأفعال التي تتم دون إيمان ربما تسترجع الإيمان. وقد آمنت، بكل الطاقة التي يمكنها استجماعها في تلك اللحظة، بذلك، كان يجب أن تؤمن بذلك وأن تأمل في أنه حقيقي.
وادي أوتاوا
أحيانا أتذكر أمي وأنا في المتاجر متعددة الأقسام. لا أدري لماذا، فهي لم تصحبني إلى أي منها قط، ولكني أعتقد أنها كانت ستشعر بالرضاء والسعادة بسبب وفرة البضائع بها والصخب المعتدل الذي يميز هذه المتاجر. أتذكرها بالطبع عندما أرى شخصا في الطريق يعاني من داء باركنسون، وأتذكرها أكثر وأكثر كلما نظرت في المرآة. ويحدث ذلك أيضا في محطة قطارات يونيون ستيشن في تورونتو حيث كانت معي في أول مرة ذهبت فيها إلى هناك وكانت بصحبتنا أختي الصغيرة. كنا في فصل الصيف إبان الحرب، كنا ننتظر بين القطارات، حيث كنا متجهتين مع أمي إلى بيتها القديم في وادي أوتاوا.
لم تكن ابنة عمها، التي كان من المخطط أن تلتقي بها ونحن ننتظر القطار التالي، في انتظارنا، وعلقت أمي وهي تجلس على مقعد جلدي في استراحة السيدات المكسوة بالألواح الخشبية: «هي بالتأكيد لم تتمكن من الحضور؛ لأنها تصنع شيئا لا يمكنها تكليف شخص آخر بعمله.» كانت ابنة عمها تعمل سكرتيرة قانونية لشريك رئيسي بمكتب محاماة كانت أمي تصفه بمكتب المحاماة الرائد في المدينة. ذات مرة جاءت لزيارتنا وكانت ترتدي قبعة كبيرة سوداء وبدلة سوداء، وكانت شفتاها وأظافرها تشبه الياقوت، ولم يأت زوجها معها، لقد كان سكيرا، وكانت أمي تخبرنا دائما أنه سكير بعدما كانت تخبرنا أنها حصلت على وظيفة هامة في مكتب المحاماة الرائد في المدينة. كانت ترى أن هذين الشيئين متلازمان دائما، على نحو لا يمكن فصمه. وبنفس الطريقة كانت أمي تخبرنا عن العائلة التي تمتلك كل شيء يمكن شراؤه بالمال ولكن ابنهم الوحيد كان مصابا بالصرع، أو أن والدي الشخص الوحيد الذي يتمتع بشهرة محدودة في مدينتنا - وهي عازفة بيانو تدعى ماري رينويك - يقولان إنهما على استعداد للتضحية بشهرة ابنتهما مقابل إنجاب طفل آخر. إنجاب طفل؟ في عالمها، لم يأت الحظ الحسن دون ثمن.
خرجت مع أختي من الاستراحة إلى المحطة التي كانت تشبه الشارع في متاجرها المضيئة وتشبه الكنيسة بسقفها المرتفع المقوس ونوافذها الضخمة عند كل طرف. كانت المحطة تهدر بأصوات القطارات وكانت الحوائط تزيد قوة الصوت، ويرتفع صوت يردد أسماء الأماكن لا يمكن فهم كل ما يقول. اشتريت مجلة أفلام واشترت أختي قطع الشوكولاتة بالنقود التي أعطتنا إياها أمي، وكنت سأقول لأختي: «أعطني قطعة شوكولاتة وإلا فلن أدلك على طريق العودة»، لكنها فعلت ذلك قبل أن أطلب، وهو ما حدث على الأرجح بسبب افتتانها بضخامة المكان أو تسليمها باعتمادها علي.
بنهاية فترة بعد الظهيرة ركبنا القطار المتوجه إلى أوتاوا. كان الجنود يحيطون بنا في كل مكان، واضطرت أختي للجلوس على رجل أمي. ظل أحد هؤلاء الجنود يمزح معي، وكان يشبه بوب هوب بدرجة كبيرة، وسألني من أين جئت؟ وسألني: «هل بنوا الطابق الثاني من المتجر بعد؟» بنفس الطريقة الحادة والذكية التي كان سيسأل بها بوب هوب دون أن تداعب الابتسامة شفتيه. تخيلت أنه بالفعل هوب يسافر متنكرا في زي جندي. ولكن توقفت عن التفكير في هذا الأمر، حيث إنه بعيدا عن مدينتي يوجد كل المشاهير يروحون ويجيئون ويظهرون في أي مكان يريدونه.
التقتنا الخالة دودي في المحطة مساء واصطحبتنا إلى منزلها على بعد أميال من المدينة. كانت صغيرة الجسم وحادة الملامح وتضحك في نهاية كل جملة تقولها. كانت تقود سيارتها مربعة السقف ذات الدرج. «هل جاءت سموها لتراك؟»
كانت تشير إلى أختها، السكرتيرة القانونية. لم تكن الخالة دودي خالتنا في واقع الأمر، بل ابنة عم أمي وكانت على خلاف مع أختها.
فردت أمي بلهجة محايدة: «كلا، لم تأت ولكن بالتأكيد هي مشغولة.»
فقالت الخالة دودي: «بالتأكيد مشغولة في إزالة آثار فضلات الدواجن عن حذائها.» كانت تقود في سرعة فوق المطبات والحفر.
أشارت أمي إلى الظلام المحيط بنا على كلا الجانبين وقالت: «يا أطفال، يا أطفال، هذا هو وادي أوتاوا.» •••
لم يكن هناك أي واد؛ فقد بحثت عن جبال، أو حتى تلال، ولكن في الصباح لم يكن هناك سوى حقول شجيرات. وكانت الخالة دودي خارج النافذة تحمل سطل الحليب للعجل الصغير، الذي وضع رأسه في السطل بقوة، حتى إن اللبن انسكب منه، وكانت الخالة دودي تضحك وتوبخه وتضربه، في محاولة لجعله يبطئ، قائلة: «يا لك من فتى صغير جشع!»
كانت ترتدي زي حلب الأبقار، وكان يتكون من عدة طبقات وألوان. كان مهلهلا وواسعا مثل ملابس المرأة المتسولة في المسرحية التي عرضت في المدرسة، وتعتمر قبعة رجل دون قمتها، لا أدري ما الهدف منها.
لم تجعلني أمي أشك قط في أننا يمكن أن نكون على صلة قرابة بأشخاص يرتدون مثل تلك الملابس أو يطلقون على العجل كلمة فتى، وكانت دائما تقول: «أنا لن أسمح بهذه الألفاظ»، ولكن يبدو أنها تسامحت مع الخالة دودي، وقالت إنها تعتبر في مقام أختها، وإنهما تربتا معا (كانت السكرتيرة القانونية، برنيس، أكبر سنا وقد غادرت المنزل فيما مضى). ثم إن أمي كانت تقول إن الخالة دودي عاشت حياة مأساوية.
كان منزل الخالة دودي مجردا من كل مظاهر الثراء، وكان أفقر بيت رأيته في حياتي. وبعد قطع كل هذه المسافة، أعتقد أن منزلنا كان باهر الأثاث ويتمتع بالفخامة بعد أن كنت أراه دائما فقيرا؛ لأنه بعيد جدا خارج المدينة ولم تتح لنا المرافق والمياه الجارية، وبالطبع لم تكن لدينا لمسات من الفخامة الحقيقية، مثل الستائر المعدنية، ولكن منزلنا كان يحتوي على الكتب والبيانو وطقم جيد من الأطباق وسجادة واحدة ليست مصنوعة من القماش البالي. في الغرفة الأمامية بمنزل الخالة دودي كان هناك كرسي واحد مكتظ الحشو ورف مجلات مزدحم بالكامل بكمية من الأوراق القديمة من مدرسة الأحد. كانت الخالة دودي تعيش مع أبقارها، وكانت أرضها لا تستحق الزراعة. كل صباح، وبعد أن تنتهي من حلب الأبقار وفصل الألبان، تحمل أسطال اللبن في الجزء الخلفي من الشاحنة الصغيرة، وتقود سبعة أميال حتى مصنع الجبن. وكانت تشعر دائما بالخوف من مفتشي الحليب، الذين كان من الممكن أن يقرروا إعلان أن أبقارها تعاني من السل، لا لسبب سوى الحقد، والرغبة في إبعاد المزارعين الفقراء لمصلحة المزارع الكبرى، حيث تقول الخالة دودي إن أصحابها يدفعون لهم الكثير ليفعلوا ذلك.
كانت المأساة الأكبر في حياتها أن أحدهم هجرها، ودأبت على قول: «أتدرون، لقد هجرني أحدهم.» وقالت لنا أمي إننا لا ينبغي بحال من الأحوال أن نأتي على ذكر تلك المسألة أمامها أبدا. في هذا الوقت كانت الخالة دودي في المطبخ تغسل أطباق الغداء، وكنت معها أقوم بتجفيفها وأختي تضعها في أماكنها بينما كانت أمي ترتاح قليلا، وكانت الخالة دودي تقول بفخر إن أحدهم هجرها، كما لو أن شخصا يقول لك: «أتدري؟ إنني أعاني من شلل الأطفال.» أو أحد تلك الأمراض المزمنة. ثم استطردت قائلة: «لقد خبزوا لي كعكة الزواج، وكنت أرتدي فستان الزفاف.» «هل كان من الساتان؟»
قالت الخالة دودي: «كلا، كان من صوف المرينوس الأحمر الداكن؛ لأن الزفاف كان في أواخر الخريف. حضر القس وكل شيء كان معدا. وأخذ والدي يذهب إلى الطريق للتأكد من قدومه، حتى حل الظلام، وقلت إنه وقت الخروج لحلب الأبقار! ثم خلعت الثوب ولم أرتده قط مرة أخرى، تبرعت به، كان ذلك الموقف سيثير بكاء الكثير من الفتيات، ولكني أنا ضحكت.»
فيما قالت أمي وهي تحكي نفس القصة: «عندما عدت إلى المنزل بعد ذلك بعامين، وكنت أقيم معها، اعتدت على الاستيقاظ على صوت بكائها ليلا، كل ليلة»:
لقد كنت هناك
أنتظر في الكنيسة،
أنتظر في الكنيسة،
أنتظر في الكنيسة،
وعندما وجدته، تركني وحدي مسكينة،
أوه، لقد غرس في قلبي سكينا.
هذا ما غنته لنا الخالة دودي، وهي تغسل الأطباق على مائدتها المستديرة المغطاة بمشمع بال. كان مطبخها كبيرا مثل المنزل، وله باب خلفي وباب أمامي، وكان هواء النسيم دائما فيه. وكان لديها مبرد صنعته بنفسها، لم أر مثله من قبل، وبه قطعة كبيرة من الثلج تحضرها من مستودع الثلج في عربة طفل من مسافة بعيدة. كان مستودع الثلج نفسه مميز الشكل، وهو عبارة عن مخبأ مسقوف يتم تجميع قطع الجليد فيه من البحيرة في فصل الشتاء للاحتفاظ بها في فصل الصيف في نشارة الخشب.
ثم قالت لنا: «بالطبع لم يكن هذا خطئي، ولا خطأ الكنيسة.» •••
عبر الحقول وبعد مزرعة الخالة دودي وفي المزرعة التالية لها كان يعيش شقيق أمي، الخال جيمس وزوجته الخالة لينا وأبناؤهما الثمانية. كان ذلك المنزل حيث نشأت وترعرعت أمي. كان منزلا أكبر وبه أثاث أكثر ولكنه ليس مطليا من الخارج، ولونه رمادي داكن، وأثاثه في الغالب عبارة عن أسرة خشبية عالية، مزودة بوسائد من الريش وشبابيك منحوتة داكنة اللون، ووضعوا تحت الأسرة قدورا لا يتم تفريغها كل يوم. زرنا المنزل ولم تأت الخالة دودي معنا؛ فقد كانت على خلاف مع الخالة لينا. والخالة لينا لم تكن اجتماعية؛ حيث لا تتحدث كثيرا إلى أي شخص. وقد حكت لنا أمي والخالة دودي أنها كانت فتاة تبلغ من العمر ستة عشر عاما، وكانت تعيش في منطقة غير مأهولة حين تزوجت الخال جيمس (وهو ما جعلنا نتساءل: كيف تعرف عليها الخال جيمس؟) في هذا الوقت كانا قد تزوجا منذ عشرة أعوام أو اثني عشر عاما. كانت طويلة القامة ذات جسد نحيل من الأمام والخلف على الرغم من أنها كانت على وشك ولادة طفلها التاسع قبل الكريسماس، وكان وجهها مليئا بالنمش الداكن وعيناها ملتهبتين قليلا مثل عيون الحيوانات. وكان لجميع الأطفال نفس هذه العيون بدلا من عيون الخال جيمس الزرقاء.
قالت الخالة دودي: «عند احتضار أمك سمعتها تقول: لا تلمس هذه المنشفة، استخدم مناشفك الخاصة؛ إذ كانت تعتقد عن جهل أن السرطان يمكن أن ينتقل مثل الحصبة بسبب استخدام الأدوات الشخصية للمريض.» «لا يمكن أن أسامحها أبدا.» «ولم تكن تدع أيا من الأطفال يقترب منها. وقد اضطررت للذهاب وتغسيل أمك بنفسي؛ كنت شاهدة على كل شيء.» «لا يمكن أن أسامحها أبدا.»
كانت الخالة لينا قاسية طوال الوقت، وأدرك الآن أن السبب هو الخوف. لم تترك أطفالها يسبحون في البحيرة خوفا من أن يغرقوا، وكانت تقول إنها لن تسمح لهم بالتزلج في فصل الشتاء خوفا من أن يتسبب التزحلق في كسر رقابهم، كما أنها لم تسمح لهم حتى بتعلم التزلج خوفا من كسر أرجلهم أو إصابتهم بالشلل مدى الحياة. كانت تضربهم طوال الوقت خوفا من أن يصبحوا كسالى أو كذابين عندما يكبرون، أو حمقى يحطمون الأشياء. وبالفعل لم يكونوا كسالى ولكنهم على أي حال كانوا يحطمون الأشياء؛ فقد كانوا دائمي الاندفاع وانتزاع الأشياء من الآخرين، وبالطبع كانوا جميعا كذابين، وحتى الصغار كانوا يكذبون باستمرار بصورة غريزية؛ فقد كانوا يكذبون حتى عندما لم يكن ذلك ضروريا، يكذبون لمجرد الكذب، وربما كان ذلك يشعرهم بالسرور. كانوا دائما يقولون الكذب ويخلفون العهد، كانت لديهم أكثر مواهب الساسة قسوة. كانوا يعوون عندما يضربون، كانت الكرامة تعتبر نوعا من الرفاهية التي تجاهلوها منذ فترة طويلة، أو لم يفكروا فيها قط. إذا لم تعو للخالة لينا عندما تضربك فلن تتوقف أبدا! فقد كانت ذراعاها قويتين كالرجال، وتعبير وجهها يحمل ضراوة لا قبل لهم بها. ولكن بعد خمس أو ثلاث دقائق، ينسى أبناؤها كل ذلك، ولكن بالنسبة لي يمكن لمثل هذا الإذلال أن يتسبب في حزني لأسابيع أو إلى الأبد.
احتفظ الخال جيمس باللهجة الأيرلندية التي فقدتها أمي وأوشكت الخالة دودي على فقدانها. كان صوته جميلا عندما ينطق أسماء الأطفال، ماري أو رونالد أو روثي. كان ينطق الأسماء بحنان وارتياح حتى في توبيخه لهم، وكأن الأسماء أو الأطفال أنفسهم عبارة عن نكات تحكى له. لكنه لم يحاول أن يمنع أمهم من ضربهم قط، أو حتى لم يبد مجرد الاعتراض، كما لو أن الأمر لا يمت له بصلة، كما لو أن الخالة لينا ليست لها صلة به.
قالت الخالة دودي إن أصغر طفل لديهم ينام في سرير الوالدين حتى يحل محله طفل جديد.
ثم استطردت: «اعتاد أن يأتي إلي مرارا لزيارتي، حيث كنا نضحك كثيرا، وكان يصطحب اثنين أو ثلاثة من الأطفال، لكنه توقف عن ذلك لسبب أعرفه؛ وهو أنهم يشون به عند أمهم، ثم توقف هو نفسه عن زيارتي، إنها هي من تفرض القوانين ولكنه يعاقبها بموجب قوانينها، أليس كذلك؟» •••
لا تحصل الخالة دودي على صحيفة يومية، مكتفية بالصحيفة الأسبوعية التي تنشر في المدينة والتي حصلت عليها عندما أقلتنا.
فصاحت قائلة: «الصحيفة بها خبر عن ألن دوراند.»
تعجبت أمي من ذلك قائلة: «ألن دوراند، إنه رجل عالي المقام الآن من هولشتاين بألمانيا، وقد تزوج من غربية.» «ماذا يقول الخبر؟» «إنه عن حزب المحافظين. أراهن أنه يريد ترشيح نفسه، أراهن على ذلك.»
كانت أمي تجلس على الكرسي الهزاز خالعة حذاءها، وكانت تضحك وظهرها متكئ على عمود الشرفة، وهي تقطع الفاصوليا الصفراء لتعبئها.
علقت الخالة دودي، قائلة: «أتذكر عندما قدمنا له عصير الليمون.» ثم التفتت إلي لتواصل: «عندما كان مجرد صبي كندي فرنسي، يعمل هنا بضعة أسابيع في فصل الصيف.»
فصححت لها أمي: «اسمه فقط كان فرنسيا، لكنه لم يكن يتحدث الفرنسية.» «لو رأيته الآن ما عرفته؛ فقد غير ملته أيضا، ويذهب إلى كنيسة سانت جون.» «لطالما كان يتمتع بالذكاء.» «بالتأكيد هو كذلك، ولكننا استملناه بعصير الليمون.»
استأنفت الخالة دودي: «هل تتصورين أكثر يوم سخونة في الصيف؟ كنت أبقى أنا وأمك في المنزل ولم نكن نهتم لذلك كثيرا، ولكن كان على ألن أن يذهب إلى مخزن التبن، حيث كانوا يقومون بتخزين التبن. كان والدي يقوم بإحضاره من الحقول وكان ألن يقوم بنشره حتى يجف، كما كان الخال جيمس يقدم المساعدة أيضا.»
أكملت أمي: «جيمس كان ينتقي التبن، وكان والدك يقود السيارة ويرفع الأحمال عليها.»
فأردفت الخالة دودي بلهجة المتعاطف: «وكانوا يتركون ألن في مخزن التبن، وما أدراك كيف يكون مخزن التبن في مثل ذلك اليوم، إنه كالجحيم على الأرض، لذلك كانت فكرة طيبة أن نقدم له بعض عصير الليمون. لقد نسيت أن أخبركم عن بذلة العمل في البداية.»
ثم أضافت: «لقد أحضر ألن بذلة العمل لأصلحها في الوقت الذي كان فيه الرجال يتناولون العشاء، وكان يرتدي سروالا قديما ثقيلا، وقميصا للعمل، كانا بالطبع يشعرانه باحترار شديد، فأعتقد أنه خلع قميصه داخل الحظيرة. لكنه كان يريد بذلة العمل؛ لأنه كما تعلمون سيشعر بالبرودة بسبب سخونة الدورة الدموية بعد خلع الثياب الثقيلة. لقد نسيت ما كان مثبتا على هذه الملابس، ولكنها كانت أشياء صغيرة وقليلة. لا بد أنه كان يعاني في تلك السراويل القديمة عند ارتدائها، وهو ما اضطره لأن يطلب مني ذلك؛ لأنه كان خجولا للغاية. كان في ... كم كان يبلغ من العمر حينذاك؟»
أجابت أمي: «سبعة عشر عاما.» «ونحن الاثنتين كنا في الثامنة عشرة. وكان ذلك قبل ذهابك إلى نورمال بعام واحد. حسنا، أخذت سرواله وقمت بإصلاحه، وهو شيء بسيط قمت به وأنت تقدمين العشاء لهم. وجلست في زاوية المطبخ إلى جانب ماكينة الخياطة عندما خطرت لي فكرة، هل تتذكرين؟ لقد تظاهرت أنني أناديك لتفردي معي الثياب، وقد رأيت ما أفعل، ولم تضحك إحدانا أو تختلس نظرة إلى الأخرى، أتذكرين؟» «كلا.» «لأن الفكرة التي خطرت لي هي أن أخيط السحابة!
وبعد وقت العصر بقليل، خرج معهم إلى العمل مرة أخرى، وجاءتنا فكرة عصير الليمون، فأعددنا ملء دلوين. ثم قمنا بإخراج أحدهما للرجال الذين يعملون في الحقل، ناديناهم ووضعنا الدلو تحت شجرة. وأخذنا الآخر وقدمناه له عند مخزن التبن، وقد استخدمنا كل الليمون الذي كان لدينا، ومع ذلك لم يكن العصير ثقيلا بدرجة كافية، وأذكر أننا اضطررنا لوضع الخل عليه، وأتذكر أنه لم يلاحظ ذلك، فلم أر قط أي شخص مثله بهذا القدر من العطش في حياتي، كان يشرب دون أن يحاول التذوق، وكنا نقف ونراقب، ولكن كيف نمنع أنفسنا من الضحك؟»
عقبت أمي: «لم أكن لأعرف لو كنت مكانه.»
واستأنفت الخالة دودي: «ثم أخذنا الدلو وتوجهنا إلى المنزل وانتظرنا حوالي ثانيتين قبل العودة مرة أخرى، واختبأنا في الصومعة، التي كانت مثل الفرن أيضا ، ولا أعرف كيف تحملنا ذلك، ولكننا اعتلينا أكياس الأعلاف ووجدت كل منا لنفسها فرجة أو ثقبا أو شيئا من هذا القبيل لتختلس النظر منه عليهم. كنا نعرف أن الرجال يبولون في زاوية الحظيرة دائما ويبولون أسفل المجرفة عندما يكونون في الطابق العلوي. أما في الإسطبل فأعتقد أنهم يبولون في القناة. وبعد قليل بدأ في السير في هذا الاتجاه وترك شوكته وأخذ يمشي متبخترا، وكان العرق ينهمر على وجوهنا من فرط الحرارة، وكنا نضع أيدينا على فمنا حتى لا تفضحنا ضحكاتنا. أوه، كم كنا قساة عليه! كان الأمر سهلا بالنسبة له في البداية، أليس كذلك؟ ثم عندما اكتشف الأمر زاد شعوره بالحاجة إلى التبول؛ وأخذ ينظر لأسفل متسائلا عما يحدث. وسريعا ما أخذ يجذب بذلته ويحاول نزعها بكل وسيلة ممكنة لتحرير نفسه. ولكنني خيطت السحابة خياطة قوية. وأتساءل متى اكتشف الأمر؟ متى عرف ما حدث؟» «حقيقة أنا أعتقد أنه لم يكن غبيا قط.» «لم يكن يوما كذلك، لا بد أنه استنتج المكيدة برمتها، من عصير الليمون وغيره. الشيء الوحيد الذي أعتقد أنه لم يفكر فيه هو أن يتصور إقدامنا على الاختباء في الصومعة، وإلا فما كان ليفعل ما أقدم عليه بعدها.»
قالت أمي بحزم: «نعم ما كان ليفعل ذلك؟» «لا أدري، لعله تجاوز مرحلة الاهتمام بالتصرف اللائق، أليس كذلك؟ لقد تجاوز هذه المرحلة وما حدث أنه مزق بذلته تماما، وتمكنا نحن من رؤية كل ذلك.» «كان ظهره في اتجاهنا.» «كلا، بل كان يقف قبالتنا، وعندما تبول رأينا كل شيء، ثم أولانا جانبه.» «أنا لا أتذكر ذلك.» «حسنا، أنا أتذكر. فأنا لم أر الكثير من هذه المشاهد؛ لذلك لا أستطيع أن أنسى.»
صاحت أمي مستهجنة: «دودي!» ولكن يبدو أن أوان التحذير قد فات (فقد كانت أمي دائما تقول أنا لا أحب الاستماع إلى هذه الأحاديث). «أوه! أنت لم تهربي، أليس كذلك؟ ألم تبقي عينك في الفرجة التي كنا ننظر منها؟»
نظرت أمي لي وللخالة دودي مع تعبير غير عادي على وجهها ينم عن العجز. لا أعتقد أنها ضحكت، ولكن بدا الأمر كما لو أنها قد استسلمت.
البداية بطيئة للغاية، وغالبا ما تمر سنوات قبل أن يعلم المريض أو عائلته أنه أصبح من المعاقين. يظهر أنه يعاني من تصلب بالجسم يزيد ببطء، وتصاحبه ارتجافات بالرأس والأطراف. قد يكون هناك العديد من الأعراض مثل الارتعاش وتشنجات العضلات وحركات لاإرادية أخرى، كذلك فإن زيادة إفراز اللعاب والترويل من الأمور الشائعة عند الإصابة. علميا هذا المرض معروف باسم الشلل الرعاش، ويسمى أيضا داء باركنسون. الشلل الرعاش يؤثر أولا على ذراع أو ساق واحدة، ثم ينتقل إلى الطرف الثاني على نفس الجانب، وفي النهاية ينتقل إلى الأطراف بالجانب الآخر. ويبدأ الوجه في فقدان التعبيرات المعتادة ويتغير ببطء أو لا يتغير مطلقا مع المرور بمختلف الحالات المزاجية. وهذا المرض عادة ما يصيب المسنين، في الغالب يكون الأشخاص في الستينيات والسبعينيات هم الأكثر عرضة له، ولم يتم تسجيل حالات شفاء منه. ولكن تتوفر الأدوية التي تستخدم للسيطرة على الارتعاش وفرط اللعاب، وذلك مع أن فوائد هذه الأدوية لا تزال محدودة. [فيشباين، الموسوعة الطبية].
كانت أمي ستبلغ خلال ذلك الصيف واحدا وأربعين أو اثنين وأربعين عاما، وهو ما يقارب سني حاليا.
كان ساعدها الأيمن فقط هو المصاب بالرعشة، ثم بدأت اليد بالاهتزاز أكثر من الذراع، وكان الإبهام لا يتوقف عن الاهتزاز. وعلى أي حال؛ فقد تمكنت من إخفاء أصابعها ومنع ذراعها من الارتجاف بتثبيتها بقوة إلى جسدها. •••
شرب الخال جيمس شراب البورتر بعد العشاء، وسمح لي أن أذوقه، كان جعة داكنة اللون ومرة. وكان هنا تناقض جديد. كانت أمي قد أخبرتنا قائلة: «قبل أن أتزوج أباكم طلبت من خالكم أن يعدني ألا يشرب مجددا، وقد التزم بوعده بالفعل.» لكن الخال جيمس كان يشرب دون اعتذار.
ليلة السبت ذهبنا جميعا إلى المدينة. ذهبت والدتي وأختي في سيارة الخالة دودي، وركبت أنا مع الخال جيمس والخالة لينا والأطفال. راح الأطفال يشكون مني، كنت أكبر بقليل من أكبرهم، وقد عاملوني كما لو كنت غنيمة، شخصا يتنافسون من أجل كسب وده. وهكذا كنت في سيارتهم مربعة السقف مثل سيارة الخالة دودي. كنا في طريق العودة إلى البيت، وقد فتحنا النوافذ للحصول على الهواء المنعش، وبشكل غير متوقع بدأ الخال جيمس في الغناء.
كان صوته عذبا بالطبع، عذبا لكنه حزين، شجي. أستطيع أن أتذكر جيدا لحن الأغنية التي كان يغنيها، وصوته يخرج من النوافذ السوداء، ولكني أستطيع أن أتذكر بضع كلمات من الأغنية، هنا وهناك، وذلك مع أنني كثيرا ما حاولت أن أتذكر أكثر من ذلك؛ لأنني أحب الأغنية كثيرا. فلا أتذكر سوى:
كنت أعتلي جبل كيليكيني ...
أعتقد أن الأغنية كانت تبدأ بهذه الكلمات.
ثم تتناول كلمات مسجوعة وتتحدث عن اغتنام بعض البهجة من أشياء مختلفة، وأخيرا المقطع الشعري الشجي:
ولكني أغتنم بهجتي من الخمر ...
خيم الصمت على السيارة والخال جيمس يغني، وكان الأطفال لا يتشاجرون وإنما يهتزون مع حركة العربة، وبعضهم راح في النوم. كانت الخالة لينا تضع أصغرهم على رجليها، وكانت السيارة تسير على طريق كما لو أنها ستمضي في طريق لا ينتهي في ليلة مظلمة تماما مع أضواء ضعيفة على جانب الطريق. وكانت هناك أرانب تسير على الطريق وتتقافز أمامنا، ولكن لم يلحظ أحد ذلك، ولم يقاطع أحد الغناء والحزن الذي يتصبب منه.
ولكني أغتنم بهجتي من الخمر ...
وصلنا إلى الكنيسة في وقت مبكر، بحيث تمكنا من أن نزور القبور. كانت سانت جون كنيسة مبنية بالخشب ومطلية باللون الأبيض على الطريق السريع والمقابر خلفها. توقفنا أمام شاهدي قبور كان مكتوبا على أحدهما «الأم» والآخر «الأب»، وتحتهما بأحرف أصغر بكثير أسماء وتواريخ ميلاد ووفاة جدي وجدتي لوالدتي. كانا شاهدين صغيرين وليسا كبيرين، مثل حجارة الرصف المستخدمة لإحاطة العشب المجزوز. ذهبت باتجاه آخر لأرى أمورا أكثر إثارة للاهتمام مثل رسوم الجرار والملائكة والكفوف المرفوعة بالدعاء.
وبعد ذلك بقليل وصلت أمي والخالة دودي.
علقت الخالة دودي وهي تلوح قائلة: «من الذي يحتاج كل هذه التفاهات؟»
وكانت أختي التي لا تزال تتعلم القراءة تحاول قراءة النقوش :
حتى طلوع الشمس.
لم يكن ميتا بل راقدا.
في سلام.
تساءلت أختي عن اللغة المكتوبة بها النقوش.
كانت الكتابة باللاتينية، هذا ما أكدته أمي.
وقالت الخالة دودي: «هناك الكثير من الناس يضعون هذه الأحجار وكل ذلك أمور مظهرية ولا يزالون يدفعون مقابلها حتى الآن. وبعضهم لا يزال يحاول الدفع مقابل المقبرة نفسها ولم يبدءوا في تجهيز الحجارة حتى الآن، انظروا إلى هذا على سبيل المثال.» وأشارت إلى حجر كبير من الجرانيت الأزرق الداكن على شكل مكعب مائل متزن على إحدى زواياه وكان عليه بقع بيضاء.
قالت أمي وهي مشدوهة: «كم هو متطور وحديث.» «إنه شاهد قبر ديف ماكول. انظروا إلى حجمه! وأنا أعرف يقينا أنهم قالوا لزوجته إن لم تسرع بالدفع مقابل المقبرة فسينبشون القبر ويلقون به على الطريق السريع.»
تساءلت أمي: «هل هو مسيحي؟» «بعض الناس لا يستحقون المسيحية.»
شعرت بشيء ما ينزلق عن خصري وأدركت أن مطاط ملابسي الداخلية قد تمزق، إلا أنني وضعت يدي على جانبي قبل أن تسقط - إذ لم يكن لدي أرداف يمكنها حمل أي شيء - وقلت لأمي في همسة غاضبة: «كان يجب أن أستخدم دبوسا.»
قالت أمي بصوتها الطبيعي أو بطبقة أعلى منه قليلا: «لماذا تريدين دبوسا؟» عادة لا يمكن الاعتماد على أمي في مثل هذه الظروف.
لم أجب، ولكني نظرت في وجهها في استعطاف امتزج بالتهديد.
ضحكت الخالة دودي وقالت: «أراهن أن ملابسها الداخلية على وشك السقوط.»
فردت أمي ولم تخفض صوتها: «هل الأمر كذلك بالفعل؟» «نعم.»
قالت أمي: «حسنا اخلعيها.»
فقالت الخالة دودي بصرامة: «ليس هنا، فهناك مرحاض للسيدات، خلف كنيسة سانت جون كان هناك مرحاضان خشبيان، كمراحيض المدارس.»
قلت لأمي: «إذا خلعتها فلن يكون هناك أي ملابس على جسدي.» كنت أشعر بالخزي؛ إذ لم أتصور أن أمشي في الكنيسة في ثوب علوي أزرق بدون ملابس داخلية، وأن أقف لأغني الترنيمات ثم أجلس، كل هذا وأنا دون ملابس داخلية، وأن أجلس على مقاعد الكنيسة الباردة دون ملابس داخلية.
كانت الخالة دودي تبحث في حقيبتها وتقول: «أتمنى لو كان لدي دبوس لكني لم أعثر على شيء. يمكنك أن تسرعي لخلعها ولن يدري أحد بما جرى. يا لك من محظوظة! فليس هناك رياح.»
بيد أنني لم أتحرك من مكاني.
فقالت أمي بكثير من الشكوك: «حسنا لدي دبوس واحد، ولكن لا أستطيع إخراجه؛ فقد تمزق حزام ردائي الداخلي هذا الصباح عندما كنت ارتدي ملابسي؛ ولذلك وضعت دبوسا لأثبته؛ ولذلك لا يمكنني فكه.»
كانت أمي ترتدي ثوبا رماديا منقوشا بالزهور الصغيرة التي بدت كما لو أنها مطرزة عليه، وتحته رداء داخلي رمادي؛ لأن الثوب كان شفافا يمكن أن ترى من خلاله. كانت تعتمر قبعة ذات لون وردي كئيب مطابق للون بعض الزهور التي تلون بها الفستان، وكانت تلبس قفازات عليها نفس الزهور تقريبا، وتنتعل حذاء أبيض يكشف عن أصابع قدميها. كانت غالبا ترتدي كل ذلك خصوصا عندما تكون في كنيسة سانت جون. وكانت تتصور أنه سيكون صباحا مشمسا، مع صوت رنين الأجراس، تماما كما يحدث الآن. بالطبع كانت تخطط لذلك وتتصوره تماما، كما أخطط وأتصور في بعض الأحيان ما سوف أرتديه عندما أذهب إلى حفلة.
أردفت أمي: «لا أستطيع خلع الدبوس وإلا فسوف ينزلق ردائي الداخلي.»
ردت الخالة دودي: «الناس يتوافدون!» «إما أن تذهبي إلى المرحاض وتخلعيه أو تذهبي وتجلسي في السيارة.»
اتجهت إلى السيارة، وكنت في منتصف الطريق إلى بوابة المقبرة عندما نادتني أمي، وقادتني إلى مرحاض السيدات، ودون أن تنطق بكلمة واحدة وضعت يدها داخل جيب ملابسها وأخرجت دبوسا. أدرت ظهري ولم أقل شكرا؛ لأنني كنت غارقة في شعوري بسوء حظي ومتأكدة أن ما تفعله هو من حقي، وقامت بربط خاصرة ملابسي الداخلية. ثم قادتني أمي بعيدا عن طريق المرحاض وحول جانب الكنيسة. كنا قد تأخرنا والجميع قد دلفوا. كان علينا أن ننتظر، فيما راحت الجوقة بقيادة القس يسيرون بالممر في وقع المراسم الدينية.
كل شيء مشرق وجميل،
جميع المخلوقات الكبير منها والصغير،
كل الأشياء الحكيمة والرائعة،
كلها جميعا من صنع القدير.
عندما أخذ أفراد الجوقة أماكنهم واستدار القس لمواجهة الحضور، اتجهت أمي بجرأة وانضمت للخالة دودي وأختي على مقعد بالمقدمة، تمكنت من رؤية ثوبها الداخلي الرمادي وقد انزلق إلى أسفل نصف بوصة، وكان يظهر في جانب واحد بشكل غير أنيق.
بعد انتهاء العظة استدارت أمي وهي جالسة في المقعد لتتحدث إلى الناس الذين أرادوا معرفة اسمي واسم أختي ثم قالوا لأمي: «إنها تشبهك كثيرا.» «ربما تلك الفتاة تشبهك أكثر منها.» «أرى أمك متى نظرت إلى هذه الفتاة.» وسألوها عن عمرنا وفي أي صف دراسي وإن كانت أختي تذهب إلى المدرسة، وسألوا أختي متى ستذهبين إلى المدرسة؟ فأجابت: «لن أذهب.» وهو ما جعل الجميع يضحك مرات عديدة (أختي كثيرا ما تجعل الناس يضحكون دون قصد؛ فهي دائما ما تشعر الجميع أنها تعاني من سوء الفهم، ولكن ما جعلها تعتقد هذه المرة أنها لن تذهب إلى المدرسة هو أن المدرسة الابتدائية القريبة من مكان سكننا يجري هدمها، ولم يخبرها أحد أنها ستذهب إلى مدرسة المدينة على متن حافلة).
وقال اثنان أو ثلاثة أشخاص لي: «خمني من علمنا عندما ذهبنا إلى المدرسة؟ إنها أمك.»
وقال رجل آخر: «إنها لم تعلمني الكثير، ولكنها كانت أكثر مدرسة أنيقة رأيتها في حياتي.» وكانت تفوح منه رائحة العرق لدرجة أنها لم ترد مصافحته. ••• «هل ظهر ردائي الداخلي؟» «كيف ذلك؟ فقد كنت تجلسين على المقعد.» «عندما كنت أسير في الممر، شعرت بذلك.» «لم ير أحد شيئا، الجميع كانوا منشغلين في الترانيم.» «مع ذلك، يمكن أن يلاحظوا شيئا.» «شيء واحد فقط يدهشني، لماذا لم يأت ألن ليسلم علينا؟» «هل كان هناك؟» «ألم تريه، كان يجلس على المقعد الغربي تحت النافذة التي تم وضعها من أجل الأب والأم.» «لم أره، هل كانت زوجته معه؟» «نعم، لا بد أنك رأيتها، كانت ملابسها بالكامل زرقاء وتعتمر قبعة مثل عجلة العربات التي تجرها الدواب، لقد كانت أنيقة جدا، ولكن لا يمكن مقارنتها بك اليوم.»
كانت الخالة دودي نفسها تعتمر قبعة زرقاء داكنة مصنوعة من القش مع بعض الزهور من القماش، وترتدي فستانا مزررا من الحرير الصناعي. «ربما لم يعرفني، أو لم يرني.» «كيف لم يرك؟» «حسنا.» «لقد بدا حسن المظهر يصلح لأعمال السياسة، كما أن طوله مناسب لذلك، فقليلا ما نرى رجلا قصيرا يتم انتخابه لشئون السياسة.» «ولكن ماذا عن ماكنزي كينج؟» «أنا أقصد الانتخاب عندنا هنا، فنحن لم ننتخبه هنا.» ••• «أصيبت أمك بسكتة دماغية خفيفة، وهي تنفي ذلك، ولكني رأيت الكثير جدا مثل حالتها.
لقد أصيبت بسكتة خفيفة، وفي يوم من الأيام ستصاب بسكتة تودي بحياتها، ومن ثم عليك أن تتعلمي أن تكوني أما حينها.
مثلي، لما بدأ مرض أمي وأنا في العاشرة من عمري. لقد توفيت عندما كان عمري نحو خمسة عشر عاما، ما بين ذلك عشت معها وقتا عصيبا! وكان جسدها كله متورما، كانت تعاني حالة استسقاء، حتى جاءوا ذات مرة وأخرجوها منها بكميات رهيبة.» «ما الذي أخرجوه منها؟» «السوائل.»
جلست في كرسيها حتى أصبحت غير قادرة على الجلوس أكثر من ذلك، وكان عليها أن تأوي إلى السرير. كان عليها أن ترقد طوال الوقت على جانبها الأيمن لتبعد ضغط السائل عن قلبها. يا لها من حياة! وظهرت بعد ذلك تقرحات الفراش. كانت تعيش في بؤس، حتى جاء يوم قالت لي فيه: دودي من فضلك ساعديني على الاستدارة إلى الجانب الآخر لبعض الوقت. كانت تحاول الاستراحة قليلا، توسلت إلي، فقمت باحتضانها وأدرتها إلى الجانب الآخر. كانت ثقيلة الوزن، أدرتها إلى جانب القلب، وبعد ذلك بدقيقة ماتت. «لماذا تبكين الآن؟ أنا لم أكن أقصد قط أن أحزنك! حسنا أراك الآن طفلة كبيرة، ولا يشق عليك الاستماع لصروف الحياة.»
ضحكت الخالة دودي في وجهي لكي تخفف عني، ولأن وجهها كان أسمر نحيفا كانت عيناها كبيرتين وحمراوين. كانت ترتدي وشاحا حول رأسها في هذا اليوم، وكانت تبدو أشبه بامرأة غجرية، كانت تنظر في وجهي بخبث ولطف، بنظرة تهدد بالإفصاح عن المزيد من الأسرار ما لم أتمكن من تحمل ما تقوله. •••
قلت وأنا متجهمة: «هل أصبت بسكتة دماغية ؟» «ماذا؟» «قالت الخالة دودي إنك أصبت بسكتة دماغية.» «لم يحدث ذلك، قلت لها ذلك، وقال الطبيب ذلك، ولكنها تعتقد أنها تعلم كل شيء، إنها تعتقد أنها تعرف أكثر من الطبيب.» «هل ستصابين بسكتة دماغية؟»
ردت بهدوء: «كلا؛ أعاني من انخفاض ضغط الدم، وهذا هو عكس ما يؤدي إلى السكتات الدماغية.»
قلت لها: «إذن، أنت لن تمرضي أبدا؟» شعرت بالارتياح كثيرا؛ لأنها لا تعاني أعراض السكتات الدماغية، وهو ما يعني أنني يجب ألا أتعلم كيف أكون أما، أغسل وأمسح وأطعمها وهي ترقد على السرير، مثلما كان على الخالة دودي أن تفعل مع أمها. لقد شعرت بالارتياح؛ لأنها فسرت لي الأمر وأقنعتني. وطوال فترة حياتها، وخلال كل التغيرات التي حدثت لها، وحتى بعد أن تلقيت تفسيرات طبية عن حالتها، كنت أشعر بداخلي أنها لا تشعر بالراحة، وكانت تفعل ذلك لغرض في نفسها، كنوع من الانتقام ولم يستطع أحد أن يفهم ذلك.
لم ترد علي، ولكنها سارت قدما، كنا في طريقنا من منزل الخالة دودي إلى منزل الخال جيمس، كنا نتخذ مدقا يخترق مرعى الأبقار المحدب مما جعل الرحلة أقصر من اتخاذ الطريق.
تابعت بتهور وعناد: «هل ستتوقف ذراعك عن الاهتزاز؟»
ثم طلبت منها أن تستدير وتعدني بما أردت سماعه.
لكنها لم تفعل، وللمرة الأولى تجاوزتني مبتعدة، ومضت كما لو أنها لم تسمعني، وأخذت تسير أمامي وهيئتها المألوفة تتحول إلى هيئة غريبة. كانت تبتعد، وكل ما حدث في الواقع أنها استمرت في المشي في الطريق الذي اعتادت قطعه مع الخالة دودي عندما كانتا فتاتين ذهابا وإيابا. كان لا يزال موجودا. •••
ذات ليلة جلست أمي والخالة دودي في الشرفة وتغنتا بالشعر. ولكني نسيت كيف بدأ هذا، أظن إحداهما بدأت في تذكر مقطع شعري، ربما، والأخرى فعلت مثلها تماما. الخال جيمس كان يتكئ على الدرابزين، وكان يدخن. ولأننا كنا في زيارة، سمح لنفسه أن يأتي ليرانا.
غنت الخالة دودي بفرح:
كيف يمكن لرجل أن يموت ميتة أكرم
من أن يموت وهو يواجه الخوف
ورماد آبائه ومعابد الآلهة؟
وردت أمي:
طوال اليوم ضجيج المعركة يتصاعد.
يصدح بين الجبال إلى جانب بحر الشتاء.
لا دعوة لجنازة ولا احتفاء،
في الوقت الذي أسرعنا بالجثة للمقابر ...
قطعنا شوطا طويلا
حتى وادي جزيرة أفلون
ولم يسقط المطر أو البرد أو أي ثلج ...
كان صوت أمي يرتجف في تحرج، لذلك كنت سعيدة عندما قاطعتها الخالة دودي قائلة: «يا للسماء! ألم تكن كلها حزينة، تلك السطور التي كانوا يحشون بها كتاب المطالعة؟»
قال الخال جيمس: «أنا لا أتذكر شيئا من ذلك باستثناء» ثم تلا دون انقطاع:
على طول التلال التي يحيط بها الضباب
كانت الغابة القرمزية
وطوال اليوم يغني طائر أبو زريق
عبر أشجار الخريف.
ردت الخالة دودي: «بديع!» وانضمت لهما أمي، كانوا ينشدون كل ذلك معا، ويضحك كل منهم على الآخرين:
تحلق فوق البرك وسط السديم،
أو تمضي فوق مصب النهر،
طوال يوم الخريف الطويل
إنها الطيور المهاجرة إلى الجنوب.
قالت الخالة دودي: «حتى عندما نفكر في الكلمات، نجد نغما شجيا حزينا.» •••
إن كنت سأؤلف قصة جيدة من كل هذا، فسأنهيها بأن أمي لم ترد علي ومضت قدما عبر المرعى. ستكون نهاية تفي بالغرض. ولكني لم أتوقف عند هذه النهاية على ما أظن؛ لأنني أردت أن أعرف أكثر، وأتذكر أكثر من ذلك. أردت أن أتذكر كل ما يمكن تذكره. الآن أنظر إلى كل ما أقدمت عليه ليبدو لي مثل سلسلة من اللقطات، مثل اللقطات الضاربة إلى اللون البني التي كانت تلتقطها كاميرا والدي القديمة. في هذه اللقطات تظهر الخالة دودي والخال جيمس، بل والخالة لينا، وحتى أولادها، يظهرون في وضوح شديد (كل هؤلاء في عداد الأموات الآن باستثناء الأطفال الذين كبروا وأصبحوا يعملون حاليا في وظائف مرموقة، ولا يوجد بينهم - حسب علمي - مجرم أو متعاط للمخدرات). المشكلة - والمشكلة الوحيدة - هي أمي؛ فهي بالطبع الوحيدة التي أحاول تذكرها طوال هذه الرحلة كلها. ولكن ما الغرض؟ كي أخلدها، كي أصفها، كي أحتفي بها، ثم كي أنساها، ولكن ذلك لم يجد نفعا، إنها تلوح قريبة جدا مني، تماما كما كانت تفعل دائما. تحضرني بقوة دائما، وتلقي بظلالها على أي شيء آخر. وحتى على الرغم من أنها بعيدة الآن، فهي أقرب لي من أي وقت مضى. يمكنني أن أسترسل وأستخدم المهارات والحيل التي أملكها، ولكن ستكون النهاية نفسها دائما.
Неизвестная страница