فحين أزفت الآزفة وحاول الملك أن يستصرخ الحزبين الكبيرين اللذين كانا خارج الحكم، فقال الحزبان في إجماع رائع ما كان لنا أن نستجيب فما كنا لاهين حين كتبنا عريضة الثلاثين، وما يتصور أحد أن نستجيب لصرخته حتى ينفذ كل ما جاء بالعريضة.
وهكذا تعاقبت الوزارات المحايدة وهي نوع من الوزارات التي لا يكتب لها البقاء عادة، ولكنه في هذه المرة تجاوز الرقم القياسي في قلة الأيام التي كانت تبقى فيها الوزارة حاكمة حتى لقد رأى المصريون بهي الدين بركات باشا يكلف بتأليف الوزارة، وبدأ يؤلفها فعلا حتى حل عليه عميق المساء فنام على أن يكمل التأليف في غده.
نام وهو رئيس وزراء، وصحا ليجد الصحف تعلن أن حسين سري باشا ألف الوزارة، وحلف الوزراء اليمين، وسارت الحال على هذا المنوال حتى قامت الثورة. •••
ولم يكن عجيبا أن يستقبلها الشعب بما هو معروف في التاريخ من ترحاب صاخب طاغ، ومن فرح عريض جهير. •••
وما لبثت الثورة أن شنت هجومها الشرس على الأحزاب ورجالها، وقتلت الدستور أول ما قتلت مع أن بيانها الأول أعلن أنها جاءت لتحمي الدستور من العبث به ولتثبيت أركانه، فكان أول ما فعلت في سبيل تثبيت هذه الأركان أن تلغي الدستور، فكان شأنها شأن الطبيب الذي دخل البيت لينقذ رب الأسرة المريض فكان أول ما صنعه أن أطلق الرصاص على قلب المريض، وقتله في الحال متمثلا بالقول الشائع أن الموت إحدى الراحتين، وقد اختارت الثورة الموت للدستور حتى يرتاح تماما من الاعتداء عليه. •••
هيهات! فما قدمت إليك لأكون مؤرخا لما حدث في هذه الفترة وما خربت من بيوت ، وما هتكت من أعراض، وما استباحت من كرامات، وما سفحت من دماء، وما استلبت من أموال، فكل هذا أتركه للتاريخ، وقد حكم فعلا وكان منطوق الحكم على منصات القضاء المصري رفيع الشأن سامي المكان.
ولكن ما لنا وهذا، ولو أن حديث الأفاعي طويل المدى، ولكنني لا أسوق لك تلك الأحداث في هذه الرواية، فمكانها مجالات أخرى غير هذه الرواية بين يديك التي أخشى عليها أن يلهيني عنها غير ما رصدته لها.
فلنعد إلى البدء ونقف أثر أبطالنا ونتتبع طريقهم الخاص، وما حديثي عن الثورة إلا حتم من الحتم ففي ركام أحداثها مهدوا سبيلهم ولا بد لمن يروي ما ساروا فيه من سبيل أن يرسم ولو في كلمات قلائل معالم هذه السبيل.
فإليهم إذن عودتنا نقص خطاهم. ونتتبع سيرهم ومسراهم. فإنما هم الذين اجتذبوا عقلي ومشاعري أن أروي هذا الذي بين يديك ولك الحرية المطلقة أن تطلق عليها من الأسماء ما شئت. أما أنا فإنما أريد أن أكتب لك ما عهدت مني من روايات، فهي إذن رواية.
11
Неизвестная страница