هز الملك رأسه مرتابا فيما قاله الوزير، ولكنه بعد أن أطرق قال: «إنك مصيب يا تفلاط، ومتى يجيء العمى؟» - غدا أو بعد غد بإذن الآلهة. - سأترقب قدومه، ومتى أمسى الشاب أبكم أعمى أعلمه بقصاصي وأعيده إلى السجن ليقضي هناك بقية أيامه؛ ليعش هذا الخسيس في ظلمات السجن وظلمات الحياة، ليعش هنالك طويلا فيتأمل ويتألم، كذلك يكون قصاص من يهينون بمثل إهانته سيد بابل وآشور.
خضع الوزير بين يدي الملك فلم ير ما غشى وجهه من أمارات الخوف والارتياب. وفي صباح اليوم التالي قبل أن ورد الفجر الآفاق كان نبوخذنصر يتمشى في رواق القصر، فجاءه أحد العبيد يقول: «أيها الملك العظيم، قد أصيب بالادان بالعمى.» - وأي متى كان ذلك؟ - قبل انبثاق الفجر يا مولاي غشاه العمى بغتة كما تغشى زوبعة الرمل عابر الصحراء! - عوفيت يا تفلاط عوفيت!
قال ذلك ومشى توا إلى منزل بالادان، فرآه جالسا على كرسي محني الرأس، مشحوب اللون، والعبيد واقفون حوله وبين يديه، فأمرهم الملك أن ينقلوه إلى المضجع وينصرفوا، فامتثلوا الأمر، فتقدم إذ ذاك إلى الشاب الضرير الأبكم وكلمه قائلا: اعلم يا بالادان أني لم أعف عنك قط، قلت لي: إنك لا تخشى الموت، وأما الآن وقد سلبت النور والكلام، أفلا تخشى الحياة؟ هذا هو قصاصي وعدلي، بل هذا هو حلمي، وستبقى حيا في ظلمات السجن إلى ما شاءت الآلهة. إن نبوخذنصر لا يعارض بما سيكون بعد اليوم من أمرك.
بعد أن فاه بهذه الكلمات، وبدت على وجهه أمارات الفوز، وقف هنيهة ليرى ما يكون من تأثيرها في الشاب، وقف ينظر إلى الوجه الذي وجه إليه كلامه؛ فإذا هو هادئ ساكن جامد لا يغشاه شيء من الغم، ولا يحركه شيء من الجزع! فخطر للملك إذ ذاك أن يناديه باسمه، فراح نداؤه سدى، ناداه ثانيا وثالثا فكأنه ينادي شخصا من الرخام، فدنا الملك منه وجثا عند رأسه وصرخ في أذنه كمن يصرخ في واد مناديا رفيقا تاه فيه، فما حرك بالادان شفتيه بكلمة أو بإشارة.
نبوخذنصر سيد بابل وآشور يخر راكعا أمام هذا العبد المجرم ليسمعه كلمات فيها وحدها القصاص الأكبر، نبوخذنصر ينادي بالادان وقد جثا أمامه ليسمعه الصوت الذي همسه في أذن الآلهة، وليريه القلب الذي حجبته أفانين الانتقام. أوترتاب بقوة الآلهة أيها الملك العظيم؟ إن الآلهة - على ما يظهر - أعظم منك وأطغى، وإن لهم على ما يظهر يدا عاملة قاهرة في سموم تفلاط الغربية.
أجل، أيها الملك العظيم، إن بالادان الآن أرفع منك لأنه تجرد عن الحواس التي تقيد النفس وتعذبها، إنه بعيد عن صدى صوتك، بعيد عن هول غضبك، بعيد عن ظلمات سجنك، بعيد حتى عن اليد التي ترتجف حول معصمه، الطمه بدل أن تجس النبض منه، كلمه بيدك أو بسيفك، وهو مع ذلك لا يجاوب، لا يتنازل أن يجاوب سيد بابل وآشور، هو سعيد لأنه لا يراك ولا يسمع صوتك ولا يستطيع أن يخاطبك!
بعد أن جس الملك نبض بالادان وتأكد أنه حي تعاظمت حيرته، وتفاقم وجده، فبعث يطلب وزيره الأكبر، فجاء تفلاط متأبطا ظنونه ومخاوفه وكأنه أدرك ما قد يكون لسمومه من أوابد التأثير، وما قد يجيء في تركيباته الخفية من النكبات غير المقصودة.
وقف تفلاط أمام نبوخذنصر مشتت الفكر، مضطرب البال، وعندما دنا من بالادان كلمه متجاهلا حقيقة الأمر الذي كان يتوقعه ويخشاه، ثم خاطب الملك قائلا: أيها الملك العظيم قد عصتني سمومي، وقد يكون للآلهة يد في ذلك العصيان، فتغيرت نتائج تركيباتي الخفية، أو أنها تجاوزت الحد الذي كنت أرمي إليه. أي مولاي، إن السموم التي أعطيتها هذا الشاب لتقتل فيه حاسة النظر سرت في العروق المجاورة وقتلت فيه كذلك حاسة السمع، سرت بالرغم عن علمي الواسع في ماهية ما أعطيت، وبالرغم عن الاحتياطات التي اتخذتها، وبالرغم عن العقاقير المضادة، وأخشى أن تكون سرت في عروقه كلها فتميته موتا متدرجا هادئا دون أن يشعر بشيء يذكر من العذاب.
صعق الملك، وبعد هنيهة خاطب الوزير قائلا: هل سمعتك تقول: إن بالادان سيموت موتا هادئا خاليا من العذاب؟ أهذا الذي طلبته منك؟ أهذه هي مقدرتك في مزج السموك وتركيبها؟ أهذا هو علمك في أنواعها وخاصياتها؟ يموت هذا العبد الصعلوك دون أن يشعر بشيء من الألم ويموت معه في نفس الساعة عدلي وانتقامي؟ من ذا الذي يعارض مشيئة نبوخذنصر؟ من ذا الذي حرك يدك حينما كنت تمزج سمومك الغريبة؟ من ذا الذي مزج معها خمرة الموت الهادئ؟ من ذا الذي يتجاسر ... من هو؟ من هو؟ ... تموت زبيبة لتنجو من غرامي، ويموت بالادان فينجو من انتقامي، وأنا نبوخذنصر الملك أتحرق في غضبي، وأشتعل في هيامي؟! لا والآلهة، فإما أنك خائن، وإما أنك جاهل، وفي كلتا الحالتين إنك لأثيم. - بحلمك أيها الملك العظيم، لك أن تقول ما شئت عن ضعف وزيرك وجهله، أما الخيانة - آه يا مولاي! - أتظن أن عبدك يدنس بالخيانة حياته؟ أيشوب بالخيانة شيبه؟ أيبيع ماضيه الباهر الطاهر لفلاح حقير مجرم؟ إني أعترف أمامك وأمام الآلهة بجهلي. نعم، إن جهلي أكثر جدا من علمي، وإن في الطبيعة أسرارا لا يدركها غير الآلهة. كان يخامرني في الماضي شيء من الريب بجهلي، وأما الآن فلا أرتاب إلا بعلمي. نعم، إن للآلهة وحدها كل القوة، وكل المجد، وكل العلم، ويظهر يا مولاي أن نواميس الكون لا تخدم مشيئة الملوك، فها إني أحاول خدمة هواك فترتجف فوق السموم يدي، فهل أنا الملوم؟ إذا أغمضت الآلهة جفن الفيلسوف وأغلقت دونه أسرار نواميسها، أفيعد الفيلسوف مجرما، وهل يقاص على ما يظن ويفترض توصلا إلى غرضه الذي هو غرض مليكه؟ خفف عنك يا مولاي، ووطد بالآلهة إيمانك، فلعل خلاصي وخلاصك في موت هذا المسكين على هذه الحال. - كفى، كفى. إليك عني أيها الخبيث! إليك عني واعلم أني آذن لك بخمسة أيام لتخرج من بابل؛ فإذا لم تخرج قبل انبثاق الفجر في اليوم السادس تظل أسيرا فيها بقية حياتك. - لا بأس بذلك يا مولاي، فالآلهة تدخل حتى قلوب الملوك في بعض الأحايين، فتسكن الغضب فيها، وتنير ظلمات الانتقام بأنوار الندامة، بيد أنه إذا طلبتني بعد أن تشعل الأنوار، أيها الملك العظيم، فلا تجدني.
قال هذا وخرج مسرعا، أما نبوخذنصر فظل يمشي في القاعة مطرقا، ثم وقف فجأة متنبها كأنه أوحي إليه بشيء يسر، وقد رأى بالادان يحرك رأسه ويشير بيده، فخطر له أن يكلمه بالإشارة، ونسي أنه ضرير، ثم دنا من المضجع ليحدق النظر بفريسته، فإذا بالضياء قد استحال ظلاما.
Неизвестная страница