راح تائها في أسواق المدينة كمركب لا شراع له تتقاذفه الرياح، وقف على منعطف الشارع فشاهد الأرتال تمر أمامه كأنها أشباح وكأن ضجيجها أصوات العفاريت، رفع رأسه وإذا بالساعة في الكنيسة تعلن الثانية بعد نصف الليل.
أيعود إلى غرفته؟ أيلجأ إلى وحشة الوحدة وظلامها؟ أيداوي نفسه ببلسم الرقاد؟ لا، لا، رصاصة تسرع به إلى الجحيم خير من هذا.
والحقيقة أنه استحب الموت ومر في قلبه خاطر الانتحار مرور السحاب، فظل برهة أسير هواجس مريعة تتجاذبه نزعات أثيمة لا تخلو من قصد شريف، على أن قصده الشريف كان كغنمة بين ذئاب كاسرة، أو كملاك بين زمرة من شياطين أفكاره.
لبط الأرض برجله واللعنة تخرج من فمه، وشياطينه تومئ إليه أن اتبعنا ، تبعها صاغرا فنزل الدرج إلى سكة الحديد تحت الأرض وركب القطار السريع الذي يخترق قلب المدينة، بل ينساب كالحية تحت أضلاعها. وكانت نفس توفيق زيدون مثل ذاك القطار تتسارع أمواجها السوداء بين أنوار لقصد شريف صفراء ضئيلة، تبدو وتختفي كالبرق، مثلما ترقص أنوار النفق الزرقاء والحمراء، والقطار بين صفوف منها يقعقع ويضج، فتردد صداه الألوف من عمد الحديد القائمة تحت قصور المدينة.
نزل في محطة وسط البلد واجتاز بضعة شوارع ثم وقف عند باب في أحدها يقرع الجرس.
أطلت بعد هنيهة فتاة من الشباك تسأل: من الطارق؟ فهمس توفيق باسمه، فراحت متأففة تكبس زرا يفتح الباب ولم تلبس غير قميص النوم لتستقبل صديقها.
ما سلم توفيق حين دخل المنزل، بل سار توا إلى غرفة فيه مفروشة بالسجاد، أثاثها يجمع بين البساطة والفخامة، ورمى بنفسه على كرسي قرب البيانو وهو لا يدري ما يقول.
أخذ الفتاة العجب فسألت قائلة: ما بالك تجيئني هذه الساعة؟ - لأنني ...
ووقف يشعل سيكارة. - ماذا جرى يا عزيزي؟ هل أنت مريض؟ - بل يائس من الحياة. - أطلعني على شيء جديد من أحوالك. - سقطت أسعار الأسهم اليوم فخسرت كل مالي.
فقالت لوسيل باسمة وهي لم تزل واقفة أمامه في سربالها الشفاف: جئت تمزح إذن. - ليس وقت مزاح. - وما علمي يا عزيزي توفيق أنك ذو ثروة! - ثروة؟ ثروة؟ إن مائة دولار عند مثلي ثروة كبيرة، فقد تجلب المائة دولار ألوفا من الدولارات. - وقد تجلب ...
Неизвестная страница