وكان احتلال الانجليز للقاهرة قد صعق الشعب وجمد إحساسه، كأنه قد ارتضى الهزيمة يأسا؛ ومن هنا التفسير لرواج الإشاعات التي أشاعها أعداء الشعب بأن عرابي كان خائنا. وصحيح أن جمهور الشعب لم يصدق هذه الإشاعات، ولكن إلحاح الطبقة الحاكمة من الأتراك والشركس على ترويجها جعلها مستساغة عند بعض الوطنيين الذين تساءلوا عقب الهزيمة عن مقدار الحكمة في رجال الثورة، ومن هنا اجتراء الشاعر شوقي عل ذم عرابي ومدح الخديو توفيق، وإن يكن هذا الشاعر نفسه قد عاد، في الطبعة الثانية لديوانه فخذف أبيات السباب التي سب بها عرابي. وذلك بضغط الرأي العام.
وفي هذه الحال تعين على الصحفيين المصريين، عبد الله نديم ومصطفى كامل وعلي يوسف، أن يعيدوا الثقة إلى الشعب ، وأن يحملوه على استئناف الكفاح ليس ضد الخديو فقط بل ضد الإنجليز أيضا، وسبيل ذلك المقالة.
وازدادت قيمة المقالة في ثورة 1919؛ فإن جميع جرائدنا وقتئذ كانت جرائد الدعوة الوطنية لا أكثر، ولم نكن نشتري الصحيفة كي نقرأ خبرا بقد ما نشتريها كي نقرأ مقالا لأحد الكتاب، الا إذا كان هذا الخبر خاصا بالثورة.
كان الصحفي الفذ في 1919 وما قبلها هو كاتب المقالة، في حين أن الصحفي الفذ في 1958 هو راوي الخبر، وكانت الصحيفة المصرية إلى 1919 تفتتح صفحتها الأولى بمقال وطني في حين هي في 1958 ترصد هذه الصفحة للأخبار الداخلية والخارجية.
ثم هناك سبب آخر لإيثار المقال على الخبر في صحفنا القديمة؛ ذلك أن قدرتها المالية وإمكانياتها الفنية المطبعية كانت صغيرة، فقد كان القراء قليلين لقلة المدارس، وكانت الأمية فاشية تعم نحو 90 في المئة من أفراد الشعب أو أكثر؛ لأن الاستعمار كان يحرص على ألا يفشي التعليم بيننا حتى لا يؤدي إلى وعي وطني ينقلب إلى عداء شعبي عام للمستعمرين، وحسب القارئ أن يعرف أن وزارة «المعارف» لم تنشئ مدرسة ثانوية للبنات إلا سنة 1925.
ولما كانت صحيفة الخبر تتكلف من النفقات نحو خمسين بل مئة ضعف ما تتكلفه صحيفة المقالة، فإن الصحف القديمة قبل انتشار التعليم كانت صحفا فقيرة لا تجد العدد الكبير من القراء الذين يمكنونها من الإنفاق بسخاء على جميع الأخبار؛ فكانت لذلك صحف المقالات هي الصحف العامة.
ولكن ثورة 1919 أوجدت وعيا صحفيا جديدا لاهتمام الشعب بحركة الاستقلال وما تخللها من حوادث القمع والحبس والنفي والإعدام التي قام بها الإنجليز، وكانت هذه الحوادث أخبارا تواليها الصحف بالعناية وتنشر تفاصيلها يوما بعد يوم، وتخلل هذه الحوادث دسائس قام بها القصر لتحطيم الحياة النيابية البازغة بمؤازرة الكتاب المارقين، ومع أن هؤلاء الكتاب كانوا متخصصين في المقالات فإن للتقزز العام ويقظة الشعب احتاج كلاهما إلى صحف جديدة للأخبار تغدو تلهف القراء على الجديد في الحركة الوطنية.
وظهر حوالي 1925 نوع جديد من المقالات، ذلك أننا كنا نقرأ المقالة قبل ذلك فنجد تحمسا وتنبيها يشبه إلى حد كبير مقالات مصطفى كامل ، وكانت اللهجة الخطابية تغلب عليها؛ إذ كان الكاتب يخاطب عواطفنا كي يلهب إحساسنا لمكافحة الاستعمار وتحقيق الدستور، ولكننا شرعنا حوالي هذا التاريخ نقرأ المقالة الخبرية أو الخبر المقالي.
وكان بطل هذا الابتداع محمد التابعي الذي أستطيع أن أصفه بأنه أبو الصحافة المصرية الحديثة بكل ما فيها من ميزات وعيوب؛ ذلك أنه شرع في مجلة «روز اليوسف»، ثم بعد ذلك مجلة «آخر ساعة»، يجذب أكبر عدد من القراء بنشر التفاصيل المغرية عن المسرح والطبقة العليا من الشعب، أو ما يسمى المجتمع الراقي، ثم انتقل من هذه الموضوعات إلى الأخبار السياسية التي لم يكن ينشرها أخبارا وإنما مقالات مفصلة، وبهذه الطريقة ربط بين الشعب وبين السياسة وأوجد المقال الخبري بدلا من المقال الخطابي، وعاونه على ذلك التقدم الفني في الطبع.
ذلك أن المقال الخطابي العاطفي الذي كنا نجده في توفيق دياب، أو المقال السياسي النقاشي الذي كنا نجده في عبد القادر حمزة، لم يكن أحدهما يحتاج إلى الصورة أو اللون، ولكن الخبر الذي يحتاج إلى الصورة الكاريكاتورية، ثم صورة الممثلة التي تتلألأ في جمالها المطبوع أو المصنوع، وإتقان الطبع والإخراج بالآلات المطبعية الحديثة، كل هذا قد رفع من شأن الصحف الخبرية وجعل لها المقام المفضل على الصحف المقالية، وهنا ظهرت طائفة الصحفيين المخبرين.
Неизвестная страница