ولما تكن الروم قد ذاقت بأس خالد، لذلك غاظهم أن يقيم جيش المسلمين في وجوههم وأن يطيل المقام، وثارت في عروقهم حمية أذكاها الفرس والعرب الذين ذاقوا من نكال خالد أهوالا، فقد كان للفرس كتائب قريبة من الفراض، وأهل البادية من تغلب والتمر وإياد منتشرون في كان مكان؛ هؤلاء وأولئك انضموا للروم وحرضوهم وأمدوهم، فساروا حتى إذا لم يبق إلا الماء بينهم وبين خالد بعثوا إليه يقولون: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، قال خالد: بل اعبروا إلينا وفيما يعبرون صف صفوفه ودبر خطته، وقالت الروم لحلفائهم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما يكون من حسن أو قبيح من أينا يجيء، والتقى الجمعان وقد أمر خالد رجاله أن يلحوا عليهم ولا يرفهوا عنهم؛ فكان صاحب الخيل يحشر منهم الزمر برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، على أن قوات الروم وحلفائهم تؤذن بالمعركة أن تطول؛ لذا أبدع خالد ألوانا من المداورة في القيادة لم يعهدها أعداؤه من قبل فلم يثبتوا لها، وانكشف الروم وحلفاؤهم مدبرين والمسلمون من ورائهم يمعنون فيهم قتلا، وبلغ من ذلك أن قتل بالفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف في رواية جميع المؤرخين.
أقام خالد على الفراض بعد الموقعة عشرة أيام، ثم أذن في الناس بالرجوع إلى الحيرة، وكان أذانه ذاك لخمس بقين من ذي القعدة من السنة الثانية عشرة للهجرة.
ترى أيعود خالد مع الجيش يستقر بالعاصمة الجديدة؟!
إن عليه لله دينا يجب قبل كل شيء أداؤه، وهو قد شعر بعد الفراض بجلال هذا الدين وبأنه لم يعد في وسعه إرجاؤه، لقد فتح الله عليه اليمامة، ثم فتح عليه العراق، وأدال له من دولة كسرى، وبشره في الفراض بإدالة الروم ودولتهم، فلله الحمد على ذلك كله ألف حمد، جل ثناؤه، وتباركت أسماؤه! ترى أويكفي الحمد ويجزئ الثناء عما أنعم الله به عليه؟ أوليس فرضا لله عليه أن يحج بيته، يزيده تبارك وتعالى حمدا وشكرا، ويستغفره عما فرط منه، إنه هو الغفور الرحيم!!
وتجسم الشعور بهذا الواجب في نفس خالد بعد موقعة الفراض، وجعل يزداد في العشرة الأيام التي قضاها بها، ثم صار قوة قاهرة لا فكاك له منها ولا سلطان له عليها، بل صار أمامها أضعف من جيش الروم ومن جيش الفرس أمامه، لم يغب عنه ما يهيئ بعده عن العراق من فرص للفرس يحركون أثناءها أسباب الفتنة ويشجعون بها عوامل الانتفاض والثورة، ذلك أمر يجب لا ريب اتقاؤه لكنه لن يرده بحال عن عزمه، ولن يصرف عن أن يؤدي لله دينه، ولا سبيل إلى اتقاء هذا الأمر إلى أن يحج خالد وأن يعود إلى العراق، ثم لا يعلم بذلك أحد إلا أصفياؤه الذين يخرجون معه، لكن! أليس واجبا عليه أن يبلغ الخليفة وأن يتلقى أوامره! فإن أبى عليه الخروج كان له عند الله عذره، وهبه أجازه ثم حدث ما يخشى وانتفض العراق فأي خير للإسلام في أن يعود بعد حجه يجاهد كما جاهد بعد دومة! وإن لم يجزه الخليفة لم يسترح ضميره لنكوله، ليس له إذن إلا أن يمضي في عزمه وأن يتم حجه في سر من أبي بكر ومن الناس جميعا وإنه لواثق أن الصديق سيلتمس له عن صنيعه عذرا، وأن الله سيكتب له بحجه أجرا.
أمر خالد الجيش إذن أن يعود إلى الحيرة متمهلا وأظهر أنه في الساقة ، وخرج في نفر من أصحابه ينهب الأرض إلى مكة، متخذا أكثر الطرق استقامة وإن كان أشدها وعورة، ومتى صده الوعر عن شيء؟ ولم يحتج في سلوك هذا الطريق إلى دليل يهديه، وما حاجته إلى دليل وهو من أبناء مكة يعرف ما يعرفون من طرق بلاد العرب لتجارتهم، وهو قائد جاب أرجاء البادية جميعا وعرف أوديتها وكثبانها، سهولها ونجودها! وبلغ مكة وأتم فرائض الحج وأدى لله دينه؛ ثم عاد أدراجه لم يعلم بمقدمه إلى مكة أحد من الألوف الذين قدموا إليها، ولم يعلم به أبو بكر، وفي رواية أنه كان بمكة على الحج في ذلك العام.
عاد أدراجه ينهب الأرض إلى الحيرة في ذلك الطريق الوعر، كما نهبها من قبل إلى مكة، ودخل الحيرة حين دخول ساقة الجيش من الفراض إليها، بذلك لم يفطن إلى رحلته لأداء الفريضة أحد من فرس العراق ولا من عربه، ولم يترتب على غيبته هذه الفترة عن العراق أثر.
وأقام خالد بالحيرة مطمئنا، وكأنما خيل إليه أنه أدى كل ما عليه لله ولدين الحق من واجب، وأنه يستطيع بذلك أن يجم، ثم لعله من بعد أن يذهب إلى المدائن يفتض على كسرى عاصمته لكن للأقدار أحكاما يعجز الناس عليها وإن أوتوا من قوة الحكم وسرعته ما أوتي سيف الله، ولقد شاءت الأقدار أن يتابع خالد ما فتح الله به عليه في الفراض، وأن يغزوا الروم في صميم ملكها، كما غزا فارس في صميم ملكها.
10
قيل: إن عمر هو الذي كان على الحج حين ذهب خالد إلى مكة، وإن أبا بكر لم يرأس الحج في خلافته، والمؤرخون يرجحون أن أبا بكر هو الذي كان على حج ذلك العام وأيما الروايتين صحت فإن أبا بكر لم يعرف بحج قائده الأكبر إلا بعد أن رجع الناس جميعا من الفريضة وبعد أن استقر خالد بالحيرة، أفغضب الخليفة لخروج خالد من غير إذنه؟ وهل ترك هذا الغضب موجدة في نفس الصديق عليه؟ ذلك ما سنراه بعد حين.
Неизвестная страница