واتصل نبأ ما يجري ببلاط ذي الخمار بمن بقي من المسلمين باليمن أو على مقربة منها، وذكروا رسالة النبي لهم، فأرسلوا إلى قيس وأصحابه أنهم وإياهم على رأي واحد في أمر الأسود، وعرف المسلمون الذين أقاموا بنجران وبغيرها من تلك الأنحاء سرا من هذه الأنباء، فكتبوا إلى زملائهم القريبين من الأسود أنهم ورجالهم طوع أمرهم في قتاله، واستمهلهم زملاؤهم وطلبوا إليهم أن يلزموا أماكنهم، وألا يقوموا بأمر يدعو لريبة فيهم أو ينبه أصحاب الأسود لهم.
وإنما كان ذلك رأي المقيمين على مقربة من الأسود؛ لأنهم رأوا أخذه غيلة أدنى إلى النجاح من محاربته، فقد دخلت آزاد زوجه في مؤامرتهم وإن تظاهرت له بالحب أعظم الحب، وطوع لها اتصالها بفيروز وداذويه وقيس أن تدبر وإياهم أمر اغتياله، دلتهم على حجرة نومه، وأظهرتهم على أن القصر الذي تقيم به معه حوله الحرس من كل ناحية إلا من خلف هذه الحجرة؛ فلينقبوها إذا كان الليل، وليدخلوا من النقب، وليقتلوا غريمهم؛ فإن يفعلوا فقد تخلصوا وخلصوها منه.
وقد فعلوا، فلما كان الفجر تنادوا بشعارهم الذي اتفقوا مع أصحابهم عليه، ثم نادوا بأذان الإسلام وقالوا: نشهد أن محمدا رسول الله، وأن عبهلة - وهو اسم الأسود العنسي - كذاب، وألقوا إليهم رأسه، وأحاط بهم حرس القصر، وتنادى الناس في المدينة فخرجوا في عماية الصبح، واضطرب الأمر، ثم استقر على أن يتولاه قيس وفيروز وداذويه، وكان لآزاد في استقراره كما كان لها في اضطرابه من قبل أكبر الأثر.
أفقتل العنسي قبل موت الرسول أم بعده؟ ذلك ما اختلف فيه، وقد ذكرنا رواية اليعقوبي من قبل، أما الطبري وابن الأثير فيذكران أنه مات قبل أن اختار رسول الله الرفيق الأعلى، وأنه
صلى الله عليه وسلم
أوحي ذلك إليه ليلة حدوثه فقال: «قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين.» قيل من قتله؟ قال: «قتله فيروز.»
والرواية الأخرى تذهب إلى أن موت العنسي لم يصل النبأ به إلى المدينة إلا بعد أن قبض رسول الله، وأنه كان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة، وتجري الرواية بأن فيروز قال: «لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان، وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود، ثم جاء موت النبي فانتقضت الأمور واضطربت الأرض.»
كيف اضطربت، ولماذا اضطربت؟ تفصيل ذلك لا يدخل في نطاق هذا الفصل، وحسبنا ما أجملنا عنه في أوله، وسنتناول حوادثه في موضعها من جهاد أبي بكر أهل الردة.
وإنما أفضنا في حديث عبهلة وثورته بالمسلمين في اليمن لتواتر الروايات بأنه قام بهذه الثورة في عهد الرسول، فأما ما كان من أمر اليمن على عهد أبي بكر فيتخطى العنسي وثورته ومقتله، ويتناول ما تم بعد ذلك من أحداث نفصلها في موضعها.
كانت ثورة اليمن هذه أعنف مظاهر الانتقاض على الدين الجديد في بلاد العرب حين وفاة النبي، لكن اليمامة وما حاذى الخليج الفارسي من القبائل قد كان يتلظى بنذر الثورة في هذا العهد كذلك، فكان المسلمون فيه على حذر، يلجئون إلى المصانعة حينا وإلى البطش حينا آخر، ليظل سلطانهم قائما وكلمتهم مسموعة، ولا عجب أن يكون ذلك أمر حواضر واد تبعد عن منزل الوحي بمكة والمدينة، وتتصل بالفرس وتبادلهم التجارة وتقر لهم بتفوق الحضارة، بل لا عجب أن تكون للفرس يد خفية في تحريك هذه الحواضر والبوادي لتنتقض على الدين الجديد والسلطان الناشئ.
Неизвестная страница