والتفت أسيد بن حضير زعيم الأوس إلى قومه وهم ينظرون إلى ما صنع بشير بن سعد وقال لهم: «والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، قوموا فبايعوا أبا بكر!» وقام الأوس فبايعوا أبا بكر، ثم قام من الخزرج من اطمأنوا إلى كلام بشير يبايعون مسرعين، حتى ضاق بهم المكان من السقيفة، وكاد الناس في تكاثرهم على البيعة يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعد لا تطئوه. قال عمر: اقتلوه قتله الله! ووجه إلى سعد كلاما عنيفا، فقال له أبو بكر: «مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ.» وحمل سعدا أصحابه فأدخلوه داره حيث بقي أياما ثم قيل له: «أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك.» وأبى سعد أن يبايع وقال: «وأما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل!» فلما اتصل هذا الحديث بأبي بكر قال له عمر: «لا تدعه حتى يبايع.» وخالف بشير رأي عمر فقال: «إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه؛ فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد.»
وسمع أبو بكر إلى رأي بشير وأجازه، وتركوا سعدا؛ فكان لا يصلي بصلاتهم، ويحج ولا يفيض بإفاضتهم، وأقام على ذلك حتى مات أبو بكر.
تمت بيعة أبي بكر بالسقيفة وجثمان النبي لا يزال في بيته من حوله أهله: علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب ومن اشترك معهم في جهازه، وعلى مقربة منهم في المسجد طائفة من المهاجرين، وتمت هذه البيعة كما رأيت في أحوال جعلت بعض الرواة ينسب إلى عمر بن الخطاب أنه قال: إنها كانت فلتة. فأما غير هؤلاء الرواة فيرى أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ذهبوا على اتفاق بينهم أن يكون الأمر لأبي بكر، وأيما هاتين الروايتين صحت فالذي لا مرية فيه أن ما تم في السقيفة قد وقى الإسلام الناشئ فتنة ليس يعلم إلا الله ما كان يحدث فيها، وقد مهد للقضاء على كل خلاف بين المسلمين، كما مهد للسياسة التي رسمها الرسول أن تنجح النجاح الذي مهد للإمبراطورية الإسلامية من بعد، والذي أذاع دين الله بفضل منه جل شأنه في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن يوم السقيفة لم يبق للأنصار في ولاية أمر المسلمين مطمع أو مأرب، فقد كانت بيعة عمر بن الخطاب ثم بيعة عثمان بن عفان، ثم كان الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن للأنصار من ذلك كله إلا نصيب سائر العرب، وكأنما آمنوا بما قال أبو بكر من أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، بل كفاهم من بعد ذلك أن عاشوا في كنف المهاجرين مطمئنين إلى وصية رسول الله في مرضه الأخير حين قال: «يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد؛ وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم.» •••
لم يلبث أبو بكر وسائر من كانوا بالسقيفة حين تمت البيعة أن عادوا إلى المسجد والوقت مساء والمسلمون مع ذلك يتلقفون الأنباء من بيت عائشة عن جهاز الرسول، وفي الغد من بعد ذلك اليوم جلس أبو بكر في المسجد، فقام عمر يعتذر عما تحدث به إلى المسلمين بالأمس من أن النبي لم يمت فقال: «إني قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدت في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا، إن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله كما هداه به، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» فبايع الناس جميعا بيعة العامة بعد بيعة الخاصة بالسقيفة.
وقام أبو بكر بعد أن تمت البيعة وألقى في الناس خطابا كان أول حديث له في خلافته، ثم كان آية من آيات الحكمة وفصل الخطاب، قال (رضي الله عنه) بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد، أيها الناس! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»
أفكانت بيعة العامة هذه بيعة إجماع من المسلمين لم يتخلف عنها أحد ما تخلف سعد بن عبادة عن بيعة الخاصة بالسقيفة؟ المشهور أن طائفة من كبار المهاجرين تخلفوا عنها، وأن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب من بني هاشم كانا من المتخلفين، ذكر اليعقوبي أنه قد «تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب»، وأن أبا بكر شاور عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة في أمرهم، فأشاروا عليه أن يلقى العباس بن عبد المطلب وأن يجعل له في الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فيقع الخلاف بذلك بينه وبين ابن أخيه علي بن أبي طالب، فيكون ذلك حجة لأبي بكر وأصحابه به على علي، وقد فعل أبو بكر ما أشاروا به، وقال للعباس في حديث طويل: «ولقد جئناكم ونحن نريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب يكون لك ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله.» ورد العباس هذا العرض بعد حديث أورده اليعقوبي كذلك: «إن كان هذا الأمر لنا فلا نرضى ببعضه دون بعض.»
وفي رواية ذكرها اليعقوبي، وذكرها غيره من المؤرخين، ولا يزال لها الشهرة، أن جماعة من المهاجرين والأنصار اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في دار فاطمة بنت رسول الله يدعون إلى مبايعته، وبينهم خالد بن سعيد يقول: «فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك!» وبلغ أبا بكر وعمر اجتماعهم بدار فاطمة، فأتيا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر فصارعه فصرعه وكسر سيفه ودخلوا الدار، فخرجت فاطمة وقالت: «والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله.» فخرجوا وخرج من كان في الدار، وأقام القوم أياما ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد وفاة فاطمة، أي بعد ستة أشهر، وقيل في رواية: إنه بايع بعد أربعين يوما، ويروى أن عمر بن الخطاب جمع الحطب حول دار فاطمة وأراد أن يحرقها أو يبايع علي أبا بكر.
Неизвестная страница