وهو طبيعي كذلك في عهد نضال وحرب، حكومته أدنى إلى الحكومة العسكرية منها إلى الحكومة المدنية، فالنظم المدنية تتقلص حين الحرب وتكاد تتفانى أمام النظم العسكرية، وذلك في البلاد التي استوت النظم المدنية فيها أمدا طويلا وأجيالا متعاقبة، ما بالك وبلاد العرب لم يستقر فيها نظام مدني ثابت موحد قبل الإسلام! لا جرم في هذه الحال أن تطغى نظم الحرب والجهاد متسلطة على كل النظم، وأن تتأثر الحياة المدنية بتطورات الحرب أبلغ التأثر.
فإذا ذكرت أن هذه الحرب كانت حربا أهلية في العام الأول من حكم أبي بكر، وأنها كانت قائمة من أجل الحكم ونظامه، ثم ذكرت أن مواجهة الفرس في العراق بدأت والحرب الأهلية ما تزال قائمة، وأن مواجهة الروم في الشام كانت وحرب العراق في أدق أدوراها، أيقنت أن التفكير في تنظيم حكم مستقر واضح التفاصيل لم يكن أمرا ميسورا، وأن أبا بكر كان في شغل بمواجهة الأسدين فارس والروم عن كل أمر سوى ما يحقق للمسلمين اجتماع الكلمة فيما بينهم والظفر بعدو الله وعدوهم.
وكان نظام هذه الحكومة العسكرية أدنى إلى البداوة التي سادت بلاد العرب وقبائلها من قبل عهد الرسول. لم يكن هناك جيش نظامي، بل كانت الفروسية تجعل من كل عربي جنديا، فإذا دقت طبول الحرب، ونادى المنادي للقتال خرجت القبائل والقرى وعلى رأس كل جماعة زعيمها، وقد رأيت كيف خرج العرب من أهل الجنوب حين دعوا لقتال الروم في الشام ومعهم نساؤهم وأبناؤهم، ومعهم ميرتهم وذخيرتهم، لا يكلفون الحكومة المركزية شيئا، ويعتمدون في معاشهم على ما يغنمون في الحرب.
فقد كانوا ينفلون أربعة أخماس الغنائم حين الحرب، ويرسل الخمس إلى الخليفة ليرده على بيت المال، ولينظم به الشئون العامة القليلة التي يتولاها بصورة مباشرة، وكانت رعاية الفقراء من أهل المدينة ومن الوافدين عليها في مقدمة ما ينفق الخليفة هذا الخمس فيه، وكان أبو بكر حريصا على أن يوزع الغنائم على هؤلاء وعلى كل ذي حق في بيت المال أول ما ترد إليه، لذلك كان بيت مال المسلمين في بيته بالسنح، فلما انتقل إلى المدينة نقله معه، وقيل له في ذلك وطلب بعضهم إليه أن يجعل عليه حراسا وخزنة فأبى؛ لأنه لم يكن يحتفظ فيه بما يستوجب الحراسة، ولم يكن يختزن ما يخشى عليه عدوان المعتدين.
فهذه الصورة من حكومة أبي بكر تشهد بأنها كانت أدنى إلى بساطة البداوة، وأنها كانت عربية صرفة، لم تتأثر في قليل ولا كثير بالنظم التي كانت قائمة ذلك العصر في بلاد الروم أو في بلاد فارس، وهي مع هذه البساطة الحلقة القوية التي ربطت بين عهد الرسالة وعهد الإمبراطورية، واتصالها الزمني الوثيق بعهد الرسالة جعلها به أشبه، فلم يكن أبو بكر يصنع شيئا كان رسول الله يدعه، ولم يكن يدع شيئا كان رسول الله يصنعه، لكنه لم يجمد مع ذلك جمود المقلدين، بل فتح له تأسيه برسول الله باب الاجتهاد في سياسة المسلمين واسعا، فهداه اجتهاده إلى أن فتح الله له العراق والشام، ثم مهد لحكومة العرب الموحدة أن تقوم من بعده على أساس من الشورى في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، لم يتزمت في أمر ولم يفرط ، وإنما اهتدى بنور الله لمصلحة عباد الله، فكان أكثر ما هداه الصراط المستقيم إيمانه بأنه محاسب أمام الله، كما أنه محاسب أمام عباده، والله شديد الحساب.
مرت الحكومة الإسلامية من بعد أبي بكر في أطوار شتى، فقد بدأ ابن الخطاب ينشئ الديوان في عهده متخذا من نظام الحكم في فارس وفي الروم مثالا ينسج عليه مع اعتصامه بكتاب الله وحدوده، ثم دنا عهد عثمان من الحكم المطلق دنوا لا يتفق وتقاليد العرب؛ فكان ذلك مقدمة الثورة التي انتهت إلى مقتله، وانقلبت إمارة المؤمنين في عهد الأمويين ملكا عضودا، يتوارثه أهل البيت المالك، وكذلك كان الأمر في عهد العباسيين، وفي أثناء هذه الأطوار كانت ليد الأعاجم من الفرس والروم أثر، لعله كان خفيا في عهد عمر وعثمان، ثم بدأ يظهر واضحا بعض الشيء في عهد الأمويين، ليتجلى من بعد ذلك صريحا كل الصراحة في عهد بني العباس.
وفي هذه الأثناء كان علماء المسلمين، وجلهم من الأعاجم، يضعون لنظام الحكم القواعد والتفاصيل يردونها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وكان الخلاف يقع بين هؤلاء العلماء على هذا النظام، فتقوم الثورات بسببه فتطيح بالحاكم حينا، وتقمع بيد البأس والبطش فيستقر الأمر لصاحب السلطان حينا آخر، ما أعظم الفرق بين حكومة أبي بكر في بساطتها العربية المتأثرة بحياة البادية، وبين هذه الحكومات الأموية والعباسية التي وجدت من العلماء والفقهاء من شرع لها النظم المفصلة، والقواعد المترامية الأطراف!
كان إيمان أبي بكر بأنه محاسب أمام الله وأمام الناس هو الذي هداه سبيله، وخشية هذا الحساب جعلته لا يقدم على أمر ولا يحجم عنه، حتى يشاور ويروئ في المشورة ويستخير الله، فإذا خار له صح عزمه، فكان الحزم الذي لا يعرف التردد ولا الهوادة، لا يعرض عليه أمر المسلمين حتى يحسمه برأي قاطع.
وقد رأيت ما كان من ذلك طيلة عهده، ثم رأيته كيف استمع في مرضه للمثنى الشيباني حين جاء إليه من العراق يشير باستعمال الذين عادوا إلى الإسلام بعد ردتهم في حرب فارس، وكيف أوصى عمر أن يمد المثنى بهؤلاء ليسيروا إلى الميدان معه، وفي هذا المرض كان الصديق أكثر ما يكون في أمور المسلمين تفكيرا، وأشد ما يكون على وحدتهم حرصا، وأعظم ما يكون من خلافهم إشفاقا، لذلك أوصى، فكانت وصيته آخر عمل له في الحكم لخير الإسلام ولخير المسلمين.
الفصل الثامن عشر
Неизвестная страница