والكلام والفكر النظري قرينان؛ فلم يكن السيد الكريم المحتد من أهل يونان القديمة يرضى لنفسه قط أن يعمل بيده. وكانت علامة الشرف أن تكون من أصحاب الفكر الذي لا يقتضي حركة، بل لا يقتضي جسدا على الإطلاق. ولعل هذه التفرقة الواضحة بين الفكر والعمل فرع عن مفاضلة الناس بين الروح والبدن؛ فالروح (أو العقل) وما يتفرع عنه من فكر أو عقيدة أسمى منزلة وأطهر وأنقى من البدن وما يتعلق به. كان الفرض دائما أن الروح شريفة بالقياس إلى البدن الوضيع، وكان الفرض دائما أنه لولا هذا البدن الشهواني النجس؛ لارتفع الروح إلى معارج السماء ... فلزم من ذلك كله أن يكون المفكر بعقله أسمى مقاما وأرفع مكانا من العامل بجسده؛ فأين أين الزارع الذي يفلح الأرض ممن يبرهن بعقله أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية مساو لمجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين؟!
ثم بالغ أهل اليونان القديمة في هذا الاتجاه حتى أسرفوا فيه إسرافا يستوقف النظر ويستثير العجب، فما كل علم عندهم بمنزلة سواء؛ بل تتفاوت العلوم نفسها قيمة بمقدار ما تبعد عن كل ما يتصل بحركة الجسد في أثناء بحثها. ومن هنا كانت الرياضة عندهم أفضل العلوم إطلاقا، ولذلك تقدموا في ميدانها خطوات فسيحة، بل كاد المفكر عندهم والمشتغل بالعلوم الرياضية يكونان شيئا واحدا، فلا فكر إلا الرياضة. وحتى إن فكر الرجل في غير الرياضة؛ فلا بد أن تكون الدقة الرياضية في عمله هي مقياس نجاحه في تفكيره.
وكان لليونان القدماء باع كذلك في الفلك؛ لأن ملاحظة النجوم والتفكير في مسالكها لا يستدعيان منك أن تحرك الجسد أو أن تستعين به ... أما الكيمياء - مثلا - فقد كان حظها عندهم ضئيلا هزيلا؛ لأنها تقتضي شيئا من العمل باليدين، والعمل اليدوي من شأن العبيد!
وإنه لمما يذكر في هذا الصدد أن أرشميدس الذي نعرفه اليوم بنظريته عن الأجسام الطافية في الماء، كان قد مهر في الميكانيكا، وكان ابن عمه أميرا على «سرقصة»، فلما هاجم الرومان بلاده؛ استعان بابن عمه العالم في اختراع آلات حربية تساعده على حماية ملكه من الأعداء المهاجمين. فتلاحظ أن «فلوطرخس» المؤرخ اليوناني، وهو يؤرخ لأرشميدس، يعتذر عن اشتغاله بصناعة الآلات؛ لأنه يشعر أن مثل هذه الصناعة لم تكن تليق بمثل ذلك الأمير الشريف، فتراه يلتمس له العذر في ذلك على أساس أنه اضطر لمعونة ابن عمه الملك ساعة الخطر، فليس بعجيب بعد هذا أن يتصدى فيلسوف اليونان «أفلاطون» لرسم معالم الدولة المثلى، فإذا الدولة المثلى عنده أن يكون الزراع والصناع في أسفل القاع من البناء، وأن يكون في قمة الحكم فيلسوف! لماذا؟ لأن الزراع والصناع عاملون منتجون، ولا يعمل بيده في سبيل الإنتاج إلا الرجل من طبقة العبيد، أو من يهبط في إدراكه العقلي هبوطا لا يفسح له مجالا بين أولي الأمر في الدولة، ولأن الفيلسوف من جهة أخرى هو وحده الذي يستطيع أن «يسبح» في ملكوت الله و«يشطح» في تأملاته النظرية. وهذا وذاك من شأن الروح والعقل، لا يتصلان بالجسد بأي سبب من الأسباب.
ويتقدم الزمان بالإنسانية - يا صديقي - شوطا بعد شوط، فلا تغير من قديمها إلا بمقدار ضئيل لا تكاد تدركه الأبصار، كأنما أصرت ألا تغير من نفسها شيئا إلا بثورة ترجها رجا. فها أنت ذا ترى أعقاب القديم ما زالت عالقة في أذهاننا، رغم تغير الظروف كلها. وانقلاب الأوضاع كلها - على حد تعبيرك أنت - لا نزال نؤمن في أعماق نفوسنا أن صاحب الدراسة النظرية خير مقاما ممن يعمل بساعديه؛ فالمدرسة الثانوية النظرية لا تزال أرفع منزلة من مدرسة تعلم الصناعة والزراعة بحيث لا يلجأ إلى هذه إلا من فشل في تلك، وبحيث يعدها الناشئ من الأسرة الكريمة سبة كبرى لحقت به وبأهله وذوي قرابته، أن يكون واحدا من هؤلاء، لا من أولئك.
فمن البشائر بالخير أن ترى الأوضاع في طريقها إلى الانقلاب؛ فالخطة التعليمية الجديدة في العالم المتمدن كله - والحمد لله أن نرى مصر ها هنا قد لحقت بالركب غير مبطئة - تعمل على التسوية التامة بين ضروب المهارة على اختلاف أنواعها، فما ينبغي لك يا صديقي أن تزهى بمهارتك في الكلام على سائق السيارة، وقد مهر هو الآخر، لكنه مهر في «العمل».
بل ماذا أقول؟ أأقول إن من البشائر بالخير أن ترى الأوضاع قد تم بحمد الله انقلابها، فقامت في إنجلترا حكومة «العمال» لا حكومة الفلاسفة التي تمناها فيلسوف اليونان القديم؟!
مطلوب إنسان!
من الحقائق النفسية الأولية المعروفة أن الإنسان إذا شغلت باله مشغلة، كان شديد التنبه على كل ما يتصل بها من قريب أو بعيد. فانظر إلى نفسك وأنت مقبل على شراء شيء، ولنقل مثلا إنه حذاء؛ تجد أيسر المنبهات التي تتصل بما أنت بصدد شرائه كافيا لاستثارة يقظتك. وسواء أردت أو لم ترد، شعرت أو لم تشعر؛ فإن عينيك ستتجهان إلى أحذية الناس في الطريق وإلى الأحذية معروضة في نوافذ الدكاكين، وإليها مرسومة في إعلانات الصحف.
لكن هذه الحقيقة النفسية الأولية المعروفة، وجدت تطبيقها عندي بالأمس على نحو رسم على شفتي ابتسامة؛ وذلك أني صادفت من أحداث حياتي القريبة ما دعاني إلى التفكير في أخلاق الناس، كيف تخدعك ظواهرهم مهما ظننت أنك قد بالغت من الخبرة بالحياة أمدا بعيدا. وكيف يندر أن تجد بينهم من يحترم نفسه ويحترم الآخرين بغض النظر عن ارتفاعه وانخفاضهم، فأخذت الأمر مأخذ الجد وسألت نفسي: من ذا تعده «إنسانا» بمعنى الكلمة الصحيح من بين من تعرف حتى يمكنك أن تحلل خلاله وخصاله تحليلا يكشف لك عن حقيقة «الإنسان»؟ ... وما هو إلا أن جاءني الخادم بصحيفة الصباح، فاشتغلت بقراءتها حينا، ثم شاءت المصادفة العجيبة أن تقع عيني على إعلان بها، عنوانه «مطلوب آنسات ...» فقرأته خطأ «مطلوب إنسان! ...» لسابق اشتغالي بالتفكير في صفات الإنسان الحق. وها هنا عاودت تفكيري من جديد: أحقا لا يكون بين هؤلاء الألوف من عباد الله من لا يستحق بجدارة أن يكون «إنسانا»؟!
Неизвестная страница