آه لو رزق الله هذا الإنسان المنكود قوة في خياله ليرى أشخاصا أحياء وراء الرسوم! ينظر القائد الحربي إلى الخريطة، ويضع إصبعه على نقطة سوداء، فيهمهم لنفسه أن تضرب «هذه النقطة» بالقنابل لينفسح الطريق أمام جيشه. والنقطة السوداء تحت مجهر الخيال الحي بيوت ملأى بالآباء والأمهات والأطفال والقطط والكلاب والدجاج. يا ليت النقطة السوداء على الخريطة تطن بكل ما يملأ منازلها وشوارعها من أصوات الأحياء؛ لعل القائد الحربي يتردد لحظة قبل أن يقرر ضربها بقنابله.
وكذلك هذه الأرقام التي نضعها على أوراقنا آخر العام، فنحنط فيها جثث الشباب! أعمروا هذه الأرقام بخيالكم لتشهدوا وراءها أبناءنا كائنات حية متنفسة نابضة القلوب، فتروا في أي قفر من الوجدان يحيون، وفي أي جو من الجوع النفسي يتنفسون، قبل أن تجلسوا إلى موائدكم آخر العام، وفي أيديكم الأقلام مشرعة كالأسنة المسمومة، فيملي المملي ويكتب الكاتبون: «7 ضعيف.»
قلوب
جاء في الأنباء العلمية أن طائفة من العلماء الروس قد لبثت تجاهد - حتى أفلحت - في نقل الأعضاء من حيوان إلى حيوان، فإذا الأعضاء المنقولة تفعل فعلها في صاحبها الجديد، على نحو ما كانت تفعله في الصاحب القديم.
فهذا هو العالم «مازيف» يحدثنا عن نقل الساق من كلب إلى كلب، فما هو إلا أن يمشي الكلب بساقه الجديدة ويجرى ويقفز، كأن الساق كانت ساقه منذ ولد. وليس ذلك شيئا مذكورا إلى جانب ما وفق إليه العالم الأستاذ «دميكيوف» في نقل الرئتين من حيوان إلى آخر، ثم ما استطاعه أخيرا الأستاذ «أوجنيف» من نقل القلوب، فيأخذ القلب من هذا ليضعه في ذاك ... وإنما جاهد هؤلاء العلماء ما جاهدوا؛ لينتفعوا بعلمهم عن الحيوان في عالم الإنسان.
وإذن فقد جاء اليوم الذي ينتقل فيه القلب من أضلع زيد لينبض في جوانح عمرو ... •••
كان «خالد» منذ أيام الشباب الأولى حاد العاطفة سريع الانفعال؛ حتى توشك ألا تراه إلا محمر العينين منتفخ العروق من غضب، وتكاد لا تسمعه إلا صائحا ملوحا بيديه وذراعيه في تحد ووعيد؛ فسماؤه عاصفة أبدا، وبحره هائج مائج أبدا.
تصادفه المشكلات فيعالجها بالغريزة لا بالعمل، وينظر إلى الحياة نظرة أقرب إلى نظرة الفنان منها إلى نظرة العالم، أعني أنه يواجه الأشياء في مجموعها ومجملها، ويكره أشد الكراهية أن تطالبه بتحليل شيء أو موقف إلى عناصره، أو تعليل نتيجة بمقدماتها. اختار زوجته لا لشيء سوى أنه قد سمعها مرة في لقاء عابر تقول كلاما لطيفا عن حوض من الزهر في حديقة. وصمم - ولو أنه لم ينفذ ما صمم عليه - أن يؤلف كتابا في موضوع معين؛ لأنه تصور العنوان فأعجبه إذا نطق به، وأعجبه رسمه إذا كتب، حتى لقد أوصى بهذا العنوان أن يكتب ويحفر، قبل أن يخط من الكتاب حرفا واحدا، ووضع «الكليشيه» في درج مكتبه؛ انتظارا لفراغه من الكتاب. فلا فرق عنده أبدا بين أن تقرأ أحرف الهجاء من الألف إلى الياء أو من الياء إلى الألف، أو أن تبدأها من الوسط ثم تسير راجعا أو متقدما، أعني أنه في ترتيبه لأموره لا يعبأ أن يجيء الأول قبل الآخر. وعنده أن الطريقة الأصح في أي أمر، هي الطريقة الأجمل، والتصرف المعقول في نظره هو التصرف الذي يرضي أهواء نفسه ونوازع قلبه.
ولما كان «خالد» مدفوعا في حياته بعواطفه، ثم لما كانت العواطف أقرب إلى التقلب منها إلى الدوام، رأيته سريع التنقل في فكره وفي فعله على السواء، فلا تكاد العاطفة تغريه بعمل ويبدأ في أدائه، حتى تعود العاطفة فتغريه بعمل آخر؛ ولذا قل أن ينجز عملا من أوله إلى آخره؛ فحياته أقرب إلى كومة من مواد البناء منها إلى البناء المشيد المرصوص، أو هي أقرب إلى قطرات المطر التي تدق النوافذ والجدران والأرض والشجر، منها إلى نهر متصل المجرى متدفق التيار، يبدأ شوطه عند منبع معروف؛ لينتهي مجراه إلى مصب معروف.
وهو قلق سريع الحركة، لا تراه مرة واحدة يستطيع الجلوس على مقعد واحد في مكان واحد ثلاث ساعات متصلة، ويقال إنه لا ينام من الليل إلا قليلا.
Неизвестная страница