إن العبيط الذي أردته - يا سيدي - بعنوان الكتاب، بل أردته بالكتاب كله، هو الذي يتلفت حوله في هذا البلد، ثم يرسل بصره المديد الحديد إلى ما وراء هذه البلاد، فإذا هو يطمئن نفسا وينعم بالا؛ لأن الله قد أراد لنا من الخلق المتين المكين ما لم يرد مثله لأهل أوربا الذين يخبطون في أدران الضلالة وأوحال المنكر والبغي!
أيسمح لي سيدي بذكر فقرة أو فقرتين مما ورد في ذلك الكتاب على لسان العبيط؛ إذ يتحدث وهو في جنته؟ قال العبيط: «أنا في جنتي الحارس للفضيلة أرعاها من كل عدوان، لا أغض الطرف عن مجانة المجان. والعالم حول جنتي يغوص إلى أذنيه في خلاعة وإفك ورذيلة ومجون. دعهم يطيروا في الهواء، ويغوصوا تحت الماء؛ فلا غناء في علم ولا خير في حياة بغير فضيلة. دعهم يحلقوا فوق رءوسنا طيرا أبابيل، ترمينا بحجارة من سجيل؛ فليس الموت في رداء الفضيلة إلا الخلود. إني والله لأشفق على هؤلاء المساكين، جارت بهم السبيل فلا دنيا ولا دين. أتدري ما معنى الفضيلة عند هؤلاء المجانين؟ معناها كل شيء إلا الفضيلة! فالنساء عندهم يخالطن الرجال، والنساء عندهم يراقصن الرجال، ثم النساء عندهم يعملن مع الرجال، وهن يقاتلن مع الرجال! أرأيت أفحش من هذا الإفك إفكا، وأقبح من هذا المجون مجونا؟! حدثني صديق أنه رأى هناك ذات يوم بعينيه، في مكان واحد من دكان واحد، قبعة وقبعا (وأراد بالقبع قبعة الرجل تمييزا للذكر من الأنثى؛ إذ لا يجوز عند أرباب الفضيلة أن يجتمع الرجال والنساء على لفظ واحد!) رآهما معروضين، لا يسترهما عن أنظار المارة إلا لوح من الزجاج، يشف للمارة عما وراءه. وأعجب العجب أن علامة واحدة من علامات الحياء والخجل، لم تبد على رجل منهم أو امرأة ... إلخ.»
هذه، يا سيدي، فقرة مما قال العبيط لنفسه؛ إذ هو يتحدث إليها في جنته. وأستأذنك في ذكر فقرة أخرى، وأقسم لك غير حانث إنني لا أريد بذلك إعلانا عن كتابي؛ فقد أنفقت عليه ما أنفقت، وأعطيته للناشر بنصف تكاليفه؛ ليضمن لي أن يباع لعله يقرأ، فينصت الناس إلى قول العبيط ... قال: «أنا في جنتي السمح الكريم، الذي ورث الجود عن آباء وجدود. فمن سواي كان أبوه يذبح الجمل والناقة ليطعم كل ذي مسغبة وفاقة؟ من سواي إلى حاتم ينتمي وبهذا العنصر الكريم يحتمي؟ وهل كانت صفات آبائي وأجدادي تذهب مع الهواء هباء، أو هي تجري في العروق مع الدماء دماء؟ ها أنا ذا أحنو على البائس عطفا وإن كنت لا أعطيه، وأذوب على المصاب أسى، وإن كنت لا أواسيه! وتبت يدا حاسد يقول إن أصحاب الحاجة عندي يستجدون ولا عطاء، والمعوزين أكفهم تنقبض على هواء. فقلب عطوف خير للفقير من قرش إنفاقه سريع، وفؤاد ذائب أبقى له من عون لا يلبث أن يضيع. إني أعوذ بالله من إنسان يفهم الإحسان بلغة القرش والمليم؛ تلك لعمري مادية طغت موجتها على العالم كله. ولولا رحمة من ربي، ورشاد من قادتي؛ لكنت اليوم في غمرتها من المغرقين! لقد أقفر العالم حول جنتي، فلا عطف ولا عاطفة، واستحالت فيه القلوب نيكلا ونحاسا. تعرفها بالرنين؛ لأنها لم تعد من لحم ودم! أهكذا يقوم كل شيء بالمال، حتى إحسان المحسن وعطاء الكريم؟! فالقرش والمليم هو معنى الإحسان في الغرب الذميم، الذي غلظت فيه الأكباد، كأنما قدت من صخر جماد. كم جامعة عنده أنشأها ثري؟ وكم دارا أعدها للفقير غني؟ كم منهم يلبي النداء إذا ما دعا الداعي بالعطاء؟ لا، بل إن هذ الغرب المنكود، ليسير إلى هاوية ليس لها من قرار؛ إذ هو يسعى إلى محو الفقر محوا ، حتى لا يكون لفضيلة الإحسان عندهم موضع! فاللهم إني أحمدك أن رضيت لي الإسلام دينا، وجعلت لي الإحسان ديدنا.»
معذرة سيدي؛ فقد أطلت لك الاقتباس من كلام العبيط، وما كان ينبغي أن أفعل ما دام العقلاء من حولنا كثيرين. لماذا نطيل الإنصات إلى هذا الأبله المجنون، والحق أبلج واضح؟ إن قبائل الغابات كلها قد أجمعت على أن الأخلاق لا تزال بخير ما دامت الفتاة بخير!
الطاغية الصغير
كتب هيجل - الفيلسوف الألماني في النصف الأول من القرن الماضي - يقول في مجرى عبارة له عن تطور الحرية: «... إن أهل الشرق لا يعرفون حتى اليوم (1840م) أن الإنسان حر لمجرد كونه إنسانا عاقلا. إنهم لا يعرفون إلا أن تكون الحرية لرجل واحد، ثم لا تكون حرية هذا الرجل الواحد إلا اندفاعه وراء نزواته ...»
وقد مضى على هذا الذي كتبه هيجل قرن أو يزيد، وتبدلت أحوال الشعوب الشرقية في كثير جدا من الجوانب والأوضاع؛ فصدرت لها الدساتير وقامت فيها مجالس النيابة، وما إليها من مظاهر الحكم الديمقراطي الذي يعترف الإنسان العاقل بحريته. ولا يقصر الحرية على رجل واحد يندفع وراء نزواته - كما يقول هيجل - لكنني رغم ذلك كله، ما كدت أقرأ لهيجل هذه العبارة، وأدير فيها الفكر، أو أديرها في الفكر بتعبير أصح، حتى تبينت صدقها إلى اليوم (1950م).
نحن أهل الشرق لا نعترف بالحرية إلا لرجل واحد من كل هيئة أو جماعة، ثم لا تكون حرية هذا الرجل الواحد إلا أهواءه ونزواته. هذا قول صادق في الأسرة المصرية الصميمة، وفي ديوان الحكومة المصري الصميم، وفي كل علاقة تنشأ بين جماعة من الأفراد كائنا ما كان شأنها ولونها.
المثل الأعلى في الأسرة المصرية الصميمة أن يكون الزوج صاحب الكلمة النافذة على زوجته، ثم أن تكون هذه الكلمة النافذة متقلبة مع أهوائه ونزواته.
فقد عرفت زوجين، أراهما يمثلان وجهة النظر المصرية تمثيلا صادقا دقيقا؛ فالزوج مستبد طاغية، والزوجة لا يطوف برأسها، ولو على سبيل الأحلام العابرة، أن تنكر على زوجها حقه في استبداده وطغيانه. كلاهما من الريف ، لكنهما أنفقا في حياة المدن أربعين عاما، وهما من الطبقة المتوسطة التي تعتقد أنها إلى أصحاب العوز أميل منها إلى ذوي اليسار.
Неизвестная страница