قلت: هالتني الفوارق بين صيد وصيد.
هذا صياد قد أخرج من شبكته سمكة واحدة ضخمة جبارة، لم يكد يراها الزملاء حتى خجلوا من صيدهم الهزيل.
وسألناه جميعا بصوت المشدوه المبهوت: كيف كان ذلك؟ فقال: حبكت شبكتي منذ البداية على هذا الأساس، فجعلت عيونها قليلة لكنها وسيعة، وكنت أعلم منذ البداية أني مغامر مخاطر مقامر. فإما عدت بغير صيد على الإطلاق، أو عدت بمثل هذا الصيد السمين؛ ذلك أن معظم السمك في البحر - كما تعلمون - متوسط الأحجام أو صغيرها، وشبكتي هذه عيونها أوسع من أن تمسك بمتوسط أو صغير.
فقال له زميل، وهو يبلع ريقه الذي جف في حلقه غيرة وحيرة: لقد ركنت إلى الحظ فواتاك! فأجابه الصياد الناجح ضاحكا مزهوا بنجاحه: ليس الأمر كله حظا مواتيا. يا صاحبي لا يحملنك الفشل على غمط الناس حقوقهم، أني حين حبكت شبكتي على نحو ما حبكتها، كنت أصدر عن روية وتفكير وإرادة وتدبير. ثم جاء أوان الصيد فتخيرت الموضع الذي ألقي فيه شبكتي. وليس التخير الصحيح من قبيل الحظ المواتي والمصادفة العمياء ... نعم قد كان من الجائز أن أحبك عيون الشبكة على نحو ما فعلت، وأن ألقي بها حيث ألقيت، فلا تصادفني السمكة الكبيرة التي رجوت. لكن الحياة السليمة الصحيحة القوية هي في التعرض لمثل هذا الخطر، فهو تعرض للخطر قائم على حسن الروية لا على الطيش والجنون، ثم هو تعرض للخطر يحدوه الأمل.
وكان طبيعيا أن تلتفت أنظارنا إلى شبكة الزميل المعترض، فإذا هي مليئة بالسمك الصغير. إن صيده كثير غزير، ومع ذلك فقد أفرغ شبكته خجلا، ونظرنا إليه في ابتسامة الساخرين! فاعجب لكثرة تبعث على السخرية وتدعو إلى الخجل ! لقد رسم هذا الصياد خطة صيده على أساس الحذر الشديد والحرص الشديد؛ فأعد لنفسه شبكة ضيقة العيون لا تفلت منها سمكة شاردة أو واردة من صغار السمك، لكن كبار الأسماك وأوساطها ليست من نصيبه. إن السمك الصغير موجود في كل موضع من البحر، فأينما ألقيت بالشبكة الضيقة العيون جاءتك منه بعدد كبير، وأهم ما كان يهتم له هذا الزميل الصياد، حين بدأنا رحلة الصيد؛ ألا يعود من الرحلة صفر اليدين. إنه أراد حصادا مؤكدا، فكان لا بد له أن يستغني عن أوساط السمك وكبارها.
لا، فإني أذكر الآن صديقا ثالثا، كان أكثر من ذلك عناية وأشد حرصا؛ فقد استوقف صيده أنظارنا بأنه خليط من متوسط وصغير. وسأله سائل كيف كان ذلك؟ فأجابه بأنه قد تحوط للأمر فحمل معه شبكتين، ووقف في زورقه ممسكا إحداهما بيمناه، والأخرى بيسراه، وعاد بما عاد به من صيد يستوقف الأنظار. لكنه مع ذلك يدعو إلى الإشفاق على صاحبه؛ لأن المسكين قد أجهد نفسه إجهادا أضناه وأشقاه، حتى ليكاد ينظر إلى صيده نظرة المتحسر الذي يحس أنه قد صاد الصيد لسواه.
قالت صديقتي: إنك لم تذكر شيئا عن صيدك أنت، فما لي الآن ولصيد زملائك؟ إن اليوم يوم ميلادك، وقد حلا لك أن تشطح عني بفكرك إلى ماضيك تستعيده؛ لتنصب لنفسك ميزان الحساب.
قلت: كانت عيون شبكتي أقرب إلى الضيق منها إلى التوسط أو السعة؛ فأمسكت بسمكات قلائل، كلها أقرب إلى الصغر منها إلى التوسط فضلا عن الكبر والضخامة.
قالت: أفهم أن تجيء أحجام السمك في صيدك أقرب إلى الضآلة منها إلى التوسط أو الكبر، لكني لا أفهم أن تكون سمكاتك قلائل، فما شأن الشبكة وعيونها بكثرة السمك أو قلته؟
قلت: ها هنا يا صديقتي يقع الخطأ الأكبر في رحلة صيدي، فقد أخطأت الحساب وألقيت الشبكة في غير موضع الغزارة والدسم. فجعلت أطرحها وأجذبها، ثم أطرحها وأجذبها، مرة بعد مرة، ولا أظفر في كل مرة بأكثر من سمكة أو سمكتين .
Неизвестная страница