نحن إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، نحب أن نراها مصورة بالكلام المنطوق والرسم المرقوم ... ثم نخفي ونستحي!
والأمر في الأمة كلها كالأمر في الفرد الواحد. تريد الأمة إن كانت تجري في عروقها دماء الحياة، تريد أن ترى صورتها مرقومة وأن تسمع صوتها منطوقا، له في نفوس الآخرين رجع وترديد. وعرف الناس ذلك الطبع في جبلتهم، فراحوا لأنفسهم بالريشة يصورون وبالقلم يكتبون، حتى إذا ما تقاطر الناس إلى جدران المتاحف، وجدوا الصور، صور نفوسهم، أخرجتها لهم ريشة المصور، أو قلبوا صفحات الكتب، وجدوا الصور، صور نفوسهم، دبجتها لهم يراعة الكاتب. والأمة التي ترى صورتها معكوسة على جدران المتاحف، مبسوطة على صفحات الكتب، لا يساورها القلق على وجودها؛ فها هي ذي نفسها مرسومة مرقومة على مرأى منها ومسمع.
ونحن كسائر الأمم، إلى هذا الحد البعيد نحب أنفسنا، ونحب أن نراها بالعين ونسمعها بالأذن، لكننا نخفي ونستحيي!
وإذا لم يكن بنا من إخفاء أو استحياء؛ فقل لي بربك: أين مرآتنا التي نرى فيها أنفسنا معكوسة مصورة، صامتة أو ناطقة، وإن بيننا لأدباء ومصورين، وإنهم على فنهم لقادرون؟
رفعت القلم الآن، وأمسكت عن الكتابة لحظة، ونظرت خلال نافذة ضيقة على يميني إلى الأفق البعيد، فصورت لنفسي أدباءنا في قصر منيف، يقلبون كتبا ويفحصون أوراقا لعلهم واجدون ما يصلح غدا أن يكون مقالة! ... وأمام القصر ميدان واسع فسيح، زاخر بجموع الشعب الحاشدة. وقد تحلق أفراده في الزحمة جماعات جماعات؛ فلاح القرية والشيخ والعمدة، مأمور المركز والحارس وضابط البوليس، طالب المدرسة والأستاذ والناظر، كاتب الديوان والحاسب والرئيس، الكواء والحذاء والساعي، والكناس والبواب وبائعة اللبن، الحبيبان اللذان التقيا بين أعواد الذرة في الريف، والحبيبان اللذان التقيا في ظلمة السينما في المدن؛ لأن الشعب لا يعترف بالحب ولا يعرفه. وإلى جانب هؤلاء وأولئك جماعات من طير وقطط وكلاب، وبعوض وذباب، وثيرة وأبقار.
ازدحم الميدان الواسع الفسيح بهذه الجموع الحاشدة الزاخرة، محتجة صاخبة، وليس احتجاجها هذه المرة على صعوبة المناهج في المدارس، ولا على كثرة ساعات العمل في مراكز البوليس، ولا على درجاتهم المالية التي اضطربت وأصبحت في حاجة إلى التنسيق والتنميق. لكنها احتجت تريد هذه المرة ما هو أخطر من ذلك، تريد أن تطمئن على وجودها، تريد لأنفسها الرسم والتصوير.
إننا لنحس في أنفسنا حبنا لأنفسنا، وإن أدباءنا على فنهم لقادرون، لكننا نخفي ونستحيي!
شبكة الصياد
صبت صديقتي الشاي في قدحي، فتناولته ساهما ساكنا، وأخذت أتحساه على مهل، وكأنما بدا على وجهي ساعتئذ شرود الفكر، فسألتني، قالت: ماذا دهاك؟
قلت: إنه اليوم الأول من شهر فبراير. إنه يوم مولدي.
Неизвестная страница