إن مشكلة «الذاتية» التي تحير الفلاسفة لم تعد تحيرني. إن الفلاسفة يصدعون رءوسهم تصديعا في محاولة الجواب عن هذا السؤال: كيف يحتفظ الشخص الواحد بذاتية واحدة مع اختلاف ظروفه؟ إنه يكون صحيحا ويكون مريضا، ويكون طفلا ويكون رجلا، ويكون شبعان ويكون جائعا، ويكون غضبان ويكون راضيا، ويكون يقظان ويكون نائما. ومع هذا الاختلاف الشديد الذي يطرأ على حالاته يظل إنسانا واحدا، فما الذي فيه يخلع عليه تلك الوحدانية مع تعدد حالاته وأوضاعه؟ ... لم تعد تحيرني المشكلة التي تحير الفلاسفة، بعد أن رأيت «الأحدب» في الطريق وفي داره، فلا وحدانية هناك، ليس الرجل رجلا واحدا، ولكنه عدة رجال، هو في كل حالة رجل غير الرجل الذي يكونه في الحالة الأخرى؛ فيستحيل أن يكون «الأحدب» العابس الجاد المهموم الحزين الذي رأيته، وتحدثت إليه وهو جالس على الجدار الذي لم يتم بناؤه، هو نفسه «الأحدب» الضاحك الفكه المرحب بي وهو في داره.
أدخلني «الأحدب» فعبر بي ردهة لاحظت خلاءها من الأثاث تقريبا، وانتهينا إلى غرفة هي مأواه، فيها كل شيء: فيها السرير وصوان الملابس ومكتب ومكتبة ومنضدة ومقاعد، ومرآة، أثاثها هزيل لكنه نظيف، وتنسدل على النافذة ستارة رقيقة فيها خروق ممزقة، لكنك تشعر في غرفته بالطمأنينة وراحة النفس . وليست ديار الناس في ذلك سواء، فقد أزور الدار وأحس أثناء زيارتي أني أتقلب على الشوك دون أن يكون بيني وبين صاحب الدار ما يدعو إلى النفور، ثم قد أزور الدار فينبسط صدري وتطيب نفسي، وأتمنى لو بقيت فيه اليوم كله. وقد قلت ذلك لصاحبي «الأحدب» فور جلوسي على مقعده المريح، الذي كان - فيما يظهر - جالسا عليه لتوه؛ لأن الحشية كانت ما تزال دافئة بحرارته.
قلت: إن النفس لتحس الطمأنينة في غرفتك هذه، والمنظر الذي يطالعك من نافذتك رائع جذاب.
قال: إذن لا أحسب الفجوة بين نفسينا عميقة كما يبدو للوهلة الأولى؛ فقد أعجبك مأواي ها هنا، كما أعجبك ملاذي الهادئ، الذي ألوذ به من صخب الحياة. إن النفوس الإنسانية لتشعر بالتقارب والتداني في حالات هدوئها، حتى إذا ما عج بها عجيج الحياة ألفيتها متنافرة متعاركة لا عجب أن يكون الناس جميعا سواء وهم نيام، ثم يأتي الموت فيسوى بينهم إلى الأبد.
وخشيت أن ينتقل صاحي بذكر الموت إلى حالة من حالاته الكئيبة السوداء، فغيرت موضوع الحديث، وجعلت موضوعه أقرب ما وقعت عليه يدي على المنضدة الصغيرة الوطيئة التي كانت أمام مقعدي.
فقلت: ما هذه المكعبات الخشبية الملونة المصورة؟
قال، وكان ورائي مشتغلا بقلب الفناجين والأكواب: تلك لعبة من لعب الأطفال اشتريتها ألهو بها، إنها مكعبات ترص؛ فتكون هذه الصورة أو تلك.
ودنا مني «الأحدب» وأشار بإصبعه إلى اللعبة، وقد رص ما يقرب من نصفها، فإذا هي صورة جواد عليه راكبه، ولم تبق من الصورة إلا أرجل الجواد.
قلت. وأحسبك كنت في سبيل إتمام الحصان بأرجله؟
قال: هذا ما حرت فيه، حاولت عبثا منذ ساعة الغداء، فلم تستقم للحصان أرجل؛ حتى لقد مللت فوقفت أنظر من نافذتي حين رأيتك قادما.
Неизвестная страница