ومما يزيد في عجبي أن يقال عن المتصوف: إنه يعرف «الحقيقة»، وما عسى هذه الحقيقة، أن تكون؟ هي - بتعريف الدكتور أبو العلا - «ذلك الغيب المجهول أو ذلك الوجود المحجوب»، وإن كان الشيء بحكم تعريفه غيبا ومجهولا ومحجوبا؛ فلست أدري ما حيلة الإنسان فيه صوفيا أو غير صوفي؟!
إن من أكبر أخطاء الفلسفة التأملية أن تأخذ المعاني الكلية على أنها حقائق قائمة بذاتها، فهذا منها بمثابة التجسيد للظل والتشخيص لما ليس مشخصا، فليست هناك حقيقة واحدة حتى يجوز للصوفي أو لغيره أن يبحث عنها، إنما هناك حقائق. فارتفاع فيضان النيل في الصيف حقيقة، وتمدد الحديد بالحرارة حقيقة، ونمو النبات بالغذاء حقيقة. وهكذا قل في ملايين الحقائق التي هي من شأن العلوم المختلفة، وقد تكون بين تلك الحقائق علاقات وقد لا تكون، على ألا ننسى أن العلاقات لا تضيف إلى العناصر الموجودة عنصرا جديدا.
وبالطبع لم تغب هذه النظرة الساذجة عن الدكتور أبو العلا، فهو يعلم وجود هذه الأشياء، لكنه يعلم فوق ذلك أن الحقيقة شيء سواها! يقول: «إن العالم المحسوس عالم حافل بالظواهر المتكثرة المتغيرة، وطالب الحقيقة المطلقة يطلبها واحدة لا كثرة فيها ولا تغير» ... إلخ. ونحن لا نريد أن ننغص على طالب الحقيقة المطلقة عيشه، ولا أن نقض له مضجعه؛ فليس ذلك من حقنا، ولكن الذي هو من حقنا بغير نزاع أن يختار هذا الطالب للحقيقة المجردة أحد أمرين: فإما أن يتمتع بوجدانه ذاك الخاص به، وألا يكون له شأن بنا؛ فلا يتحدث إلينا ولا يكتب لنا الكتب، وإما أن يتحمل تبعة من يريد أن يصف للناس شيئا، وأعني بهذه التبعة إمكان أن يكون صادقا فيما يقول. ولا يمكن وصف الكلام بالصدق إلا إذا كان يصف شيئا عاما مشتركا بيننا جميعا، لكنه لا يريد لنفسه الحالة الثانية، فلا مندوحة له عن الأولى.
ويمكن تلخيص ما قلناه في هذه الخطوات. (1)
الصوفي يعاني تجربة شخصية، أو حالة خاصة. (2)
الحالة الخاصة هي بمثابة «مضمون الإدراك»، وهو ما يستحيل نقله من شخص إلى شخص. (3)
والمعرفة شرطها أن تكون عامة، وأن يكون نقلها ممكنا؛ ولذلك كانت المعرفة بأدق معناها منحصرة في «هيكل الإدراك»؛ أي في العلاقات القائمة بين الأشياء. (4)
وإذن فليس التصوف معرفة.
ولا بد أن نذكر أن الدكتور أبو العلا قد فرق بين «الاتصال» و«المعرفة»، ونحن نوافقه كل الموافقة على أن الحالات الذوقية الخاصة اتصال مباشر بالتجربة المعينة، وهو ما سماه رسل
acquaintance
Неизвестная страница