بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَأهل طَاعَته وَصَحبه وَسلم دَائِما أبدا إِلَى يَوْم الدّين
الْحَمد لله الَّذِي اتّصف بالكمال والتحف برداء الْكِبْرِيَاء والجلال وارتشف ذَوُو الْعُقُول من محبته كؤوسا لم تملأ بيد الملال نحمده على نعمه الَّتِي مِنْهَا سَلامَة الْأَعْضَاء والصفح عَمَّا اجترحناه وَحسن الْعَفو والإغضاء والتودد إِلَى بعض من عَامل محبتنا بالبغضاء ونشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة لَا يغض طرف برهانها وَلَا يخْفض وَلَا ينْقض مُحكم بنيانها وَلَا ينْقض وَلَا يرفض عقد جمَالهَا وَلَا يرفض ونشهد أَن سيدنَا مُحَمَّدًا عَبده الَّذِي أرْسلهُ فجلا بِهِ من الْكفْر حنادسه المدلهمة وَأَبَان بِهِ الْبَاطِل وأباده وَأظْهر بِهِ الْحق وأتمة وأعانه حَتَّى بلغ الرسَالَة وادى الْأَمَانَة ونصح الْأمة صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله الَّذين اتبعُوا مِنْهُ نورا لَا تبليه الأعاصير وَهَاجَر مَعَه مِنْهُم كماة الْحَرْب وحماتها المغاوير
1 / 38
وسالت عَلَيْهِ شعاب الْحَيّ حِين دَعَا أنصاره بِوُجُوه كالدنانير صَلَاة آياتها لَا تنسخ وغاياتها لَا تسلخ مَا زَالَت الْجَوَاهِر بالنظم نحورا وأصبحت كواكب الشرق بِالْفَجْرِ عورا وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين
وَبعد فَإِن التصنيف فن لَا يمله من اعتاده وَلَا يلتذه إِلَّا من اشْترى لَهُ سهره وَبَاعَ فِيهِ رقاده وَلَا يأنس بِهِ فِي طول أَسْفَاره إِلَّا من وثق بِمَا مَعَه من الزوادة شعر
(تغر حلاوات النُّفُوس قلوبها ... فتستعذب اللَّذَّات وَهِي حمام)
وَهُوَ شغل للنَّفس عَمَّا يعرض لَهَا من هموم هَذِه الدَّار ومطل يدافع بصفوه مَا تحدثه الْآفَات من الأكدار وَسَهل يرتاح الْقلب إِلَيْهِ إِذا اضطرته إِلَى حزنها الأقدار شعر
(الدَّهْر يعجب من حملي نوائبه ... وصبر جسمي على أحداثه الحطم)
(وَقت يضيع وَعمر لَيْت مدَّته ... فِي غير أمته من سالف الْأُمَم)
(أَتَى الزَّمَان بنوه فِي شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الْهَرم)
وَلما أعَان الله بِلُطْفِهِ وَمن وَيسر أَسبَاب فَضله فاقتنصت مِنْهَا مَا سنح وَعَن وأكملت تصنيفي الَّذِي وسمته بنكت الْهِمْيَان فِي نكت
1 / 39
العميان تقت إِلَى أَن أرْدف ذَلِك بمصنف آخر أقتصر فِيهِ على ذكر العور وَمن جَاءَ مِنْهُم فِي الزَّمن السالف وَهُوَ مَشْهُور فشمرت ذيل الْعَزْم ووفرت سَبِيل الحزم وَبعثت الطّلب ونفثت التَّعَب وأنفت من الهمة الهمة وأسفت على سَواد الصُّحُف وَبَيَاض اللمة من الخطوب الملمة وَقلت
(صبا مَا صبا حَتَّى علا الشيب رَأسه ...)
بَيت دُرَيْد بن الصمَّة واستعنت بِاللَّه على جمع شَيْء فِي هَذِه الْمَادَّة وسلوك مَا لَا ركض غَيْرِي جَوَاده فِي هَذِه الجادة وَقد أثبت مَا يسره الله فِي هَذَا الْمَعْنى وأنزلت حوره وولدانه فِي هَذَا الْمَعْنى وَجعلت ذَلِك مصنفا بِرَأْسِهِ من كل فن مارسته بأمراسه وسميته كتاب الشُّعُور بالعور ورتبته على مُقَدمَات ونتيجة
الْمُقدمَة الأولى فِيمَا يتَعَلَّق بذلك من اللُّغَة
الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِيمَا يتَعَلَّق بذلك من حَيْثُ التصريف وَالْإِعْرَاب
الْمُقدمَة الثَّالِثَة فِيمَا يتَعَلَّق بِحَدِيث الرِّجَال لكَونه أَعور
الْمُقدمَة الرَّابِعَة فِيمَا لَهُ بالأعور علاقَة من الْفِقْه
الْمُقدمَة الْخَامِسَة فِيمَا جَاءَ من الْأَمْثَال والنوادر فِي حق الْأَعْوَر وَغير ذَلِك
الْمُقدمَة السَّادِسَة فِيمَا جَاءَ من الشّعْر فِي العور والعوران
النتيجة فِي سرد من كَانَ أَعور على حُرُوف المعجم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
1 / 40
الْمُقدمَة الأولى فِيمَا يتَعَلَّق بذلك من اللُّغَة
قد نظرت فِي أصل هَذِه الْمَادَّة وَهِي العور فَرَأَيْت من خَواص هَذِه الأحرف الثَّلَاثَة وَهِي ع ور كَيفَ مَا تقلب من تَقْدِيم بعض حروفها على بعض لَا يخرج عَن معنى التخوف وَهَذِه هِيَ خَاصَّة اللُّغَة الَّتِي وَضعهَا الْحَكِيم فَالْأول عور
الْعَوْرَة كل حَال يتخوف مِنْهُ فِي ثغر أَو حَرْب يُقَال فلَان يدل الْكفَّار على عورات الْمُسلمين
والعورة سوءة الْإِنْسَان سميت بذلك لما كَانَ الْإِنْسَان يتخوف من رؤيتها وكل مَا يستحى مِنْهُ فَهُوَ عَورَة
الْعَوْرَة عِنْد الْفُقَهَاء مَا سترهَا شَرط فِي صِحَة الصَّلَاة وَهِي من الرجل حرا كَانَ أَو عبدا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَلَيْسَت السُّرَّة من الْعَوْرَة وَلَا الرّكْبَة على ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي ﵁ لما رُوِيَ عَن أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ ﵁ أَن النَّبِي ﷺ قَالَ مَا فَوق الرّكْبَة وَدون السُّرَّة عَورَة وروى أَنه ﷺ قَالَ وعورة الرجل مَا بَين سرته إِلَى ركبته وَعند أبي حنيفَة رَضِي الله
1 / 41
عَنهُ أَن الرّكْبَة غير خَارِجَة عَن حد الْعَوْرَة وَإِن كَانَت السُّرَّة خَارِجَة وَعند الإِمَام مَالك ﵁ أَن الْفَخْذ لَيْسَ بِعَوْرَة
وَحكي وَجه فِي مَذْهَب الشَّافِعِي عَن بعض الْأَصْحَاب أَن الرّكْبَة والسرة عَورَة وَحكى أَبُو عبد الله الحناطي عَن الْإِصْطَخْرِي أَن عَورَة الرجل هِيَ الْقبل والدبر فَقَط
وَأَبُو الْقَاسِم الْعَبَّادِيّ حكى عَن بَعضهم أَن الرّكْبَة من الْعَوْرَة دون السُّرَّة
قَالَ الشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ ﵀ قُلْنَا وَجه ضَعِيف مَشْهُور أَن السُّرَّة عَورَة دون الرّكْبَة
وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل أَن الْعَوْرَة هِيَ الْقبل والدبر لَا غير وَالرِّوَايَة الْأُخْرَى عَنهُ مُوَافقَة لمَذْهَب الشَّافِعِي ﵁
وَمن الْمَرْأَة إِن كَانَت حرَّة فَجَمِيع بدنهَا عَورَة إِلَّا الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ لقَوْله تَعَالَى ﴿وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا﴾ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ هُوَ الْوَجْه
1 / 42
والكفان وَلَيْسَ المُرَاد الرَّاحَة وَحدهَا بل اليدان ظهرا وبطنا إِلَى الكوعين خارجتان عَن حد الْعَوْرَة وَلَا يكَاد يفْرض ظُهُور بَاطِن الْيَدَيْنِ دون ظاهرهما وَلَا يسْتَثْنى ظُهُور قدميها خلافًا لأبي حنيفَة ﵁ قَالَ لَيست القدمان من الْعَوْرَة وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي ﵁ لما رُوِيَ أَنه ﷺ سُئِلَ عَن الْمَرْأَة تصلي فِي درع وخمار من غير إِزَار فَقَالَ لَا بَأْس إِذا كَانَ الدرْع يُغطي ظُهُور قدميها وَهل يسْتَثْنى أَخْمص الْقَدَمَيْنِ فَحكى طَائِفَة فِيهِ وَجْهَيْن وجعلهما آخَرُونَ قَوْلَيْنِ مِنْهُم الْقفال رَحمَه الله تَعَالَى أَحدهمَا أَنَّهُمَا ليسَا من الْعَوْرَة لِأَن النَّبِي ﷺ خص ظُهُور الْقَدَمَيْنِ بِالذكر فأشعر ذَلِك بِأَن تَغْطِيَة بَاطِن الْقَدَمَيْنِ لَا يجب وأصحهما أَنَّهُمَا من الْعَوْرَة تَسْوِيَة بَين ظاهرهما وباطنهما
وَحكي عَن الإِمَام أَحْمد ﵁ أَنه لَا يسْتَثْنى إِلَّا الْوَجْه ويداها عَورَة
وَإِن كَانَت أمة فبدنها على ثَلَاث مَرَاتِب
الأولى مَا هُوَ عَورَة من الرجل فَلَا شكّ فِي كَونهَا عَورَة مِنْهَا
وَالثَّانيَِة مَا يظْهر وينكشف فِي حَال المهنة فَلَيْسَ بِعَوْرَة مِنْهَا وَهُوَ الرَّأْس والرقبة والساعد وطرف السَّاق لِأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى كشفه ويتعذر عَلَيْهَا ستره وَفِي الْمَذْهَب وجد أَن جَمِيع ذَلِك عَورَة كَمَا فِي حق الْحرَّة سوى الرَّأْس لِأَن عمر ﵁ رأى أمة سترت رَأسهَا فَمنعهَا من ذَلِك وَقَالَ لَا تشبهن بالحرائر
1 / 43
وَالثَّالِثَة مَا عدا ذَلِك كالصدر وَالظّهْر والصدر وَفِيه وَجْهَان أَحدهمَا أَنه عَورَة كَمَا فِي حق الْحرَّة وَإِنَّمَا احْتمل الْكَشْف فِيمَا يظْهر عِنْد المهنة لِأَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَيْهِ وأصحهما أَنه لَيْسَ بِعَوْرَة لما رُوِيَ أَنه ﷺ قَالَ فِي الرجل يَشْتَرِي الْأمة لَا بَأْس أَن ينظر إِلَيْهَا إِلَّا إِلَى الْعَوْرَة وعورتها مَا بَين مقْعد إزَارهَا إِلَى ركبتيها وَحكم الْمُكَاتبَة والمدبرة والمستولدة وَمن بَعْضهَا رَقِيق حكم الْأمة وَالْخُنْثَى الْمُشكل إِن كَانَ رَقِيقا وَقُلْنَا بِظَاهِر الْمَذْهَب وَهُوَ أَن عَورَة الْأمة كعورة الرجل فَلَا يلْزم أَن تستر فِي الصَّلَاة إِلَّا مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وَإِن كَانَ حرا أَو رَقِيقا وَقُلْنَا إِن عَورَة الْأمة أَكثر من عَورَة الرجل وَجب عَلَيْهَا ستر الزِّيَادَة على عَورَة الرجل أَيْضا لجَوَاز الْأُنُوثَة
فَائِدَة يحسن ذكرهَا هُنَا وَهِي مَا ذكره أَبُو الْفرج الْعجلِيّ فِي أول كتاب النِّكَاح من شرح مشكلات الْوَجِيز والوسيط أَن أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الخضري الْمروزِي الشَّافِعِي سُئِلَ عَن قلامة ظفر الْمَرْأَة هَل يجوز للرجل الْأَجْنَبِيّ النّظر إِلَيْهَا فَأَطْرَقَ الشَّيْخ طَويلا وَكَانَت ابْنة الشَّيْخ أبي عَليّ الشتري تَحْتَهُ فَقَالَت لم تتفكر وَقد سَمِعت أبي يَقُول فِي جَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة إِن كَانَت من قلامة أظفار الْيَدَيْنِ جَازَ النّظر إِلَيْهَا وَإِن كَانَت من أظفار الرجلَيْن لم يجز فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَن يَدهَا لَيست بِعَوْرَة بِخِلَاف الْقدَم ففرح الخضري وَقَالَ لَو لم أستفد من اتصالي بِأَهْل الْعلم إِلَّا هَذِه الْمَسْأَلَة لكَانَتْ كَافِيَة انْتهى
قَالَ قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين احْمَد بن خلكان رَحمَه الله تَعَالَى هَذَا التَّفْصِيل بَين الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ فِيهِ نظر فَإِن أَصْحَابنَا قَالُوا اليدان ليستا بِعَوْرَة فِي الصَّلَاة فَأَما بِالنِّسْبَةِ إِلَى نظر الْأَجْنَبِيّ فَمَا نَعْرِف بَينهمَا فرقا فَلْينْظر إِذا وجد الْمُصَلِّي
1 / 44
مَا يستر بعض الْعَوْرَة لزمَه ستر الْمُمكن بِلَا خلاف وَإِن كَانَ الْمَوْجُود يَكْفِي السوأتين بَدَأَ بهما وَلَا يعدل إِلَى غَيرهمَا فَإِن كَانَ يَكْفِي أَحدهمَا فَثَلَاثَة أوجه الصَّحِيح الْمَنْصُوص أَنه يستر الْقبل رجلا كَانَ أَو امْرَأَة وَالثَّانِي الدبر وَالثَّالِث يتَخَيَّر وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن أَن الْمَرْأَة تستر الْقبل وَالرجل الدبر
رَجَعَ بِنَا الْكَلَام إِلَى الْعين وَالْوَاو وَالرَّاء وَمَا تصرف مِنْهَا وعورات الْجبَال شقوقها سميت بذلك لما كَانَت مِمَّا يتخوف مِنْهُ وفلاة عوراء أَي لَا مَاء بهَا سميت بذلك لِأَنَّهَا يتخوف مِنْهَا الْعَطش وَعِنْده من المَال عائرة عين إِذا كَانَ كثيرا سمي بذلك لِأَن صَاحب المَال الْكثير يتخوف النَّاس عَلَيْهِ أَو لِأَنَّهُ يمْلَأ الْعين كَثْرَة فيكاد يعورها والعائر من السِّهَام وَالْحِجَارَة الَّذِي لَا يدرى من رَمَاه سمي بذلك لِأَنَّهُ يتخوف من وُقُوعه
والعوائر من الْجَرَاد الْجَمَاعَات المتفرقة سميت بذلك لِأَنَّهَا مِمَّا يتخوف من فَسَاده
والعوراء الْكَلِمَة القبيحة وَهِي السقطة قَالَ الشَّاعِر
(وأغفر عوراء الْكَرِيم ادخاره ... وَأعْرض عَن شتم اللَّئِيم تكرما)
مَعْنَاهُ لادخاره سميت بذلك لِأَن الْعَاقِل يتخوف من الْكَلِمَة الساقطة
والعوار الْعَيْب يُقَال سلْعَة ذَات عوار بِفَتْح الْعين وَقد تضم عَن أبي زيد سمي بذلك لما كَانَ صَاحب السّلْعَة يتخوف من ظُهُوره
1 / 45
وَالْعَارِية بِالتَّشْدِيدِ كَأَنَّهَا منسوبة إِلَى الْعَار لِأَن طلبَهَا عَار وَسميت بذلك لِأَن طالبها يلْحقهَا عَار أَو لِأَن الَّذِي استعارها يتخوف من ردهَا
والإعوار بِكَسْر الْهمزَة الرِّيبَة كَأَن الْمُرِيب يتخوف ظُهُور أمره وَهَذَا مَكَان معور أَي يخَاف فِيهِ قطع الطَّرِيق وأعور الْفَارِس إِذا بدا مِنْهُ مَوضِع خلل للضرب قَالَ الشَّاعِر
(لَهُ الشدَّة الأولى إِذا الْقرن أعورا ...)
وعورته عَن الْأَمر إِذا صرفته عَنهُ وعورت عَن فلَان إِذا كذبت مَا قيل فِيهِ كَأَنَّك فِي الأولى خوفته من عَاقِبَة مَا صرفته عَنهُ وَفِي الثَّانِي كَأَنَّك تخوفت أَن ينْسب ذَلِك إِلَيْهِ وَقَالَ أَبُو عبيد يَقُول للمستجيز الَّذِي يطْلب المَاء إِذا لم يسقه قد عورت شربه وَأنْشد الفرزدق
(مَتى مَا ترد يَوْمًا سفار تَجِد بهَا ... أديهم يَرْمِي المستجيز المعورا)
سمي بذلك لِأَنَّهُ يعود فِي هَذِه الْحَالة متخوفا وعاورت المكاييل لُغَة فِي عايرتها سمي بذلك لِأَنَّك خفت نَقصهَا فعايرتها وَيُقَال مَا أَدْرِي أَي الْجَرَاد عارة يُقَال ذَلِك فِي حق من لَا يعلم لَهُ خبر فَأَنت تتخوف من أمره
وَرجل أَعور بَين العور للَّذي عارت إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَهُوَ يتخوف من رُؤْيَة النَّاس لَهُ وَقد عارت الْعين تعار بِفَتْح التَّاء وَكسرهَا وَقَالَ الشَّاعِر
(وسائله بِظهْر الْغَيْب عني ... أعارت عينه أم لم تعارا)
1 / 46
قَالَ ابْن بري رَحمَه الله تَعَالَى فِي حَوَاشِي الصِّحَاح لعَمْرو بن أَحْمَر الْبَاهِلِيّ وَالْألف فِي آخر تعارا مبدلة من النُّون الْخَفِيفَة أبدل مِنْهَا ألفا لما وقف عَلَيْهَا وَلِهَذَا سلمت الْألف الَّتِي بعد الْعين إِذْ لَو لم يكن بعْدهَا نون التوكيد لانحذفت فَكنت تَقول لم تعر كَمَا تَقول لم تخف فَإِذا ألحقت النُّون أثبت الْألف فَقلت لم تخافن لِأَن الْفِعْل مَعَ نون التوكيد مَبْنِيّ فَلَا يلْحقهُ جزم انْتهى كَلَام ابْن بري
وَقَالَ صَاحب الصِّحَاح يُقَال عورت عينه وَإِنَّمَا صحت الْوَاو فِيهَا لصحتها فِي أَصْلهَا وَهُوَ أعورت بِسُكُون مَا قبلهَا ثمَّ حذفت الزَّوَائِد الْألف وَالتَّشْدِيد فَبَقيَ عور يدل على أَن ذَلِك أَصله مَجِيء أخواته على هَذَا اسود يسود واحمر يحمر وَتقول مِنْهُ عرت عينه أعورها وأعورت عينه لُغَة فِيهَا وعورتها تعويرا مثله والعوار الَّذِي لم تقض حَاجته وَلَيْسَ من عور الْعين وَأنْشد للعجاج شعر
(وعور الرَّحْمَن من ولى العور ...)
1 / 47
الثَّانِي وع ر
يُقَال جبل وعر بِسُكُون الْعين إِذا كَانَ يتخوف من سلوكه والصعود فِيهِ ومطلب وعر قَالَ الْأَصْمَعِي وَلَا تقل وعر بِكَسْر الْعين وَقد وعر بِالضَّمِّ وعورة وَكَذَلِكَ توعر أَي صَار وعرا ووعرته أَنا توعيرا وَقد استوعرت الشَّيْء إِذا وجدته وعرا وَفُلَان وعر الْمَعْرُوف أَي قَليلَة كل ذَلِك لَا يخرج عَن معنى التخوف
الثَّالِث ور ع
الْوَرع بِالتَّحْرِيكِ الجبان قَالَ ابْن السّكيت وأصحابنا يذهبون بالورع إِلَى الجبان وَلَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا الْوَرع الصَّغِير الَّذِي لَا غناء عِنْده يُقَال إِنَّمَا مَال فلَان أوراع أَي صغَار تَقول مِنْهُ ورع بِضَم الرَّاء يورع بِفَتْح الْيَاء وَالرَّاء وَسُكُون الْوَاو وروعا ووراعة وورعا بِضَم الْوَاو وَسُكُون الرَّاء إِمَّا الجبان فَهُوَ الْخَائِف وَأما الصَّغِير الَّذِي لَا غناء عِنْده كَأَنَّهُ متخوف فَلَا نفع فِيهِ
والورع بِكَسْر الرَّاء الرجل التقي وَقد ورع يرع بِفَتْح الْيَاء وَكسر الرَّاء ورعا بِفَتْح الرَّاء ورعه يُقَال فلَان سيء الرعة أَي قَلِيل الْوَرع وتورع من كَذَا أَي تحرج وورعته توريعا أَي كففته وخوفته وَفِي حَدِيث عمر ورع اللص لَا تراعه أَي إِذا رَأَيْته فِي مَنْزِلك فادفعه واكففه وَلَا تنْتَظر بِهِ
1 / 48
مَا يكون مِنْهُ فَأَنت ترى مدَار هَذَا كُله على التخوف وَقد رد أهل اللُّغَة كَلَام ابْن السّكيت وَقَالُوا بل الْوَرع الجبان وَيُؤَيّد ذَلِك قَول الراجز
(لَا هيبان قلبه منان ... وَلَا نخيب ورع جبان)
الرَّابِع ر وع
الروع بِالْفَتْح الْفَزع قَالَ صَاحب الصِّحَاح الروعة الفزعة وَمِنْه قَوْلهم أفرخ روعه أَي ذهب فزعه وَسكن وغلطوه فِي ذَلِك لِأَنَّهُ ضَبطه بِفَتْح الرَّاء وَالصَّحِيح أَنه بِضَم الرَّاء وَهُوَ مَوضِع الروع قَالَ الْجَوْهَرِي والروع بِالضَّمِّ الْقلب وَالْعقل يُقَال وَقع ذَلِك فِي روعي أَي فِي خلدي وبالي وَفِي الحَدِيث إِن روح الْقُدس نفث فِي روعي قلت سمي بذلك لما كَانَ التخوف والحذر ينشأ مِنْهُ ورعت فلَانا وروعته فارتاع أَي أفزعته فَفَزعَ وَقَوْلهمْ لَا ترع أَي لَا تخف وَلَا يلحقك خوف
والروعاء من النوق الحديدة الْفُؤَاد وَكَذَلِكَ الْفرس سميا بذلك لما كَانَ كالمتخوفين الحذرين
الْخَامِس ع ر
وَعُرْوَة الْقَمِيص والكوز مَعْرُوفَة لِأَنَّهَا عملت لأمن الْخَائِف من سُقُوط الْكوز
1 / 49
وانفراج الْقَمِيص والعراء بِالْمدِّ الفضاء الَّذِي لَا ستر بِهِ قَالَ الله تَعَالَى ﴿لنبذ بالعراء﴾ وَسمي بذلك لِأَنَّهُ يتخوف فِيهِ
والعروة الْأسد وَبِه سمي الرجل لما كَانَ الْإِنْسَان يخافه ويتهيب لقاءه
وَفُلَان تعروه الأضياف وتعتريه أَي تغشاه قيل لِأَن الْغَالِب إِذا نزل الضَّيْف بِأحد لَا بُد وَأَن يتجمع مِنْهُ أَو لِأَن الضَّيْف يكون خَائفًا من عدم المأكل وَالْمشْرَب وَقَالَ النَّابِغَة شعر
(أَتَيْتُك عَارِيا خلقا ثِيَابِي على ... خوف تظن بِي الظنون)
والعرية النَّخْلَة يعريها صَاحبهَا رجلا مُحْتَاجا فَيجْعَل لَهُ ثَمَرهَا عامها
فيعروها أَي يَأْتِيهَا وَهِي فعيلة بِمَعْنى مفعولة وَإِنَّمَا دَخَلتهَا الْهَاء لِأَنَّهَا أفردت فَصَارَت فِي عداد الْأَسْمَاء مثل النطيحة والأكيلة وَلَو جِئْت بهَا مَعَ النَّخْلَة قلت نَخْلَة عري وَفِي الحَدِيث إِنَّه رخص فِي الْعَرَايَا بعد نَهْيه عَن الْمُزَابَنَة لِأَنَّهُ رُبمَا تأذى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَيحْتَاج إِلَى أَن يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِثمن فَرخص لَهُ ذَلِك قَالَ شَاعِر الْأَنْصَار
(وَلَيْسَت بسنهاء وَلَا رجبية ... وَلَكِن عرايا فِي السنين الجوائح)
يَقُول إِنَّا نعريها النَّاس سميت بذلك لِأَن الَّذِي يعراها يكون متخوفا
1 / 50
يائسا واستعرى النَّاس فِي كل وَجه أَي أكلُوا الرطب
والعرية الرّيح الْبَارِدَة يُقَال أهلك فقد أعريت أَي غَابَتْ الشَّمْس وَبَردت وَكَأَنَّهُ يخَاف عَلَيْهِ أَن لَا يلْحق أَهله
والعرواء مثل الغلواء قُرَّة الْحمى ومسها فِي أول مَا تَأْخُذ بالرعدة وَقد عري الرجل على مَا لم يسم فَاعله واي تخوف لَا يكون من رعدة الْحمى
وعري من ثِيَابه فَهُوَ عَار وعريان وَامْرَأَة عُرْيَانَة وأعريت الْفرس إِذا ركبته عُريَانا كَأَن الرَّاكِب يتخوف الْوُقُوع
السَّادِس ر ع
والرعاوى والرعاوى بِضَم الرَّاء وَفتحهَا وَفتح الْوَاو فيهمَا الْإِبِل الَّتِي ترعى حول الْقَوْم فِي دِيَارهمْ لِأَنَّهَا الْإِبِل الَّتِي يعْتَمد عَلَيْهَا لما كَانُوا يتخوفون بعْدهَا عَنْهُم جعلوها ترعى حَولهمْ والراعي الَّذِي تدفع إِلَيْهِ الْإِبِل أَو غَيرهَا ليرعاها وَتجمع على رُعَاة مثل قَاض وقضاة ورعيان مثل شَاب وشبان ورعى مثل جَائِع وجياع لما كَانَ الرَّاعِي يخَاف الذِّئْب والأسد وكل كاسر من
1 / 51
الْوَحْش على مَا يرعاه سمي بذلك وَمِنْه قَوْلك راعيت الْأَمر أَي تخوفت عواقبه وَمِنْه الرَّاعِي وَهُوَ الْوَالِي وَقد ارعوى فلَان عَن الْقَبِيح أَي تخوف إِتْيَانه وَالِاسْم مِنْهُ الرعوى بِفَتْح الرَّاء والرعيا بضَمهَا مثل البقيا والبقوى ورعيت النُّجُوم إِذا رقبَتهَا وَلَا يفعل ذَلِك إِلَّا متخوف
الْمُقدمَة الثَّانِيَة فِيمَا يتَعَلَّق بذلك من حَيْثُ التصريف وَالْإِعْرَاب
يُقَال عورت عينه وعارت تعور وتعور بِسُكُون الْعين وَكسر الْوَاو فِي الأول وَضم الْعين وَسُكُون الْوَاو فِي الثَّانِي فَهُوَ رجل أَعور بَين العور وهما أعوران وَالْجمع عور وعوران مثل أعمى وَعمي وعميان وأعور لَا ينْصَرف لِأَن فِيهِ علتين فرعيتين من علل تسع وهما الْوَصْف وَوزن الْفِعْل وَقد تقرر فِي كتابي نكت الْهِمْيَان فِي نكت العميان الْكَلَام على امْتنَاع بِنَاء أفعل التَّفْضِيل وأفعل التَّعَجُّب من الألوان والعيوب الظَّاهِرَة وَمن فعل غير الثلاثي وتعليل ذَلِك فَلَا حَاجَة إِلَى إِعَادَة ذَلِك هَهُنَا فَلَا تقل زيد أَعور من عَمْرو وَلَا تقل مَا أعوره بل فلَان أَشد عورا من فلَان وَمَا أقبح عوره وَقَول الْقَائِل أَبيض من
1 / 52
أُخْت بني إباض
وَقَول الآخر
(أما الْمُلُوك فَأَنت الْيَوْم الأمهم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ)
فمحمولان على الشذوذ وَكَذَلِكَ قَوْلهم مَا أعطَاهُ للدرهم وَالدِّينَار وَمَا أولاه للمعروف وَمَا أحوجه من حَاج يحوج حوجا أَي احْتَاجَ وَقَالَ بَعضهم إِنَّمَا فعلوا هَذَا بعد حذف الزِّيَادَة ورد الْفِعْل إِلَى الثلاثي وَهَذَا وَجه حسن وَحكم أفعل بِهِ فِي حكم مَا أَفعلهُ فَلَا تَقول أَعور بِهِ كَمَا لَا تَقول مَا أعوره بل يُقَال أشدد بعوره وَيَسْتَوِي فِي لفظ أفعل بِهِ للمذكر والمؤنث والتثنية وَالْجمع تَقول يَا زيد أكْرم بِعَمْرو وَيَا هِنْد أكْرم بزيد وَيَا رجلَانِ أكْرم بِهِ وَيَا رجال أكْرم بِهِ
كَمَا تَقول مَا أحسن زيدا وَمَا أحسن هندا وَمَا أحسن الرجلَيْن وَمَا أحسن الرِّجَال وَمَا أحسن الهندات كَذَلِك قَالَ أَبُو عبد الله حَمْزَة بن الْحسن المعنون بأفعل حاكيا عَن الْمَازِني أَنه قَالَ قد جَاءَت أحرف كَثِيرَة مِمَّا زَاد فعله على ثَلَاثَة أحرف فأدخلت الْعَرَب عَلَيْهَا التَّعَجُّب فَقَالُوا مَا أتقاه لله ومل أنتنه وَمَا اظلمها وَمَا أضوأها وَمَا أفقره وَمَا أغناه وَإِن كَانَ يُقَال افْتقر
1 / 53
وَاسْتغْنى وَقَالُوا للمستقيم مَا أقومه وَفِي المتمكن مَا أمكنه عِنْد الْأَمِير وَقَالُوا مَا أصوبه وَمَا أخطأه على لُغَة من قَالَ صاب بِمَعْنى أصَاب وخطئت بِمَعْنى أَخْطَأت وَقَالُوا مَا أشغله وَإِنَّمَا يَقُولُونَ فِي فعله شغل وَمَا أزهاه وَفعله زهي وَقَالُوا مَا آبله يُرِيدُونَ مَا أَكثر إبِله وَإِنَّمَا يَقُولُونَ تأبل إبِلا إِذا اتخذها وَقَالُوا مَا أبغضه لي وَمَا أحبه إِلَيّ وَمَا أعجبه بِرَأْيهِ وَقَالَ بعض الْعَرَب مَا أملاه للقربة هَذَا مَا حَكَاهُ عَن الْمَازِني ثمَّ قَالَ وَقَالَ أَبُو الْحسن الْأَخْفَش لَا يكادون يَقُولُونَ فِي الأرسح مَا أرسحه وَفِي الأسته مَا أستهه قلت الأرسح الْقَلِيل اللَّحْم على الْفَخْذ قَالَ وَسمعت مِنْهُم من يَقُول رسح وسته
وَأَنت أَيهَا الْوَاقِف على هَذَا الْكَلَام تعلم أَن فِي هَذَا الْكَلَام نظرا وَذَلِكَ أَن الحكم بِهَذِهِ الْكَلِمَات كلهَا من الْمَزِيد فِيهِ غير مُسلم لِأَن قَوْلهم مَا أتقاه لله يُمكن أَن يحمل على لُغَة من يَقُول تقاه يتقيه بِفَتْح التَّاء من الْمُسْتَقْبل وسكونها أَيْضا حَتَّى قد قَالُوا التقي بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْقَاف وبنوا مِنْهُ تَقِيّ يَتَّقِي مثل سقى يسْقِي كَمَا قَالَ شعر
(زيادتنا نعْمَان لَا تنسينها ... تق الله فِينَا وَالْكتاب الَّذِي تتلو)
وَقَالَ آخر
(جلاها الصيقلون فأبرزوها ... خفافا كلهَا يَتَّقِي بأثر)
1 / 54
وَقَالَ آخر
(وَلَا أتقي الغيور إِذا رَآنِي ... ومثلي لز بالحمس الربيس)
فَلَمَّا وجدوا مِنْهُ الثلاثي بنوا مِنْهُ أفعل التَّعَجُّب وبنوا مِنْهُ فعيلا كالتقي وَقَوْلهمْ مَا أنتنه إِنَّمَا حملوه على أَنه من بَاب نَتن ينتن نَتنًا وَهِي لُغَة فِي أنتن ينتن فَمن قَالَ فِي فعله نَتن قَالَ فِي الْفَاعِل منتن وَمن قَالَ منتن بناه على أنتن قَالَ فِي فَاعله إِمَّا نَتن بِسُكُون أوسطه مثل صَعب فَهُوَ صَعب أَو نتين مثل ظرف فَهُوَ ظريف
وَقَوْلهمْ مَا أظلمها وأضوأها من هَذَا الْقَبِيل أَيْضا لِأَن ظلم يظلم ظلمَة لُغَة فِي أظلم وَكَذَلِكَ مَا أضوأها يعنون اللَّيْلَة إِنَّمَا هُوَ من ضاء يضيء وَهِي لُغَة فِي أَضَاء يضيء إضاءة وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فالتعجب فِي هَذَا على قَاعِدَته وقانونه
وَقَوْلهمْ مَا أفرته فَيجوز أَن يُقَال أَنهم لما وجدوه على فعيل توهموه من بَاب فعل بِضَم الْعين مثل صغر فَهُوَ صَغِير أَو حملوه على ضِدّه فعدوه من بَاب فعل بِكَسْر الْعين كغني فَهُوَ غَنِي كَمَا حملُوا عدوة الله على صديقَة وَذَلِكَ من عَادَتهم أَن يحملوا الشَّيْء على نقيضه كَقَوْلِه
(إِذا رضيت عَليّ بَنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجبني رِضَاهَا)
فَعدى رَضِي بعلى لأَنهم قَالُوا فِي ضِدّه سخط عَليّ أَو حملوه على فعيل بِمَعْنى مفعول فَقَالُوا إِنَّه لمكسور الفقار وَإِذا حمل على هَذَا الْوَجْه كَانَ فِي الشذوذ مثله إِذا حمل على افْتقر وَقَوْلهمْ مَا أغناه فَهُوَ على النهج القويم لِأَنَّهُ من
1 / 55
قَوْلهم غَنِي فَهُوَ غَنِي وَلَا حَاجَة بِنَا إِلَى حمله على الشذوذ وَقَوْلهمْ للمستقيم مَا أقومه فقد حملوه على قَوْلهم شَيْء قويم أَي مُسْتَقِيم وَقَامَ بِمَعْنى استقام صَحِيح قَالَ الراجز
(وَقَامَ ميزَان النَّهَار فاعتدل ...)
وَيَقُولُونَ دِينَار قَائِم إِذا لم يزدْ على مِثْقَال وَلم ينقص وَذَلِكَ لِاسْتِقَامَةِ فِيهِ فعلى هَذَا الْوَجْه مَا أقومه غير شَاذ
وَقَوْلهمْ للمتمكن عِنْد الْأَمِير مَا أمكنه إِنَّمَا هُوَ من قَوْلهم فلَان عِنْد الْأَمِير مكين وَله مكانة أَي منزلَة فَلَمَّا رَأَوْا المكانة وَهِي من مصَادر فعل بِضَم الْعين وسمعوا المكين وَهُوَ من نعوت هَذَا الْبَاب نَحْو كرم فَهُوَ كريم وَشرف فَهُوَ شرِيف توهموا أَنه من مكن مَكَانَهُ فَهُوَ مكين مثل متن متانة فَهُوَ متين فَقَالُوا مَا أمكنه وَلَيْسَ توهمهم هَذَا بأغرب من توهم الْمِيم فِي التَّمَكُّن والإمكان والمكانة وَالْمَكَان وَمَا اشتق مِنْهَا أَصْلِيَّة وَجَمِيع هَذَا من الْكَوْن وَهَذَا كَأَنَّهُمْ توهموا الْمِيم فِي الْمِسْكِين أَصْلِيَّة فَقَالُوا تمسكن وَلِهَذَا نَظَائِر
وَقَوْلهمْ مَا أصوبه على لُغَة من يَقُول صاب وَلم يزِيدُوا على هَذَا فقد جَاءَ فِي الْمثل مَعَ الخواطيء سهم صائب لِأَن صاب اسْم فَاعله صائب وَكَانَ من حَقهم أَن لَا يَقُولُوا مَا أصوبه بل يَقُولُونَ مَا أصيبه وَقَوْلهمْ مَا أخطأه فبعض الْعَرَب تَقول خطئت بِمَعْنى أَخْطَأت كَمَا تقدم وَقَوْلهمْ مَا أشغله لَا ريب فِي شذوذه لِأَنَّهُ إِن حمل على الِاشْتِغَال كَانَ شاذا وَإِن حمل على أَنه من الْمَفْعُول فَكَذَلِك وَقَوْلهمْ مَا أزهاه من زهي فَهُوَ مزهو قَالَ ابْن
1 / 56
دُرَيْد زها الرجل يزهو زهوا أَي تكبر وَلَيْسَ هَذَا من بَاب زهي لِأَن مَا لم يسم فَاعله لَا يتعجب مِنْهُ وَبَين مَا أشغله وَمَا أزهاه فرق لِأَن المزهو وَإِن كَانَ مَفْعُولا فِي اللَّفْظ فَهُوَ فِي الْمَعْنى فَاعل لِأَنَّهُ لم يَقع عَلَيْهِ فعل من غَيره كالمشغول الَّذِي شغله غَيره فَلَو حمل مَا أزهاه على أَنه تعجب من الْفَاعِل الْمَعْنَوِيّ لم يكن بذلك بَأْس وَقَوْلهمْ مَا آبله لَيْسَ من الْكَثْرَة فِي شَيْء إِنَّمَا هُوَ تعجب من قَوْلهم أبل الرجل يأبل إبالة مثل قَوْلهم شكس شكاسة فَهُوَ آبل حاذق بمصلحة الْإِبِل وَفُلَان من آبل النَّاس أَي من أَشَّدهم تأنقا فِي رعيه الْإِبِل وَقَوْلهمْ مَا أبله مَعْنَاهُ مَا أحذقه وأعلمه برعي الْإِبِل وَلَيْسَ هُوَ من كَثْرَة الْإِبِل فَلَا يكون هَذَا شاذا فَفِي الأول سَهْو وَهَذَا سَهْو ثَان وَقَوْلهمْ تأبل سَهْو ثَالِث إِذا عنوا بِهِ اتخذ إبِلا لِأَن التأبل إِنَّمَا هُوَ امْتنَاع الرجل من غشيان الْمَرْأَة وَمِنْه الحَدِيث إِن آدم تأبل على ابْنه الْمَقْتُول كَذَا وَكَذَا عَاما وتأبلت الْإِبِل اجتزأت بالرطب عَن المَاء وَالصَّحِيح فِي اقتناء الْإِبِل واتخاذها قَالَ طفيل الغنوي
(فأبل واسترخى بِهِ الْخطب بَعْدَمَا ... أساف وَلَوْلَا سَعْيه لم يؤبل)
أَي لم يكن صَاحب إبل وَلَا اتخذها
وَقَوْلهمْ مَا أبغضه لي ويروى مَا أبغضه إِلَيّ وَبَين الرِّوَايَتَيْنِ فرق بَين وَذَلِكَ إِنَّمَا أبغضه لي يكون من الْمُبْغض أَي مَا أَشد إبغاضي لَهُ وكلا الْوَجْهَيْنِ شَاذ وَكَذَلِكَ مَا أحبه إِلَيّ إِن جعلته من حببته أحبه فَهُوَ حبيب ومحبوب كَانَ شاذا وَإِن جعلته من أحببته فَهُوَ محب
وَقَوْلهمْ مَا أعجبه بِرَأْيهِ هُوَ من الْإِعْجَاب لَا غير يُقَال أعجب فلَان
1 / 57