وأما الجوابان الآخران الذان يمكن أن يجيب بهما مجيب أحدهما متشدد فيه والآخر مقارب فيه، فأما المتشدد فيه فأن يقال أما أولا فليس يجب إذا كان شىء يحتاج إليه أن يفعل شىء فى شىء أن يكون المحتاج إليه مثل المرآة والمشف هاهنا ينفعل من المبدأ مثل الانفعال الذى ينفعل به الثالث فيرى أن السيف إذا أولم به ألم والهدية إذا سر بها سرت، وأما ثانيا فليس بينا بنفسه ولا ظاهرا لا شك فيه أن كل جسم فاعل يجب أن يكون ملاقيا للملموس، فإن هذا وإن كان موجودا بالاستقراء فى أكثر الأجسام فليس واجبا ضرورة أن يكون كل فعل وانفعال باللقاء والتماس، بل يجوز أن تكون أفعال أشياء فى أشياء من غير ملاقاة، فكما يجوز أن يفعل ما ليس بجسم فى الجسم من غير ملاقاة كالبارى والعقل والنفس فليس ببدع أن يكون جسم يفعل فى جسم بغير الملاقاة، فتكون أجسام تفعل بالملاقاة وأجسام تفعل لا بالملاقاة، وليس يمكن أحدا أن يقيم برهانا على استحالة هذا ولا على أنه لا يمكن أن يكون بين الجسمين نصبة ووضع يجوز أن يؤثر أحدهما فى الآخر من غير ملاقاة، إنما يبقى هاهنا ضرب من التعجب كما لو كان اتفق أن كانت الأجسام كلها إنما يفعل بعضها فى بعض بمثل تلك النصبة المباينة فكان إذا اتفق أن شوهد فاعل يفعل بالملاقاة تعجب منه كما يتعجب الآن من مؤثر بغير ملاقاة، فإذا كان هذا غير مستحيل فى أول العقل وكان صحة مذهبنا المبرهن عليه توجبه وكان لا برهان البتة ينقضه فنقول إن من شأن الجسم المضىء بذاته والمستنير الملون أن يفعل فى الجسم الذى يقابله إذا كان قابلا للشبح قبول البصر وبينهما جسم لا لون له تأثيرا هو صورة مثل صورته من غير أن يفعل فى المتوسط شيئا إذ هو غير قابل لأنه شفاف، فإذا كان غير بين بنفسه ولا قام عليه برهان أن لا يكون جسم يفعل فى مقابل له بتوسط شفاف البتة وكان هذا مجوزا فى أول العقل ومتضحا بما برهنا عليه من كيفية الإدراك وكان ذلك غير محال فكذلك غير محال أيضا أن يكون بدل المتوسط الواحد متوسطان المتوسط ومتوسط آخر وبدل النصبة والوضع نصبتان ووضعان النصبة والوضع المذكوران مع وضع ونصبة أخرى، فيكون بدل هذا المتوسط الشفاف وحده متوسط ملون صقيل مع الشفاف وبدل نصبة المقابلة مع هذا المضىء والمستنير النصبة والمقابلة مع ذلك الصقيل الذى له النصبة والوضع المذكوران مع المضىء المستنير المرئى، فيكون من شأن هذا الجسم أن يفعل فى كل ما قابل مقابلا له صقيلا يكون كل مقابله فى شفيف ولو صقيل بعد صقيل إلى غير النهاية بعد أن يكون على وضع محدود فعلا هو مثل صورته من غير أن يفعل فى الصقيل البتة، فيكون المشف والصقيل شيئين يحتاج إليهما حتى يفعل شىء فى شىء آخر ولا يكون ذلك الفعل بعينه فيهما، فإذا كان كذلك واتفق أن وافى خيال الصقيل إلى البصر وخيال الشىء الآخر معا ورؤيا معا فى جزء من الناظر واحد ظن أن الخيال يرى فى الصقيل بعكس ما قالوا فى الشعاعات، وأما الطريق المتساهل فيه فهو أنه ليس يجب أن يؤثر كل شىء فى كل شىء مثل نفسه كما يجوز أن يؤثر أيضا مثل نفسه، فالمضىء والمستنير يجوز أن يؤثرا فى الهواء أثرا ما ذلك الأثر ليس أن يتشبح بشبح مثل صورة المضىء والمستنير بل يؤثرا فيه اثرا يدرك بالحس البصرى أو غيره من الحواس، وكذلك يجوز أن يؤثرا فى الصقيل أثرا ما إما بواسطة المشف أو بغير واسطة، ثم المشف أو الصقيل يفعل فى آلة البصر أثرا ذلك الأثر هو مثل صورة ما أثر فى كل واحد منهما أولا، فيكون كل واحد من المؤثرين يؤثر أثرا خلاف ما فيه أعنى بالمؤثرين المرئى الذى يؤثر فى المشف أو الصقيل والمشف أو الصقيل الذى يؤثر فى البصر، ومثل هذا كثير أعنى أن يكون شىء يؤثر فى شىء أثرا خلاف طبيعته ثم يؤثر هو فى شىء آخر مثل طبيعة الأول، مثل الحركة فإنها تحدث فى جرم شىء سخونة فتسخن الشىء، ثم تلك السخونة تحدث حركة غير الحركة الأولى بالعدد ومثلها فى النوع، وقد يمكن أن يشاهد هذا بمرآة ينعكس عنها ضوء ولون إلى حائط بحيث يستقر فى الحائط ولا ينتقل بحسب مقامات الناظر ولا يكون مستقرا البتة فى المرآة، وهذا المستقر تعلم أنه وارد من طريق المرآة إلى الحائط، وهو وإن كان يرى فى المرآة فلا يرى مستقرا فيها، فتكون المرآة أثرت أثرا مثل كيفية ما أثر فيها أثرا ليس مثل كيفيته فى الاستقرار وعلى ذلك حال البصر،
Страница 148