قد قيل فى التمييزبين الذاتى والعرضى: إن الذاتى مقوم والعرضى غير مقوم، ثم لم يحصل، ولم يتبين أنه كيف يكون مقوما، أو غير مقوم، وقيل أيضا: إن الذاتى لا يصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشىئ، والعرضى يصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشىء. فيجب أن نحصل نحن صحة ما قيل أو اختلاله، فنقول: أما قولهم إن الذاتى هو المقوم، فإنما يتناول ما كان من الذاتيات غير دال على الماهية، فإن المقوم مقوم لغيره. وقد علمت ما يعرض من هذا، اللهم إلا أن يعنوا بالمقوم ما لايفهم من طاهر لفظه، ولكن يعنون به ماعنينا بالذاتى، فيكونوا إنما أتوا باسم مرادف صرف عن الاستعمال الأول، ولم يدل على المعنى الذى نقل إليه، و يكون الخطب فى المقوم كالخطب فى الذاتى، وتكون حاجة كل واحد منهما إلى البيان واحدة. وأما اعتادهم على أم الرفع فى التوهم، فيجب أن تتذكر ما أعطيناك سالفا: أن المعنى الكلى قد يكون له أوصاف يحتاج إليها أولا حتى يحصل ذلك المعنى، ويكون له أوصاف أخرى تلزمه وتتبعه، إذا صار ذلك المعنى حاصلا. فأما جميع الأوصاف التى يحتاج اليها الشىء حتى تحصل ماهيته، فلن يحصل معقولا مع سلب تلك الأوصاف منه. وذلك أنه قد سلف لك أن للاأشياء ماهيات، وأن تلك الماهيات قد تكون موجودة فى الأعيان، وقد تكون موجودة فى الأوهام وأن الماهية لا يوجب لها تحصيل أحد الوجودين، وأن كل واحد من الوجودين لا يثبت إلا بعد ثبوت تلك الماهية، وأن كل واحد من الوجودين يلحق بالماهية خواص وعوارض تكون للماهية، عند ذلك الوجود، ويجوز أن لا تكون له فى الوجود الآخر. وربما كانت له لوازم تلزمه من حيث الماهية، لكن الماهية تكون متقررة أولا، ثم تلزمها هي، فإن الاثنينية يلزمها الزوجية، والمثلث يلزمه أن تكون زواياه الثلاث مساوية القائمتين، لا لأحد الوجودين، بل لأنه مثلث. وهذه الماهية إذا كان لها مقومات متقدمة من حيث هى ماهية لم تحصل ماهية دون تقدمها، وإذا لم تحصل ماهية، لم تحصل معقوله ولا عينا. فإذن إذا حصلت معقولة، حصلت وقد حصل ما تتقوم به فى العقل معها على الجهة التى تتقوم به،؛ فإنا كان ذلك حاصلا فى العقل، لم يمكن السلب، فيجب أن تكون هذه المقومات معقولة مع تصور الشىء، بحيث لايجهل وجودها له، ولا يجوز سلبها عنه، حتى تثبت الماهية فى الذهن، مع رفعها فى الذهن بالفعل. ولست أعنى بحصولها فى العقل خطورها بالبال بالفعل، فكثيرمن المعقولات لا تكون خاطرة بالبال، بل أعنى أنها لا يمكن مع اخطارها بالبال، و إخطار ما هى مقومة له بالبال، حتى تكون هذه مخطرة بالبال، وذلك مخطرا بالبال بالفعل، أن يسلبها عنه، كأنك تجد الماهية بالفعل خالية عنها مع تصورها، أعنى تصور الماهية فى الذهن. وإذا كان كذلك، فالصفات التى نسميها ذاتية للمعانى المعقولة، يجب ضرورة أن تعقل للشىء على هذا الوجه، إذ لا تتصور الماهية فى الذهن دون تقدم تصورها. وأما سائر العوارض، فإذ ليست مما يتقدم تصورها فى الذهن تصور الماهية فيه، ولا أيضا هاى مع تصور الماهية، بل هى توابع ولوازم ليست مما يحقق الماهية، بل مما يتلو الماهية، فالماهية تثبت دونها وإذا تثبتت دونها، لم يتعذر أن تعقل الماهية، و إن لم تتقدم، أو إن لم يلزم تعقلها. وقد علمت أنى لست أعنى فى هذا التعقل أن يكون، إذا تصورت الشىء بالفعل ملحوظا إليه، يكون مع ذلك تصورت أفراد المقومات له أيضا بالفعل، فر بما لم تلحظ الأجزاء بذهنك، بل أعنى بهذا أنك إذا أخطرت الأمرين معا بالبال، لم يمكنك أن تسلب الذى هو مقوم عن الذى هو مقوم له سلبا يصح معه وجود المقوم بماهيته فى الذهن من دون وجود ما يقومه فيه، فإذا كان كذلك، فيجب أن لايمكنك سلبه عنه، بل يعقل وجوده له لا مالة. وأما العوارض فلا أمنع صحة استثباتك فى الذهن معنى الماهية، ولا يعقل وجودها للماهية، بل يسلبها سلبا كاذبا. ولا أوجب ذلك أيضا فى كل العوارض، فإن من العوارض ما يلزم الماهية لزوما أوليا بينا ليس بواسطة عارض آخر، فيكون سلبه عن الماهية مع استثبات الماهية وإخطارهما معا بالبال مستحيلا، إذا كان ليس هو له بسبب وسط بينه وبينه. وذلك مثل كون المثلث بحيث يمكن إخراج أحد أضلاعه على الاستقامة توهما، أو معنى آخر مما يشبه هذا مما هو عارض له. وقد يمكن أن يكون وجود العارض بواسطة، فإذا لم تخطر تلك الواسطة بالبال، أمكن سلبه، مثل كون كل زاويتين من المثلث أصغر من قائمتين. ولولا صحة وجود القسم الثانى لما كانت لوازم مجهولة، ولولا صحة القسم الأول لما كا ما نبين لك بعد من إثبات عارض لازم للماهية بتوسط شىء حقا. وذلك لأن المتوسط،إن كان لا يزال يكون لازما للماهية غيربين الوجود لها، ذهب الأمر إلى غير النهاية، وإن كان من المقومات، صار اللازم المجهول كما تعلم لازمأ لهذا المقوم، لا مقومأ، إذ مقوم المقوم مقوم، وكان لازما آخر الأمر بلا واسطة. فما كان من اللوازم غير بين الشيء صح فى الذهن أن يتوهم الشىء مرفوعا عنه ذلك اللازم من جهة، ولم يصح من جهة، أمأ جهة الصحة فمن حيث أن تصوره قد يحصل فى الذهن مع سلب اللازم عنه بالفعل، واعتبار هذه الصحة والجواز حسب الذهن المطلق. وأما جهة الاستحالة فأن يتوهم أنه يجوز أن لو كان يحصل فى الأعيان، وقد سلب عنه فيها اللازم، حتى يكون مثلا كما يصح أن لوكان يكون هذا الشخص موجودا، ولا الندب الذى لزمه فى أصل الخلقة، فصار يصح أيضا أنه كان يكون هذا المثلث موجودا، ولا زاويتاه أقل من قائمتين؛ فإن هذا التوهم فاسد لا يجوز وجود حكمه، وليس كالمذكور معه. واعتبا ر هذه الصحة والجواز بحسب ذهن مطابق للموجود. فقد بان لك من هذا أن من الصفات ما يصح سلبه وجودا، ومنها ما يصح سلبه توهما لا فى الوجود، ومنها ما يصح سلبه توهما مطلقا، ومنها ما لا يصح سلبه بوجه وهو عارض، ومنها ما لا يصح سلبه وهو ذاتى، لكن يتميز من العارض بأن الذهن لا يوجب سبق ثبوت ما الذاتى له ذاتى قبل ثبوت الذاتى، بل ربما أوجب سبق ثبوت الذاتى. وأما العرض فإن الذهن يجعله تاليا، و إن وجب ولم ينسلب. فقد اتضح لك كيف لم يحصل معنى الذاتى والعرضى من اقتصر على البيانين المذكورين
[الفصل السابع] (ز) فصل فى تعقب ما قاله الناس فى الدال على الماهية
Страница 37