Шицр ва Фикр: Исследования в области литературы и философии
شعر وفكر: دراسات في الأدب والفلسفة
Жанры
تقديم
ثورة الشعر الحديث
لم الشعراء في الزمن الضنين؟
بين الشعر والفلسفة
جوته وعصره1
حنين مبارك
أمضي كل الأيام «أنجارتي» وغموض الشعر الحديث
أربع قصائد1
ذات ليلة ... في الزمان
كف نفسك
Неизвестная страница
ليوناردو ... والفلاسفة1
ما التنوير؟
الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟
إلى أين يسير العالم؟
خواطر عن مصر
هذه الخواطر ...
للصادقين أنعاك
الله والفتوات والعلم
العالم والتاريخ والأسطورة1
شهادة1
Неизвестная страница
وحوار ...1
تقديم
ثورة الشعر الحديث
لم الشعراء في الزمن الضنين؟
بين الشعر والفلسفة
جوته وعصره1
حنين مبارك
أمضي كل الأيام «أنجارتي» وغموض الشعر الحديث
أربع قصائد1
ذات ليلة ... في الزمان
Неизвестная страница
كف نفسك
ليوناردو ... والفلاسفة1
ما التنوير؟
الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟
إلى أين يسير العالم؟
خواطر عن مصر
هذه الخواطر ...
للصادقين أنعاك
الله والفتوات والعلم
العالم والتاريخ والأسطورة1
Неизвестная страница
شهادة1
وحوار ...1
شعر وفكر
شعر وفكر
دراسات في الأدب والفلسفة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تقديم
بعد عشرين عاما ينضم هذا الكتاب إلى شقيقيه السابقين اللذين ظهرا للنور سنة ألف وتسعمائة وسبع وستين، وهما «البلد البعيد» و«مدرسة الحكمة»، وهو يضيف إلى تجاربهما الثلاثين في الأدب والفلسفة على الترتيب عشرين تجربة أخرى في الشعر والفكر. وإذا كان الكتابان المذكوران قد قدما تجارب مختلفة كابدها المؤلف مع شخصيات وأعمال ومواقف متنوعة لعدد من الأدباء والفلاسفة صدرت كلها عن تشابك الفكر والعاطفة، والفلسفة والفن، كما حاولت أن تبين للقارئ أن التذوق والتأمل كليهما لا يستغنيان عن الحب والتعاطف والمشاركة، دون أدنى تفريط فيما يقتضيه منهج البحث من أمانة ودقة واستقصاء، فإن هذا الكتاب الذي يواصل الرحلة نفسها يحاول أن يجمع الطرفين في مركب واحد، ويخاطر بدخول تلك الأرض الحرام التي تشف فيها الحدود التقليدية بين الشعر والفكر، لتنفذ في النهاية إلى ما يمكن وصفه بشعر الفكر وفكر الشعر. ولهذا جاء عنوان الكتاب تعبيرا عن اللحن الأساسي الذي لم يتوقف صاحبه عن ترديده والتنويع عليه، كما عبرت المقالات أو بالأحرى المحاولات المختلفة التي يضمها بين دفتيه عن تلك التجربة المحورية بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
سيلاحظ القارئ المتعاطف مع إنتاجي السابق أن بعض المحاولات في هذا الكتاب قد تطورت خلال العشرين سنة الماضية، وتبلورت في كتب كاملة. ف «ثورة الشعر الحديث» كانت إرهاصا بالكتاب الكبير الذي يحمل نفس العنوان (ظهر جزآه الأول والثاني عن هيئة الكتاب في سنتي 1972م، 1974م)، «ولم الشعراء في الزمن الضنين؟» كانت مقدمة أولية لكتاب عن «هلدرلين» شاعر الغربة والاغتراب (صدر سنة 1974م عن دار المعارف)، «وجوته وعصره» ثمرة لقاء حميم مع شاعر الألمان الأكبر الذي سبق أن عشت مع ديوانه الشرقي في «النور والفراشة» (1979م)، وترجمت بعض روائعه كالحكاية والأقصوصة (1966م)، ومسرحية توركواتو تاسو (1967م)، وكتبت العديد من المقالات عن أشعاره ورواياته. فإذا اتجه القارئ إلى الفكر والمقالات والدراسات التي تناولته، وجد أنها محاولات مع روح الشكل - إن صح هذا التعبير - ومجاهدات لتحقيق التزاوج العسير بين الفكر والفن، بحيث يلتف الفكر في غلالة الفن، وينهل الفن من نبع الفكر.
Неизвестная страница
وكل هذا يعبر كما قلت عن اقتناع أكدته تجربة حياتي وعملي العقلي والوجداني، سواء في الفلسفة التي أعيش من تدريس تاريخها منذ ما يقرب من ربع القرن، أو في الأدب الذي بدأت طريقي فيه بكتابة القصة القصيرة والمسرحية والمقالة، وما زلت أكافح للاستمرار في السير عليه على الرغم من كل المرارات والمعوقات.
ولقد ازداد ميلي في السنوات الأخيرة إلى الاعتقاد بأن الفيلسوف يمكن أن يكون في صميمه فنانا وأديبا انتزع الفكرة المجردة من إطارها المحسوس، وقنع بالنواة الجافة دون الثمرة الحية، وأن الفنان والأديب في حقيقته فيلسوف كسا الفكرة بالصورة الحسية وأحياها بالعاطفة الجياشة. لست أريد من ذلك أن أخلط بينهما، فلكل طريقته ورؤيته ومنهجه بطبيعة الحال، ولن يرضى الفيلسوف أن نجعله شاعرا أو أديبا، كما لن يسعد الأديب والشاعر أن نحشره مع الفلاسفة في نظام أو نسق فلسفي محدد، ولكن المقصود أن التفاعل بينهما عميق وأكيد، وإن يكن غير مباشر وشديد التعقيد، وأنه قد آن الأوان لرفع الحواجز السميكة، وإزالة الأسلاك الشائكة التي طالما فصلت بينهما (راجع المسألة من جوانبها المختلفة في ليوناردو والفلاسفة وبين الشعر والفلسفة، وتأمل كذلك بعض جوانبها في الدراستين المترجمتين اللتين تعالج إحداهما قضية العلم والعلمانية في واحدة من أخطر الروايات العربية الحديثة، وقضية الرؤية وتعلمها من المنهج الظاهرياتي والفلسفة الفينومينولوجية عند مؤسسها هسرل).
والواقع أن الأمر - فيما يخصني على الأقل - لم يكن محاولة لجعل الفكر شاعريا أو وضع الشعر في قوالب الفكر. لقد كان في الحقيقة أبعد ما يكون عن التعمد والقصد؛ لأنه ظل على الدوام نزعة تلقائية تحكمها عوامل التكوين والطبع والمزاج بجوانبها البيولوجية والثقافية ... ومحاولاتي في الكتابة الفلسفية عن أفلاطون على سبيل المثال في صورة الخاطرة الشاعرية، أو عن الحكماء السبعة في صورة لوحات درامية، بجانب محاولات أخرى في كتابة الخاطرة والمقالة الفنية والقصة والمسرحية والبكائية، قد لا تعبر فحسب عن الصراع الذي عانيته، وما زلت أعانيه بين الفلسفة والشعر، وبين العلم والإبداع، بل ربما تجاوزت ذلك إلى محاولة التجريب في الشكل وتأصيله، ومواصلة المحاولة التي بدأها روادنا الإحيائيون لمد الجسور بين جذورنا التراثية التي نتشبث بها والتجارب العالمية التي نحرص على استيعابها والإفادة منها. ولذلك فإن المحاولات التي تطل عليها اليوم - مهما يكن الرأي في جدواها وفي قدرتها أو عجزها عن التغيير والتأثير - هي في الواقع جزء لا يتجزأ من محاولات جيل أتشرف بالانتماء إليه، جيل أخلص الجهد في هذه المواجهة الحضارية المستمرة، وسواء لقي الجحود والنكران، أو حظي في حياته أو بعد موته بشيء من العرفان والتقدير، فالأهم من ذلك في ميزان الحقيقة الحرة المنصفة أنه أخلص وصدق، وحاول أن يتقن عمله قبل كل شيء، ويجود بالعطاء دون أن ينتظر الجزاء.
إن الكاتب يقدم شهادته على الحقيقة بقدر ما يسعه من الجهد، وفي هذا الكتاب شهادة واعتراف، ستشعر بهما خصوصا في الحوار والشهادة اللذين رأيت من واجبي ومن حق التاريخ أن أضيفهما للكتاب. وإذا كانت هذه الشهادة لا تخلو من الأسى والحسرة على جدوى الكلمة التي لم تتحول بعد إلى فعل قادر على التغيير، ولم تجد حيلة - أمام سقوط القيم وظواهر الانهيار والانتحار الحضاري التي لم تعد خافية على أحد - سوى أن تلجأ إلى الهمس والمناجاة، فإنها لا تركن لليأس، ولا تعدم الإصرار على الأمل في تجاوز الواقع المشوه السائد إلى واقع آخر ممكن، ولا بد من المغامرة والتجريب لتحقيقه. وهذا الكتاب بتجاربه المتواضعة يشارك في السعي لتحقيق الأمل المشترك.
وهل الحياة والفن والأدب والعلم في النهاية إلا تجارب ومحاولات؟
القاهرة في أغسطس 1987م، عبد الغفار مكاوي
ثورة الشعر الحديث
ملامح وخطوط
1
قصيدة الشعر كائن لغوي حي، يدين لصاحبه بالوجود، كما يدين للعصر الذي عاش فيه، والجو الفكري والحضاري الذي تنفس هواءه. والعصر الحديث بالمعنى الواسع لهذه الكلمة قد بدأ مع بداية الثورة الصناعية باكتشاف القوى البخارية والمائية، ثم مضى الإنسان في صراعه المستمر للانتصار على الطبيعة، واستغلالها وتجريدها من أسرارها وألغازها، حتى وصل به إلى قمة القلق على حياته ومصيره مع اكتشاف الطاقة الذرية، وسباقه على غزو الفضاء.
Неизвестная страница
ولقد تغيرت نظرة الإنسان إلى الطبيعة كما تغيرت نظرته إلى نفسه وإلى المجتمع البشري في خلال القرنين الأخيرين تغيرات كبيرة صاحبت ثوراته الصناعية والاجتماعية والدينية والعقلية، أو تأثرت بها ونتجت عنها، وانعكست بالضرورة على وجدان الشاعر، وظهرت في تعبيره الفني فيما يمكن أن نسميه بثورة الشعر الحديث أو بالأحرى ثوراته المتعددة. فحين كان الناس من حوله مشغولين بالواقع الخارجي، وبالسيطرة على الطبيعة، وبناء المصانع، والمدن الحديثة، واستغلال الأرض، وإنتاج المزيد من السلع، كان هو يقف من ذلك كله موقف المؤيد حينا والمعارض في معظم الأحيان، فيمجد التغيير السياسي والاجتماعي مرة، أو ينصرف إلى تأمل ذاته، واستكشاف عالمها الباطن المستتر في اللاشعور أو الرمز أو الأسطورة مرات. وكل من ينظر إلى تطور الفكر والحضارة في المائة والخمسين سنة الأخيرة لا بد أن يلاحظ مدى التغير الذي تم في هذين المجالين في وقت واحد: في مجال المجتمع والطبيعة، وفي مجال النفس والعالم الباطن.
وطبيعي أن هذا التطور في اكتشاف العالم الباطن قد سار في تيارات معقدة، وأنه كان يختلف في أوروبا وأمريكا من حيث العصر والمزاج والحركة الأدبية التي يرتبط بها هذا الشاعر أو ذاك، ولكن هذا التطور كان يتتابع في حلقات متتابعة ينبع أحدها من الآخر. فالرومانتيكية كانت كامنة في الكلاسيكية التي أرادت أن تبعث القديم وتطوره، والرمزية هي ذروة النضوج التي وصلت إليها الرومانتيكية المزدهرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، والواقعية كانت رد فعل للرمزية على اختلاف أشكالها واتجاهاتها.
ولقد كان الشاعر - الذي خلع عن نفسه صفة الناظم إلى الأبد - يحاول في أثناء هذا كله أن يكتشف مجاهل عالمه الباطن كما يكتشف لغته ويعيد بناءها لتكون قادرة على الإيحاء بعالمه الجديد. صحيح أن هذه التيارات والمدارس التي ذكرتها تختلف فيما بينها باختلاف البلاد وطبائع الأفراد، كما أن لكل منها خصائصه المعقدة المتمايزة وشعراءه المختلفين عن بعضهم أشد الاختلاف، إلا أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن حركة اكتشاف الواقع الخارجي التي كادت تصل إلى نهايتها - على الأقل من ناحية السطح والظاهر - لم تستطع في مجال الواقع الداخلي أن تنتهي من اكتشاف عالم الباطن أو «أفريقيا الباطنة» كما يسميها أحد الكتاب، بل لعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن كل المحاولات والمغامرات الجريئة التي يقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفريقياهم» هذه إلا سوادا وكثافة، في الوقت الذي فرغ فيه زملاؤهم الجغرافيون من زمن طويل من اكتشاف أفريقيا، حتى لم يعد أحد يجرؤ اليوم على تسميتها بالقارة السوداء.
إن الصورة العامة للشعر الحديث والمعاصر صورة محيرة، ولن يقربنا منها سوى الرجوع إلى الأصول التي مهدت لها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلقاء نظرة على ملامحها الفردية عند بعض من يمثلونها أصدق تمثيل. ولما كان هذا شيئا يتجاوز حدود هذا المقال، فليس أمامنا إلا تقديم بعض الملامح والخطوط العريضة لما سميناه ثورة الشعر الحديث.
نشأ الأسلوب الشعري الذي يسيطر اليوم على القرن العشرين في فرنسا لا في أي بلد آخر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ولقد مهد له الشاعر الكبير بودلير (1821-1867م)، بعد أن ظهرت بوادره عند شاعر الرومانتيكية الألمانية نوفاليس (1772-1801م)، والشاعر الكاتب الأمريكي إدجار آلان بو (1809-1849م)، حتى وصل الشاعران رامبو (1854-1891م) ومالارميه (1842-1898م) إلى أبعد الحدود التي يمكن أن يصل إليها الشعر.
والواقع أن الشعر في القرن العشرين يبدو كأنه لم يعد يأتي بجديد. وليس في هذا القول ما يغض من قيمته، أو يقلل من شأن الشعراء المجيدين فيه، ولكنه يتيح لنا التعرف على وحدة الأسلوب التي تربطه بأولئك الرواد العظام. ووحدة الأسلوب التي نقصدها لا تعني الاطراد ولا الملل، ولكنها تدلنا على الروح العامة التي تجمع بين الشعراء على اختلافهم في اللون والموضوع والأداء. فنحن لا نستطيع مثلا أن نتحدث عن وحدة الأسلوب عند شاعرين مثل لامارتين وسان - جون - بيرس في اللغة الفرنسية، أو ليوباردي وأنجارتي في الإيطالية، أو جوته وجوتفريد بن في الألمانية، أو شوقي وأدونيس في العربية، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن شعراء مثل رلكه وألبرتي وإليوت ورينيه شلر، على ما بينهم من اختلاف في النشأة والنظرة والأصالة والمزاج. والمهم هو أن نعرف أن الظواهر التي رأت النور في القرن الماضي ما زالت تؤثر على الحياة الشعرية حتى اليوم. وسواء تبين لنا أن شاعرا من الشعراء قد تأثر بسلفه أو لم يتأثر، فإن ذلك لن يعفينا من التسليم بحقيقة مهمة تسري على الشعر سريانها على سائر الفنون، ألا وهي أن لكل عصر روحه وأسلوبه الملزم، وأن هناك نهجا في الرؤية والإحساس والأداء لا يزال يسود الشعر الأوروبي منذ أكثر من مائة عام. ولا يصح أن ننخدع بكثرة المدارس والبرامج الأدبية التي ظهرت في أقل من قرن من الزمان، فقد لا يكون هذا التنوع الهائل سوى نوع من خداع البصر، يبين مدى خصوبة الشعر الحديث، وتعدد الفروق والظلال فيه، ولكن لا يجوز أن يحجب عنا وحدة الروح العامة التي تسوده وتتغلغل فيه.
إن من يتصفح بعض المراجع في تاريخ الأدب يجدها تتحدث عن الرمزية، وتكاد تتفق على تحديد نهايتها بسنة 1900، ولكن هل انقطع تأثير أقطابها - وفي مقدمتهم مالارميه - على شعراء متأخرين مثل فاليري وجوين وأنجارتي وإليوت؟ وهل انقطع سيل المدارس و«المودات» الأدبية في الشعر أو في غيره من الفنون من دادية ومستقبلية وتعبيرية وسيريالية وحديثة وما وراء الحديثة ... إلخ؟ القارئ يعرف الجواب، فلنحاول أن ننظر معا في بعض الملامح والخطوط العامة في هذه الصورة المحيرة التي يقدمها لنا الشعر الحديث.
1
ليس من العسير أن نضع أيدينا على اتجاهين رئيسيين في بناء الشعر الحديث سار فيهما رامبو ومالارميه في القرن الماضي. فهناك إن شئنا التبسيط ما يمكن تسميته بالشعر المتحرر من الشكل أو الشعر غير المنطقي في جانب، وهناك الشعر العقلي الملتزم بالشكل المحكم الدقيق في جانب آخر. أما هذا الاتجاه الأخير، فيعبر عنه فاليري (1871-1945م) في سنة 1929 بقوله: «إن القصيدة ينبغي أن تكون عيدا من أعياد العقل.» وأما الاتجاه الآخر المضاد، فيعبر عنه رائد المدرسة السيريالية أندريه بريتون (1886-1967م) حين يقول: «ينبغي أن تكون القصيدة حطام العقل.» أو حين يقول: «إن الكمال هو الكسل.»
ووجود هذه الأضداد في شعر القرن العشرين شيء يرتبط بصورته العامة. فليس الأمر مجرد خلاف بين حزبين متعارضين، بل هو تعبير عن قطبين يدور حولهما الشعر الحديث كله، وقد يمثلان صراعا تدور رحاه في وجدان الشاعر الواحد بين العقل والفوضى، والنظام والحلم، والتجريد والهلوسة. وعلى الرغم من اختلاف النموذجين فهما يؤكدان مشاركتهما في وحدة البناء العام التي تميز الشعر الحديث. فالشعر العقلي والشعر غير المنطقي يشتركان في بعدهما عن العاطفية المسرفة، وزهدهما في قابلية الفهم، وتخليهما عن الشيئية المعتادة، وإيثارهما للإيحاء، واستثارة الخيال، وجعلهما من القصيدة كيانا مستقلا بنفسه، يكمن مضمونه في لغته الحرة وخياله الطليق ولعبه بالأحلام لا في محاولة «نسخ» العالم أو «التعبير» عن العواطف. وكل هذه أشياء تصدم القارئ العربي وتحيره؛ لأنه اعتاد من الشعر أن يصور ويعبر، ولكن لا بد له من تقبلها وتعويد نفسه عليها إذا أراد أن يجد طريقه إلى الشعر والفن التشكيلي والموسيقى الحديثة. (2) البحث عن لغة جديدة
Неизвестная страница
كان من الطبيعي أن تكون لغة الشعر الجديد لغة جديدة، فتفسير قصيدة من هذا الشعر يحتاج منا أن نقف عند أسلوبها في الأداء أطول بكثير من الوقوف عند موضوعها أو مضمونها أو الباعث عليها. كان في استطاعة الناقد فيما مضى أن يبين للقارئ مضمون القصيدة من الشعر القديم. وكان ذلك أمرا ممكنا ومقبولا ومفيدا؛ إذ كان هدف الناقد والشاعر أن يخطبا ود القارئ، ويمهدا له طريق الإحساس بقصيدة كتبت بلغة تخدم نظام حياته الطبيعية. غير أن الأمر مع الشعر الحديث يختلف عن ذلك اختلافا كبيرا. فليس من الممكن أن نفهم قصيدة من شعر إليوت أو سان - جون - بيرس أو أنجارتي من مضمونها، وإن كانت لا تخلو بالطبع من مضمون أو مجموعة من المعاني المتصلة بعالم هذا الشاعر أو ذاك. فأسلوب الأداء هو المظهر اللغوي المباشر للتحول الذي طرأ على الواقع والمألوف في هذا الشعر. لقد اختل التوازن القديم بين مضمون العبارة وأسلوب أدائها، وأصبح الأسلوب الجديد بما فيه من تنافر وتضاد وإغراب وقلق وتقطع وفجوات هو الذي يلفت الانتباه قبل كل شيء سواه. فنحن لا نستطيع الآن كما كان الحال قديما أن نشغل أنفسنا بمضمون القصيدة عن الأسلوب الذي تم به التعبير عن هذا المضمون؛ لأن التباين بين أسلوب التعبير والشيء المعبر عنه قد أصبح من أهم قوانين الشعر الحديث. هذا الأسلوب المتنافر الشاذ قد زاد ثقله في القصيدة، حتى كاد يجرد الموضوعات التي يلمسها من أهميتها، بل من وجودها نفسه. فالقصيدة تتحاشى الاعتراف «بموضوعية» العالم الواقع خارج الذات أو داخلها، وإذا تناولت بعض بقايا هذا العالم الموضوعي الخارجي، فهي إنما تستخدمها أداة لتحريك المخيلة ودفع طاقتها على التحوير والتبديل. وليس معنى هذا أن الشعر الحديث يقصر نفسه على موضوعات قليلة أو عديمة الشأن، كما فعل مالارميه مثلا. وحتى إذا حدث هذا، فلا يمنع أن تكون هناك قصائد تزدحم بالموضوعات والأشياء تخضع الآن لتركيبة جديدة وأسلوب جديد في الرؤية والأداء، وأنها قد أصبحت مادة تتحكم فيها طاقة الذات الشاعرة، وقدرتها على التخيل، وفقدت كثيرا جدا من «موضوعيتها وشيئيتها». ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الشاعر الحديث أن يؤلف بين أشياء لا تآلف بينها في الواقع والطبيعة، ويرمز إلى أشياء لا يتطابق فيها الرمز والمرموز إليه ، ويشبه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الإطلاق.
أسلوب الشاعر الجديد إذن يأبى على المضمون أن يكون له وجود متماسك وقيمة في ذاته. إنه لا يكف عن البحث عن اللغة الجديدة. إنه يريد كما يقول أبوللينير (1880-1918م)، لغة جديدة لا يدري النحويون عنها شيئا، ولكن كيف ستبدو هذه اللغة المفاجئة الناشزة؟
يقول «أراجون» (1897-1942م) في مقدمة ديوانه «عيون إلزا»: إن الشعر لا وجود له إلا بفضل الخلق الجديد المستمر للغة، وذلك بتحطيم النسق اللغوي، وتكسير قواعده، وتغيير ترتيبه المعتاد في الكلام. والشاعر «ييتس» يقول: «ليست لي لغة، فكل ما أملكه لا يزيد عن مجموعة من الصور والتشبيهات والرموز.» وفي قصيدة «إليوت» المشهورة «أربعاء الرماد» نجد هذا البيت الغريب: «لغة بلا كلمة، وكلمة بلا لغة». وسان - جون - بيرس يتحدث عن التركيب اللغوي لديه، فيشبهه بالبرق والصاعقة، وكأنما يتفق هؤلاء الشعراء جميعا على أن هذه اللغة الجديدة لن تقوم لها قائمة حتى تحطم اللغة القديمة وتكسر قواعدها المألوفة وتحل التنافر والتعارض والغرابة محل التجانس والتناسق والنظام.
معنى هذا أن اللغة الجديدة ستصبح لغة مفاجئة للقارئ، لا بل معادية له. ولقد ألح الشعراء والفنانون الجدد على كلمة الصدمة أو المفاجأة، حتى صارت تعبيرا اصطلح عليه الفن الجديد من عهد بودلير. يؤيد هذا ما يقوله فاليري من أن أي دراسة للفن الحديث في نصف القرن الأخير لا بد أن تبين كيف كانت تثار مشكلة الصدمة كل خمس سنوات. وهو نفسه يعترف بأن شعر رامبو ومالارميه قد أثرا عليه تأثير الصدمة المفاجئة عند قراءته لأول مرة. والسيرياليون يتحدثون عن «الأذهال» الذي ينبغي أن يحدثه الشعر الجديد، ويذهب زعيمهم «بريتون» إلى حد القول بأن الشعر إنما هو إعلان للتمرد والاحتجاج، كما يقول سان - جون - بيرس (1887م) أن «ترف الشذوذ» هو أول مواد السلوك الأدبي. وكأني بهذه اللغة الجديدة لم تحرص منذ عهد الرومانتيكية على شيء حرصها على الاحتجاج، وكأنها لم تسع إلى شيء سعيها إلى زيادة الهوة التي تفصل بين الشاعر وجمهوره، بحيث لا نغالي إذا قلنا إنها تحاول عن قصد أو غير قصد أن تصدمه وتفاجئه وتعاديه؛ ذلك لأن الاهتمام بالأسلوب وحده قد أصبح هدفا في ذاته، يختفي وراءه المعنى والموضوع والمضمون، ويستوي معه أن يتناول خلود الروح، أو يصف حذاء قديما أو علبة صفيح فارغة. (3) اللغة سحر وإيحاء
من خصائص الشعر الحديث أنه أصبح منذ عهد رامبو ومالارميه نوعا من السحر اللغوي. وكثيرا ما تظهر فكرة الإيحاء في كتابات النقاد في القرن العشرين في كلامهم عن التأثير الشعري. فبرجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» (1889م) قد جعل منه عنصرا أساسيا من نظريته في الفن، وكثير من الرسامين والموسيقيين يحدثوننا عن أثره في إنتاجهم. والمقصود بالإيحاء هو تلك اللحظة التي يطلق فيها الشعر «العقلي» طاقات وإشعاعات روحية يؤخذ القارئ بسحرها، وإن لم يفهم منها شيئا. هذه الإشعاعات الإيحائية تأتي في الغالب من الطاقات الحسية التي تزخر بها اللغة، أعني من الإيقاع والنغم والصوت. وقد تأتي من تلك المعاني والدلالات التي توحي بها الكلمة أو تحدثها مجموعة الترابطات الشاذة بين كلمات لا تجمع بينها صلة ظاهرة ولا مألوفة. فمثل هذا الشعر الإيحائي الذي يعتمد على سحر اللغة يزيد من سلطان الكلمة ويجعلها أصل الفعل البشري وأول أسبابه. إنه لا يعتبر العالم حقيقة واقعة؛ لأن الكلمة وحدها هي الواقع بالنسبة إليه. ومن هنا نفهم ما يقوله بعض الشعراء المحدثين - مثل ماكليش - من أن القصيدة لا تدل على شيء، بل توجد أو تكون. ومعظم الشروح والتعليقات التي تقدم لما يسمى ب «الشعر المحض» تدور حول هذه الفكرة. ويظهر أن المبدأ الشعري الذي قال به «إدجار ألن بو» قد ثبتت صحته في حركة الشعر الجديد. فالشاعر الكاتب الأمريكي يرى أن يصمم الشاعر قصيدته مبتدئا بقوة النغم الكامنة في اللغة والسابقة على المعنى، فإذا تم له ذلك استطاع بعدئذ أن يضفي عليها المعنى الذي سيظل على الدوام شيئا ثانويا. وقريب من هذا ما يقوله الشاعر الألماني «جوتفريد بن» من أن القصيدة تكون قد تمت بالفعل قبل البدء فيها، ولكن الشاعر لا يكون قد عرف نصه اللغوي بعد، ولعل شعر «بن» نفسه أن يكون من أصدق الأمثلة على أصالة الكلمة، وسبق الصوت على المعنى. ولعل هذا المبدأ هو الذي مكنه من معالجة أبعد الموضوعات عن الشعر، وجعلها مع ذلك شاعرية.
وفي شعر رامون خيمينيز (1881-1958م) وهنري ميشو (1899م) وتوماس إليوت شواهد كثيرة على هذا التأثير السحري - بل المغناطيسي في بعض الأحيان - الذي يأتي من نغم الألفاظ، أو من تكرار بعض الأبيات بشكل مستمر، أو من مجرد اللعب بالمقاطع والألفاظ أو بداياتها، بحيث تخلق توافقات إيقاعية وتركيبات موسيقية تنفذ مباشرة إلى الأذن، وإن لم تصل إلى العقل، وما ذلك إلا لأن هذا الشعر يعتبر اللغة طاقة نغمية قبل كل شيء. ولا شك أن أبرز ممثليه من الشعراء العقليين هما الشاعران فاليري الفرنسي وجوين الإسباني. (4) شعر بلا منطق أو وراء المنطق
وعلى الطرف الآخر من هذا الشعر النابع من تراث مالارميه نجد ما يمكن أن نسميه بالشعر اللامنطقي، شعر الهواجس والأحلام و«الهلوسات» الصادرة عن حياة اللاشعور الباطنة. والشعراء الذين يمثلون هذه النزعة يتأثرون برامبو ولوتريمو (1846-1870م) وعلوم الأسرار وكيمياء المعادن القديمة وكتابات اليهود المعروفة بالقابالا. فشعرهم هو شعر الأحلام - بالمعنى النقي لهذه الكلمة - سواء أكانت أحلاما ترى في النوم أم أحلام يقظة تصطنع بالعقاقير والمخدرات. وذات الشاعر في هذا الحلم الشعري الذي يخلقه الخيال، أو يرى في المنام ذات منسلخة عن الواقع تؤمن بأن الإنسان هو سيد العالم بفضل ملكة الحلم التي وهبت له وحده.
فالشعر اللامنطقي يستفيد إذن، مثله في ذلك مثل الشعر العقلي، من قدرة الإنسان على تخيل الصور غير الواقعية، ولكنه في حالتنا هذه يتلقى تلك الصور من أعمق طبقات الحلم، ولا يتدخل في ترتيبها. إن الإنسان عند شعراء الحلم، كما يقول بريتون، ليس وحشا ذهنيا، ولكنه - بفضل أبحاث فرويد ويونج - كائن ينطوي على قوى مظلمة مجهولة تكمن في أعمق أعماق وجدانه. وتفسير «يونج» للأدب بوجه عام، وللشعر بوجه خاص أنه ينشأ تحت تأثير «رؤى أولية» تعيش في اللاشعور الجمعي، وما الشاعر إلا «الوسيط» الذي تتدفق خلاله هذه الرؤى. وبذلك تكون عملية التشكيل الفني عملية ثانوية إلى جانب الاهتمام بهذا العالم المعتم السحيق القدم.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا تأثيره على السيرياليين ورائدهم الأول أبوللينير. فقد كتب في سنة 1908م شعرا منثورا بعنوان «أونيرو كريتيك». (عن عنوان الكتاب القديم الذي ألفه أوتيمدور في تفسير الأحلام) ولا بأس من ذكر بعض سطور من هذا النص، اخترناها حيثما اتفق؛ لأن ذلك لن يغير من الأمر شيئا. وسنجد أن أبوللينير يجمع صورا لا واقعية ونتفا من الأحداث التي صفها إلى جانب بعضها بغير رابطة تجمع بينها، بحيث يستطيع القارئ أن يعيد ترتيبها على نحو آخر. وإذا كانت هناك ثمة رابطة بين الصور والأحداث، فيمكن أن نسميها «التحول اللامعقول» الذي يشبه ما يحدث في الأحلام. فالرأس تتحول إلى لؤلؤ والأنغام تتحول إلى ثعابين. ولن تقابل إنسانا بمفرده في هذا العالم، بل حشدا من الناس. وليست الصور وحدها قريبة من الأحلام، بل كذلك طريقة التعبير. إنه عالم أحلام يزدحم بالجنون، والقبح، والجريمة: «كانت قطع الفحم في المساء شديدة القرب مني، بحيث شعرت بالخوف من رائحتها. تزوج حيوانان غير متكافئين، وأصبحت فروع الكروم عناقيد مثقلة بصور الأقمار. من حلقوم القرد ارتفعت ألسنة اللهب، وزخرفت العالم بالزنابق. الطغاة فرحوا. وأقبل عشرون خياطا أعمى. وقرب المساء طارت الأشجار هاربة، وحولت نفسي إلى مائة شخص. القطيع الذي كنته سقته إلى البحر. السيف أطفأ ظمئي. مائة ملاح قتلوني تسعا وتسعين مرة. وشعب كامل ضغطوه في المعاصر، راح ينزف دما وهو يغني. ظلال غير متساوية نشرت السواد بمحبة على حمى الأشرعة القرمزية، بينما تكاثرت عيوني في الأنهار، في المدن وفوق ثلوج الجبال.»
ومع أن السرياليين قد توالى إنتاجهم منذ العشرينيات من هذا القرن، فإن برامجهم تستحق الاهتمام أكثر بكثير من إنتاجهم. فلقد دأبوا منذ عهد «رامبو» على تأكيد لون من ألوان الإبداع في الشعر حشدوا في سبيله لغة أقرب ما تكون إلى لغة الحلم. ففي رأيهم أن في مقدور الإنسان الذي يتخبط في ظلام اللاشعور أن يمد تجربته الفنية بلا حد، وأن مرضى العقول يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم عالما فوق الواقع لا يقل «عبقرية» عن عالم الأدب والشعر، وأن اللاشعور هو الذي يوحي بالشعر والأدب دون التقيد بقيد ولا شكل. تلك هي بعض مواد هذا البرنامج الغريب الطموح. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن السرياليين يخلطون فيه بين التقيؤ والتفنن، وبين الإفزاع والإبداع. ولا يستطيع منصف أن يذكر لهم شعرا عظيما، وإن ذكر لهم برامجهم ونظرياتهم الجديدة الجريئة. وحتى الشعراء الكبار الذين يحسبون عادة من السيرياليين، مثل أراجون (1897م-...) وإلوار (1895-1952م)، لا يدينون بشعرهم لبرامج السيرياليين، بل لذلك الأسلوب العام الذي شاع في عالم الأدب منذ عهد رامبو، وجعل الشعر لغة الأحلام والصور المجردة عن المنطق والمعقول. إن كل ما يذكره الناقد للحركة السيريالية هو أنها كانت نتيجة لا سببا، وأنها شكل واحد من أشكال عديدة تعبر عن شوق الإنسان الحديث إلى الأسرار والألغاز. وقد يشفع لشطحاتهم أن نذكر على كل حال أن الشعر الحديث في أوروبا ما يزال يغوص في غياهب الأحلام، وكأن الشعراء يصرون على أن ينطبق عليهم هذا الوصف الذي يشهر بهم ويمجدهم في آن واحد، فيصورهم كالسائرين نياما. (5) بين الحداثة والتراث
Неизвестная страница
إذا كان الشعر الحديث يحطم القديم، فهل معنى هذا أنه يقطع صلته بالتراث؟ وهل يستطيع شاعر أن يستغني عن التراث، فيكون كالسمكة التي خرجت من الماء؟ ثم ما هو موقفه من عالم التجربة والعلم والتصنيع والتخطيط والمحن الجماعية، وإلى أي حد يرفعه أو يتأثر به؟!
لقد اهتم الشعراء منذ عهد بودلير بهذا الوجه الجديد المزعج من المدينة والتكنيك الحديث، وكان لهذا الاهتمام جانبه السلبي والإيجابي. فأبوللينير يدخل عالم الآلة الواقعي مع أغرب أحلام العبث والمحال في نسيج واحد. وتصبح الآلة في يديه شيئا سحريا، بل قد تحل عليها البركات، وتقدم إليها القرابين. إنه في قصيدته «منطقة» (1913م) يضع قاعات المطار والكنائس في منزلة واحدة، ويجعل المسيح «الطيار الأول» الذي يضرب أعلى رقم قياسي. ونجد مثل هذا في قصيدة جاك بريفير (1900م-...) «الصراع مع الملاك» (1949م)، حيث نرى هذا الصراع يدور في حلبة المغنيسيوم كما نرى الإنسان يسقط صريعا فوق نشارة الخشب:
لا تذهب إلى هناك،
كل شيء قد رتب من قبل،
اللعبة زيفت.
وعندما يظهر في الحلبة،
تحيطه هالة من المغنيسيوم،
عندئذ ستدوي أصواتهم: «حمدا لله.»
وقبل أن تنهض من مقعدك
سيدقون لك جميع الأجراس،
Неизвестная страница
سيقذفون في وجهك
بالإسفنجة المقدسة،
ولن تجد الوقت للتشبث بريشة،
سيلقون بأنفسهم عليك،
وسوف يصيبك تحت الحزام،
وعندئذ تنهار
وذراعاك مصلوبتان في غباء
في نشارة الخشب،
ولن تقوى أبدا على الحب.
ولكن يبدو أن الشعر الجديد قد تأثر بهذا العالم الصناعي الجديد تأثرا مزدوجا. فالحياة الآلية التي نحياها، والمعيشة في المدن الكبيرة المزدحمة يمكن أن تفتن الإنسان أو تعذبه، ويمكن أن تثير في نفسه إحساسات جديدة أو تملأها بالخراب والضياع.
Неизвестная страница
إن الشعر الحديث يعبر عن عذاب الإنسان وضياع حريته في عالم تتحكم فيه الآلات والساعات والمشروعات الكبرى، وتفجعه الحروب والكوارث التي لا تنقطع، وتحيله في ظل الثورة الصناعية المتجددة إلى كائن صغير ضئيل. إن أجهزته وآلاته تشهد على قوته وضعفه، وتتوجه وتخلعه عن العرش. ولا شك أن هناك صلة قوية بين هذه التجارب التي يعانيها الإنسان وبين بعض خصائص الشعر الحديث. فالانطلاق إلى عالم اللاواقع، والبعد بالخيال الجامح عن كل ما هو مألوف، والشغف بالرموز والأسرار الخفية، و«تعقيل» اللغة إلى أقصى حد يمكن أن تكون كلها محاولات من جانب النفس الحديثة للمحافظة على حريتها في مواجهة عالم يتحكم فيه المال والآلة، وإنقاذ سر العالم ومعجزة الخلق في زمن يلهث وراء السرعة والمنفعة.
ولكن إذا كان الشعر يعلن احتجاجه على هذا العصر، فهو من ناحية أخرى يتأثر به وينطبع بطابعه. فالشاعر الحديث ميال إلى التجريب والمحاولة، دقيق في صنعته دقة العالم في معمله، والرياضي مع رموزه وأرقامه، متأثر بروح العصر في صلابته وبروده وقسوته. إنه يشكل تلك القصيدة المركبة التي تمتزج فيها الصور الشعرية القديمة - كالنجوم والبحار والرياح - بصور الحضارة الآلية واصطلاحات العلماء المتخصصين. فشاعر مثل «جوفيه» يقول في إحدى قصائده: «أرى بقعة غليظة من زيت الآلة، وأتفكر طويلا في دم أمي». وشاعر آخر مثل «كاردريللي» يشبه ساعة الموت بلحظات الانتظار تحت ساعة المحطة، حيث يحصي الإنسان الدقائق والثواني. وأشعار إليوت وبن وسان - جون - بيرس تزدحم بالتفاصيل العملية والفنية، ومع ذلك تظل محتفظة بصدقها وشاعريتها. على أننا إذا كنا نلاحظ هذا كله، ونقرر وجوده، فلا ينبغي أن نتجاهل خطره. فقد تؤدي المبالغة في هذا الاتجاه - وبخاصة لدى شعراء لا يملكون الموهبة الكافية والثقافة الحقة، والقدرة على الرؤية الشاملة - إلى أن يقضي الشعر على نفسه بنفسه، ويستسلم لهذه النزعة العامة المدمرة التي تزداد ضراوة كل يوم، وكأن الإنسان لا يسعى إلى شيء كما يسعى إلى تفجير الكرة الأرضية في الهواء.
مهما يكن الأمر، فإنه إذا كان الشاعر الحديث قد قطع صلته بالتراث، فقد فتح قلبه وعقله على جميع الآداب والديانات، وراح يغوص في أعماق النفس البشرية، ويلتقط الصور والرموز السحرية والأسطورية التي عرفتها مختلف الشعوب في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونحن نلاحظ هذا بالفعل في أشعار «رامبو» قبل أن يكتشف «فرويد» اللاشعور أو يكتب «يونج» نظرياته عن اللاشعور الجمعي أو النماذج الرئيسية.
وهناك عديد من النصوص في الشعر الحديث تتردد فيها أصداء أسطورية وشعبية من كافة الأمم والعصور. فشعر سان - جون - بيرس مثلا يزدحم بإشارات عديدة إلى الرسم القديم، والأساطير الغابرة، وأماكن العبادة عند مختلف الشعوب، و«وازارا باوند» يورد في قصائده نصوصا من الشعر البروفنسالي والإيطالي والإغريقي والصيني والمصري القديم (برسومها الأصلية في بعض الأحيان). وقصيدة إليوت المشهورة «الأرض الخراب» تقتبس من مرجع كبير عن الشعوب البدائية كالغصن الذهبي لفريزر، كما تستفيد من الكتاب المقدس والأوبا نيشاد، وتورد نصوصا عديدة من أشعار بودلير ومالارميه وشيكسبير وأوفيد ودانتي وكتابات القديس أوغسطين. ويحس الشاعر فيما يبدو كأن قصيدته قد أصبحت كالدغل الكثيف، فيتولى التعليق عليها بنفسه. ويصبح هذا تقليدا يحتذيه شاعر إيطالي مثل «مونتاله» أو إسباني مثل «دييجو».
ولكن لا يصح أن تخدعنا هذه الاقتباسات العديدة من النصوص القديمة. فهي لا تدل على ارتباط حقيقي بالتراث، ولا بعصر من العصور الماضية. إن الشاعر يمد يده إلى هذه النصوص والإشارات ويأخذها حيثما اتفق الأمر؛ لأنها أصبحت بالنسبة إليه بقايا ماض تمزق وفقد وحدته. إنه لا يعود إلى الرموز والأساطير ليمجد عصرا، أو يبعث زمنا مضى، وإنما يسوي بينها كما يسوي بين الأشياء التي يستمدها من عالم الواقع، ويضعها إلى جوار بعضها، أو يمزج بينها كيفما شاء هواه. ربما يكون هدفه من ذلك أن يزيدنا إحساسا بتمزق قصيدته أو عدم تماسكها، كتمزق الواقع نفسه، أو ربما يريد أن يلبس أقنعة مختلفة للتعبير عن حالة ضياع واحدة، أو يخلق بهذه الكلمات والرموز القديمة نوعا من سحر الأنغام والصور يضفي على شعره روعة وبهاء، والدليل على ذلك أنه لا يضع هذه الرموز والصور والنصوص المقتبسة في عصرها، ولا يوردها بحسب ترتيبها التاريخي، بل يخلطها بكلمات وشعارات وصور أخرى من العالم الحديث.
والواقع أن من حق الشعر أن يطوف في مختلف البلاد والعصور كما يشاء، ما دام يفعل ذلك للشدو والغناء لا لتقرير حقيقة أو إثبات دليل. وإذا سمعنا شاعرا مثل «جوتفريد بن» (1886-1956م) يقول في قصيدته «أنا ضائعة»:
أنا ضائعة، تفجرت من الغلاف الهوائي،
ضجة الأيون: أشعة جاما - لام -
جزئي ومجال أوهام لا نهاية،
على حجرك المعتم من نوتردام.
Неизвестная страница
الأيام تمضي بك بلا ليل ولا صباح،
السنوات تتوقف بلا ثلج ولا ثمر،
اللانهائي مهدد وخفي،
العالم مهرب.
أين تنتهي؟ أين تعسكر؟ أين تمتد أفلاكك؟
مكسب، خسارة.
لعبة وحوش، أبد وأزل،
تفر إلى قضبانها.
نظرة الوحوش، النجوم أمعاء حيوانات،
موت الأدغال أصل الوجود والخلق،
Неизвестная страница
بشر، مجازر شعوب، حقول كروم
تهوي إلى حلق الوحوش.
العالم فتته الفكر. والمكان والأزمان.
وما نسجت البشرية وما أبدعت،
ليس إلا دالة اللانهائية،
الأسطورة كذبت.
من أين؟ إلى أين ؟ لا ليل، لا صباح،
لا تحية ولا حداد!
تود أن تقترض شعارا، لكن ممن؟
وإذا سمعناه في قصيدة أخرى يقول: «الدوائر تظهر تماثيل أبي الهول العريقة في القدم، كسبات وبوابة من بابل، رقصة من ريو ورقصة سوينج وصلاة »، استطعنا أن نقول كما قدمنا إن الشاعر يسوي بين حقائق التاريخ كما يسوي بين الأشياء التي يجدها أمامه في عالم الواقع، فكل ما يراه في التاريخ أو على الأرض قد صار غريبا بلا أرض ولا وطن. (6) الوحدة والقلق
Неизвестная страница
من أبرز الإحساسات التي ينقلها إلينا الشعر الحديث هو الإحساس بالوحدة والقلق. فالشاعر هو أشد شعورا بوحدة الذات في العالم وانفرادها بين غيرها من البشر. والفكرة قديمة بغير شك. ولعلها قد وجدت قبل الرومانتيكية بكثير، غير أنها أصبحت في أيامنا فكرة جديدة كل الجدة، ترتبط ببدعة العصر أو حقيقته التي ذاعت اليوم على كل لسان، من أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر القلق والوحدة والضياع في الزحام. ولعل الناس لا تتفق على شيء يتعلق بالشعر والشعراء كما تتفق على أنهم أناس متوحدون قلقون غريبو الطبع، اتفاقهم على أنهم مساكين أو «مجانين» أو يتبعهم الغاوون.
وقد عبر الشاعر «أبوللينير» عن ذلك في قصة نثرية بعنوان «الشاعر المقتول» (1916م) يسرد فيها أحداثا عجيبة غير منطقية تنتهي إلى تصور جريمة القتل التي ترتكبها جميع البلاد في حق جميع الشعراء، وتنتهي القصة بأن يصنع أحد المثالين للشاعر المقتول تمثالا من الدم. والشاعر سان - جون - بيرس يقول عن اللغة التي يستخدمها في قصيده الطويل المشهور «منفى» إنها لغة المنفى النقية. وإن دل هذا كله على شيء، فهو يدل على أن القلق قد أصبح سمة العصر التي يتحدث عنها الجميع كما كانوا يتحدثون قديما عن «القمر» أو «الشوق». ولذلك فليس غريبا أن نجد أحد الشعراء الإنجليز (وهو و. ه. أوديني) يؤلف في سنة 1946م قصيدة بعنوان «عصر القلق».
ولنعقد الآن مقارنة سريعة بين الجو العام الذي يسود إحدى قصائد شاعر قديم نسبيا مثل «جوته» (1749-1832م) وبين بعض قصائد المعاصرين. فهو يتحدث في قصيدته سكون (ويحتمل أن يكون قد كتبها في سنة 1795م) عن الفضاء الشاسع المخيف، والبحر الساكن العميق الذي لا تتحرك فيه موجة ولا تهب عليه نسمة:
سكون عميق يسود المياه،
وبلا حركة يمتد البحر،
والملاح ينظر مهموما
إلى السطح الأملس حواليه،
لا نسمة من أي ناحية.
سكون الموت المخيف
في الفضاء الشاسع،
Неизвестная страница
لا تتحرك موجة واحدة.
ولكنه يتبعها بقصيدة أخرى تتفق معها في الموضوع والإيقاع والنغم وهي «رحلة سعيدة». نجد فيها كيف ينقشع القلق وينفك أسار الخوف، ويتشجع الملاح، ثم لا يلبث الشاطئ أن يظهر للعيون من جديد:
تبدد الضباب،
وصفت السماء،
والريح تفك
إسار الخوف.
تتنفس الرياح،
ويتحرك الملاح.
أسرعوا، أسرعوا!
فالموج ينثني،
Неизвестная страница
والبعد يقترب،
وها أنا ذا أرى الشاطئ.
فالخوف والقلق هنا ليسا إلا جسرا يعبره الشاعر إلى الأمل والصفاء. أما ما نجده في الشعر الحديث، فهو يختلف عن ذلك. فيندر أن تجد قصيدة تحدثت عن القلق، ثم استطاعت أن تتخلص منه. وتشبه قصيدة «جوته» السابقة قصيدة «لرامون خيمينز» بعنوان «بحر» تصور رحلة على مركب. ويصطدم المركب بشيء ما، ولكن لا يحدث في الحقيقة شيء. فليس هناك إلا السكون والأمواج وشيء آخر «جديد» يتركه الشاعر بلا اسم. وهكذا يسير الشاعر الحديث من الأمل إلى القلق بعد أن كان الشاعر القديم يسير في عكس هذا الاتجاه.
ولنأخذ مثلا آخر من كنز الشعر الإسباني الحديث، ولتكن قصيدة لوركا (1899-1936م) عن الصمت:
أنصت يا ولدي للصمت،
صمت متموج،
صمت،
تنزلق الوديان خلاله
والأصداء،
ويذل جباها
Неизвестная страница
فوق الأرض.
فالصمت هنا لا يمحو هول تلك «الصرخة» المخيفة التي سمعناها تتردد في قصيدة أخرى بهذا العنوان، بل لعله يزيده رهبة؛ إذ يولد هولا جديدا، هول الصمت الذي تنزلق خلاله الوديان والأصداء ويضغط جبهة الحياة على الأرض. والشاعر نفسه في قصيدته «مرثية الصمت» يجعل من هذا الصمت اسما آخر للقلق، ويصفه بأنه شبح الانسجام ودخان الشكوى؛ لأنه يحمل «عذابا» سحيق القدم وصدى الصرخات التي انطفأت إلى الأبد. وكأني بلوركا يتحدث عن ذلك القلق الذي يقلقه ألا يجد غذاءه من الألم والعذاب، وعن الخوف الذي لم يعد يخاف شيئا كما يخاف الخوف نفسه.
وعلى نحو آخر يتحدث شاعر مثل «إلوار» عن القلق في قصيدة من ديوانه الحياة المباشرة (1932م)، إنه لا يسميه، بل ينقل إلينا الإحساس الحذر به عن طريق النص نفسه عندما يكرر كلمة بعينها «كان هناك»، أو جملة واحدة كأنها صلاة تتلى في ملل:
كان هناك الباب كأنه منشار ...
الباب بلا هدف،
كانت هناك قطع النوافذ المهشمة،
لحم الريح المعذب تمزق عليها ...
كانت هناك حدود المستنقعات ...
في حجرة مهجورة،
في حجرة فاشلة،
Неизвестная страница
في حجرة خالية.
فهذه الأشياء التي تذكر واحدة بعد الأخرى دون أن تكون بينها علاقة لم يهدف إليها الشاعر في ذاتها، بل أراد أن تكون علامات على النفي والرفض والتهشيم، وبذلك تصبح في نفس الوقت علامة على القلق الذي لا تذكره لغة القصيدة، بل توحي به.
هكذا نستطيع أن نقول بوجه عام - وإن كان التعميم هنا شيئا كريها كل الكره - إن الشاعر القديم كان يسعى للاتصال بالعالم والناس، وكانت نفسه تريد أن تقترب منهما، سواء نجحت في ذلك أم خاب أملها.
أما الشاعر الحديث، فيتعمد أن يجعل المألوف غريبا والقريب بعيدا. وكل من يقرأ لكبار الشعراء المعاصرين يخيل إليه أن هناك قوة خفية تدفعهم دفعا إلى تحطيم الصلة بينهم وبين العالم والناس. (ومن يتابع الرواية الحديثة يلاحظ أيضا أنها تحرص على هذا الإغراب وقطع الصلة بين الناس والأشياء أو بينهم وبين بعضهم البعض، وذلك ابتداء من روايات فلوبير الأخيرة إلى روايات وأقاصيص هيمنجواي وألبير كامي والروائيين الجدد).
يقول الكاتب الروائي النمسوي «روبرت موزيل» (1880-1942م): إن الشاعر يحس حتى في الصداقة والحب بأنفاس الكراهية التي تبعد الكائنات بعضها عن بعض. والشعور بأن قرب الإنسان من الإنسان هو في حقيقة الأمر بعد عنه يكاد أن يكون موضوعا ثابتا من موضوعات الشعر الحديث. فقصيدة «أغنية» للشاعر الإيطالي «أنجارتي» الذي ولد بالإسكندرية (1888م) تنتهي بحزم غير عاطفي يعبر عنه قوله: إن الحبيبة بعيدة كما لو كانت في مرآة، وإن الحب يكشف عن القبر اللامتناهي للعزلة الباطنة:
من جديد أرى فمك البطيء (بالليل يتقدم البحر ليلقاه)،
وأرى فرس فخذيك،
يسقط متهالكا
بين ذراعي اللتين كانتا تغنيان،
وأرى نوما يعيد إليك
Неизвестная страница
نضارة جديدة وموتا جديدا.
والعزلة الشريرة
التي يكتشفها في نفسه كل من يحب،
كأنها الآن قبر لا متناه
يفصلني إلى الأبد عنك.
حبيبتي، بعيدة أنت كما في مرآة ...
ولوركا يقول في إحدى قصائده: «ما أبعدني حين أكون قريبا منك، وما أقربني حين أكون بعيدا عنك.» والشاعر الألماني كارل كرولوف (1915م-...) يقول في «قصيدة حب» (1955م): هل ستسمعينني خلف الوجه المعشوشب للقمر الذي يتفتت؟ والليل يتكسر كالصودا، «أسود وأزرق». وكأن هذه الصور الصلبة، وهذا التحطم والتناثر والانكسار تعبير عن فشل محاولته للقرب من الحبيبة كما هو تعبير عن خلاصه الوحيد المنتظر على يد اللغة الشاعرة الخلاقة. والجزء الأخير من قصيدة لوركا المشهورة عن صديقه مصارع الثيران سانشيت ميخياس يحمل هذا العنوان «نفس غائبة». إنه لا يذكر الميت ولا الموت بكلمة واحدة، وإنما يقول إن أحدا لم يعد يعرف صديقه، لا الثور والخيل والنمل في بيته ولا الطفل والماء، ولا الحجر الذي يرقد تحته. ولقد صار الميت بعيدا عنه بعدا لا يستطيع التذكر نفسه أن يصل إليه. «لكنني أغني باسمك». غير أن هذا لا يجدي أيضا. فالشاعر الذي غلبته الوحدة واليأس من الوصول إلى الصديق البعيد لم يعد يملك إلا الغناء عن النسيم الحزين الذي يسري بين شجيرات الزيتون.
وقل مثل هذا عن قصائد الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي (1902م) التي نشرها في سنة 1929م بعنوان «عن الملائكة». والملائكة التي يتحدث عنها الشاعر ليس لها أي معنى ديني. إنها كائنات خرساء كالأنهار والبحار، خلقها خيال شاعر وحيد. هناك صراع خفي يدور بينها وبين الإنسان وينتهي إلى انقطاع كل أمل في الاتصال بينهما. فالإنسان يعلم أن الملاك موجود. غير أنه لا يراه، ولا الريح وزجاج النوافذ تراه، والملاك أيضا لا يرى الإنسان، ولا يعرف المدن التي يسير فيها؛ لأنه بلا عيون ولا ظلال، ولأنه يغزل الصمت في شعره، وما هو إلا «ثقب وحيد رطب، ونبع جف الماء فيه ...» لقد مات بيننا نحن البشر، أضاع المدنية وأضاعته. ومع أن من الصعب تفسير هذه القصائد التي وصفها البعض خطأ بالسريالية، إلا أن الرمز الذي تدور حوله لا يستعصي على الفهم. فالملائكة كائنات نورانية مباركة، سواء أرسلت إلى الناس لتبشرهم بنعمة الله أم لتنذرهم بغضبه ونقمته. كان الإنسان يحس صلة بينه وبينها، وكان يشعر أنه ليس وحده في هذا الكون، ويرى بين الحين والحين أن هناك كائنا علويا يرعاه ويتذكر وجوده على الأرض البائسة. غير أنه يبدو أن الملائكة قد سئمت الإنسان، فلم تعد تهتم بشأنه، بل ولم تعد تذكر منه إلا صورا للقبح والفساد والفناء.
للكاتب الألماني فرانز كافكا (1883-1924م) أمثولة جعل عنوانها «القرية المجاورة» يقول فيها: «كان من عادة جدي أن يقول: إن الحياة قصيرة إلى حد مذهل. والآن تضغط الحياة بذكرياتها، حتى لا أكاد أتصور مثلا كيف يمكن أن يصمم شاب على ركوب جواده إلى القرية المجاورة دون أن يخشى - ويصرف النظر تماما عن الصدف المؤلمة - من أن يكون عمر الحياة العادية التي يلازمها الحظ أقصر بكثير من أن يتسع لمثل هذه الرحلة.»
هذه الأمثولة تعبر عن موقف أساسي في وجدان الجيل الحديث، ألا وهو العجز عن الوصول، حتى ولو كان الهدف قريبا. ولنضرب مثلا لذلك من الشعر الحديث بقصيدة لوركا «أغنية فارس»:
Неизвестная страница
قرطبة،
وحيدة وبعيدة،
فرس أسود صغير، قمر كبير،
حبات زيتون في خرج سرجي.
أعرف الطرق حقا،
غير أني لا أبلغ قرطبة أبدا.
خلال المدى الفسيح، خلال الريح،
فرس أسود صغير، قمر أحمر.
الموت يحدق في
من أبراج قرطبة.
Неизвестная страница