أطوار الزجل اللبناني
القوال الأول
ما أكثر الشعر في هذا الجبل الشاعر! كانت أساطيره - والأساطير مراعي الشعراء - خميرة الحضارة الأولى، فطلع عجينها وأمسى خبزا حيا على موائد الآلهة، ثم استحال في دنيا الأحلام عشاء سريا تلذذت الإنسانية الأولى بطعامه المقدس.
أحلام رافخة تراءت للبناني الأول فعبرها بصور شتى، صناعات ونقوش وحروف، دمى وأرجوان وزجاج، أوضح فكرته تارة بالنقش، وطورا بالغناء، وأحيانا بالفتوحات الفنية، فكان خياله العجيب منبع أساطيره الغريبة. ومشى لبنان والزمان في منعرجات التطور، فاستعرب وراح يتذوق آداب لغته الجديدة مذ دارت الضاد على لسانه، وأبى عليه طموحه أن يقعد حسيرا، فضرب فيها بسهم، وطفق يقول الشعر، فلم تنقد له اللغة فكان الزجل.
ليس الزجل الذي نعجب به ونهتز لسماعه ابن أمس، فهو غير صغير السن ولا حديث الميلاد، كما قال الجاحظ حين أرخ الشعر العربي. فالزجل اللبناني عريق، دونه تاريخنا منذ خمسمائة سنة، فمهلهله وامرؤ قيسه أسقف استعرب وتمغرب، نظم زجله أو شعره على عروض خاص، استمد توقيعه من لغته الأولى - السريانية - وخلف للأجيال هذا الوزن، تراثا أو أساسا لشعرنا العامي الذي ارتقى إلى ذروة الفن الأدبي.
المطران جبرايل بن القلاعي اللحفدي، هو القوال الأول، عاش في القرن الخامس عشر وقال أزجاله في مواضيع أكثرها دينية طائفية.
قال فيه الدويهي، في تاريخه الشهير:
ولد جبرائيل بن بطرس اللحفدي في قرية تدعى لحفد من أعمال جبيل، وهي قرية قديمة، طيبة الهواء، كثيرة الديورة والكنائس، ظهر منها كثير من الرجال الفضلاء. وأما جبرائيل فيكنى بابن القلاعي وابن غورية؛ لأنه كان لوالده بيت مبني بين القلاع. ففي مزرعة تدعى غورية من أرض لحفد، ومنذ صباه، سلمه والداه إلى الخوري إبراهيم بن وريع، وهو رجل فاضل؛ ليدرس عليه أصول اللغة السريانية والعربية. فأخذ جبرائيل يجتهد ويجد، وكان رزين العقل مشغوفا بالقول، فنظم الزجليات. ثم خطب له والداه ابنة حسنة من ذوات قرباه، فاعتراه استرخاء في عينيه، فكرهته الخطيبة؛ ولأجل ذلك زهد في العالم وهاجر إلى القدس الشريف. وهناك انخرط في سلك رهبان القدس، وسافر معهم إلى رومية في سنة 1470. ثم عاد منها إلى بيت المقدس سنة 1493 بعدما تخرج فيها واقتبس العلوم. وبعد جهاد ثلث قرن سيم مطرانا سنة 1507.
1
فهذا الشاعر العامي قضى حياته في الغرب بعدما فجع بحبه الأول، وكان من هذا شعر وتصانيف شتى. يقول الدبس في «ملحق تاريخ سوريا»: «ونظم قصائد كثيرة، وإن كانت منحطة لغة، فهي كثيرة الفائدة.»
Неизвестная страница