لم يكن فقيرا، بل كان صاحب تجارة، ولم تمنعه الخلافة على ثقل أعبائها من ممارسة تجارته، فكان قادرا على أن يعيش عيشة السعة، وعلى أن ييسر لأهله وبنيه حياة لينة، ولكنه أخذ نفسه بالشدة الشديدة وبأغلظ ما يكون من العيش، فكان يأكل أكل الفقراء، ويلبس لباس الفقراء، ويسير في أمر نفسه سيرة الفقراء، وكان يراقب أهله وبنيه أشد المراقبة، ويقول لهم من حين إلى حين: إن الناس ينظرون إليكم؛ فلا أعلمن أحدا منكم خالف عما آمر الناس به أو أنهاهم عنه إلا أضعفت له العقوبة.
وكان يأمر أبناءه الذين يستطيعون أن يسعوا في الرزق أن يجدوا في ذلك حتى يستغنوا عنه، وحتى لا يضطروه إلى أن ينفق عليهم وعلى أهلهم، وكان يشق على نسائه، فيفرض عليهن حياة قاسية لا يستحبها النساء؛ كان شديدا عليهن في الكسوة، وشديدا عليهن في الرزق، وشديدا عليهن في سيرته كلها، يدخل عليهن عابسا، ويخرج عنهن عابسا. كما قالت إحدى النساء، وقد خطبها ذات يوم فامتنعت عليه وكرهت عبوسه وخشونة عيشه.
ويقول الرواة: إنه دخل على ابنته حفصة أم المؤمنين، فقدمت له مرقا باردا وصبت عليه شيئا من زيت، فقال: أدمان في إناء واحد، لا أذوقه أبدا. وهذه الشدة على نفسه وعلى أهله كانت ترغب الناس عن طعامه وترغب عنه من كان يأتيه من عمال الأقاليم، كانوا يأكلون في بيوتهم لين الطعام، ويستمتعون بطيبات الحياة، فإذا حضروا طعام عمر ودعوا إليه أعرضوا عنه أو أصابوا منه كارهين.
وحضر بعض أصحاب عمر طعامه، فدعاه إليه، فقال له في صراحة: إن طعامك جشب،
1
وإني أوثر أن أصيب من طعام لين صنع لي. فقال له عمر ما معناه: إنه ليعرف طيبات الطعام، ولو أراد لأصاب منها ما يشاء، ولكنه سمع الله يقول لقوم نعموا بحياتهم الدنيا:
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها .
فقد كان عمر إذن يشدد على نفسه مخافة أن يستمتع بالحياة فينقص ذلك من حسناته عند الله، ولما أراد أن يدون الديوان - فيما سترى - كلف نفرا كتابة الناس على قبائلهم، فبدءوا ببني هاشم رهط النبي
صلى الله عليه وسلم ، وثنوا بتيم رهط أبي بكر، وثلثوا بعدي رهط عمر. فلما نظر عمر في الديوان، قال للنفر الذين كتبوه: وددت والله أنه كذلك، ولكن ضعوا عمر حيث وضعه الله، وابدءوا بالأقرب فالأقرب من رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
Неизвестная страница