وقال عتريس: ليس بين هؤلاء من يقول إن الزواج باطل إلا الشيخ إبراهيم، أغرق أرضه اليوم يا إسماعيل، وبعد أن تغرق الأرض اذهب وقل له إنني اكتفيت بهذا في هذه المرة، ولكن عقابي في المرة القادمة سيكون فظيعا فخير له أن يسكت.
وقال الشيخ إبراهيم: أكل ما قدر عليه عتريس هو أن يغرق الأرض؟! مثل هذا يسكتني أنا يا إسماعيل؟! والله إن انطبقت السماء على الأرض فلن أسكت، هذا الزواج باطل وإقامة فؤادة مع عتريس اعتداء على حقوق الله، ولن نسكت. - يا عم الشيخ إبراهيم، إنعام في القرية تلتقي في كل يوم على حرام، لماذا سكت عنها؟ - هذه تجارة قديمة الله يعاقب عليها في الآخرة، وإنعام هي التي اختارتها، أما اختطاف فتاة من بين أهلها وتزوير إرادتها وجعل عقد زواج باطل عقدا صحيحا، أما هذا فهو هدم للحياة جميعا وللدين جميعا، والسكوت عليه كمن يرى جيشا يهدم الدين وهو ساكت. - يا عم الشيخ إبراهيم طول عمرك رجل طيب لم ترفع صوتك، حتى وإن اعتدى عليك، فما معنى ثورتك هذه المرة؟ - حق الله. - إنك لم تدافع عن حقوق ضد المعتدين. - حقوقي أنا حر فيها، أما حق الله فأنا مرغم على الدفاع عنه . - وأهل القرية جميعا ما لهم لا يفعلون مثلما تفعل؟ - لا يعرفون واجبهم قبل الله. - يا عم الشيخ إبراهيم اعمل معروفا واسكت. - قل لعتريس الزواج باطل، باطل، باطل، يغرق الأرض إن شاء ويحرق المحصول متى أراد، ولكن الزواج باطل. - يا عم الشيخ إبراهيم أنا لن أقول شيئا، أنا لن أقول شيئا. - ولكني أنا سأقول. - لن يبلغه أحد. - سيصل إليه صوتي. - لا يجرؤ أحد أن يقول له. - سيصل إليه صوتي، وإن أغلق آذانه فسيصل إليه صوتي.
وقال عتريس: ماذا قال الشيخ إبراهيم؟
فقال إسماعيل: لم يقل شيئا.
وحل يوم الجمعة، وقصد أهل القرية إلى الجامع فرادى وجماعات، ودخلوا جميعهم من الباب الصغير الذي يؤدي إلى الميضأة، وما لبثوا أن ارتدوا إلى صحن الجامع والماء يغمر كل جزء غير مغطى من جسومهم، كأنهم الزرع ألقي عليه الماء فهو مخضل وفي الجو همهمة هي تسبيح بين الحوقلة والبسلمة، وبعضهم يصلي ركعتين قبل صلاة الجمعة، وبعضهم راح يحادث البعض فيما لا صلة بينه وبين الجامع والصلاة، وفي ركن قصي جلس عليوة حسيرا ذاهلا مر به كثير من رجال القرية فحيوه، وجلس بعضهم إلى جانبه يحاول أن يسأله عما حدث له ولكنه يقول في أسى: لم يحصل شيء، كذب ما سمعتم، لم يحصل شيء.
وينصرف عنه السائلون ذاهلين، وقد ازداد يقينهم بصدق ما سمعوه، وكلما مضى الوقت أحس الناس أن روح الله تظلهم في مكانهم هذا وأنهم في حاجة أشد إلى هذه الروح يوغلون في شعورهم بالله، ويشحن الجو بلقاء واستقبال بين السماء والأرض، ويرتفع صوت المقرئ، ولم يكن جميلا، ولكن الناس أحسوا به آتيا من السماء فتخاشعت نفوسهم واشرأبت، أحسوا جميعهم أن شيئا واحدا يجمعهم لا يدرون ما هو، أهو شيء من الإيمان؟ أم شيء من الترقب؟ لا يدرون، ولكنهم في كل الجمع التي صلوها معا لم يشعروا بهذا الشعور، كان كل منهم يدخل إلى الجامع فردا خاليا بشئون نفسه، ويصدر عنه فردا خاليا بشئون نفسه، أما اليوم فهم جميعا يحسون أن شأنا واحدا يجمعهم ، فتفكير واحد يخيم عليهم، وشعور واحد يرين على جمعهم، أصبح كل فرد منهم هو الجمع الذي يزحم الجامع، وأصبح الجمع كله فردا واحدا، لم يقل واحد منهم للآخر شيئا مما يخالجه، ولكن هذا الإحساس العجيب من الشعور بالتوحيد كان يجيش في صدورهم في نفس الوقت، كانت عيونهم كلما التقت تعبر عن هذا التآلف الذي جمعهم فجأة، وانتهى المقرئ من قراءته ووقف خطيب الجامع فألقى خطبته من كتاب معه وألقى الأدعية فكانت تهينم في الجامع كله آمين متخافتة تتواثب من أركان غير متجمعة ولا هي منسجمة، حتى إذا قال الإمام: «اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا» تجمع الشتيت ودوت آمين يحيط بها صوت من القلب تعرفه الأذن وتعرفه السماء.
وقبل أن يقول الإمام أقم الصلاة، وقف الشيخ إبراهيم من أقصى الجامع وصاح: يأيها الناس، الزواج باطل، ولا بد أن ترجع فؤادة إلى أهلها.
ومن أركان متفرقة من الجامع قالت ألسنة: يا عم الشيخ إبراهيم ونحن مالنا؟ - يا عم الشيخ إبراهيم اعمل معروفا. - أهذا وقته؟
ونظر الشيخ إبراهيم إلى المتكلمين ثم قال: أنا أعرفكم جميعا، أنت من العصابة، نعم هذا وقته، وإنما شرعت خطبة الجمعة للبحث في شئون المسلمين، وهذا الذي يحدث يهم الجميع، إنه حق الله، الزواج باطل، لقد أغرقوا أرضي حتى لا أقول هذا، ولكن الزواج باطل، باطل، باطل، أقم الصلاة إن شئت يا عم الشيخ عبد التواب.
وقال الشيخ عبد التواب في عظمة للمؤذن: أقم الصلاة.
Неизвестная страница