الفصل الثالث عشر
وحل يوم الخميس وكان لا بد لحافظ أن يدعو المأذون وشاهدين، وقام حافظ في باكر الصباح ليلحق بثلاثتهم قبل أن يخرجوا من بيوتهم، وقصد أول ما قصد إلى الشيخ عبد التواب وكان الشيخ يتناول إفطاره. - صباح الخير يا عم الشيخ عبد التواب. - أهلا وسهلا سي حافظ أفندي، تفضل معنا. - شكرا سبقتك. - نشرب القهوة معا إذن. - والله يا عم الشيخ عبد التواب عندي بعض أعمال وأريدك في كلمة وأمضي. - يا رجل نشرب القهوة. - مرة أخرى إن شاء الله. - أمرك. - نتعشى معا الليلة في بيتنا. - أنا تحت أمرك، هل هناك مناسبة؟ - ستعرف في الوقت المناسب إن شاء الله. - أمرك. - واحضر معك الدفتر. - هل سنفرح إن شاء الله؟ - أرجوك لا تسأل وستعرف كل شيء في حينه، ولا تذكر لأحد أني دعوتك الليلة. - لماذا يا سي حافظ؟ أعلنوا الزواج ولو بالدف، لماذا لا أخبر أحدا؟ - أرجوك يا عم الشيخ عبد التواب لمصلحتك لا تخبر أحدا. - لمصلحتي أنا؟ - نعم لمصلحتك أنت، أرجوك. - المسألة فيها سر يا سي حافظ أفندي، أولا أنت جئتني مبكرا، وأنت تعلم أنك لو كنت تأخرت لوجدتني عند عبد الملاك دون حاجة منك إلى التبكير. - سبحان الله يا شيخ عبد التواب، وهل نقرأ في سورة عبس، لا أريد أحدا يعرف أنك قادم عندي الليلة. - لماذا؟ - لا إله إلا الله، ستعرف. - ولكن الزواج لا يخفى، لا بد أن يذيع أمره. - سيذيع يا أخي، سيذيع ويشيع ويملأ الدنيا، ولكن الليلة فقط لا أريد أحدا أن يعرف أرجوك. - لا بد من سبب. - ستعرفه. - أمرك. - لا تقل لأحد. - أمرك، ولكن مثل هذه الزواجات لها أجر خاص يا سي حافظ أفندي. - ما ستطلبه ستأخذه يا شيخ عبد التواب، كل ما ستطلبه ستأخذه. - أمرك. - سلام عليكم. - وعليكم السلام.
وخرج حافظ إلى المدرسة، وكان هنداوي أفندي يبدأ يومه ودخل إليه حافظ: أهلا حافظ أفندي، مرحبا، خطوة عزيزة وغريبة أيضا. - أهلا بك يا هنداوي أفندي. - هذه أول مرة تشرف فيها المدرسة، أنا رجل دقيق وهذه أول مرة تشرف فيها المدرسة، الفراش مشغول بضرب الجرس دقيقة واحدة ويحضر لنا القهوة. - هي كلمة وأمضي، ورائي أعمال كثيرة. - أفندم، أنا تحت أمرك. - نتعشى معا الليلة. - نتعشى جدا، ولكن ما المناسبة؟ - ستعرفها في حينها. - وهو كذلك، ولكن لا بد أن تشرب معي قهوة الصباح. - شكرا يا هنداوي، أنا في انتظارك، لا تتأخر ... و... و... - وماذا أيضا؟ - أفضل أن تجعل أمر هذه الدعوة سرا بيننا. - سرك في بير يا سي حافظ أفندي ، ولكن ما المناسبة؟ - أخشى أن يستاء زملاؤك أنني لم أدعهم، والدعوة في الواقع مقصورة على أفراد قلة من الأصدقاء. - ما تراه يا حافظ أفندي، ما تراه. - السلام عليكم. - وعليكم السلام.
وحين ذهب إلى الشيخ بسيوني وجده يوشك أن يخرج من البيت، فاستقبله الرجل على الباب: أهلا حافظ أفندي، تفضل. - أراك كنت خارجا، أخشى أن أعطلك. - تعطلني عن ماذا؟ لا وظيفة ولا عمل، تفضل.
وحين دخلا البيت صاح الشيخ بسيوني: القهوة يا رتيبة.
وجاء الصوت من الداخل: حاضر.
واستقر المقام بالرجلين: أهلا وسهلا حافظ أفندي. - أهلا بك يا عم الشيخ بسيوني. - كيف حال الزراعة عندك؟ - على ما يرام. - الفدان عندي رمى سبعة قناطير من القطن، كم رمى الفدان عندك؟ - رمى، رماني في داهية. - ماذا؟ - ماذا؟ - تقول ماذا رمى الفدان عندك؟ - لا أدري. - ماذا تقول يا حافظ أفندي، أنت فلاح لا نظير لك في الجهة وتقول إنك لا تعرف كم رمى الفدان عندك؟ - لا مؤاخذة يا عم الشيخ عبد التواب. - ماذا؟ ماذا تقول؟ - لا مؤاخذة يا عم الشيخ بسيوني، أنا مشغول بعض الشيء. - ماذا بك؟ - لا، لا شيء. - يا أخي إن النظرة إلى ابنتك فؤادة وإلى غيطك تشرح القلب الحزين، فماذا يضايقك؟ - نتعشى معا الليلة يا شيخ بسيوني. - وجب يا سيدي، ولكن ماذا بك؟ - لا عليك. - هل سيتعشى معنا أحد؟ - قليلون. - وهو كذلك. - أستأذن أنا. - القهوة. - آه القهوة، ألا يمكن أن تؤجلها؟ - أتريد الحاجة رتيبة تعمل لها حكاية؟ - حكاية سوداء. - ماذا؟ - ماذا؟ - ماذا تقول يا حافظ أفندي؟ - لا، لا شيء، أنا منتظرك يا شيخ بسيوني، لا تتأخر. - طيب انتظر القهوة. - أمرك، سلام عليكم. - والقهوة؟! - أنا منتظرك، سلام عليكم.
وخرج حافظ إلى غيطه، لم يذهب إلى البيت، وهناك ظل رانيا إلى الحقل لا يكاد يحس أنه حقله، لم يسأل أحدا ممن يعملون به عن شيء، وحين جاءه من يقوم بالجمع يريد أن يكلمه فيما جمعوه في يومهم تركه وانصرف إلى أقصى الغيط وحين لحق به تركه إلى النهر، وجلس في ذهول تحت الصفصافة وراح يلقي ببصره إلى النيل، هذه دمائي وهي اليوم مهدرة، دمائي مهدرة ولا تغذي إلا عتريس، عتريس، عتريس.
وأصبح الوقت ظهرا ثم أضحى الظهر عصرا وصار العصر إلى الغروب وحين رأى الشمس تودع النيل والدنيا من حوله قام يمشي رانيا إلى بيته، وفي صمت حزين دلف إلى البيت، وفي صمت حزين استقبلته زوجته واستقبله البيت، إلا فؤادة التي كانت تبدو وكأن ما هم فيه لا يمت إليها بصلة، هادئة هي مطمئنة لا تقول شيئا ولا يبدو عليها حزن أو ألم أو صراع وأقبل هنداوي أفندي وحاول أن يجري الحديث، ولكنه لم يجد من حافظ مستمعا ولا محدثا، وما لبث أن أقبل الشيخ بسيوني فاتصل الحديث بينه وبين هنداوي، وقليلا ما اتصل، فما لبث الشيخ عبد التواب أن جاء ومعه حافظة أوراقه وقال هنداوي: أهلا شيخ عبد التواب، جئت ومعك الحافظة، فهل ترى كنت في زواج أم طلاق؟
وتلجلج الشيخ عبد التواب، وقال حافظ أفندي: ستعرف حالا يا هنداوي أفندي. - أهناك سر إذن، لا يا سيدي لا بد أن تخبرنا بالسر فأنا كما تعلم ...
Неизвестная страница