وحين كبرت قليلا وأراد أبوها ألا تذهب إلى المدرسة، رفضت الأمر وأضربت عن الطعام، وقال أبوها: موتي إذا شئت، ولكنك لن تذهبي إلى المدرسة. - أموت لأنك تخنق حريتي، وأنا لا أطيق العيش بلا حرية. - كبرت، ولا يجوز أن تذهبي إلى المدرسة. - كبرت؛ ولهذا يجب أن أذهب إلى المدرسة. - وتخرجين وأنت قد أصبحت شابة؟ - وهل تنوي أن تحبسني إذا بقيت في البيت؟ - لا، ولكن القرية ليست مثل المدينة. - إنه أنا في القرية، وهي أنا في المدينة، أيهما أحسن أن أبقى في القرية لأصبح حكاية ضمن حكاياتها التي لا تنتهي أم أذهب إلى المدرسة وأستكمل تعليمي إلى أقصى حد ممكن؟ - لن تذهبي. - وأنا لن آكل. - وستأكلين. - أما هذا يا أبي فأنت لا تملكه، أنت حر أن تمنعني عن المدرسة لأنك أبي، أما طعامي فأنا حرة في أن اتناوله أو لا أتناوله لأنه طعامي أنا. - أنت حرة. - نعم حرة.
وأضربت عن الطعام أياما لم تطل، فقد أشفق أبوها عليها وذهبت إلى المدرسة، حرة هي، تعبد الحرية وتعيش بها، إنها هي نفسها ما هي إلا نسمة من نسمات الحرية، وشعاع من ضيائها، ونغمة عميقة من موسيقاها.
وانتظرها في يومه هذا، ووقف دونها صامتا، ونظرت إليه وابتسامة حلوة على وجهها، وما لبث أن قال: أتقبلينني زوجا؟
وصمتت لحظات فقال: لا بد أن أسمع نعم حتى أتقدم.
وضحكت وهي تقول: نعم. - بمجرد عودة أبي من السفر سنأتي إليك.
الفصل التاسع
شيخ أنت مهيب يحترمك الجميع في القرية كلها، فحيثما مررت يقف لك الجالسون ويحيك الواقفون، ملء عيونهم إجلال واحترام.
ويتوقف الأطفال عن اللعب إن مررت بهم، ويضع النسوة خمرهن على منتصف وجوههن إذا التقين بك، ويرحب بك أعيان القرية في مجالسهم، شيخ مهيب جليل، فارع القامة عريض المنكبين نضر السمات، أنت وجيه ولكن ما أنت وهذا جميعه؟ ما مكانك من نفسك؟ لماذا لم تسطع في يوم من الأيام أن تحترم نفسك في داخل نفسك؟ ساخطة هي نفسك عليك لا ترضى بك ولا ترضيك، الناس يحترمون هذه الأفدنة العشرة التي ورثتها عن أبيك، وهذه الأفدنة الخمسة التي اشتريتها وهم لا يدرون كيف اشتريتها، فلو ألقيت المقادير إليك ما اشتريت في حياتك شيئا، متى قررت شيئا وأنفذته؟ لو لم تكن زوجتك رتيبة ما اشتريت شيئا، هكذا أنت منذ وجدت في هذه الدنيا، ذهبت إلى الأزهر فلم تستطع أن تكمل علومه وتعثرت دون شهادة العالمية فيه سنوات وسنوات، وكنت كلما أزمعت أن تذاكر مالت بك نفسك عن المذاكرة، ثم أخذت تلومك وتلقي عليك ألوان التأنيب والهزء والسخرية كأنما في نفسك نفسان: إحداهما تلقي بك إلى مهاوي التردد والكسل والخنوع والضعف ، والأخرى تلقي عليك ألوان الهزء والتأنيب والسخرية حتى ما استطعت - وقد جاوزت الخامسة والخمسين - أن تعمل عملا واحدا ترضى عنه، حتى زواجك لم يكن بيدك، فلو لم يخطرك أبوك أنه قد خطب لك، وقرأ لك الفاتحة ما تزوجت حتى يومك هذا، وحين تزوجت من رتيبة تولت هي جميع شأنك فهي الآمرة الناهية في البيت والغيط وتكتفي أنت بالملبس الأنيق والمشية الوقور المتئدة واحترام الناس وإقبالهم.
أردت، نعم أردت ولكن الإرادة كانت تقف بك دائما عند الرغبة ولا تعدوها إلى التنفيذ، أردت أن تزوج ابنتك صابحة من ابن أخيك عمران، ولكن رتيبة قالت لا، فكانت لا، حاولت يومذاك أن تصر، ولكنك تعرف أن إصرارك لم يكن في يوم ما ذا قيمة، وزوجتك أيضا تعرف أن لا قيمة لإصرارك ولا لرأيك، وتزوجت صابحة من ابن عم رتيبة، وقالت إحدى نفسيك: إنه غني، وقالت النفس الأخرى: أنت ضعيف.
أولادك لا يقدمون لك من الاحترام إلا وقفة إن أقبلت عليهم أو قبلة على اليد إن هم صافحوك، ولكنك ترى في عيونهم أن الوقفة أو القبلة إنما هما إعلانات بنوة لا علامات احترام، أما سمعت مسعود وهو يقول لصابحة: أبي، وهل بيده شيء؟ الأمر كله بيد أمك.
Неизвестная страница