وقد كان اليازجي في عصرنا من أبصر جهابذة اللغة وأفرس فرسان الإنشاء، ولم يكن يؤتى من جهة كهذه، وكان من أمتن من عرفنا تركيبا وأجودهم سبكا، ولكنه كان مولعا بالتعنت متهافتا على التنقص، ضيق العطن لا يتردد في تحجير الواسع مهما اتسع، وكان إذا لم يطلع على مسألة من المسائل نفاها عن العربية، وإن لم يجد في المعاجم المعروفة بين أيدينا لفظا من الألفاظ أسجل بأنه ليس بعربي، ولم يتنبه إلى أن اللغة بحر لا ساحل له، وأن تحجير الواسع في العربية ضرب من العبث، وأنه ما انتقدت عبارة إلا رد عنها بتخريج، وأنه ليطول بنا أن نصف غلوه في هذا المذهب ونحصي الكلمات التي كان يمنعها بحجة أنها لم ترد في المعاجم، ولكننا من قبيل التمثيل نذكر أنه كان يمنع لفظة «احتمى» إلا بمعنى الحمية عن الطعام، فأما احتمى مطاوع حمى فكان يراها خطأ في اللغة، ولو اطلع على قول عون بن أيوب الأنصاري الخزرجي:
حمت كل واد من تهامة واحتمت
بصم القنا والمرهفات البواتر
لعلم أنه هو الذي أخطأ بتخطئته للوارد من كلام العرب، وكان يمنع أن يقال «نوال» بمعنى «نيل»، ولا يرضى لها تخريجا، ولو قرأ، وأظنه من شعر الحماسة:
أرى الناس يرجون الربيع وإنما
ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
لعلم أنه لم يكن على صواب فيما ذهب إليه.
وعابني مرة في مجلته باستعمالي «النواقيس» بمعنى الأجراس؛ وذلك لأنه قرأ في كتب اللغة أن الناقوس إنما هو الخشبة التي يضرب عليها القسيس يدعو بها النصارى للصلاة، فتمسك بهذه الخشبة تمسك أعمى في قرنة، كما يقال، ولم يشأ أن يجيز الناقوس للجرس الذي من نحاس وخطأ كل من استعمل ذلك حتى من الكتاب الأولين، واضطررنا أن نرد عليه وأن نفهمه أنه إذا كان يتمسك بكل تحديد نقله علماء اللغة ولا يقبل فيه توسعا، فإنه ينتهي الأمر بأن يقاتل نفسه بسلاحه، فإنه هو يستعمل البيت بمعنى هذا البناء المبني من الحجر أو من الطين، والحال أن العرب عرفت البيت أنه من الوبر، وأنه هو يستعمل الشباك للنافذة التي يكون فيها شباك من حديد، والحال أن كتب اللغة تعرف الشباك بأنه ما شبك من القصب. فإذا كان التمسك بتعريفات المعاجم اللغوية حتما لا مناص منه فاستعمال الشباك إذا كان من حديد واستعمال البيت إذا كان من حجر أو لبن يكون إذن غلطا! والحقيقة أن هذه الألفاظ ربما كانت في الجاهلية موضوعة لتلك المعاني على الصورة التي كانت فيها أيام البداوة، فلما دخل العرب في طور الحضارة والترف استعملوا تلك الألفاظ لما ناسب درجة مدنيتهم. فالبيت الذي كان من شعر صار من حجر، وربما من حجر منحوت وبقي يسمى بيتا؛ لأنهم جعلوه بمعنى المأوى ولأن أصله من المبيت، فسواء بات الإنسان في مأوى من الشعر أو من الحجر فيصح أن يقال لمأواه هذا «بيت». وكذلك الشباك الذي كان من قصب أيام لم يكن الحديد مبذولا بقي يقال له الشباك بعد أن سخر الله الحديد للناطقين بالضاد وألانوا منه القضبان، وكذلك الناقوس كان خشبة في أيام الجاهلية فصار في أيام المدنية نحاسا وبقي يقال له «ناقوس» ونطق به الفصحاء. وقلنا لليازجي: إنك تعيب كتاب هذا الزمان في فصل تنشره تباعا تحت عنوان «لغة الجرائد»، ومن قال لك إن الجريدة يعنى بها هذه الورقة المكتوبة التي تصدر في أوقات معلومة ويقرؤها الناس؛ فالجريدة بهذا المعنى إنما هي من مواضعات المولدين. وإذا بحثت عن تحديد الجريدة في كتب اللغة لم تجد سوى «سعفة النخل اليابسة» أو «الخيل لا رجالة فيها»، فهل أنت تريد أن تقول «لغة سعفات النخل اليابسة» أو «لغة الخيل لا رجالة فيها»؟ وتعقبناه ذلك اليوم في ألفاظ كثيرة وقد ضاع هذا الفصل من بين أوراقنا.
نعم، لو كنا نجاري الشيخ إبراهيم اليازجي فيما كان يحجر فيه من واسع اللغة لما كان في لغات العالم أضيق من العربية، ولكن تحجيره هذا إنما كان في انتقاداته لغيره، فإذا رجعنا إلى مجلته «الطبيب» التي كان ينشئها في بيروت مع الدكتورين بشارة زلزل وخليل سعادة أو إلى مجلته «البيان» التي كان يصدرها في مصر، وطالعنا ما فيها من فصول شائقة لا سيما في المواضيع الطبيعية والفلكية والكيماوية وما أشبه ذلك، فإننا نجد اليازجي وسع على نفسه ما حجر على غيره، واستعمل الألفاظ العربية للمعاني العصرية بأقل ما بينها من ملابسة، وسيأتيك في اعتراضاته على شوقي ما يجزيك في معرفة مذهبه في الانتقاد على غيره. (2) رد المؤلف على اليازجي في الدفاع عن شوقي
ليس تحت يدي الآن العدد الذي فيه انتقاد اليازجي لرواية «عذراء الهند»، ولو كان تحت يدي لأثبت هذا الانتقاد برمته وقابلته بردي أنا عن شوقي. على أن القارئ قد يعلم من الرد أساس الاعتراض؛ فجوابي فيه الأخذ والرد معه، ولهذا ننشره نقلا عن جريدة الأهرام «عددها 6032» المؤرخ في يوم الثلاثاء 25 يناير سنة 1898 وفق 3 رمضان سنة 1315، أي إن هذا الرد مضى عليه أكثر من سبع وثلاثين سنة:
Неизвестная страница