كان الشاعر إقبال أول داع إلى باكستان أو من أول الداعين إليها، وقد دعم الدعوة بالأمل بعد الأمل، والحجة بعد الحجة، والبيان بعد البيان، وأمدها بفلسفته وشعره حتى تحققت.
وإقبال هذا من أحرار النفوس والعقول، يستوي عنده الكائن وغير الكائن، والقريب والبعيد، والصعب والسهل، والشاق واليسير. الإنسان الحر في رأيه خلاق. يرى الرأي الحق فيقدم ويعزم، ويجاهد ويدأب فيخلق من الخيال حقيقة، ومن عالم الفكر عالما كائنا محسا.
وشعر هذا الرجل العظيم فياض بهذه المعاني، فيه من الطموح والإقدام والعزم والجهاد نور ونار يهديان السبيل، ويمنعان التعريس والمقيل، حتى يوفي الطالب على غايته، ويظفر بطلبته.
الإثنين 30 شوال/14 أغسطس
الإنسان الصناعي
سمعنا أن الصناعة الأمريكية أنشأت هيكل إنسان يتحرك بالكهرباء، ويؤدي أعمالا آلية فيغني عن خادم.
إن فكرة هذا الإنسان المصنوع، هذا الخادم الآلي، أوحتها حياة الإنسان في هذا العصر وحركة الآلات. فقد سير الإنسان آلات محكمة التركيب متساوية الحركة يتقلب فيها المصنوع أطوارا، تسلمه آلة إلى أخرى حتى تتم صنعته، فيوضع القطن مثلا فيها فيحلج ويندف ويغزل وينسج ويلون، كأن الآلات تفكر وتدبر وترتب. وصناعات أخرى أكثر تركيبا وأدق عددا.
وإلى جانب هذه الآلات يقوم الإنسان مشرفا عليها ومصاحبا لها، ومعاونا إياها أحيانا فكأنه قطعة منها.
ثم هو إلى هذا غلبت عليه الصنعة. فبينما الإنسان البادي ينام في خيمة ويصبح مهيأ للعمل والسير، ترى الإنسان الحضري الذي سيطرت عليه صنعة هذا العصر في حاجة إلى عدد مختلفة وعمل كثير؛ ليهيئ نفسه لاستقبال المعيشة صبحا، وناهيك بأدوات الزينة وأصناف الأزياء، ثم تتداوله أعمال معتادة كل يوم على نسق واحد أو أشكال متقاربة. إن شئت دليلا على تحكم الصناعة في الحضر فأبعد هذا الإنسان عن مسكنه وأدواته أياما ثم انظر كيف تغير وجهه وحاله وشكله، وتبدل زيه بما حرم صقل الأدوات وصبغ الزينات.
وأذكر هنا فكاهة: كنت في سفر من بغداد إلى دمشق في صحبة الشاعر علي بك الجارم رحمه الله، وكان معنا نساء أوروبيات وجوههن لامعة، وزينتهن ساحرة. فسرينا الليل كله، فلما أضاء النهار رأينا وجوها غير الوجوه، وأشكالا غير الأشكال. قلت لصاحبي رحمه الله: ما خطب صاحباتك الحضريات الأوروبيات، بدل السرى وجوههن، وذوب الغش ألوانهن! أرأيت الجمال كيف يمتحن بسرى ليلة فيحول ويزول؟! إنما الجمال الحق ما يثبت على سيارات الصحراء، إن ليلى وسلمى والرباب يسرن أياما على جمالهن لا يقيهن الشمس والريح شيء فلا يغيرهن سير النهار ولا سرى الليل.
Неизвестная страница